هذا المقال جزء من سلسلة مقالات تتناول الديناميكيات العالمية للصراع السوري، ويحلّل من خلالها خبراء كارنيغي من أنحاء العالم كافة المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية التي تدخل ضمن الحرب الأهلية المتواصلة في سورية. يمكنكم الاطلاع على السلسلة كاملةً هنا.
اتّسمت استراتيجية إسرائيل تجاه الصراع السوري بالغموض والإبهام إلى حدّ ما، حيث تجنّب المسؤولون الإسرائيليون لفت الأنظار على غير العادة بشأن هذه القضية منذ بداية الحرب الأهلية. وخلال هذه الفترة، لم يصدر سوى القليل من التصريحات الرسمية بشأن القضية، لابل كانت تلك التصريحات مبهمة وإشكالية إلى حدّ كبير بشأن القضايا الأوسع ذات الصلة، وعادة ما اقتصرت على موضوع واحد بالتحديد هو نقل الأسلحة الاستراتيجية السورية إلى حزب الله. إضافة إلى ذلك، لم تبذل إسرائيل أي محاولة فعلية كي تكون جزءاً من العملية الدبلوماسية في جنيف.
يبدو هذا التعتيم والسلبية العامة لافتين إلى حدّ ما، نظراً إلى مدى تأثّر مصالح إسرائيل الجوهرية بأي نتيجة تسفر عنها الحرب الأهلية السورية، إلى جانب ميلها إلى الإفصاح عن آرائها وتوصياتها بقوة. مع ذلك، لاينبغي على المرء أن يفسّر هذا الخوف باعتبار أن إسرائيل متشكّكة أو غير متأكّدة من نتيجة الحرب. والواقع أن إسرائيل تشعر بالارتباك بسبب الطابع المعقّد والمتشابك للقيم والمصالح والمعضلات التي تواجهها نتيجة للحرب الأهلية السورية.
منذ الحرب القصيرة، ولكن العنيفة، التي نشبت بين البلدين في العام 1973، اعتبرت إسرائيل أن سورية، ولاسيّما نظام الأسد، تشكّل تهديداً عسكرياً خطيراً وشريك سلام صعباً وقاسياً، وربما مثالياً لأنها ستطلب الكثير في مقابل السلام ولكنها ستكون أيضاً قادرة على الوفاء بالتزاماتها. وطوال العقود الأربعة الماضية، شهد البَلدان جولات عدة من مفاوضات السلام الثنائية والاحتكاكات العسكرية غير المباشرة أيضاً، في حين انخرطا في سباق تسلّح، وكذلك في تنافس على النفوذ في لبنان. ومع ذلك، ظلت الحدود الإسرائيلية-السورية هادئة وآمنة خلال هذه الفترة بأكملها.مع ذلك، بدأ هذا الهدوء يتبدّد تدريجياً في السنوات الأخيرة، حتى قبل بداية الحرب الأهلية السورية. في البداية، انهارت الجولة الأخيرة من مفاوضات السلام الثنائية التي ساعدت تركيا في عقدها في أعقاب حرب العام 2006 في لبنان. فقد تم إحباط محاولة سورية امتلاك أسلحة نووية سراً بمساعدة كبيرة من كوريا الشمالية في العام 2007 عن طريق هجوم عسكري نُسِب إلى إسرائيل على نطاق واسع. بعد ذلك، تم تقديم مساعدات سورية (وإيرانية عبر سورية) ضخمة إلى حزب الله (ولاتزال مستمرة) والفصائل الفلسطينية المتطرّفة التي تقاتل إسرائيل، وتلت ذلك سلسلة من عمليات القتل المستهدفة رفيعة المستوى، رغم أنها لم تنسب إلى جهة محدّدة، لمتطرّفين بارزين من حزب الله وفلسطينيين في دمشق.
عرّضت الحرب الأهلية السورية إسرائيل إلى عددٍ من المعضلات الحادّة يتعلّق أولها بالنّتائج التي تفضّلها لتلك الحرب. وقد قوبل عداء إسرائيل التاريخي للرئيس السوري بشار الأسد بوجهة النظر التي تقول إنه الشيطان الذي تعرفه إسرائيل (والذي تمكّنت إسرائيل من التكيّف معه إلى حدّ كبير)، في حين أن منافسيه غير معروفين بتاتاً.
