شكّلت الاتفاقات الإبراهيمية التي جرى توقيعها في البيت الأبيض بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 2020 خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، إنجازًا باهرًا للدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط، إذ تمّ بمقتضاها إرساء السلام بين إسرائيل وكلٍّ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، ثم المغرب. وأطلقت إسرائيل أيضًا عمليةً لتطبيع العلاقات مع السودان، لكن الاضطرابات المحلية في السودان حالت دون استكمال المسار التطبيعي.
كان الهدف الأبرز لهذه الاتفاقات نزع فتيل التوتّر في الشرق الأوسط من خلال تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية التي توصَف بالمعتدلة، على أن تستفيد هذه البلدان من تعزيز قدرتها على الحصول على التقنيات المتقدّمة والفرص التجارية الجديدة، استنادًا إلى رؤية مشتركة لإيران باعتبارها تهديدًا استراتيجيًا. وأتت الخطة تتويجًا لمؤتمر "السلام من أجل الازدهار" في الشرق الأوسط الذي انعقد في البحرين في حزيران/يونيو 2019 وترأسه صهر ترامب ومستشاره آنذاك جاريد كوشنر. الواقع أن هذه الاتفاقات مستوحاةٌ من قناعة مفادها أن أدوات الجغرافيا الاقتصادية قادرة على التخفيف من حدّة التوتّرات الجيوسياسية من خلال تقديم حوافز مالية واقتصادية لتفادي الخوض في صراعاتٍ تبدو عصيّةً على الحلّ.
ترى الولايات المتحدة أن الاتفاقات الإبراهيمية حقّقت هدفًا مزدوجًا، إذ أسهمت في تعزيز دور واشنطن كجهة ضامنة للأمن الإقليمي، وفي تجاوز الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. سعت واشنطن كذلك، من خلال الاضطلاع بدور الوسيط والضامن لهذه الاتفاقات، إلى إرساء ثقلٍ موازن في وجه نفوذ الصين المتنامي في المنطقة، ولا سيما في مجال التكنولوجيا المتقدّمة. يُشار إلى أن إدارة جو بايدن دعمت هذه الاتفاقات وحاولت توسيع نطاقها من خلال التركيز على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. لكن هذه العملية وصلت إلى طريقٍ مسدودٍ على خلفية الحرب الدائرة في غزة بدءًا من هجمات حركة حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، التي دفعت إسرائيل إلى اجتياح القطاع. فقد أسفر الردّ الإسرائيلي عن مقتل عشرات الآلاف من المدنيين وعن تدمير هائل للبنية التحتية في القطاع، ما قوبِل بموجة إدانة إقليمية ودولية واسعة. لقد صمدت الاتفاقات الإبراهيمية حتى الآن، إلا أن استمرارها في المستقبل رهنٌ بالتطوّرات الإقليمية والدولية الأوسع.
استمرار الاتفاقات الإبراهيمية
مع تصاعد حدّة التوترات الإقليمية خلال الحرب في غزة، كان التواصل الناجم عن الاتفاقات الإبراهيمية محصورًا بشكل أساسي على مستوى الحكومات والتواصل غير العلني بين الشركات، فيما تضاءل زخمه على المستوى الشعبي، إن لم يُقوَّض بالكامل. وترافق ذلك مع تنامي المعارضة الشعبية في أوساط الرأي العام العربي لنهج تطبيع العلاقات مع إسرائيل. مع ذلك، صمدت على الاتفاقات الإبراهيمية في الغالب بسبب المزايا الاستراتيجية التي توفّرها في المقام الأول. وهكذا، تعاملت الإمارات والبحرين والمغرب مع تبعات الحرب في غزة بما يتماشى مع مصالحها الوطنية.
