تقييم السياسات يُعتبر حلقة مفقودة في العالم العربي

تتولى الحكومات العربية صياغة وتنفيذ عدد كبير من السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية نادراً ما تخضع إلى أي تقييم دقيق وموضوعي.

نشرت من قبل
الحياة
 on ١١ مارس ٢٠١٤

المصدر: الحياة

تعتبر السياسات العامة أداة شديدة الأهمية تعتمدها السلطات العامة لحلّ معضلة اقتصادية أو اجتماعية معينة أو الحصول على نتيجة يرغب فيها المجتمع، ويتعذر بلوغها بشكل تلقائي من دون تدخّل الحكومة. وتتطلب عمليّات صياغة السياسات العامّة وتنفيذها بشكل فعّال على أرض الواقع وتقييم تأثيراتها المباشرة والثانوية في الأفق المنظور وعلى المدى البعيد توفير مجموعة من الشروط السياسية، والمؤهلات المؤسساتية، والقدرات الفنية، والجهود التواصلية بهدف تحقيق الفائدة القصوى للمواطنين.

بيد أن الحكومات العربية تتولى صياغة وتنفيذ عدد كبير من السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية، على غرار سائر الحكومات حول العالم، إلا أن كثيراً من الغموض يشوب عمليات إعداد تلك السياسات، وتتعرض إلى تشوهات عند تنفيذها نتيجة طبيعة الأجهزة البيروقراطية بشقيها المركزي والمحلي، ونادراً ما تخضع إلى أي تقييم دقيق وموضوعي لتكلفتها المالية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

إن أي قرار بسن سياسة حكومية ما، يؤدي إلى تخصيص الموارد العامة الشحيحة لغرض معيّن عوضاً عن تخصيصها لسياسات بديلة أخرى. في هذا السياق، ثمة دور حاسم للتحليل المسبق للسياسيات في تحديد الخيارات، بهدف تحقيق توازن مقبول بين عناصر كثيرة ومتداخلة في عمليّة صياغة السياسات تشمل تحليل السياق السياسي، والظرفية الاقتصادية والاجتماعية، ومعرفة اتجاهات الرأي العام، فضلاً عن التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية المتوقعة للسياسات. ويحتاج صانعو السياسات أن يقنعوا الرأي العام بأن أي تخصيص للموارد لتعزيز أو إعانة قطاع اقتصادي معيّن أو شريحة مختارة من الأُسر أو المؤسسات، يسعى في النهاية إلى خدمة المصلحة العامّة وتحسين رفاه المجتمع وفي شكل أفضل من أية خيارات أخرى متاحة

من المؤكد أن صانعي السياسات في سائر الدول يخضعون إلى ضغوطات سياسة ومطالب فئوية تؤثر في خياراتهم في مجال السياسات. مع ذلك تختلف الدول الديمقراطية عن غيرها بسبب عوامل أساسية ثلاثة تساهم في ترشيد عملية وضع السياسات. أولاً، لكل فرد الحق في الانتماء إلى تنظيمات سياسية ومدنية بهدف التأثير على عملية صنع السياسات، وثمة حالات كثيرة تراجعت فيها الحكومات عن سياسات تخدم مصالح مجموعات ضغط كبرى بسبب معارضة جمعيات محلية صغيرة خلقت تعاطفا واسعاً حول قضيتها. ثانياً، تساهم الصحافة المستقلة ومنتديات الفكر ومؤسسات البحث العلمي والأكاديمي في تنوير الرأي العام وبالتالي التأثير على عملية صنع السياسات. ثالثاً، صحيح أن الكثير من السياسات العامة يُؤدي إلى إعادة توزيع المنافع، أي أنها تفرِض تكاليف على مجموعة مقابل تحويل منافع لصالح مجموعة أخرى، ما قد يُحسِّن رفاه بعض الأفراد على حساب رفاه أفراد آخرين،  إلا أن هذا الأمر يكتسي أهمية ً بالغة في عملية التناوب على السلطة بين الاتجاهات السياسية الوازنة داخل المجتمع، حيث تكون الانتخابات مناسبة لمعاقبة الحكومة على سياساتها أو فرصة لتجديد الثقة فيها.

وتفتقر الدول العربية في شكل عام إلى العوامل الثلاثة، وتتسم فيها عملية وضع السياسات بالغموض والمركزية المفرطة، والمشاركة المحدودة حتى للمعنيين المباشرين بالسياسات. ويبدو جلياً ضعف قدرة الهيئات المسؤولة على وضع السياسات في تقديم الحجج الموضوعية المناسبة لدعم خياراتها، ولاتشعر بالحاجة إلى ذلك في كثير من الأحيان بسبب غياب المساءلة التي تشكّل أحد الدعائم الأساسية في تحسين صنع السياسات والتي تفرض الشفافية في اتخاذ القرار، بدءاً من صياغة السياسات وصولاً إلى تنفيذها وتقييم آثارها.

ويلجأ صانعو السياسات في الدول العربية إلى مؤشرات غير دقيقة، بل ومخطئة من الوجهة العلمية، لتعظيم إنجازهم في شكل هو أقرب بكثير إلى الدعاية الشعبية منه إلى التقييم الفعلي للسياسات. وتساعد البنية الإدارية المعقّدة وغياب المعلومات المفيدة والحديثة حول تكاليف وتداعيات السياسات العامة ونتائجها إلى تشتّت المسؤولية وتبديد الموارد المحدودة للدول. 

وعلى الرغم من إحداث هيئات تضطلع بإجراء تقييمات السياسات العامة في بعض الدول العربية في شكل لجان برلمانية أو ديوان المحاسبة، إلا أن تلك الهيئات تبقى ضعيفة ومعظم عملها ينحصر في إطار الدعاية من أجل الاستهلاك العام والاستخدام السياسي من دون أي متابعة فعلية وحقيقية. 

إن البلدان العربية اليوم تقف على مفترق الطرق وتحتاج إعادة النظر بشكل جدي وعميق في أسلوبها في وضع وتنفيذ وتقييم سياساتها المختلفة. فإضافة إلى الإصلاحات المؤسسية وعلى صعيد الحوكمة، تحتاج البلدان العربية إلى نقاشات مجتمعية مفتوحة حول السياسات العامة تهدف إلى تحسين ثقافة الحوار والمشاركة والمسؤولية. وبدلاً من أن يستند صانعو السياسات وأصحاب المصلحة إلى ادّعاءات مبنية على الحدس أو الخبرة المختارة في شكل مقصود لدعم مصالحهم، ينبغي تطوير برامج تدبير السياسات العامة والاستعانة بالحجج المبنية على تقييمات علمية موضوعية تنجزها الجامعات ومراكز الأبحاث المستقلة. 

تم نشر هذا المقال في جريدة الحياة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.