المصدر: Getty

التداعيات الإقليمية: لبنان والصراع السوري

يواجه لبنان مشاكل معقّدة ترتبط بالصراع السوري، بدءاً من تدفّق اللاجئين وصولاً إلى الانقسامات السياسية الداخلية الحادة.

نشرت في ٩ يونيو ٢٠١٤

هذا المقال جزء من سلسلة مقالات تتناول الديناميكيات العالمية للصراع السوري، ويحلّل من خلالها خبراء كارنيغي من أنحاء العالم كافة المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية التي تدخل ضمن الحرب الأهلية المتواصلة في سورية. يمكنكم الاطلاع على السلسلة كاملةً هنا.

يواجه لبنان مشاكل معقّدة ترتبط بالصراع السوري. فما يزيد على مليون لاجئ يغيّرون ديمغرافيات البلد، ويرهقون عقده الاجتماعي، ويشكّلون ضغطاً على اقتصاده. ويساهم كلٌّ من افتقار الحكومة إلى سياسةٍ للاجئين والانقسامات السياسية الداخلية الحادّة حول التدخّل في سورية، في إثارة المخاوف الأمنية والتوترات الطائفية في لبنان. ثم أن التنافس الإقليمي، ولاسيما بين المملكة العربية السعودية وإيران، فاقم الاستقطاب بين اللبنانيين الموالين للأطراف الإقليمية المختلفة.

الواقع أن لبنان لطالما كان في ظلّ سورية. فعقب استقلال البلدَين في أربعينيات القرن الماضي، لم تقبل سورية سيادة لبنان بالكامل - على الرغم من اعترافها الرسمي بالدولة اللبنانية – ومذّاك، مارست دمشق تأثيراً كبيراً على السياسة اللبنانية. وتعزّز الإشراف السوري خلال الحرب الأهلية اللبنانية، عندما دعا رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك، سليمان فرنجية، القوات السورية للدخول إلى بلاده، في العام 1976، لتكون قوة "ردع" في الصراع بين الفصائل اللبنانية والفلسطينية. وانتهى المطاف بهذه القوات أن أصبحت طرفاً رئيساً فاعلاً في الصراع.

كما أن بروز حزب الله، وهو المجموعة الشيعية المدعومة من إيران، بصفته قوة "مقاومة" ضد إسرائيل، في ثمانينيات القرن الماضي، واعتماده على سورية كممرٍّ لنقل الأسلحة إلى لبنان، عزّزا تأثير سورية على الشؤون اللبنانية. صحيح أن القوات السورية انسحبت من لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، في العام 2005، إلا أن السياسة اللبنانية الداخلية بقيت تحت الإشراف السوري غير المباشر.

والحال أن علاقة لبنان بسورية انطبعت إلى حدٍّ بعيدٍ بالتنافس الإيراني-السعودي الأشمل في المنطقة. فهذا التنافس لم يكن يوماً أكثر بروزاً في لبنان مما هو عليه خلال الصراع السوري الحالي.

منذ اغتيال الحريري، سيطر على السياسة اللبنانية كلٌّ من تحالف 8 آذار المدعوم من إيران، وعلى رأسه حزب الله، وتحالف 14 آذار المدعوم من المملكة العربية السعودية، وعلى رأسه تيار المستقبل الذي يرأسه سعد الحريري. ويرى كلٌّ من التحالفين في الصراع السوري فرصةً لتوطيد قوّتهما والسيطرة على الساحة السياسية اللبنانية. يعتقد حزب الله أن فوز الرئيس السوري بشار الأسد لن يضمن مصالح الحزب العسكرية الاستراتيجية وحسب، بل سيمثّل أيضاً تأكيداً لهيمنة الحزب السياسية، وبالتالي هيمنة إيران السياسية، على لبنان. في المقابل، يعتقد تحالف 14 آذار أن نهاية نظام الأسد ستشكّل فرصةً لمواجهة نفوذ حزب الله المتنامي في لبنان.

هاتان النظرتان المتباينتان للغاية إلى الصراع السوري فاقمتا التوترات السياسية في بيروت. فقد مارس تحالف 14 آذار ضغطاً دفع الحكومة اللبنانية إلى إصدار إعلان بعبدا في العام 2012، الذي نصّ على أن موقف لبنان الرسمي من الصراع السوري يتمثّل بالنأي عن النفس. بيد أن حزب الله أرسل، على الرغم من ذلك، قوات للقتال إلى جانب قوات الأسد بحجّة أنه يحمي حدود لبنان من تدفّق الجهاديين السنّة. وهكذا، أدّت الخلافات حول تدخّل حزب الله في سورية إلى استقالة الحكومة في العام 2013، وبالتالي إلى حصول فراغ سياسي دامَ عشرة أشهر.

جاء تشكيل حكومة جديدة مؤقّتة، في آذار/مارس 2014، جزئياً نتيجة الضغط الذي مارسه الرعاة الأجانب على اللاعبين اللبنانيين، وهو ضغط حفّزته التطورات على الأرض في سورية. ومع تطوّر الصراع السوري، تضاعفت قوة المجموعات المتطرّفة ونفوذها. أبدى حزب الله خشيةً إزاء هذا التطوّر، لأن المجموعات المتطرّفة المناهضة لنظام الأسد كانت شنّت سلسلةً من الهجمات على معاقل الحزب في لبنان، تكثّفت في أواخر العام 2013 وبداية العام 2014، الأمر الذي كشف نقاط الضعف في جهاز حزب الله الأمني. في غضون ذلك، أبدت السعودية أيضاً قلقاً حيال آلاف المواطنين السعوديين الذين كانوا انضمّوا إلى المجموعات الجهادية المقاتلة في سورية، والذين قد يزعزعون استقرار المملكة إذا ماعادوا إليها. كما خشيت الرياض أن يؤدّي تنامي نفوذ المتطرفين السنّة غير الموالين لسعد الحريري، إلى تهديد زعامة الحريري للطائفة السنّية في لبنان. وهكذا، أصبح المتطرّفون السنّة مشكلةً أمنيةً مشتركةً لكلٍّ من حزب الله والمملكة العربية السعودية معاً.