على سبيل المثال، خفتت جذوة التقارب الإماراتي الإسرائيلي المدفوع بتعزيز المصالح الاقتصادية عَقب هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر. بعد توقيع اتفاق التطبيع، سارعت الإمارات وإسرائيل إلى إقامة علاقات دبلوماسية، وطبّقتا الإعفاء المتبادل من التأشيرات المسبقة، ونظّمتا رحلات جوية مباشرة بين البلدَين، ما أسهم في تنشيط العلاقات التجارية وقطاع السياحة، ولا سيما من إسرائيل إلى الإمارات. وأبرم الطرَفان أيضًا اتفاقية للتجارة الحرة واتفاقية شراكة اقتصادية شاملة في العام 2022، ما أظهر استعدادًا قويًا للتعاون في مختلف القطاعات، بدءًا من التكنولوجيا ووصولًا إلى البنية التحتية، بهدف زيادة حجم التبادل التجاري الثنائي السنوي إلى 10 مليارات دولار بحلول العام 2027، مقارنةً مع 2.5 مليار دولار في العام 2022.
علاوةً على ذلك، أطلقت الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة في أيلول/سبتمبر 2023 شراكة باسم I2U2 تركّز على تعزيز التعاون الاقتصادي في قطاعات عدّة أهمّها التكنولوجيا المتقدّمة والأمن الغذائي. ومع أن دولة الإمارات أدانت بصورة علنية الممارسات الإسرائيلية خلال الحرب على غزة، لم تقطع العلاقات الدبلوماسية معها. واستمرت الهيئات المدعومة من الحكومة الإماراتية في العمل مع نظيرتها الإسرائيلية، لكن تم تعليق مشاريع مهمّة، مثل صفقة الاستثمار المشترك في أكبر حقل بحري إسرائيلي للغاز الطبيعي بين شركة نفط أبو ظبي الوطنية (أدنوك) وشركة بريتيش بتروليوم البريطانية (BP) وشركة الطاقة الإسرائيلية (نيوميد). وتضرّر أيضًا القطاع السياحي والرحلات الجوية بين البلدَين، بحيث تراجع عدد المسافرين جوًا من إسرائيل إلى دبي بشكل حادّ، قبل أن يعاود الارتفاع في وقتٍ لاحق. في المقابل، أدّى الصراع إلى إنشاء جسر بري جديد يربط بين الإمارات وإسرائيل مرورًا بالأراضي السعودية والأردنية، يسمح للشركات الإسرائيلية بتفادي عبور البحر الأحمر حيث يشنّ الحوثيون هجمات على السفن المتّجهة إلى إسرائيل.
يُشار إلى أن البحرين، التي تستضيف الأسطول الخامس للبحرية الأميركية، وقّعت في العام 2022 اتفاقًا رسميًا للتعاون الأمني مع إسرائيل، كان الأول من نوعه بين إسرائيل ودولة خليجية. مع ذلك، يُعدّ حجم التبادل التجاري بين البحرين وإسرائيل ضئيلًا مقارنةً مع حجم التجارة بين الإمارات وإسرائيل، إذ لم تتجاوز قيمته الإجمالية 20 مليون دولار في فترة 2021-2022. وبُعيد اندلاع الحرب في غزة، غادر السفير الإسرائيلي البحرين، لكن المنامة لم تبدِ أي نية للانسحاب من الاتفاقات الإبراهيمية، بل شدّدت على أهمية العلاقة الأمنية والدفاعية التي تجمعها مع إسرائيل، ومن ضمنها التدريب الاستخباراتي وصفقات شراء الطائرات المسيّرة.
أما تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل فقد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة سيادته على الصحراء الغربية. ففي أواخر العام 2020، اعترفت الإدارة الأميركية في ظلّ ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، ما مهّد الطريق أمام إقامة علاقات دبلوماسية بين الرباط وإسرائيل. وفي العام 2021، وقّع المغرب وإسرائيل مذكرة تفاهم في مجال التعاون العسكري والأمني، أبرم بموجبها الطرَفان صفقات أسلحة شملت طائرات مسيّرة، وأنظمة دفاع جوي، وأقمار صناعية استخباراتية متطوّرة. وإلى جانب المصالح الأمنية المتبادلة، يتشارك البلَدان أيضًا روابط ثقافية وتاريخية. فالسلطات المغربية تعترف بالتراث اليهودي في المملكة، ناهيك عن أن شريحةً واسعةً من اليهود الإسرائيليين يتحدّرون من أصول مغربية. صحيحٌ أن حركة السياحة من إسرائيل إلى المغرب تراجعت جرّاء الحرب في غزة، إلّا أن جوانب أخرى من العلاقة لم تتأثّر. فقد لجأت إسرائيل مثلًا إلى استيراد السيارات من المغرب بدلًا من تركيا. وأبقت المؤسسات الأكاديمية المغربية، بما فيها جامعة محمد السادس متعدّدة التخصّصات التقنية، على اتفاقيات التعاون مع نظيرتها الإسرائيلية.
