شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية اتفاقًا لوقف إطلاق النار في غزة بفضل الجهود التي بذلتها إدارة ترامب. مارست واشنطن ضغوطًا على كلٍّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحركة حماس للتوصّل إلى اتفاق يضمن الإفراج عن جميع الرهائن، ويُنهي الحرب، ويُمهّد الطريق أمام مرحلة انتقالية لا تشارك خلالها حماس في حكم القطاع.
بغض النظر عمّا إذا كانت المبادرة ستنجح في شقّها الثاني أم لا، يُتيح الزخم المتجدّد فُرصةً أمام حكومة رئيس الوزراء نواف سلام للاستفادة من الدعم العربي والغربي لإعادة التفاوض حول شروط وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 27 تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، ووقف الأعمال العدائية الإسرائيلية، وإعادة عملية نزع سلاح "حزب الله" إلى مسارها ضمن جدول زمني واضح ومحدّد.
وبالرغم من الصمود الشكلي لاتفاق وقف إطلاق النار على مدى عام تقريبًا، يبقى بعيدًا عن أن يكون مستدامًا. فهذا الترتيب الأحادي الجانب، الذي احتفظت فيه إسرائيل بالقدرة على ضرب أهداف داخل لبنان متى شاءت وبشكل يومي، مكلفٌ بالنسبة إلى "حزب الله". لكن الأمن القصير الأمد الذي وفّره الاتفاق لإسرائيل هشّ بالقدر نفسه في ظل غياب اتفاق طويل الأمد مع بيروت.
بالنسبة إلى "حزب الله"، ترافق ما سُمي باتفاق وقف إطلاق النار مع حصيلة كبيرة من الضحايا، إذ قُتل منذ دخوله حيز التنفيذ أكثر من 200 عنصر من عناصر الحزب وحلفائه و105 مدنيين. لقد حوّل الاتفاق شبكة عناصر الحزب ومؤيده إلى أهداف سهلة من دون أي ردّ من التنظيم. وفي غضون ذلك، تمنع إسرائيل أي مساعي لإعادة الإعمار في جنوب لبنان من خلال استهداف آليات ومعدّات البناء. وقد يتسبّب انعدام الأمن وعدم القدرة على إعادة إعمار القرى والبلدات بتقويض شعبية "حزب الله" على المدى الطويل، كما أن الحزب يُدرك أن التزام الصمت ليس استراتيجيةً معقولة. لكن ما الذي ينتظره "حزب الله" بالتحديد؟
يبحث الحزب عن فرصةٍ للتفاوض من جديد حول شروط وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وترجمتها على شكل ترتيبات محلية جديدة داخل البلاد. في ظل الظروف الراهنة، يُعتبر تحقيق هذَين الهدفَين صعبًا للغاية، إن لم يكن مستحيلًا.
بالنسبة إلى الهدف الأول، تستلزم إعادة التفاوض بشأن وقف إطلاق النار مع إسرائيل إعادة توفير درجة معيّنة من الردع. وهذا أمرٌ لا يمكن تحقيقه طالما أن إسرائيل تحتفظ بإطار زمني مفتوح للتصعيد ردًّا على أي عملية يقوم بها "حزب الله". ويُعتبر التحوّل في الموقف الأميركي ضروريًا للحدّ من قدرة إسرائيل على توسيع رقعة الحرب. في الوقت الراهن، بإمكان إسرائيل تدمير أحياء في المدن، وكذلك القرى والبلدات، وتهجير السكان، وحتى الحديث عن بناء مستوطنات فوق الأنقاض، من دون أن تواجه عواقب جدية. بالإضافة إلى أنها لا تزال تحصل على معدّات عسكرية، حتى من دولٍ تنتقد علنًا حملتها.
علاوةً على ذلك، لا يزال التوصّل إلى ترتيب داخلي مع "حزب الله" صعبًا، نظرًا إلى رفض الحزب نزع سلاحه وإصراره على إجراء حوار حول "استراتيجية دفاعية وطنية". ويثير هذا النهج إشكالية لسببَين. أولًا، من المرجّح أن يستمر مثل هذا الحوار إلى أجل غير مسمى، إلى أن تقوّض بيئة جيوسياسية متغيّرة النفوذ المحدود الذي لا تزال الحكومة اللبنانية الحالية تتمتّع به. ثانيًا، من غير المرجّح أن توافق الولايات المتحدة وإسرائيل والأطراف السياسية اللبنانية على أي اتفاق يُبقي بنية "حزب الله" العسكرية أو ترسانته من الصواريخ والمسيّرات، حتى لو كان ذلك بإشراف شكلي من الجيش اللبناني.
