بعد أقل من عام من استضافة تونس للقمة العالمية لمجتمع المعلومات، لا تزال مكونات المجتمع المدني والنقابات رازحة تحت وطأة القمع. الضغوط الدولية والتقارير والتوصيات التي صدرت عن منظمات دولية لم تضع حدا للتجاوزات الخطيرة التي تمس الحريات العامة وحقوق الإنسان في البلاد.

آخر الأزمات التي هزت المشهد السياسي في تونس ضربت عمادة المحامين، على خلفية قانون مثير للجدل، بمقتضاه يتم إحداث معهد لتكوين المحامين.

 

القانون الذي أثار حفيظة المحامين، في تونس، يعطي صلاحيات واسعة لوزارة العدل وحقوق الإنسان لاختيار من هو "أهل" لدخول هذا المعهد.

وهو ما اعتبره أصحاب المهنة محاولة "لتركيع" المحامين وانتقائهم حسب مواصفات تتماشى وحاجة النظام، لا سيما وأن عمادة المحامين لا تزال أحد عروش الرفض والاستقلالية في بلد لا يعلو فيه إلا صوت السلطة.

 

ويتهم المحامون التونسيون النظام بمحاولة تقويض استقلالية المهنة.

الرابطة التونسية لحقوق الإنسان تعيش هي الأخرى إحدى أصعب المحن التي عرفتها طوال تاريخها. الرابطة التي تعتبر أعرق منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان في إفريقيا والعالم العربي، تعرضت إلى سلسلة من الدعاوي القضائية من طرف منشقين موالين للحكومة لحرمانها من عقد مؤتمرها.

وقد حاولت السلطات التونسية زعزعة منظمة أخرى في وقت سابق وهي الجمعية التونسية للقضاة من خلال سيناريو مشابه لذلك الذي وظفته في التعامل مع ملف الرابطة، إذ طعن منشقون موالون للحكومة في شرعية المكتب التنفيذي للجمعية وقاموا باقتراع خاص لانتخاب مكتب مواز.

 

يذكر أن السلطات التونسية لم تعترف بأي منظمة حقوقية مستقلة منذ أكثر من 10 سنوات وهو ما يتعارض مع الاتفاقات الثنائية التي أبرمتها تونس مع الاتحاد الأوروبي إلى جانب الأعراف الدولية المعمول بها.

وتتخذ الحكومة التونسية من مسألة الاستقواء بقوى أجنبية ذريعة لقطع الطرق أمام  كل نشاط حقوقي مستقل. وهو نفس الداء الذي تعاني منه أحزاب المعارضة والصحفيين المستقلين، خاصة منهم ممثلي وسائل الإعلام الأجنبية الحرفية في تونس والذي لم يعد عددهم يزيد عن الخمسة.

ومن المثير للانتباه رفض السلطات التونسية السماح لجمعية تهتم بتراث الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بمزاولة نشاطها، رغم أن مؤسسي الجمعية مناضلون قدامى من الحزب الحاكم.

 

تشدد النظام التونسي مع مكونات المجتمع المدني والمنظمات العمالية والنقابية يطرح نقاط استفهام عديدة. فتونس التي احتفلت هذا العام بمرور 50 عاما على استقلالها من الاستعمار الفرنسي تمكنت من تحقيق خطوات عملاقة في مجالات حيوية كالتعليم والثقافة، وهو ما جعلها تحظى بطبقة مثقفة واسعة. في المقابل، لم تتبع كل هذه التطورات  الهامة التي تحسدها عليها دول عدة في المنطقة إصلاحات سياسية. بل بالعكس، يشعر الرأي العام والفئة النخبوية بمزيد من الانغلاق والتضييق على الأنشطة الفكرية والحقوقية والسياسية، انغلاق وتضييق حدّا من النجاحات الاقتصادية التي حققتها البلاد منذ استقلالها، حتى أن منظمات عديدة كالشفافية الدولية أشارت في تقاريرها السنوية إلى استفحال ظاهرة الفساد في أجهزة الدولة التونسية.
 

والمؤشرات التي أطلقتها الحكومة التونسية مؤخرا لا تنبئ بأي تغيير في مسارها السياسي. إذ رفع الخطاب السياسي الرسمي شعار "لا ولاء إلا للوطن". كما أضحت الصحف التونسية الموالية للحكومة مساحة لتخوين المناضلين والناشطين المستقلين في المجالات السياسية والحقوقية.

ومما زاد في الطين بلة أن تشريعات أخيرة ضيقت على حرية تأسيس المنظمات والأحزاب كقانون مكافحة الإرهاب وغسل الأموال الذي بات آلة لتخويف قوى الرفض وترهيبهم.

زد على ذلك أن المنظمات والهياكل والأحزاب المستقلة المعترف بها لا تحظى بتمويل عمومي كاف كما تقره القوانين التونسية.

 

ولمجابهة هذه السياسة التجويعية، تلجأ قوى الرفض إلى هبات دولية في إطار الاتفاقيات المبرمة بين الجمهورية التونسية وأطراف دولية عديدة. لكن، هذا الخيار لا يستقيم في نظر الحكومة إلى شرط الوطنية والولاء للوطن.

وهو ما يعقد من دور المنظمات والأحزاب ويجعلها تفتقر في بعض الأحيان إلى مقر أو حتى إلى أبسط تجهيزات الاتصال.

رغم هذا الواقع المر لمكونات المجتمع المدني وقوى الرفض في تونس، لا تزال سياسات الحكومة تحظى بموافقة ضمنية من رجاءات المجتمع الدولي، لا سيما منها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.

 

وإن تصدر بين الفينة والأخرى بعض البيانات الرسمية من هذه الأطراف تندد فيها بتجاوزات السلطات التونسية، فإن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد نقد ينتهي مفعوله بمجرد تلقيه من المصدر.

وتبقى تونس رقما محيرا في المنطقة العربية في مجالات الحريات الفردية وحقوق الإنسان. فبينما تشهد دول عديدة في المنطقة سلسلة من الإصلاحات السياسية وفي وقت تنعم فيه نخب عربية هنا وهناك بحقوق وإن كانت متواضعة تتذيل تونس دول المنطقة في السعى إلى مزيد من الانفتاح السياسي وتجميل السجل الحقوقي.

وما التعرض إلى آخر معاقل الرفض التي أشرنا إليها في موقع سابق من هذا المقال إلا دليل قاطع على مضي السلطات التونسية قدما في قمع كل مبادرة سياسية أو حقوقية مستقلة.

لكن، يقابل تواصل القمع الرسمي تشبث قوى الرفض التونسية بحقها في النشاط وإن خارج الإطار القانوني وما يطرحه هذا الوضع من تهديدات حتى على حياة البعض وحريتهم.

 

وخلال السنوات الأخيرة، دفع العديد من المناضلين ثمنا غاليا لرفضهم للواقع المعيشي في تونس. آخر ضحايا الرفض كان المحامي التونسي محمد عبو الذي حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بعد سلسلة من المقالات التي انتقد فيها الأداء الحكومي في مجال حقوق الإنسان.

مثال الأستاذ عبو قد تتبعه أمثلة أخرى، خاصة وأن الآفاق زادت ضيقا.

 

بسام بونيني صحفي وباحث تونسي مقيم بالدوحة