المصدر: شبكة المعلومات الجيوسياسية
اتبخل وسائل الإعلام بالحديث عن التأثير السلبي لانخفاض أسعار النفط على اقتصادات أبرز مُنتجي النفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالتعويل على النفط يجعل هذه الاقتصادات في مهبّ الريح وعرضةً إلى تقلبّات الأسعار. لكن على الرغم من عودة أسعار النفط إلى مستواها "الطبيعي"، إلاّ أن الوضع لن يعود إلى ماكان عليه في هذه الدول.
وليس انخفاض أسعار النفط بنسبة 50 في المئة منذ العام 2014 سابقةً في العالم، بل هو يعكس عودة هذه السلعة العالميّة إلى "مجراها الطبيعي". لكن الوضع لن يعود إلى ماكان عليه بالنسبة إلى كبار مُصدّري النفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
يُسجَّل توافق اليوم على أنّ أسعار النفط التي بلغت معدّلات استثنائية بين العامَين 2011 و2014، وقاربت المئة دولار للبرميل الواحد، لم تكن طبيعية، وسوق النفط كانت لتعود إلى مسارها الطبيعي عاجلاً أم آجلاً.
التوقّعات
على المدى البعيد، ليس استقرار سعر البرميل عند 60 دولاراً للبرميل الواحد بالأمر السيئ؛ فهو كان أقلّ بأشواط لسنوات عدة (كما حصل في تسعينيات القرن الماضي، وفي النصف الأوّل من القرن الحادي والعشرين).
تُفيد التجربة بأنّ أسعار النفط لايسهل توقّعها. فالسيناريوهات الثلاثة لوكالة معلومات الطاقة، والتي تتمثّل في 75 دولاراً و141 دولاراً و204 دولارات للبرميل الواحد (بحسب ظروف العام 2012) بحلول العام 2040 – أي الأسعار المتدنيّة والمرجعيّة والمرتفعة – تعكس الاختلاف الكبير في التوقّعات. أمّا مايُمكن توقعه فهو تقلّب أكبر في الأسعار ضمن الشريحة الأدنى، مقارنةً بالسنوات الثلاث إلى السنوات الأربع الأخيرة.
والواقع أن التأثير الأكثر وضوحاً لانخفاض أسعار النفط على مُصدّري النفط الخام، هو تقهقر في الحسابات الخارجية. أمّا التأثير على الاقتصاد الأوسع فيختلف باختلاف درجة اعتماد الاقتصاد على قطاع النفط. ففي العالم العربي حيث يُشكِّل النفط أكثر من نصف ميزانيّة العائدات والصادرات، يُمكِن أن تتعرّض الاقتصادات إلى أضرار، وفقاً للبنك الدولي (2015).
من المتوقّع أن تصل خسائر صادرات النفط في العام 2015 إلى 300 مليار دولار أو 21 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في دول مجلس التعاون الخليجي، و90 مليار دولار أو 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الدول خارج مجلس التعاون الخليجي، بحسب صندوق النقد الدولي.
سوف تُترجَم هذه الخسائر تقلّصاً في العائدات الماليّة، لأنّ عائدات تصدير النفط تصبّ بشكلٍ شبه حصري في حساب الحكومات، مايسفر عن عجز كبير في الميزانيّة. وستكون المحصِّلة مأساويّة أكثر، إذا ما أُضيفَت عملة الدولار الأقوى إلى المعادلة الحاليّة المتمثّلة في أسعار نفط متدنيّة.
ستواجه الدول المصدّرة والمنتجة للنفط أزمةً إضافيّة لأن أسعار صرف عملاتها ثابتة حيال الدولار الأميركي، أي أن قيمة عملاتها ترتفع مع الدولار الأميركي. فالمملكة العربيّة السعوديّة على سبيل المثال سوف تُحقق عائدات أقلّ بالعملة الأميركيّة نتيجة انخفاض أسعار النفط، مايضطرها إلى أن تُترجم هذه الخسارة إلى عملاتها الوطنيّةّ عندما تُخطط للنفقات المحليّة.