وتتعلّق المعضلة الثانية باشمئزاز إسرائيل من الأعمال الوحشية التي ارتكبها الأسد بانتظام ضد شعبه، والتي يقابلها جزئياً الإدراك المتزايد بأن وحشية بعض الفصائل الإسلامية الراديكالية التي تشارك في القتال لم تعرف حدوداً أيضاً.
أما المعضلة الثالثة فتكمن في القلق بشأن المخاطر التي يطرحها احتمال نجاح المعارضة الإسلامية الراديكالية في سورية، والتي يمكن أن تنقلب ضد إسرائيل بمجرّد أن تتمكن من توطيد سلطتها. ويعادل هذا القلق الخوف من أن انتصار الأسد، الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على إيران وحزب الله وشيعة العراق، قد يشجّع بصورة ملحوظة مساعي هذا التحالف غير المقدّس إلى الوقوف في وجه إسرائيل.
وتكمن المعضلة الرابعة في قلق إسرائيل من أن الصراع غير الحاسم والمطوّل في سورية من شأنه أن يخلّف خسائر إنسانية فادحة ويؤثّر سلباً بصورة متزايدة على الاستقرار في لبنان والأردن المجاورين (كلاهما مهمان بالنسبة إلى إسرائيل)، ولكنه، في الوقت نفسه، سيبقي القتال الذي تخوضه جميع الأطراف المتحاربة في نطاق الأراضي السورية، وبالتالي سيستنفدها وينهكها ويضعف قدرتها على إيذاء إسرائيل.
وتتمحور المعضلة الخامسة حول دور حزب الله في سورية. إذ يبدو واضحاً أن العمليات القتالية الواسعة التي خاضها في سورية في الأشهر الأخيرة (بناءً على إلحاح من إيران) دعماً لنظام الأسد، تحوّل انتباه حزب الله عن إسرائيل، وتستنزف موارده وتكشف خاصرته في لبنان. ومع ذلك، أكسبت تلك العمليات حزب الله خبرة قتالية قيّمة، فضلاً عن المكافآت النقدية والعسكرية الملموسة التي حصل عليها في مقابل الخدمات التي قدمها، والتي يمكن أن تُستخدم في وقت لاحق ضدّ إسرائيل.
وأضافت عمليات السمسرة في الجوانب الإقليمية والدولية الأوسع للصراع السوري معضلة سادسة بالنسبة إلى إسرائيل. ففي حين كانت أولوية إسرائيل الكاسحة هي الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة والغرب على الدوام، كان من شأن تبنّي مثل هذا الموقف العلني في سورية أن يهدّد بإحداث قطيعة مع روسيا، التي تعدّ واحدة من المتبرعين الدوليين الرئيسيين للأسد. وفي سياق الردّ على ذلك، ربما كانت روسيا انتقمت من المصالح الإسرائيلية الأساسية في سورية أو في مايتعلّق بإيران، أو حتى عن طريق اتّخاذ إجراءات في روسيا نفسها.
أخيراً، كانت هناك حالة من التوتّر بين مَيل إسرائيل إلى الاستفادة من الفوضى الناجمة عن الحرب الأهلية وتحاول التأثير على نتيجتها، وبين الإدراك الواقعي بأن سجلّ إسرائيل في مثل هذه الجهود كان بائساً. إضافة إلى ذلك، لم يكن الاختيار بين التدخّل إلى جانب النظام أو المعارضة واضحاً (لابل أصبح الأمر أقلّ وضوحاً مع مرور الوقت)، وزادته تعقيداً حقيقة أن عقد تحالف مع إسرائيل يمكن أن يضرّ المستفيدين منه في سورية أكثر من أن يساعدهم.
ردّاً على الحرب الأهلية المفتوحة والمعضلات السياسة الشائكة التي تطرحها، قرّرت الحكومة الإسرائيلية في الحقيقة أن تتولّى دوراً ثانوياً تجاه الصراع، وأن تعتمد موقفاً خجولاً إلى حدّ كبير دبلوماسياً وعملياً. في العلن، حصرت إسرائيل تصريحاتها الرسمية عموماً في بيانات الردع التحذيرية، وحذّرت جميع الأطراف بأن تكفَّ عن تحدّي الأراضي أو المصالح الإسرائيلية مباشرةً.
