لطالما اتّسمت الكويت بنقاشها السياسي الداخلي النشط، وانتخاباتها البرلمانية المتكرّرة وسياستها النشطة، وهو ما بقيتُ مأخوذًا به لسنوات كثيرة. اعتدتُ أن أقول مازحًا إن الصحف الكويتية قادرةٌ في أيّ يوم عادي أن تعنون صفحتها الرئيسة بـ"المأزق السياسي مستمرّ"، فيما أعضاء مجلس الأمة يتجادلون بعضهم ضدّ بعض، والوزراء يُستدَعون لاستجوابهم رسميًا أمام البرلمان، والقضايا السياسية بالغة الأهمية تُناقَش بصخب. ومع ذلك، لم تُتَّخَذ في نهاية المطاف إلا بضعة قرارات جديرة بالأهمية. لقد بدأتُ تدريجيًا أفقد اهتمامي بتتبّع التطوّرات اليومية، إذ أصبحت المزحة قديمة، ولا يبدو أن شيئًا تغيّر.
لكن الأسبوع الفائت بدا أن الأمور تسلك منحى مختلفًا تمامًا. فقد اتّخذ ولي عهد الكويت الجديد، الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، خطوةً غالبًا ما خضعت للنقاش، غير أن أسلافه تحاشوها منذ العام 1986، وهي حلّ مجلس الأمة وتعليق العمل ببعض موادّ الدستور الأساسية. ولم يدّخر الشيخ مشعل جهدًا، فعلّق المادة التي تمنعه صراحةً من تعليق الموادّ ذاتها التي عمد إلى تعليقها. لكنّ أيًّا من الصحف الكويتية لم يضع هذه الخطوة تحت العنوان الرئيس "المأزق السياسي يتعمّق"، وخطاب الشيخ مشعل أوحى بأن التعليق لن يتجاوز الأربع سنوات.
وقد تضمّن الأمر الأميري، الذي ترافق مع خطاب الشيخ مشعل، جدولًا زمنيًا أكثر تعقيدًا، ولكن ليس أكثر وضوحًا، بحيث نصّ على تعيين لجنة خبراء لصياغة التعديلات الدستورية المُقترَحة خلال ستة أشهر، على أن تُحال التعديلات إلى مجلس الوزراء المُعيَّن قبل رفعها إلى الأمير. وفي غضون السنوات الأربع المقبلة، تُطرَح التغييرات المُقترَحة على الاستفتاء العام أو تُرفَع إلى البرلمان.
تجدر الإشارة إلى أن كلا هذَين المسارَين للتصديق على التعديلات مثيرٌ للشكوك. فالاستفتاءات على التعديلات الدستورية، ولا سيما تلك التي تصوغها لجنة مُعيَّنة، وتعمل في هذه الحالة كما يبدو تحت عين الأمير الساهرة، لها سمعة سلبية مُستحَقّة في أوساط الخبراء الدوليين المتخصّصين بالإجراءات الدستورية، الذين يركّزون على مَن يُسمَح له بالدخول إلى قاعة صياغة التعديلات، وعلى كيفية إجراء هذه الصياغة، أكثر مما يركّزون على ما إذا كان بالإمكان إقناع الغالبية الضئيلة بالموافقة ببساطة على جميع التعديلات المُقترَحة. ومع حلّ البرلمان الذي انتُخِب للتوّ، وتعليق الموادّ الدستورية التي تحكم عمله، يبقى من غير الواضح كيف سيُنتخَب برلمان جديد.
أرفق الأمرُ الذي أصدره الشيخ مشعل الجدولَ الزمنيَّ بوعود مبهمة، وبمبادئ أكثر إبهامًا. فمن المفترض أن تعمل التعديلات على تحسين النظام السياسي من أجل دعم الحكم الديمقراطي السليم والوحدة الوطنية، وذلك بما يتّسق مع الشريعة الإسلامية والتقاليد الكويتية والعربية "الأصيلة". في ظلّ هذه المعمعة من الالتزامات والإجراءات المغلقة، ليس واضحًا ما إذا كانت الديمقراطية الكويتية قد خُدّرَت، أم قُيِّدَت بشكل دائم، أم قُتِلَت قتلًا رحيمًا.
من الأهمية بمكان طبعًا الاعتراف بأن السياسة الكويتية شهدت تحوّلات طويلة الأجل في السنوات الأخيرة، قد يُنظَر إلى بعضها على أنه إيجابي من المنظور المحلي. فالانقسامات العميقة مثلًا في السياستَين الإقليمية والكويتية، في ما يتعلّق بالقومية العربية والإسلام السياسي والطائفية، لم تَعُد اليوم بالحدّة نفسها التي كانت عليها من قبل. وأصبح للبرلمانات المتعاقبة على مدى العقود الثلاثة الماضية أ صوتٌ مسموع، حيث ساءلت الوزراء، وأجبرتهم على الاستقالة، وضمنت الفصل بين منصبَي ولي العهد ورئيس الوزراء. هذا وتجاوز النواب الأفراد حدود الخطاب المقبول بانتقادهم كبار أعضاء الأسرة الحاكمة، وحتى الأمير نفسه. لقد بدا في بعض النواحي أن الكويت تتّبع مسارًا ثوريًا نحو الديمقراطية البرلمانية.