إلى جانب البلدان الموقّعة على الاتفاقات الإبراهيمية، من الصعب تجاهل دور السعودية، التي كانت قد بدأت مفاوضات لتحقيق تقاربٍ مع إسرائيل في فترة ما قبل الصراع في غزة. فقد ألمحت المملكة إلى احتمال تطبيع العلاقات مع إسرائيل للمرة الأولى في العام 2002، عندما أطلق ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز مبادرة السلام العربية، التي عرضت على إسرائيل إنشاء علاقات طبيعية معها مقابل انسحابها الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلّة منذ العام 1967. وبعد أن أصبح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الحاكم الفعلي للمملكة في العام 2016، اتّخذ إجراءاتٍ شكّلت بوادر حسن نية، من بينها فتح المجال الجوي السعودي أمام الرحلات التجارية الإسرائيلية. كذلك، سعى إلى جذب الاستثمار الأجنبي إلى المملكة باعتباره جزءًا أساسيًا من رؤية السعودية 2030، التي تشمل مشاريع ضخمة طموحة على غرار مدينة "نيوم"، حيث تُعدّ إمكانات إسرائيل المتطوّرة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الأحيائية والتكنولوجيا الزراعية جذابة وقيّمة. وفيما أشار ولي العهد محمد بن سلمان إلى إحراز تقدّم في المحادثات الثنائية قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023، تسبّبت هجمات حماس وحملة الردّ الإسرائيلي بعرقلة هذه العملية، ما دفع المملكة إلى اتّخاذ موقف أكثر حزمًا تجاه إسرائيل، مشترطةً التزام هذه الأخيرة بمسارٍ يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية كمدخلٍ لأيّ تقدّم على مسار تطبيع العلاقات.
تكشف هذه التجارب مجتمعةً عن الضغوط المختلفة التي خلّفها الصراع في غزة على الدول العربية التي أقامت علاقات طبيعية مع إسرائيل. مع ذلك، لم تنسحب أيٌّ من هذه الدول العربية رسميًا من الاتفاقات الإبراهيمية، ما يدلّ على غلبة الأهداف الاستراتيجية الطويلة الأمد على الخلافات السياسية الآنية. لكن الثمن السياسي للتطبيع ارتفع مع اندلاع الحرب في غزة، نظرًا إلى أن الرأي العام العربي متعاطفٌ بشدّة مع القضية الفلسطينية، ولا يعتبرها شأنًا فلسطينيًا بحتًا، بل قضية العرب جميعًا.
السياق المتغيّر للاتفاقات الإبراهيمية
بعد مشاركة بعض الدول العربية في التصدّي للهجوم الإيراني على إسرائيل في ذروة الحرب في غزة، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تشكيل تحالف أمني في الشرق الأوسط أطلق عليه اسم "الحلف الإبراهيمي"، ليكون بمنزلة امتدادٍ طبيعي للاتفاقات. لكن هذه الرؤية الدفاعية القائمة على تصوير إيران بأنها العدو الإقليمي الأساسي لإسرائيل والدول العربية، فقدت الكثير من زخمها نتيجة الأوضاع الجيوسياسية المتغيّرة إقليميًا وعالميًا. إضافةً على ذلك، قد يعتمد استمرار الاتفاقات الإبراهيمية على مدى نجاحها في معالجة المخاوف الأمنية لمختلف القوى الإقليمية، بما فيها إيران.
الواقع المتغيّر في الشرق الأوسط
ساهم تطبيع العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران عقب الاتفاق السعودي الإيراني غير المسبوق الذي توسّطت فيه الصين في العام 2023، وما تلاه من تقاربٍ بين الطرفَين، في تقليص الحاجة إلى التحوّط الجيوسياسي في مواجهة إيران، وإلى مبرّر "المظلّة الأمنية" الذي قامت عليه الاتفاقات الإبراهيمية. ومن المفارقات أن ما حصل منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 من توجيه إسرائيل ضربات موجعة إلى حماس، وإضعاف سيطرة حزب الله على لبنان، وسقوط نظام بشار الأسد في سورية، كشَفَ مكامن ضعف إيران، الأمر الذي دفع طهران إلى تبنّي موقفٍ أكثر تعاونًا مع جيرانها العرب.