أمّا روسيا وأذربيجان وأمثالهما من الدول ذات أسعار الصرف المتقلّبة، فتستطيع إلى حدٍّ معيّن أن تمتص تأثير الانخفاض في أسعار النفط على النفقات المحليّة. صحيح أنّ عائداتها من الدولار الأميركي تنخفض بفعل انخفاض أسعار النفط، ولكنّها تستطيع أن تستبدلها بعملات محليّة لأنّ قيمة العملة المحليّة تنخفض مقابل الدولار بفعل التقلب في أسعار الصرف.
يُقال إنّ حسابات معظم مصدري النفط تقتضي أن ترتفع أسعار برميل النفط متجاوزةً 60 دولاراً للبرميل لكي تعود حسابات الميزانيّات إلى الاستقرار – وهو مايُعرف بتساوي النفقات والعائدات على مستوى أسعار النفط في الميزانيّة – ولكن يجب التعامل مع هذه الأسعار بتروٍّ، فالميزانيّات تقبل التعديل. ومن هنا السؤال: هل سينال مقصّ التخفيضات من الاستهلاك المحلّي أو الاستثمار؟
خفض معدلات الاستهلاك
يتمثل الخيار الأفضل في خفض معدلات الاستهلاك، بما في ذلك إصلاح الدعم الممنوح لقطاع الطاقة وهو دعم مفرط الكرم وغير فعال. وعليه يُمكن أن تمثِّل أسعار النفط المتدنيّة فرصةً لإصلاح الاقتصادات المحليّة وتحقيق نمو مستقر وغير متقلّب. ومن شأن البحث عن مصادر دخل إضافيّة غير متصلة بالنفط أن يدعم الجهود المبذولة لاحتواء الإنفاق، ولكنّ هذا الأمر مستعبد بفعل التنوّع الاقتصادي المحدود.
نادى خبراء ومنظمات دوليّة على مدى سنوات بإصلاح دعم الطاقة وتنويع الاقتصاد. وقد جرى التباحث حول تنويع الاقتصاد بشكلٍ خاص منذ سبعينيات القرن المنصرم باعتباره السبيل الذي يسمح لاقتصادات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمضي قدماً. ولقد أُحرز تقدم قليل مذ ذاك. وبحسب علي عيساوي من الشركة العربية للاستثمارات النفطية (أبيكورب)، "تفوّق الاسترسال السياسي على الفعاليّة الاقتصاديّة، ما اقتنص من زخم الجهود الحكوميّة لتنويع الاقتصاد". ومن المحتمل أن ينخفض الإنفاق الرأسمالي نتيجة الحساسية السياسيّة المتصلة بالاستهلاك، والتي تنامت خلال السنوات المنصرمة ردّاً على تنامي الضغوط الاجتماعيّة. على سبيل المثال في شهر أيار/مايو 2015، أعطى العاهل السعوديّ الملك سلمان القوّات العسكريّة والأمنيّة أجر شهر إضافي، وهي العلاوة الثانية منذ تبوئه منصبه، ماكلّف الخزينة أكثر من 30 مليار دولار أميركي.
الاحتياطي المالي
بطبيعة الحال، ليس جميع مصدري النفط الخام في الموقع نفسه، ويجب معرفة الذين أداروا ثروتهم إدارةً أفضل من غيرهم. ولقد عمد معظم دول مجلس التعاون الخليجي إلى رصد الاحتياطي المالي من خلال صناديق المال السياديّة (مثلاً الكويت والإمارات العربيّة المتحدة) أو ببساطة من خلال احتياطي العملات الأجنبيّة في البنك المركزي (مثل المملكة العربيّة السعوديّة). وتستطيع هذه الدول أن تنهل من احتياطيها المالي لكي تُديم اقتصادها. وهي تتمتع بتصنيفٍ ائتماني جيّد لتجمع مزيداً من الأموال.
ولكنّ هذا النمط ليس مستداماً على المدى الطويل. إذ بات إصلاح الاقتصادات المحليّة أكثر إلحاحاً ليس نتيجة انخفاض أسعار النفط، بل بفعل وجود ديناميكيّة جديدة تقولب سوق النفط العالميّة والشؤون السياسيّة.
