لا تزال تونس تتخبط في مواجهة التشدد، على الرغم من الخطوات القيّمة التي اتخذتها البلاد لإصلاح القطاع الأمني والجهود الدؤوبة التي بُذِلت لمكافحة الإرهاب. فالحكومة تفتقر إلى الخبرات والموارد اللازمة كي تتمكّن في آنٍ واحد من معالجة المشاغل الأمنية وإيجاد حلول للأزمة الاقتصادية الحادّة التي تعصف بالبلاد. ولذلك تتقدّم جهاتٌ من المجتمع المدني، وعلى رأسها الجمعيات النسائية – التي تستهدف فئات قد تكون من الأكثر تململاً وهشاشة في تونس – للمساعدة في محاربة التطرف. بيد أن الاختلافات العقائدية والتنافس داخل الحراك النسائي من أجل الحصول على الاعتراف والموارد ألقت بظلالها على الجهود التي تبذلها هذه الجمعيات لمواجهة التشدد بطريقة فعّالة.

تختار بعض النساء التونسيات المتطرفات "النضال من أجل القضية" في الخارج. يُقدِّر المحللون أن نحو 7000 تونسي التحقوا بالتنظيمات الإرهابية في سورية والعراق وليبيا منذ العام 2011، بينهم 700 امرأة تونسية، وفقاً لوزارة المرأة والأسرة والطفولة. تؤدّي هؤلاء النساء مهام قتالية، ويلبّين الاحتياجات الجنسية للمقاتلين عن طريق الزواج العرفي، ويعملن على تجنيد مقاتلين جدد، لكن معظمهن يتولين مسؤوليات التنظيم المجتمعي ومهام إدارية مثل إدارة الأموال، والإشراف على المناهج التعليمية، وتأهيل المقاتلين الجدد. وتختار نساءٌ تونسيات أخريات "النضال من أجل القضية" من الداخل، الأمر الذي ترى فيه السلطات التونسية تهديداً أمنياً أكثر فورية. في أيار/مايو 2018، ألقت السلطات التونسية القبض على سيدة في مدينة توزر على خلفية تواصلها مع خليات إرهابية في الخارج وحيازتها بروباغندا جهادية على حهاز الكمبيوتر الخاص بها. وفي 29 تشرين الأول/أكتوبر 2018، أقدمت الخرّيجة الجامعية منى قبلة، 30 عاماً، على تفجير عبوة ناسفة في وسط العاصمة تونس، ما أسفر عن مقتلها وإصابة العديد من ضباط وزارة الداخلية بجروح. وقد أثارت هذه الواقعة صدمةً لدى المسؤولين الحكوميين والمجتمع المدني، وكانت بمثابة تذكير لهم بأن الإرهاب الداخلي المنشأ لا يقتصر على شبان غير متعلّمين من المناطق الواقعة داخل البلاد.

الأسباب التي تدفع بالشباب نحو التشدّد هي نفسها التي تقود النساء إلى التطرف، وتتمثل في الفوارق الاقتصادية، وارتفاع البطالة، والاستياء من المرحلة الانتقالية الديمقراطية. فعلى سبيل المثال، تتحدر منى قبلة من منطقة ريفية على مقربة من مدينة المهدية الساحلية، وكانت عاطلة عن العمل مع أنها تحمل شهادة جامعية في اختصاص اللغة الإنكليزية للأعمال. وعلى الرغم من أن الحد من التفاوت بين المناطق كان مطلباً أساسياً من المطالب التي رفعتها الثورة التونسية، إلا أن الحكومات المتعاقبة لم توظّف استثمارات كافية في المناطق المهمّشة التي تواجه خطراً أعلى بالجنوح نحو التشدد، ولا سيما من أجل دعم توظيف المرأة. يُشار في هذا السياق إلى أن البطالة لدى النساء تُسجّل نسبةً أعلى بكثير (22.7 في المئة) بالمقارنة مع الرجال (12.5 في المئة). يقول عبد اللطيف الحناشي، أستاذ التاريخ في جامعة منوبة والباحث في شؤون الجهاديات، إن الأوضاع الاقتصادية المزرية أتاحت فرصةً استغلّتها التنظيمات الجهادية لتجنيد شابات للالتحاق بالجهاد في سورية وليبيا عبر وعدهنّ بدفع أموال لهن مقابل خدماتهن الجنسية (إنما من دون الوفاء في الأغلب بهذه الوعود).1

وعلى وقع تراجع الثقة بقدرة الحكومة على مواجهة هذه التحديات، تقدّم أفرقاء جدد غير حكوميين للنهوض بهذا الدور. تعتبر جمعيات نسائية ونسوية كثيرة أن قطع دابر التشدد يقع في صلب فلسفتها وعملها، نظراً إلى أن هدفها الأقصى هو تلبية احتياجات النساء. يُشار إلى أن هناك رابطاً قوياً بين حماية حقوق المرأة وردع التطرف. في هذا السياق، تعمل منظمات قليلة على محاربة التطرف بصورة غير مباشرة في إطار الجهود الآيلة إلى التصدّي للعنف المنزلي. فعلى سبيل المثال، يشتمل مشروع "المرأة والسلام والأمن" ومشروع "مكافحة العنف ضد المرأة" اللذان تتولاهما منظمة "أصوات نساء"، على التواصل مع شخصيات دينية نسائية لتشجيعهن على نشر القيم الاجتماعية السلمية.

