المصدر: Getty

ثمن ضبط النفس الأميركي في سورية

شكّل تردّد واشنطن في الاضطلاع بدور قيادي في سورية عاملاً من العوامل التي أدّت إلى زيادة التهديد على المصالح الأميركية الأساسية.

نشرت في ٩ يونيو ٢٠١٤

هذا المقال جزء من سلسلة مقالات تتناول الديناميكيات العالمية للصراع السوري، ويحلّل من خلالها خبراء كارنيغي من أنحاء العالم كافة المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية التي تدخل ضمن الحرب الأهلية المتواصلة في سورية. يمكنكم الاطلاع على السلسلة كاملةً هنا.

يؤثّر الصراع في سورية على ثلاث مصالح أميركية جوهرية في الشرق الأوسط تتمثّل في أمن حلفاء الولايات المتحدة، وهزيمة الإرهابيين الذين يهدّدون الأميركيين، ومنع تطوير أو استخدام أسلحة الدمار الشامل. وقد تأثّر جيران سورية، الأردن ولبنان والعراق وتركيا، سلباً بالصراع الدائر هناك، وربما تتأثّر إسرائيل في مرحلة ما. إذ أصبحت سورية مركزاً رئيساً للإرهاب الجهادي الذي يهدّد بدوره الأميركيين وكذلك حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وفي أوروبا. وتم استخدام أسلحة الدمار الشامل وكانت لها نتائج مدمّرة بحق المدنيين السوريين. ومع مرور الوقت، قد يؤثّر الصراع أيضاً على المصلحة الجوهرية الرابعة للولايات المتحدة، أي حرية تدفق النفط من المنطقة.

عندما تولّى الرئيس الأميركي باراك أوباما منصبه في العام 2009، تضمّنت استراتيجيته الأولية تجاه الشرق الأوسط جهوداً لتحسين العلاقات مع سورية، بما في ذلك إجراء مفاوضات سلام بين سورية وإسرائيل. ولو نجحت هذه الجهود، فربما كانت ستمنح الولايات المتحدة ميزة استراتيجية عن طريق إخراج سورية من فلك إيران، فضلاً عن تعزيز عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية. ومع ذلك، جرفت الانتفاضة السورية التي بدأت في ربيع العام 2011، هذه المقاربة الأميركية، حيث أدّى ردّ حكومة بشار الأسد العنيف على التظاهرات إلى توتّر العلاقات بين الولايات المتحدة وسورية.

وبينما يبدو التأثير السلبي للصراع السوري على مصالح الولايات المتحدة واضحاً، لم يكن جلياً ماكان يجب القيام به إزاء هذا الصراع، الأمر الذي أدّى إلى الكثير من الجدل داخل الحكومة الأميركية وبين الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. ومنذ البداية، صرّح أوباما بأن بوسع الولايات المتحدة حماية مصالحها على النحو الأفضل من خلال الابتعاد عن الصراع إلى أقصى حدّ ممكن، وهو الموقف الذي يتعارض مع تقديرات مسؤولين آخرين داخل إدارته في بعض الأحيان. فقد اعترف السفير الأميركي السابق لدى سورية، روبرت فورد، لكريستيان أمانبور في مقابلة معه، في 3 حزيران/يونيو، أنه استقال لأنه شعر بأنه "لم يعد بإمكاني الدفاع عن السياسة الأميركية". وأضاف أنه "صار معروفاً، على نطاق واسع، أن وزارة الخارجية اعتقدت أن علينا أن نقدم مساعدة أكثر بكثير للمعارضة المسلحة في سورية".

تم جرّ الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً للعب دور أكبر في دعم الثوار السوريين، مع أنها ربما تفعل ذلك بدافع رغبتها في استرضاء المملكة العربية السعودية أو مقاومة النفوذ الروسي أكثر من رغبتها في مساعدة السوريين. من غير الممكن أن نثبت، على عكس الواقع، أنه كان يمكن خدمة مصالح الولايات المتحدة بشكل أفضل، (أن الحلفاء سيكونون أقل تزعزعاً جرّاء اتّساع رقعة النزاع، وأن أعداد الإرهابيين الجهاديين المدجّجين بالسلاح ستقلّ في المنطقة، وأن عدداً أقلّ من أسلحة الدمار الشامل كان سيستخدم)، لو أن الولايات المتحدة تصرّفت في وقت مبكّر وبمزيدٍ من الحزم. لكن مايبدو واضحاً هو أن تردّد الولايات المتحدة في الاضطلاع بدور قيادي، ساهم في الوضع الذي أصبح فيه نظام الأسد ومؤيّدوه (روسيا وإيران وحزب الله) أكثر تماسكاً وتصميماً من المعارضة وأنصارها (المملكة العربية السعودية ودول الخليج وتركيا وأوروبا والولايات المتحدة). وهذا، بدوره، زاد كثيراً من تهديد مصالح الولايات المتحدة الأساسية.