أمام هذه التحدّيات، أعلن الإيرانيون عن إطارهم الخاص للتعاون الإقليمي، وأطلقوا عليه اسم مبادرة "مودّة" (جمعية الحوار الإسلامي لغرب آسيا)، ليشكّل اقتراحًا مضادًّا للاتفاقات الإبراهيمية. وكما أوضح وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، تشجّع هذه المبادرة على التعاون بين الدول الإسلامية كافّة، الشيعية والسنّية منها على السواء، سعيًا إلى إحلال الأمن والازدهار في المنطقة. واللافت أن هذه المبادرة تشمل تركيا، الخصم التاريخي لإيران، ولكن تستثني إسرائيل لأسباب دينية، ما يمثّل تباينًا واضحًا عن النموذج "الإبراهيمي".
والسبيل الوحيد إلى التوفيق بين هاتَين المقاربتَين المتناقضتَين ظاهريًا هو عبر إبرام اتفاقٍ أميركي إيراني. فقد شدّد ترامب، منذ عودته إلى السلطة في كانون الثاني/يناير 2025، على تفضيله التوصّل إلى مثل هذا الاتفاق عوضًا عن "قصف إيران قصفًا عنيفًا". ولذا، يمكن تفسير العقوبات الأميركية المفروضة حاليًا على طهران في سياق حملة "أقصى درجات الضغط" المتجدّدة، على أنها محاولةٌ لإرغامها على العودة إلى طاولة المفاوضات. ومن شأن التوصّل إلى نتيجة دبلوماسية ناجحة أن يقوّض أحد الدوافع الرئيسة وراء الاتفاقات الإبراهيمية، ويعيد تكريس مركزية القضية الفلسطينية وضرورة التوصّل إلى حلٍّ لها قبل توسيع نطاق الاتفاقات لتشمل بلدانًا أخرى. أما إذا فشلت المفاوضات، فقد تبدي الدول العربية مَيلًا أكبر نحو خفض التصعيد وتحقيق التكامل الاقتصادي مع إيران، وفي الوقت نفسه تعزيز برامجها العسكرية، خصوصًا إن لم تكن الولايات المتحدة مستعدّة لتزويد هذه الدول بضمانات أمنية قوية. لكن في كلتا الحالتَين، يبدو أن الزخم الجيوسياسي الذي أعقب الاتفاقات في العام 2020 غائبٌ في الوقت الراهن.
أخيرًا، ينبغي إشراك تركيا أيضًا في أيّ نقاش حول مستقبل الأمن الإقليمي. فقد علّقت أنقرة، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي ولها روابط مع إسرائيل منذ عقود، علاقاتها التجارية مع الإسرائيليين بسبب احتدام الحرب الدائرة في غزة في أيار/مايو 2024. على الصعيد المحلي، ساهم موقف الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يقدّم نفسه على أنه مناصر للقضية الفلسطينية في تعزيز القوة الناعمة لتركيا، وتوطيد مصالحها الإقليمية. كذلك انخرط أردوغان في عملية مصالحة مع دول مجلس التعاون الخليجي، ولا سيما المملكة العربية السعودية، بعد عقدٍ من انعدام الثقة والعلاقات المتوتّرة في أعقاب الانتفاضات العربية في العامَين 2010-2011.
وبينما تبدو العلاقات الإسرائيلية التركية أشّد توتّرًا من أيّ وقتٍ مضى، اقترحت تركيا إطارًا اقتصاديًا جغرافيًا إقليميًا خاصًا بها يربط آسيا بأوروبا عبر مشروع طريق التنمية العراقي، الذي يرمي إلى إنشاء ممرّ تجاري يمتدّ من ميناء الفاو المُخطَّط له إلى الحدود التركية. وقد طرحت أنقرة هذا المشروع كبديلٍ جذّاب عن الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. ويُشار إلى أن إطاحة نظام الأسد في سورية على يد فصائل المعارضة المدعومة من تركيا يمنح أنقرة نفوذًا أكبر في تشكيل المستقبل الجيوسياسي والاقتصادي الجغرافي للشرق الأوسط.
