المصدر: Getty
مقال

فرصة للاعتدال

على الرغم من صعود التهديدات الأصولية، أمام المجموعات السلفية المعتدلة فرصة فريدة لتأدية دور بنّاء في مستقبل تونس.

 شيريل جاكوبس
نشرت في ٢٧ يونيو ٢٠١٣

يتّخذ التهديد الجهادي السلفي في تونس منحى جديداً يضع الحكومة الإسلامية المعتدلة في مواجهة السلفيين من مختلف الأطياف، والذين لطالما حامت الشبهات حول تعريضهم أمن البلاد لخطر شديد. لكن المشكلة قد تحمل في طيّاتها جزءاً من الحل. فالسلفيون غير الجهاديين، ولاسيما أولئك الذين أظهروا ميلاً حقيقياً نحو الاعتدال، يمكن أن يؤدّوا دوراً مهماً في الحدّ من التهديد الجهادي، وفي تحديد مستقبل السلفية في السياسة التونسية.

الواقع أن دائرة العنف المتّصل بالجهادية السلفية تتّسع. ففي الشهر الفائت، تصادمت القوى الأمنية التونسية مع التنظيم السلفي الأكبر، "أنصار الشريعة"، لدى محاولته عقد مؤتمر سنوي من دون الحصول على إذن رسمي. وكانت للمواجهة تداعيات خطيرة أسفرت عن اعتقال أكثر من 200 سلفي. ويخضع الجهاديون السلفيون المشتبه في ضلوعهم في أعمال عنف أو المتورّطون فعلاً في مثل هذه الأعمال، إلى محاكمات سريعة. ففي شهر حزيران/يونيو الجاري، حُكِم على ستة سلفيين بالسجن لمدّة خمس سنوات بتهمة إحراق مزار  صوفي في العاصمة تونس في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وصدرت أحكام مع وقف التنفيذ بحقّ عشرين سلفياً آخر بتهمة التورّط في الهجوم على السفارة الأميركية في العاصمة تونس في أيلول/سبتمبر الماضي. ويُشتبَه أيضاً بضلوع "أنصار الشريعة" – بحسب وزير الداخلية – في أعمال إرهابية عند الحدود مع الجزائر، وهو ماتعمل القوى الأمنية على مكافحته منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي.

يرى تونسيون كثرٌ في محاكمة السلفيين خطوةً مرحَّباً بها نظراً إلى الاشتباه بضلوعهم في العديد من أعمال العنف، ولاسيما اغتيال الزعيم العلماني المعارض شكري بلعيد، الذي أحدث زلزالاً مدوّياً في تونس وأطلق موجة واسعة من الاستياء والخوف من السلفيين. بيد أن هذه التطوّرات أثارت الاهتمام بالفسيفساء المعقّدة للمجموعات السلفية التي تسعى جاهدة الآن إلى أن يكون لها صوت ورأي في تونس الجديدة. ويستحقّ العناصر الأقل قتالية في التيار السلفي في تونس اهتماماً أكبر على وجه التحديد: فالطريقة التي سيتصرّفون بها في الأشهر المقبلة سوف تحدّد جزئياً مستقبل الجهادية في تونس.

بمعزل عن السلفيين الجهاديين، تتألّف السلفية في تونس من تيارَين أساسيَّين: "السلفية العلمية" و"السلفية السياسية". المنتمون إلى "السلفية العلمية" بعيدون عن السياسة، ويفضّلون تكريس أنفسهم للتديّن.  لكن على الرغم من صعود نجمهم منذ الثورة، لايزال تأثيرهم في الحياة الدينية محدوداً– فالمساجد الخاضعة إلى سيطرتهم في تونس لايتجاوز عددها الـ24 تقريباً. إلا أن بعض مشايخ السلفية العلمية، مثل بشير بن حسن، هم شخصيات دينية معروفة، ولديهم عدد كبير من الأتباع ويُطلّون عبر العديد من المنابر الإعلامية.