سوف يستمر الخطر الجيوسياسي، ولكنّ وجه الاختلاف اليوم هو أنّه يُمكن استيعابه بشكلٍ أفضل. قبل بضع سنوات، كانت المشاكل السياسيّة في الشرق الأوسط تؤدي إلى ارتفاع جنوني في أسعار النفط. أمّا اليوم فينعكس انعدام الاستقرار السياسي اضطراباً في مستويات العرض في المنطقة – مثلاً في اليمن وسورية وليبيا - من دون أن يُترجَم إلى زيادة في أسعار النفط. وعلى ضوء مواطن القوّة الجديدة في إنتاج النفط الأميركي، يبدو الاقتصاد العالمي أكثر قدرةً اليوم على التكيّف مع مشاكل إمدادات النفط. ففي العام 1979 على سبيل المثال، يوم اندلعت الثورة الإيرانيّة مسببةً خسارة مليوني برميل في اليوم، ارتفعت أسعار النفط بنسبة 125 في المئة.
أمّا اليوم فنحن نتحدث عن تراجع الإمدادات بحوالى ثلاثة ملايين برميل في اليوم. ويتركز هذه الاختلال في ليبيا (1.3 مليون برميل في اليوم) وإيران (860 ألف برميل في اليوم) بحسب الشركة البريطانيّة BP في نشرتها الإحصائيّة حول الطاقة العالميّة (2015). وعلى الرغم من ذلك، بقيت أسعار النفط متدنيةً نسبيّاً.
أمّا في مايخصّ التطوّرات الحاليّة التي قد تطرأ على سوق النفط العالميّة، فيُعتبر إنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز الصخريّين الإنتاج الأكبر غير المعلوم. فهو لم يُمسّ حتّى الساعة، والأهمّ من ذلك أنّه مطواع. تُفيد نشرة BP الإحصائيّة للطاقة العالميّة (2015) بأنّ الولايات المتحدة تغلّبت على المملكة العربيّة السعوديّة وروسيا لتُصبح أعظم منتجٍ عالمي للنفط.
وعليه، من غير المفاجئ أن يوصي صندوق النقد الدولي مصدّري النفط بالتعامل مع انخفاض أسعار النفط على أنّه دائم – وهي قناعةٌ عبّر عنها العديد من خبراء القطاع وقادته. وقد بدأ بعض دول المنطقة فعلياً باتخاذ تدابير سياسيّة في هذا الصدد. في الجزائر على سبيل المثال، توقّف التوظيف في القطاع العام. ونال مقصّ التخفيضات من محفظة الدفاع في ميزانيّة سلطنة عُمان للعام 2015. وأعلنت السلطات البحرينيّة عن زيادةٍ بنسبة 11 في المئة في أسعار الغاز الطبيعي للمستخدمين الصناعيين. هذه خطوات إيجابيّة ولكنّها لاتكفي وحدها.
السيناريوهات
يدور نقاش حول تأثير انخفاض أسعار النفط في تخفيف التوتر في الشرق الأوسط بدلاً من تأجيجه. والحجّة هي أنّ الجميع سيُرغَم على تركيز انتباهه على توحيد الإدارة الاقتصاديّة وبالتالي تخصيص مساحة أقلّ للمغامرات العسكريّة، ولاسيّما في المملكة العربيّة السعوديّة وإيران.
سيُفضي انخفاض أسعار النفط إلى تسليط الضوء على أهميّة التعاون، ولاسيّما في صفوف الدول المنتجة والمصدِّرة للنفط. وليس التهديد الذي يطال الدول المصدّرة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خارجاً عنها. فدولة النروج من أبرز مصنعي النفط ومصدريه ولكنّ أداءها الاقتصادي ليس رهناً بتقلبّات أسعار النفط.
تحتاج اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى إصلاح اقتصادي جدّي وإلى المواظبة على تطبيقه لكي تنضم إلى مجموعة الدول الحديثة، مايقتضي تحقيق الفعاليّة في الحوكمة والإدارة، وتنويع الاقتصاد والنشاط الصناعي، وبلورة سبل فعالة ومستدامة لكسب العائدات، ووضع سياسات إنفاق عامة وشاملة، وتوفير الخدمات العامة. هذه هي وصفة الاستقرار والازدهار الاقتصادي. أمّا المماطلة فسوف تُفضي ببساطة إلى انكماش إضافي وإلى اضطراب اجتماعي. وهذا نقيض ماتحتاج إليه المنطقة لتتمكّن من مواجهة تحديات الغد – لابل تحديات اليوم.