وعلى نطاق أوسع، ترى الجمعيات النسائية أيضاً في دمج المرأة في المجتمع عاملاً أساسياً لمنع التهميش الذي يمكن أن يؤدّي إلى التطرف. وهكذا تساهم الجمعيات النسائية، من خلال المطالبة بالمساواة الجندرية وحسن التمثيل، والعمل على تعزيز الانخراط المدني، وتوفير فرص اقتصادية أفضل للنساء، في الحد من خطر التشدد. فعلى سبيل المثال، تستضيف جمعيات على غرار "أصوات نساء" و"تونسيات" و"رابطة الناخبات التونسيات" ورش عمل وتدريب للنساء القياديات على المستوى المحلي، وتشجّعهن على المشاركة في الحياة العامة، وتؤمّن أدوات لمكافحة التهديدات بالعنف ضد النساء الساعيات إلى الترشح لمناصب في الدولة. وتقود الجمعيات النسائية، منذ العام 2014، حملة مشتركة لوضع حد للعنف ضد النساء، ما أسفر في آب/أغسطس 2017 عن إقرار قانون يُعتبَر من أقوى القوانين التي تُجرِّم العنف ضد المرأة في العالم العربي. يَحمي هذا القانون المرأة من مختلف أشكال العنف – السياسي والجسدي والعاطفي والاقتصادي – فيساعدها على الشعور بأمان أكبر ويُعزّز ثقتها بالسلطات المحلية. وتؤمّن منظمات على غرار "بيتي" ملاذات لإيواء ضحايا العنف وتعمل عن كثب مع الدولة والسلطات المحلية لمحاربة العنف ضد المرأة من خلال التدريب وحملات التوعية.

فيما يُخصّص المانحون والمنظمات الأهلية التونسية قدراً كبيراً من الوقت والمال لتثبيت دعائم السلم الاجتماعي، لا يزال عدد كبير من المنظمات النسوية والنسائية يفتقر إلى الموارد الضرورية للحد من الفوارق والتململ الاجتماعي في المناطق الريفية الفقيرة، لا سيما في الولايات التي يتحدّر منها معظم الجهاديين، مثل مدنين والقصرين والقيروان وسيدي بوزيد. تعمل الجمعيات النسوية والنسائية، مثل "المركز التونسي المتوسطي" (TU-MED) وجمعية "النساء والقيادة" (Femmes & Leadership)، مع النساء في الأرياف لتأمين وظائف لهن ومنحهن قروضاً صغيرة لتأسيس شركاتهن الخاصة، لكنها تفتقر إلى التمويل من الدولة لتنفيذ مزيد من المبادرات. فضلاً عن ذلك، وبسبب حرمان المرأة من الحصول على حقوق متساوية في الميراث، غالباً ما يحتفظ الذكور بالسيطرة على الأراضي والممتلكات، ولذلك تجد المرأة صعوبة أكبر في تحقيق الاستقلالية المادية وتأسيس شركتها الخاصة.

لكن العوائق الأكبر تتمثل في الانقسامات داخل الحركة النسائية نفسها، ما يقلّل من فعالية مشاريعها الهادفة إلى مكافحة التشدد. فمثلما هو الحال في المجتمع والسياسة في تونس، يسود انقسامٌ حاد بين الجمعيات النسائية الإسلامية من جهة والجمعيات النسوية العلمانية من جهة أخرى. لقد انتشرت الجمعيات النسائية الإسلامية في مطلع العام 2011، بعد رفع الحظر على الحراك الديني الذي كان مطبَّقاً في عهد الرئيسَين برقيبة وبن علي، وخصوصاً بعد انتخاب حزب النهضة في تشرين الأول/أكتوبر 2011. تستخدم هذه الجمعيات إطاراً دينياً لتعزيز حقوق المرأة واستقطاب قاعدة محافظة ومتديّنة في المناطق الفقيرة من خلال نشاطها الخيري، وغير السياسي كما يُزعَم. أما الجمعيات النسوية العلمانية فتركّز، من جهتها، على بذل جهود للتأثير في السلطات والمجتمع الدولي بغية انتزاع مزيد من الحقوق السياسية للمرأة بناءً على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وثمة اختلافٌ شديد في الرأي بين الجمعيات الأولى والثانية حول مسائل مثل حقوق المرأة في الميراث. فالنسويون العلمانيون يعتبرون أنه يجب أن تحصل المرأة على حقوق متساوية في الميراث لأن تونس دولة علمانية تُطبّق قوانين مدنية، في حين تعتبر الجمعيات النسائية الإسلامية أن الشريعة يجب أن تبقى في أساس قانون الميراث.