تتمثّل عقبة أخرى في الطبيعة المتبدّلة لقيادة "حزب الله" والدور الإيراني المتنامي فيها، ولا سيما بعد تصفية معظم قادة الحزب البارزين خلال الصراع مع إسرائيل. لقد كشفت الضربات الإسرائيلية خلال العام الماضي عن دورٍ إيراني مباشر في عملية صنع القرار داخل الحزب أكبر مما كان يُعتقد سابقًا. وأكّد ذلك مقتل العميد محمد زاهدي، الذي زُعم أنه كان عضوًا في مجلس شورى "حزب الله"، في الهجوم على مقرّ القنصلية الإيرانية في دمشق خلال نيسان/أبريل 2024، وإصابة السفير الإيراني لدى لبنان مجتبى أماني في عملية تفجير أجهزة "البيجر" في أيلول/سبتمبر 2024، ومقتل عباس نيلفروشان، نائب قائد فيلق القدس، في عملية اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله خلال الشهر نفسه. وقيل إن العميد محمد رضا فلاح زاده، وهو قائد إيراني بارز آخر، عُيّن مُشرفًا على الحزب بعد اغتيال نصر الله، وإنه نجا من هجومٍ قضى فيه مسؤول عسكري بارز في الحزب.
وإذا كان تأثير إيران على قيادة الحزب كبيرًا لهذه الدرجة في عهد نصر الله، فمن الصعب تخيّل أن الأمين العام الحالي نعيم قاسم يعمل باستقلالية أكبر. ويسلّط هذا السياق الضوء على الأهمية التي يمكن أن تتمتّع بها "حركة أمل"، بقيادة رئيس مجلس النواب نبيه بري، في توجيه التحالف السياسي الشيعي (الثنائي الشيعي) نحو تحقيق نتائج أكثر تجذُّرًا في المصالح الطائفية اللبنانية منها في الحسابات الإقليمية لطهران.
لقد حوّل التفوّق الساحق للقوة النارية الإسرائيلية منطق الاستنزاف التقليدي إلى مسألةٍ عفا عليها الزمن. ونظرًا إلى حجم التفاوت في القدرات العسكرية والإمكانات التكنولوجية، لم يعد باستطاعة "حزب الله" بعد الآن التعويل على ربط إسرائيل في مواجهة إضافية. إن فرض معادلة ردع على الإسرائيليين يتطلّب قيام الولايات المتحدة بعرقلة الهجمات العسكرية الإسرائيلية، ومواجهة حكومة نتنياهو مزيدًا من الاضطرابات. وبما أن هذَين العاملَين يظلّان غير مرجحَين في أفضل الأحوال، قد يدفع لبنان ثمنًا باهظًا للغاية عند أي سوء تقدير.
لذا، على الحكومة اللبنانية اغتنام الفرصة على جبهتَين. أولًا، عليها أن تكسب قلوب وعقول أكثر المتضرّرين من الغارات الإسرائيلية المتواصلة داخل المجتمع الشيعي. وقد تبدأ بوضع استراتيجية وطنية لتسهيل عودة النازحين إلى المنطقة الحدودية. صحيحٌ أن موارد الحكومة محدودة، إلّا أن باستطاعتها تحسين الخدمات الأساسية في الجنوب، كإنشاء مدارس مؤقتة وعيادات طبية متنقّلة. فمن شأن تفادي القيام بهذه المهام والتركيز بدلًا من ذلك على المناوشات السياسية الضيّقة مع "حزب الله"، أن يُعزّز سردية الحزب المناهضة للحكومة ويقوّي موقفه.
ثانيًا، على الحكومة تطوير إطار شامل لنزع السلاح بالتنسيق مع "حركة أمل"، التي تُعتبر الحليف الأساسي لـ"حزب الله" والتي تواصل التشاور مع طهران. فالحركة تمتلك المصلحة والنفوذ اللازمَين للتوصل إلى تسوية سياسية إقليمية، وبإمكان الحكومة والرئاسة بلورة إطار مقبول لأي اتفاق مقبل برعاية أميركية وعربية. وقد عبّرت الحركة عن ذلك التوجّه في أوائل العام الجاري حين دعمت تأييد لبنان للخطة التي طرحها المبعوث الأميركي توم باراك، والتي تضمنت خارطة طريق مفصّلة تهدف إلى نزع سلاح "حزب الله"، ووقف الأعمال العدائية الإسرائيلية وانسحاب الإسرائيليين، وإعادة الإعمار. مثل هذا الاتفاق قد يمهّد الطريق أيضًا أمام ترسيم الحدود بصورة نهائية بين لبنان وإسرائيل، في أعقاب الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بوساطة إدارة بايدن حول الحدود البحرية.
تخاطر حكومة سلام، من خلال التمسّك بموقفها القائم على انتظار تسوية خارجية، بتسليم زمام المبادرة إلى الطرفَين الوحيدَين اللذَين لا يزالان يرسمان معالم الأحداث: أي "حزب الله"، الذي قد يلجأ إلى التصعيد العسكري في محاولة لاستعادة الردع؛ وإسرائيل، التي قد توسّع منطقتها العازلة وتُطيل مدّة الاحتلال الذي يهدّد بعرقلة التعافي الاقتصادي والسياسي الهشّ في لبنان.