الشرق الأوسط في عالم متعدّد الأقطاب
إلى جانب المشهد الإقليمي المتغيّر، يشكّل الشرق الأوسط أيضًا جزءًا من التحوّل العالمي نحو التعدّدية القطبية، الذي تسارعت وتيرته في ضوء التنافس الأميركي الصيني، وتشكيل تكتّلات جيوسياسية واقتصادية جغرافية متنافسة وأحيانًا متداخلة. تشمل هذه التكتّلات التكتّل الغربي المتمحور حول دول مجموعة السبع، وتجمّعاتٍ بديلةً مثل مجموعة بريكس الموسّعة، التي تضمّ إيران ومصر والإمارات العربية المتحدة من الشرق الأوسط، وتحالف الدول المصدّرة للنفط الموسّع (أوبك+) الذي يضمّ جميع دول مجلس التعاون الخليجي، إضافةً إلى روسيا وإيران والعراق، وعددٍ من الدول المنتجة للنفط في أفريقيا وأميركا اللاتينية. هذه التطوّرات إنما تدلّ على تراجع الدافع للانضمام إلى الأُطُر التي ترعاها الولايات المتحدة مثل الاتفاقات الإبراهيمية.
والواقع أن دول مجموعة بريكس الموسّعة تعمل على استكشاف بدائل عن النظام المالي العالمي بقيادة الغرب، في خطوةٍ تقودها الصين وروسيا. فقد انتقد هذان البلَدان استخدام واشنطن المتكرّر للدولار الأميركي كسلاح، ولا سيما في سياق الصراع الأوكراني. وبينما لا يزال إنشاء عملة احتياطية لمجموعة بريكس الموسّعة احتمالًا بعيد المنال، تكثّف الصين جهودها لترويج استخدام اليوان في التسعير، وإصدار الفواتير، وتسوية مشتريات النفط الخام. وأصبح ذلك أمرًا واقعًا منذ إنشاء بورصة شنغهاي للعقود الآجلة، وإطلاق أولى العقود الآجلة لتداول النفط الخام المقوّمة باليوان في العام 2018. وقد يدفع ذلك كبار الدول المُنتجة للنفط في الشرق الأوسط، مثل السعودية والإمارات، إلى التنويع غير المُعلَن لاحتياطياتها الأجنبية بعيدًا عن الدولار الأميركي، وهو ما يستدعي إعادة تدوير أصولها من البترو-يوان في الغالب عبر استثمارها في مشاريع صينية أو برعاية الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق، وكذلك عبر التجارة والاستثمارات المتوافقة مع مجموعة بريكس الموسّعة. وما سهّل أيضًا مساعي فكّ الارتباط بالدولار إصدار العملات الرقمية، سواء تلك المدعومة من الحكومات، مثل العملات الرقمية الوطنية والعابرة للحدود الصادرة عن المصارف المركزية، أم تلك المملوكة للقطاع الخاص، مثل ما يُسمّى "العملات المستقرّة". فقد وضعت دولة الإمارات أحد أكثر الأُطُر التنظيمية تقدّمًا لدعم تطوير كلا النوعَين من العملات المشفّرة، وأطلقت مشاريع تجريبية مثل منصّة "الجسر" (mBridge) وعملة AED coin الرقمية المستقرّة.