ومع تطوّر الصراع السوري، تطوّرت استجابة واشنطن على صعيد السياسة. استخدمت الولايات المتحدة اللغة الطنانة والعقوبات ضد الحكومة السورية في السنة الأولى أو نحوها من الصراع، وتحوّلت إلى الدبلوماسية الأكثر نشاطاً في العامين 2012 و2013. ثم انتقلت تدريجياً إلى تجهيز وتدريب المتمردين سرّاً ومن ثم بصورة أكثر علنية في العامين 2013 و2014.

طوال الوقت، طرح أوباما وغيره من كبار المسؤولين الأميركيين مبرّرات متغيّرة بهدف الحدّ من انخراط الولايات المتحدة في الصراع السوري. في الأشهر الأولى التي أعقبت اندلاع التظاهرات في آذار/مارس 2011، صرّح مسؤولون أميركيون بثقة أن الأسد سيسقط ويجب أن يسقط كما فعل القادة في تونس ومصر واليمن في مواجهة انتفاضات مماثلة. كما كثّفت واشنطن العقوبات الاقتصادية ضد حكومته. بحلول نهاية العام 2011، وبعد أن أدّت تدابير الحكومة السورية القاسية ضد التظاهرات السلمية إلى عصيان مسلّح، وجد المسؤولون الأميركيون أنفسهم يتذرّعون بأن الانخراط أكثر في سورية من شأنه أن يطيل أمد الصراع بدل أن ينهيه. وقد ناقض ذلك الحجج التي قدموها بشأن التدخّل في ليبيا.

تبنّت الولايات المتحدة مقاربة دبلوماسية أكثر نشاطاً في العام 2012، وظلّت تتجنّب التدخّل العسكري أو تسليح الثوار في مواجهة جدل متزايد في الولايات المتحدة، يتعلّق بعضه بحملة إعادة انتخاب أوباما. استخدمت روسيا والصين حقّ النقض (الفيتو) ضد العديد من مشاريع القرارات في مجلس الأمن، ولكنهما وافقتا في نيسان/أبريل على قرار بشأن إرسال بعثة مراقبين غير مسلحين إلى سورية، في إطار عملية أدّت إلى اتّفاق في حزيران/يونيو، يهدف إلى تمهيد الطريق إلى انتقال سياسي متّفق عليه في البلاد. وسرعان ما اتّضح أن الحكومة السورية لاتنوي تنفيذ الاتفاق. وعندما اشتدّت حدّة القتال، بدأ المسؤولون الأميركيون يعبّرون عن قلقهم المتزايد من أن النظام قد يستخدم الأسلحة الكيميائية، مادفع أوباما إلى رسم خط أحمر.

مهّدت إعادة انتخاب أوباما في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 الطريق إلى إعادة النظر في سياسات الولايات المتحدة، وسط تقارير تفيد بأن معظم كبار المسؤولين في إدارته يفضّلون تسليح الثوار بسبب الارتفاع الشديد في الخسائر البشرية وتدفّق اللاجئين وتصاعد الدعم الإيراني للحكومة السورية. ومع تزايد الأدلّة خلال ربيع العام 2013 بأن النظام السوري يستخدم الأسلحة الكيميائية ضدّ مواطنيه، بدأت الولايات المتحدة بتوريد أسلحة صغيرة على الأقل إلى الثوار، وبالتنسيق مع حلفائها في الخليج لتدريب وحدات الثوار على استخدام أسلحة أكبر. غير أن شحنات الأسلحة كانت بطيئة ويصعب التعامل معها، ويرجع ذلك جزئياً إلى قلق الولايات المتحدة من أن تقع الأسلحة في أيدي جماعات إسلامية متطرّفة مثل جبهة النصرة، وهي فرع من فروع تنظيم القاعدة، والتي كانت تعزّز وجودها ببطء في سورية طوال عامَي 2012 و2013.