إضافةً إلى ذلك، تصاعدت التوترات المذهبية بين السنّة المعادين للأسد وبين العلويين الموالين له في شمال لبنان في العام 2013 وأوائل العام 2014، وشكّل بعض السنّة مجموعات جهادية مرتبطة بتلك المتواجدة في سورية. ولم يرغب أيٌّ من الأحزاب السياسية في لبنان في أن يتحوّل هذا التوتر إلى حرب أهلية، لأنّ ذلك قد يقوّض مصالحه السياسية الخاصة.

قبيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي كان من المقرّر إجراؤها في ربيع العام 2014، وللمرة الأولى منذ بداية الصراع السوري، كان لمختلف اللاعبين السياسيين في لبنان (ورعاتهم الأجانب) قضيّتان مشتركتان: تأمين الحدود اللبنانية ضدّ تدفق الجهاديين، واحتواء العنف الطائفي في لبنان. أدت هذه المصالح المشتركة إلى تسوية بدأت مع تشكيل الحكومة ووضع خطة أمنية لشمال لبنان نفّذها الجيش اللبناني في نيسان/أبريل 2014. أدّت التسوية السياسية إلى انخفاض كبير في الهجمات الإرهابية والعنف الطائفي في لبنان.

لكن، على الرغم من هذه الترتيبات، لم يتم التوصّل إلى حلّ المشاكل الكامنة الناجمة عن الصراع السوري. فمن غير المرجّح أن يتخلّى حزب الله عن حليفه السوري، وبالتالي، يعني استمرار الصراع أنّ حزب الله سيواصل تدخّله العسكري على الأرض في سورية، وأنّ التوترات السياسية في لبنان ستستمرّ على المدى الطويل. عند كتابة هذا المقال، كانت الانتخابات البرلمانية والرئاسية معلّقة، الأمر الذي أحدث فراغاً في السلطة بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق في 25 أيار/مايو. وعلى الرغم من التدابير التي اتُّخذت للسيطرة على تدفّق الجهاديين إلى لبنان، إلا أنّ الصراع السوري يشكّل أرضاً خصبة للمتطرّفين الذين يستفيدون من الفوضى للانتشار والتكاثر. حين تزداد هذه المجموعات قوّةً، يُصبح من الصعب أكثر السيطرة على سلوكها. ويُرجّح أن يمسي لبنان، خصوصاً المناطق الخاضعة إلى سيطرة حزب الله، أكثر عرضةً إلى هجمات الجهاديين الأجانب طالما أنّ الصراع السوري مستمرّ. إضافةً إلى ذلك، يحمل استمرار الصراع خطر زيادة تجنيد المواطنين اللبنانيين في صفوف المقاتلين المتطرفين .

لم تعالج الدولة اللبنانية بشكلٍ مناسب المشاكل الأخرى الناجمة عن الصراع السوري. فعلى الرغم من ارتفاع عدد اللاجئين السوريين في لبنان – الذين يُقدّر عددهم بحوالى ربع مجموع السكّان - لاتملك الحكومة اللبنانية سياسة واضحة حول كيفية التعاطي مع هؤلاء اللاجئين المنتشرين في أرجاء لبنان كافة، والذين يعيش معظمهم في ظروف مزرية.

يعاني الاقتصاد اللبناني أعباء ناجمة عن مطالب هؤلاء اللاجئين والتوترات السياسية المرتبطة بالصراع السوري، والتي أسفرت عن تراجع الاستثمار والتجارة والسياحة. في سياق من التوترات الطائفية المتأجّجة خصوصاً، تترك هذه العوامل الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام احتمال تجنيد اللاجئين السوريين المُعدَمين في صفوف المتطرّفين، ولاضطرابات اجتماعية ناجمة عن ازدياد الاستياء الشعبي من وجود اللاجئين. أدّى هذا الاستياء من وجود اللاجئين إلى نأي السياسيين بأنفسهم عن ملف اللاجئين، بغضّ النظر عن التحالف السياسي الذي ينتمون إليه، الأمر الذي يعني أنّ تأثيرات أزمة اللاجئين الاجتماعية والاقتصادية والأمنية لن تُعالج بالشكل المناسب، ويُرجّح بالتالي أن تتفاقم.

قد تؤثّر العوامل الخارجية مجدّداً على مسار لبنان في المستقبل. فإيران والمملكة العربية السعودية في طور إيجاد تسويات سياسية تدفعها إلى حدّ كبير مخاوفهما الأمنية المشتركة من المنظّمات الجهادية في سورية. وسيُحدث التقارب المحتمل بين الاثنين تأثيراً مهدّئاً على لبنان، الأمر الذي سيُفضي إلى انتخاب رئيس وبرلمان جديدين. مع ذلك، لن يعني هذا التقارب نهاية الصراع السوري المعقّد في المستقبل القريب، الأمر الذي يؤدّي إلى استمرار المخاوف الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في لبنان.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.