فضلًا عن ذلك، يُعَدّ التحوّل العالمي في مجال الطاقة وخفض انبعاثات الكربون بُعدًا أساسيًا في هذا المشهد العالمي المتغيّر، مع ما يمكن أن يحمله من تداعيات اقتصادية جغرافية عميقة على الشرق الأوسط. فقد أصبحت الصين مهيمنةً على سلاسل التوريد الصناعية الحيوية المرتبطة بـ"الاقتصاد الأخضر". يُضاف إلى ذلك أن الشركات المدعومة من الحكومة، والعاملة في مجموعة متنوّعة من القطاعات، بدءًا من الطاقة المتجدّدة ووصولًا إلى التنقّل المستدام، تُطوّر بشكلٍ مطّرد حضورها في الشرق الأوسط. وقد أظهرت هذه الشركات استعدادها وقدرتها على إقامة مشاريع عملاقة لخفض انبعاثات الكربون والمشاركة في تمويلها في شتّى دول مجلس التعاون الخليجي، ونقل التقنيات المرتبطة بهذه المشاريع إلى شركائها في الشرق الأوسط. وهذا يتناقض مع سياسات المناخ غير المتّسقة في الولايات المتحدة، حيث انحرفت إدارة ترامب بشكلٍ كبير عن التزام إدارة بايدن بخفض الانبعاثات الكربونية.
وتضطلع الصين أيضًا بدور أساسي في التحوّل الرقمي العالمي، حيث تعمل شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة، مثل هواوي، وتينسنت (Tencent)، وبايت دانس (ByteDance)، وعلي بابا، على توسيع نطاق انتشارها عالميًا. وأصبحت الصين اليوم قادرةً على طرح بدائل عن أكثر تقنيات الغرب تقدّمًا، من أشباه الموصلات والحوسبة السحابية، إلى الروبوتات المتقدّمة والذكاء الاصطناعي. وقد أضحَت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أرضًا خصبةً لنشر هذه التقنيات، حيث تنخرط دول المنطقة في تحوّلات اقتصادية متعدّدة الجوانب، وتعمل على اللحاق بركب التطوّر التكنولوجي بقيادة حكوماتها. ناهيك عن ذلك، تشجّع بيجينغ شركاتها التكنولوجية على التعاون مع الحكومات الإقليمية وصناديق الثروة السيادية، من خلال التكيّف مع الواقع المحلي وتسهيل عملية نقل التكنولوجيا، خاصةً إلى دول مجلس التعاون الخليجي، ضمن مبادرة طريق الحرير الرقمي. في المقابل، تراجعت الشراكة التي كانت مزدهرة سابقًا بين إسرائيل والصين على إثر حرب غزة، إذ انتقدت الصين بشكل حادّ سلوك إسرائيل، وأيضًا بفعل الضغط الأميركي المتزايد على الحكومة الإسرائيلية ومنظومتها التكنولوجية المحلية المترابطة بشكلٍ كبير مع وادي السيليكون، لتقليل تعاون إسرائيل التكنولوجي مع الصين.
وهكذا، بدأت الأُطُر الاقتصادية الجغرافية كتلك التي تقوم عليها ضمنًا الاتفاقات الإبراهيمية تصبح أقلّ جاذبيةً في مختلف القطاعات الاقتصادية الجغرافية، من الصناعات التقليدية إلى التقنيات المالية والبيئية والرقمية الناشئة، وشبكاتها التجارية والإنتاجية. ومن منظور سياساتي، تَعزَّز التحوّل إلى التعدّدية القطبية الاقتصادية والجيوسياسية بفعل التوجّه الانعزالي الذي يتبنّاه ترامب على ما يبدو، وتفضيله عالمًا مُنظَّمًا وفقًا لمناطق النفوذ.