مع انتشار الصراع السوري، بدأت الولايات المتحدة بتقديم المساعدات إلى حلفائها الإقليميين. فقد قدّمت مساعدات عسكرية واقتصادية إضافية إلى الأردن وتركيا ولبنان وأعطت العراق صواريخ وطائرات من دون طيار. ولكنها لم تعالج الصراع مباشرةً.

شكّل الهجوم بالأسلحة الكيميائية الذي قُتل فيه أكثر من 1400 سوري في آب/أغسطس 2013 منعطفاً حاسماً. بيد أن قرار أوباما بالرجوع إلى الكونغرس حول ما إذا كان يجب توجيه ضربة إلى سورية بعد الهجوم أوضح أنه لن يسمح بأي تدخّل أميركي في سورية حتى في ظل هذه الظروف القاسية. وقد أدّى تردّد الرئيس إزاء استخدام القوة العسكرية بطريقة وقائية بالتأكيد دوراً رئيساً في هذا القرار، وربما كان أوباما متردّداً أيضاً إزاء استعداء إيران على أعتاب مابدا أنه محادثات واعدة بشأن برنامجها النووي.

بدلاً من توجيه ضربة، تم القيام بحملة دبلوماسية أسفرت عن اتفاق أدّى في نهاية المطاف إلى إزالة العديد من الأسلحة الكيميائية، ولكنه لم يُفضِ إلى التخفيف من حجم المذبحة. كان مؤتمر جنيف الثاني للسلام الذي عقد في كانون الثاني/يناير 2014 هزيمة دبلوماسية. وفي ربيع العام 2014، بدأ النظام السوري، بدعم قوي من إيران وحزب الله، يستعيد ماخسره عسكرياً من الثوار، ما أدّى إلى قرار أميركي مزعوم بتسهيل عمليات نقل سرّية للأسلحة المضادة للدبابات التي يطلبها الثوار منذ مايقرب من ثلاث سنوات.

ربما ساعد قرار واشنطن بتسليح المعارضة الثوارَ في كسب معركتهم ضد النظام في العام 2011 أو 2012. لكن الأمل الآن ليس في أن يتمكن الثوار من الفوز. فلطالما كان المسؤولون الأميركيون متناقضين إزاء انتصار الثوار، خشية أن يمهّد ذلك الطريق إلى صراع طويل بين الفصائل المتمرّدة. الأمل هو ببساطة أن تتم ممارسة ضغوط كافية على الحكومة السورية لتحفيزها على المشاركة في مفاوضات جادّة.

مع ذلك، قد تكون المساعدات الأميركية قليلة جداً ومتأخرة جداً. تشمل السيناريوهات التي يبدو الآن أنها أكثر ترجيحاً، سنوات إضافية من القتال أو استعادة نظام الأسد السيطرة تدريجياً على أجزاء كبيرة من البلاد. وبالتالي، ستضرّ أي من النتيجتين مصالح الولايات المتحدة.

من المحتمل أن يؤدّي استمرار القتال إلى تقوية وانتشار الجماعات الجهادية، التي تتبنّى بالفعل سردية الخذلان الغربي، ويحتمل أن تلجأ إلى استخدام العنف ضد أهداف أميركية أو أوروبية في مرحلة ما. مع ذلك، فإن بقاء نظام الأسد المسكون بهاجس الانتقام والتشفّي لن يكون أفضل بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها، حيث أظهرت السنتان الماضيتان أن النتيجتين المتمثّلتين في بقاء النظام وانتشار النزعة الجهادية لاتستبعد إحداهما الأخرى. وفي ضوء المذبحة التي ارتكبها الأسد، من المستبعد أن تتصالح الولايات المتحدة معه تماماً، لكنها قد تتقبّل بقاءه في السلطة، وإن ليس عن طيب خاطر، ويخامرها شعور بأن المهمّة لم تُنجَز، كما حدث مع صدام حسين في العراق بعد غزوه الكويت.

بعد تجنّب الأميركيّين التورّط في سورية بسبب شعورهم بالإنهاك إزاء التكاليف البشرية والمالية لعشر سنوات من الحرب في العراق وأفغانستان، قد يدركون مع مرور الوقت أن هذا الخيار كان مكلفاً بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة أكثر مما توقّعوا.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.