كما أن الانقسامات داخل الحركة النسوية والنسائية تجعل من الصعب على الجمعيات التعاون في ما بينها وتنسيق جهودها، ما يؤدّي على الأرجح إلى تكرار الأنشطة نفسها أو حتى تضارُب الأهداف. ترى المنظمات النسوية العلمانية في صعود الجمعيات النسائية الإسلامية محاولةً لأسلمة المجتمع التونسي، ما يُشكّل، في رأي تلك المنظمات، تهديداً لقيم الدولة الديمقراطية والمدنية. أما الجمعيات النسائية الإسلامية فتعتبر أن النسويين العلمانيين يسعون إلى فرض القيَم الغربية.

على الرغم من أن الجناح العلماني ينضوي ظاهرياً في إطار منظمات جامِعة على غرار "تحالف من أجل نساء تونس"، إلا أن الانقسامات موجودة حتى بين المجموعات النسائية العلمانية. فعددٌ كبير من هذه المنظمات يرفع لواء القضايا الأساسية نفسها مثل العنف الجندري، ومشاركة المرأة في السياسة، وإصلاح قانون الميراث. لكنها تتنافس في ما بينها على الموارد من الدولة والمانحين الدوليين على السواء، وكذلك على الحصول على الاعتراف من النساء التونسيات والمؤسسات الحليفة. فعلى سبيل المثال، إذا نظّمت جمعيةٌ ما جلسات تدريبية وتجمّعات ولم تلقَ هذه النشاطات إقبالاً من النساء، فقد تتعرض الجمعية لخسارة التمويل وفقدان مصداقيتها. وعلى الرغم من أن هذه المجموعات تستثمر بقوة في الجهود الآيلة إلى مكافحة التطرف، إلا أنها تتزاحم على الموارد وتحاول البروز إلى الواجهة.

إن الدور الذي تؤدّيه الجمعيات النسائية والنسوية في معالجة جذور التشدد من خلال مكافحة العنف ضد المرأة، وتحسين الوصول إلى التعليم، وإتاحة فرص أمام ريادة الأعمال، وتشجيع المشاركة في العملية السياسية عن طريق المجتمع المدني أو الانخراط في الميدان السياسي، هو على قدر كبير من الأهمية بغية إيجاد حلول للمشكلات الأمنية التونسية في المدى الطويل. لكن في غياب استراتيجية شاملة وجبهة موحّدة، قد تقع الجهود التي تبذلها الجمعيات النسوية والنسائية في دائرة التكرار. وغياب الفعالية في تخصيص الموارد يؤثّر في قدرة هذه الجمعيات على تحسين حياة النساء والفتيات المهمّشات المعرَّضات للجنوح نحو التشدد. في حين أن تأسيس حركة تَجمع المنظمات الإسلامية والعلمانية على السواء – وقادرة على الوصول إلى النساء المنتميات إلى فئات أوسع من أعمار ومناطق وخلفيات ثقافية ومعتقدات دينية مختلفة – يبقى هدفاً بعيد المنال، قد يشكّل الحصول على مزيد من التمويل والتسهيلات من الدولة عاملاً أساسياً لمساعدة جميع الجمعيات النسائية على معالجة المشكلات على غرار البطالة والإقصاء من عملية صناعة القرار المحلية.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

مارو يوسف زميلة في برنامج فولبرايت-هايز وطالبة دكتوراه في علوم الاجتماع في جامعة تكساس في أوستن. حمزة الميغري باحث في برنامج ج. وليام فولبرايت في كلية ماكسويل للمواطنة والشؤون العامة في جامعة سيراكوز.

* يستند هذا المقال إلى مقابلات أُجريَت مع ممثلات عن المنظمات النسائية على غرار "أصوات نساء" و"رابطة الناخبات التونسيات" و"المركز التونسي المتوسطي" (TU-MED) وجمعية "النساء والقيادة" (Femmes & Leadership) و"تونسيات"، بين آذار/مارس 2018 وآذار/مارس 2019.


1. مقابلة مع البروفسور عبد اللطيف الحناشي، تونس، كانون الأول/ديسمبر 2018.