ولكن للمفارقة، خلّف الكثير من هذه التوجّهات نفسها جمودًا طويل الأمد. فحتى عندما خفّت حدّة المعارك الإيديولوجية، بدا البرلمان أشدّ انقسامًا. كذلك بدا أن النظام الانتخابي والتقاليد السياسية يكافئان سياسات المزايدة والمحسوبية، بدلًا من بناء التحالفات. وقد تركّز النقاش على الشخصيات لا على البرامج، في حين تبدّت السياسات المتشرذمة للأسرة الحاكمة في دعم السياسيين المتنافسين. كان سبب الشلل واضحًا: لقد وُزّع حقّ نقض القرارات الرئيسة بسخاء كبير. فأصبح من السهل الاعتراض على قرار أو عرقلته، ومن الأصعب بكثير اتخاذ القرارات، فما بالك بمتابعتها حتى النهاية.
ذكر الشيخ مشعل بعضًا من هذه السمات في خطابه، إذ مرّ على كل واحدة منها مُضمّنًا سردَه إشاراتٍ مبطّنةً إلى حوادث وأفراد محدّدين، تجاوزوا الخطوط الحمراء في خطابهم، أو تدخّلوا في سياسات الأسرة الحاكمة، أو استغلّوا المناصب العامة، أو سعوا وراء المكاسب الشخصية. وراء طابع تصفية الحسابات، كان الأمير يعبّر في الخطاب عن إحباط أساسي إزاء الجمود السائد. وهذا ما يمكن أن يتردّد صداه لدى الكثير من متابعي شؤون الكويت، الذين يرون أن سياساتها تتّسم بالحيوية ولكنها أيضًا معطّلة، لا بل إنها معطّلة لأنها مفرطة الحيوية.
يقدّم الشيخ مشعل نفسه إذًا على أنه يعرض مخرجًا للأزمة، يتمثّل في ديمقراطيةٍ أسلم وأنظف تحلّ محلّ الارتشاء والانقسام والتلاعب. وقد يكون مساره للمضيّ قدمًا، وهو مسار يمكن تصنيفه بـ"الانقلاب الذاتي"، بالغ الأثر، إلا أنه ليس مسارًا غير مسبوق، إذ سبق أن اتّخذ سلفاه خطوتَين مماثلتَين في العامَين 1976 و1986. لكن اللافت أكثر هو أن صياغة الأمر الأميري للعام 2024 تكاد تكون مطابقة لصياغة الأمر الأميري الصادر في العام 1976، حتى إن اللغة المتعلّقة بالشريعة الإسلامية، والحكم الديمقراطي السليم، والتقاليد الأصيلة، بقيت كما هي.
وإذا كان الأمير الحاكم يكرّر نفسه بشكل ما، فسأفعل الأمر عينه: في جولةٍ من التوقّعات حول تعليق الدستور قبل سبعة عشر عامًا، قلتُ إن الخطوة لن تدفع الكويت نحو حكمٍ أسلم:
إذا كانت الخطوة مقصودة لفترة قصيرة، فمن المرجّح أن تعاود الأنماط القديمة الظهور ببساطة حالما يُستَعاد العمل بالدستور. إن التهديد المتواصل بحلّ البرلمان بالكاد أدّى إلى تأديب النواب، وما من سبب للاعتقاد بأن الامتثال للتهديد سيكون له تأثير أكبر، فالتعليقان الأخيران لم تعقبهما برلمانات طيّعة. ثم إن تعليق عمل البرلمان لن يُرسي مجموعةً من الظروف ميمونةً أكثر من الظروف القائمة حاليًا لإجراء إصلاح دستوري أساسي؛ فكما ذكرنا، لم يفضِ التعليقان الأخيران سوى إلى محاولات فاشلة لمراجعة الدستور. أما التعليق لفترة أطول، فمن شأنه طبعًا أن يوفّر استراحةً من البرلمانات المزعجة لمدّة أطول، ولكنه يؤدّي أيضًا في نهاية المطاف إلى النوع نفسه من السياسات الإقصائية، وإلى خلط ممتلكات الأسرة الحاكمة مع الخزانة العامة، وعمومًا إلى الأنظمة السياسية المبهمة وغير الخاضعة للمساءلة القائمة في الكثير من البلدان المجاورة للكويت. قد نتذكّر جيدًا الشلل في مثل هذه الظروف.
عند حلّ البرلمان في المرّتَين السابقتَين، استجابت الأسرة الحاكمة في نهاية المطاف للضغوط الداخلية، وأعادت العمل بدستور غير مُعدَّل (بسبب الضغط الأميركي جزئيًا في المرة الثانية). لا يزال من المبكر القول ما إذا كان الأمر نفسه سيحدث مجدّدًا هذه المرة، لكن فكرة أن لجنةً مُعيَّنةً تستطيع فرض تغييراتٍ ستنال قبولًا هي فكرة لا تبشّر بالخير. لم يُسمَّ بعد أعضاء اللجنة الذين سيتولّون مراجعة الدستور وتنقيحه، ولكن بالاسترشاد إلى التعليقَين الأخيرَين للدستور، لا نرى سببًا كافيًا للوثوق بفكرة أن التخلّي عن دستور الكويت هو السبيل الأمثل لإنقاذه.