من الناحية العملية، حصرت إسرائيل تدخّلها بصورة أساسية في مجالين متكاملين. فقد قامت أولاً بتوفير الإغاثة الإنسانية (الرعاية الطبية في المستشفيات الإسرائيلية بصورة أساسية) لضحايا الحرب. ثانياً، يُعتقَد أن إسرائيل لجأت، بشكل انتقائي وبعيداً عن الأضواء، إلى تنفيذ ضربات جوية جراحية عدّة (قرّرت ألا تعترف بها علناً) موجّهة خصوصاً ضد عمليات نقل أنظمة الأسلحة المزعزعة للاستقرار من سورية إلى حزب الله. في موازاة ذلك، عزّزت إسرائيل إلى حدّ كبير وجودها العسكري الدفاعي في مرتفعات الجولان لمنع امتداد القتال الداخلي في سورية (هو مستشرٍ بالفعل في المنطقة الحدودية الثنائية) إلى داخل إسرائيل.
المجال الآخر الوحيد الذي اتّخذت منه إسرائيل موقفاً أكثر حزماً نوعاً ما في الحرب الأهلية السورية، تمثّل في الردّ على الاستخدام المتكرّر للموادّ الكيميائية من جانب النظام السوري. فقد أطلع المسؤولون الإسرائيليون نظراءهم الأجانب مراراً وتكراراً، إضافة إلى الصحافة، على مثل هذه التجاوزات، ويبدو أن المسؤولين الإسرائيليين شجّعوا الولايات المتحدة بهدوء على عدم ترك مثل هذه الأفعال تمرّ من دون عقاب. وعلى الرغم من أنهم كانوا فرحين بالالتزام السوري بنزع الأسلحة الكيميائية، شعر المسؤولون الإسرائيليون بالخيبة إزاء وتيرة وحجم عملية نزع السلاح نفسها، وبخيبة أمل أيضاً إزاء ضعف استجابة الولايات المتحدة في نهاية المطاف (على الرغم من المخاوف الأولية من انتقام سوري ضدّ إسرائيل في حال توجيه ضربة أميركية).
وفي ماعدا ذلك، دعمت إسرائيل بهدوء الجهود التي بُذِلت لمساعدة الأردن على التعامل مع التدفّق الهائل للاجئين إلى أراضيه.
ربما تنذر التشكيلة الحالية للقوى في سورية بحرب أهلية مفتوحة وغير حاسمة ومطوّلة، مع احتمالات ضئيلة بأن يتمكّن الأسد من إعادة توطيد سيطرته، أو ظهور نظام إسلامي راديكالي، أو تفكّك سورية في نهاية المطاف. وربما يُغرِق الاحتمال الأخير كل جيران سورية، ماسيؤثّر إلى حدّ كبير، على لبنان وإسرائيل، على سبيل المثال، من خلال ترويع قوات حفظ السلام الدولية بحيث تخرج من لبنان، وتحويل البلاد مرة أخرى إلى منطلق للأعمال العدائية ضد إسرائيل.
ترى إسرائيل أن الفرص الحقيقية للنهوض بمصالحها في أي من هذه السيناريوهات ضئيلة. وبالتالي، فإن شاغلها الأساسي يكمن في منع الامتداد المحتمل، وتخفيفه إذا لزم الأمر، للحرب الأهلية السورية أو نتائجها، إلى إسرائيل ولبنان والأردن. كما تشعر إسرائيل بالقلق الشديد من إمكانية أن يحاول طرف أو أكثر من أطراف الحرب الأهلية جرّ إسرائيل أو خداعها بطريقة أو بأخرى للتورّط في الصراع. ونتيجة لذلك، فهي عازمة على منع تحوّل الأراضي اللبنانية إلى منصة للعدوان (أو دعم العنف) على إسرائيل.
واستشرافاً للمستقبل، يتعيّن على إسرائيل أن تتعامل مع احتمال أكثر إثارة للقلق يمكن أن يتحقق خلال العام 2014، ويتمثّل في التوصّل إلى اتفاق نووي مع إيران من شأنه أن يعزّز مكانة إيران، ويضعف نظام العقوبات ضدها، ويمدّها بقدر أكبر من الشرعية وبحرّية أكبر للتدخّل في الشؤون السورية واللبنانية.