في هذا السياق، يبدو من المنطقي أن تقيم قوى إقليمية، مثل السعودية والإمارات، تحالفات متعدّدة كوسيلة تحوّطٍ على المدى الطويل تحسّبًا لانحسار "الأحادية القطبية" الآخذة في التلاشي تدريجيًا، في ظلّ الحفاظ على روابط متينة مع الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة. فالإمارات ترى أن التوجّه نحو آسيا، والصين على وجه الخصوص، ليس معادلةً صفرية حيث تعزيز العلاقة مع الصين يعني حكمًا تراجع العلاقة مع الولايات المتحدة، إذ لا يزال الإماراتيون ملتزمين بشدّة بشراكتهم الأمنية مع واشنطن، وقد زادوا إجمالي استثماراتهم الولايات المتحدة إلى تريليون دولار، مُركّزين على التكنولوجيا المتقدّمة، من خلال أدوات استثمارية رائدة مثل شركة إيه دي كيو القابضة (ADQ) وشركة إم جي إكس (MGX). أما السعودية، فقد دفعها استياؤها من تردّد إدارة بايدن في تزويدها بضمانات أمنية شاملة إلى استكشاف شراكات بديلة، من بينها توطيد علاقاتها بكلٍّ من الصين وروسيا. ولا بدّ من التذكير بأن السعودية شاركت بفاعلية في قيادة تحالف أوبك+ مع روسيا منذ إنشائه في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، إذ اضطلعت بدور محوريّ في التنسيق بين الدول المنتجة للنفط من داخل منظمة أوبك وخارجها. وفي الآونة الأخيرة، منحت منظمة شنغهاي للتعاون السعودية صفة "شريك في الحوار". وصحيحٌ أن السعودية لم تنضمّ رسميًا إلى مجموعة بريكس الموسّعة بعد الدعوة التي وجّهتها إليها دول البريكس الأساسية في قمة جوهانسبرغ في آب/أغسطس 2023، إلا أنها امتنعت أيضًا عن الإدلاء بأيّ تصريحات نهائية بشأن هذه الدعوة. في المقابل، بقيت المملكة ملتزمةً بشراكتها الطويلة مع الولايات المتحدة، مستفيدةً من تفضيل ترامب انتهاج مسارٍ دبلوماسي قائم على الصفقات. فقد استخدمت السعودية مثلًا علاقاتها الجيّدة مع روسيا وأوكرانيا لاستضافة جولات عدّة من محادثات السلام بين موسكو وكييف بدعمٍ من الولايات المتحدة.
خاتمة: عامل غزة
أعاد ترامب إحياء فكرة توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية لتشمل مزيدًا من الدول، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، قد لا يُحدَّد مبرّر هذه الاتفاقات والفائدة المتوقَّعة منها بالمكاسب الجيوسياسية التي لم تَعُد حيوية، بقدر ما سيُحدَّدان على الأرجح ببُعدها الاقتصادي، كما كان مُتوَخّى أساسًا. ولا يزال الازدهار الاقتصادي المشترك المرتبط بالاتفاقات الإبراهيمية يحتاج إلى إثباتٍ على نطاق أوسع، في ظلّ الجهود الهائلة اللازمة لإعادة إعمار غزة، ودعم عملية إعادة الإعمار في الدول العربية التي تعاني من الأزمات، مثل سورية ولبنان وليبيا واليمن.
ويمكن أن تصبح طريقة إعادة إعمار غزة وحكمها مؤشّرًا أساسيًا لتقييم ما إذا أدّت الاتفاقات إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي المشترك. ومن شأن مشروع إعادة تأهيلٍ مُنسَّق للبنية التحتية والاقتصاد في غزة، يضمّ الدول العربية والجهات الدولية المعنيّة الأخرى، ويستند إلى الخطة المصرية التي كشفت عنها جامعة الدول العربية في أوائل آذار/مارس 2025، أن يمهّد الطريق للتوصّل إلى تسويةٍ سلمية إقليمية شاملة وإطار لإعادة الإعمار. ويُشار إلى أن ربط مساعي تحقيق التعافي في غزة بالمبادرات الاقتصادية الإقليمية، بما فيها إعادة الإعمار في سورية ولبنان، والممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ومبادرات الطاقة المشتركة، واستكشاف الغاز البحري وتصديره، من شأنه أن يوطّد المصالح المشتركة ويزيد الثقة بين الأطراف المعنيّة. ويمكن للشراكات الاقتصادية، ولا سيما في مجالات التكنولوجيا والتجارة والطاقة المتجدّدة، أن تدعم جهود التطبيع التي تقودها قطاعات الأعمال والمجتمع المدني.
ولكن إن كنّا لاحظنا شيئًا من الماضي القريب فهو أن أيّ تطبيعٍ للعلاقات ينطلق من القاعدة سيكون مهمّةً عبثيةً تتكرّر إلى ما لا نهاية ولا تكتمل أبدًا، ما لم يترافق مع التزامٍ موثوقٍ بإقامة الدولة الفلسطينية، وهي القضية الخلافية التي حاولت الاتفاقات الإبراهيمية الالتفاف عليها.
هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية. للمزيد من التفاصيل، يُرجى زيارة الرابط التالي: نَسبُ المصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية | المشاع الإبداعي