المصدر: Getty
مقال

من "الاختيار" إلى "الحشاشين": أسباب تراجع الدراما المصرية

يبدأ فهم تحولات الدراما المصرية، وأسبابها ونتائجها من الإجابة عن سؤال يرتكز على ما تريده السلطة في مصر من الدراما.

 محمد طلبة رضوان
نشرت في ٢٥ أبريل ٢٠٢٤

في الربع الأخير من القرن العشرين لم يكن هناك جدل أو خلاف بين المشاهدين العرب عند الحديث عن مكانة الدراما المصرية، إذ يقال إنه لا أحد يمر في الشارع في أي بلد عربي وقت إذاعة المسلسل المصري. " أما خلال العقد المنصرم من القرن الحالي فلا خلاف بشأن تراجع الدراما المصرية وإن اُختلف حول الأسباب. وفي الوقت الراهن بات من المعروف أنه لا دراما في مصر من دون إذن السلطة، حيث تسيطر الدولة المركزية على منافذ التأثير الإعلامي والفني، منذ خمسينيات القرن الماضي. وقد يكون هذا السبب الرئيس لتراجعها.

كانت الدراما المصرية في عهد حسني مبارك من أدوات القوة الناعمة، محليا وعربيا، وأثبتت تجربتها، في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، إمكانية تمرير سرديات كاذبة من خلال أعمال فنية صادقة. مثلا: تمرير الدولة المصرية فكرة استمرار عدائها التاريخي مع الدولة الصهيونية من خلال مسلسل "رأفت الهجان"، إنتاج 1987، في وقت كانت تمارس فيه الدولة المصرية أنشطة تطبيعية واسعة مع إسرائيل، وثقها رفعت سيد أحمد في موسوعة من 3 مجلدات، تجاوزت 2000 صفحة: التطبيع والمطبعون: العلاقات المصرية الإسرائيلية 1979-2011. تكرر الأمر، بصيغ مختلفة، في مسلسلات مثل "الشهد والدموع"، و"ليالي الحلمية"، و"المال والبنون" و"لن أعيش في جلباب أبي"، التي رسخت سرديات سياسية واجتماعية وتاريخية، بعضها واقعي، والآخر متخيل.

نجحت الدراما المصرية، في عهد مبارك، رغم إمكاناتها الإنتاجية المحدودة، ورغم الرقابة الحكومية، ورغم سقف الحريات المنخفض، سياسيا واجتماعيا. نجحت لأنها، رغم كل شيء، تحركت وفق شروط فنية خالصة، ومررت رسائلها من دون خطابية أو مباشرة، أو تدخلات سلطوية في المعالجات الدرامية.

تغيرت قناعات الدولة المصرية بعد نجاح ثورة يناير 2011 في خلع مبارك، وبعد استعادة رجاله السلطة في 3 يوليو 2013، إذ رأت أن الهامش الديموقراطي الذي سمح به مبارك هو السبب الرئيس في اندلاع ثورة يناير، وأن الديموقراطية خطر على بناء الدولة، فأحكمت السيطرة على منافذ المجال العام، ومنها الإنتاج الفني، واشترت، وفق تقارير صحفية، أغلب شركات الإنتاج الخاص، ودمجتها في الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، ولم يعد دور الدولة يقتصر على تحديد السياسات العامة والخطوط العريضة، إنما المشاركة في تفاصيل الدراما، وإملاء النصوص، واختيار الممثلين والمخرجين، ثم توجيه المشاهدين إلى ما ينبغي لهم فهمه من المسلسل.

حدث ذلك مع مسلسل "الاختيار"، الذي جاءت فكرته، وفق الإعلامي المؤيد للنظام محمد الباز، في كتابه "يوميات الاختيار.. الدراما تكتب التاريخ" 2022، من وحي خطاب للرئيس السيسي، وتحول المسلسل - وفق الباز- إلى "حارس للذاكرة الوطنية"، ما أقره السيسي، قبل الباز، في احتفالية عيد الفطر المبارك 2022، واصفا أحداث المسلسل بأنها "الحقيقة". وناقش المسلسل في جزئيه الأول والثاني بطولات الجيش والشرطة في مواجهة الإرهاب، مع الربط بين الإرهاب المسلح والمعارضة السياسية بوصفهما مسلكا واحدا. وفي الجزء الثالث، ناقش تفاصيل صعود السيسي إلى السلطة، بعد إزاحته سلفه المنتخب محمد مرسي. وجسد شخصية السيسي ممثل "طويل القامة"، ما أثار موجة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، ودفع بعض المشاهدين إلى قياس مصداقية رواية الدولة على فارق قياس الطول بين السيسي الواقعي، وظله الدرامي.  

جاء مسلسل الحشاشين، هذا العام، ليصلح ما أفسده "الاختيار"، ووجد كاتبه في تاريخ طائفة الحشاشين، التي ظهرت في القرن الحادي عشر الميلادي، وما أحاط بها من خرافات وأساطير، مساحة أكثر قابلية للتطويع السياسي، واستغل الكاتب بعض الآراء النقدية "الكلاسيكية" التي تسمح بالانحياز إلى الحقيقة الفنية على حساب الحقيقة التاريخية. ورغم تجاوزه حدود ما تسمح به أكثر نظريات النقد الفني هوائية في مخالفة الحقيقة التاريخية، وتجاوز خياله، حدود "ممكن الحدوث" إلى "مستحيل الحدوث"، وفق معايير عصر الحكاية وطبائع شخصياتها، ورغم الميزانية الضخمة، والصورة الباهرة، والدعايات المكثفة، وتوجيه إعلام السلطة المشاهدين "الوطنيين" إلى ما ينبغي لهم فهمه، فإن المسلسل تحول، في نقاشات المجال العام، مصريًّا وعربيًّا، إلى دليل آخر على تراجع الدراما المصرية، وسقوطها في أوحال "الأَمْنَنة"، و"التسييس"، بما لا يتسق مع تاريخها، وإمكانيات صُناعها، ويشي بحجم التدخلات الفوقية ونوعها. 

اكتسبت الدراما المصرية ريادتها التاريخية من قدرتها الفنية على التحول إلى مادة للمتعة الخالصة، وتوصيل رسائلها السياسية والاجتماعية بالإيحاء، فيما تراجعت حين تحولت محفزاتها الإبداعية من وحي الخيال إلى وحي الرئيس، ومادتها من فنية إلى دعائية، ووظيفتها من إثارة المتعة إلى إثارة الجدل، وحيلها الدرامية من المعالجات الذكية المراوغة إلى الخطب الوعظية، والتوجيهات الوطنية، والأوامر العسكرية.

محمد طلبة رضوان شاعر وكاتب صحفي مصري مهتم بالشأن العام. يركز في مقالاته على قضايا الفنون والآداب والعلاقة المعقدة بين الدين والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان في مصر والعالم العربي. لمتابعته عبر "أكس" @Tolba_Radwan.