في المقابل، يسعى المنتمون إلى التيار السلفي السياسي إلى استخدام السبل السياسية للتأثير في المجتمع التونسي. وقد شكّل بعضهم أحزاباً مثل "جبهة الإصلاح" و"حزب التحرير". تنافس أعضاء "جبهة الإصلاح" على ستّة مقاعد بصفة مستقلّين (فالجبهة لم تحصل على ترخيص لتشكيل حزب رسمي سوى في آذار/مارس 2012)، في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2011، لكنهم لم يفوزوا بأيٍّ منها. يضع هؤلاء فرض الشريعة في رأس قائمة أولوياتهم السياسية، ويطالبون بقطع العلاقات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبتوقّف تونس عن تسديد ديونها الخارجية. ويدعو "حزب التحرير" أيضاً إلى تركيز الاقتصاد على قطاعَي الزراعة والصناعة، والحدّ من اعتماده على السياحة. إلا أن بعض الأهداف التي تتبنّاها هذه المجموعات أقل إثارة للخشية، مثل إنشاء نظام للأوقاف، وتعزيز الصناعات التكنولوجية في تونس، والتركيز على اللغة العربية وإعطائها الأولوية في المدارس. أما مجموعات سلفية أخرى فتتجنّب الانخراط في الاتجاه السياسي السائد، على الرغم من طموحاتها السياسية الواضحة. فعلى سبيل المثال، ينتقد "أنصار الشريعة" الديمقراطية بشدّة لأنها تتطلّب قوانين من صنع الإنسان، الأمر الذي يرَون فيها عارِضاً من عوارض الدولة المُشرِكة. ويفضّلون بدلاً من ذلك مايسمّونه "سياسة الشارع" التي تشمل تنظيم التظاهرات وتعزيز مشاركتهم السياسية من خلال المشاريع الخيرية في المناطق الفقيرة.

يستطيع التياران السلفيان العلمي والسياسي على السواء، مهما كانت أفكارهما وطموحاتهما السياسية غير مستساغة، أن يؤدّيا دوراً في التخفيف من وطأة التهديد المزدوج الذي يشكّله الجهاديون السلفيون في تونس من خلال سعيهم إلى فرض الشريعة بالقوة والعنف الذي يمارسونه ضد كل من يجرؤ على تحدّيهم. ومن شأنهما أيضاً أن يعزّزا مصداقية التيارات الإسلامية المعتدلة في موازاة حزب "النهضة". فمع أن السلفية قد تبدو متطرّفة بحكم التعريف، لايزال المصطلح مبهماً بطريقة مفيدة. لقد أظهر بعض الإسلاميين البارزين قدرة على استغلال غموض المصطلح لمصلحتهم. فعلى سبيل المثال، زعم راشد الغنوشي، أحد مؤسّسي النهضة، العام الفائت، أنه هو نفسه سلفي إذا كانت السلفية تعني "العودة إلى قيم الإسلامة السامية المرتكزة على القرآن والسنّة"، وذلك في محاولة لتهدئة الشباب السلفيين وخطب ودّهم.

وتُظهر الأدلة أن بعض السلفيين يصبحون أكثر براغماتية. فعلى سبيل المثال، رفض أعضاء "السلفية العلمية" استخدام العنف عندما تصادم التونسيون حول مسائل دينية، بدءاً من عرض فيلم "برسوبوليس" الذي أثار جدلاً على خلفية ما اعتُبِر تجديفاً على الدين، وصولاً إلى حظر النقاب في حرم الجامعات. وقد تخلّى بعض الفاعلين في الأحزاب السياسية السلفية، شيئاً فشيئاً، عن اقتناعاتهم الجهادية على مرّ السنين. على سبيل المثال، كان محمد خوجة، رئيس "جبهة الإصلاح"، من مؤسّسي "الجبهة الإسلامية التونسية" عام 1986، والتي كان يُشتبَه بارتباطها بالإرهاب. أما الآن فيرفض العنف في تونس، ويشدّد على أن حزبه لن يحظّر الكحول أو ارتداء البيكيني في حال انتخابه.

حتى أعضاء تنظيم "أنصار الشريعة"، والذين خاض عدد كبير منهم الجهاد في الخارج، يظهرون قدرة على الابتعاد عن التطرف، على الأقل في العلن. ومع أن السلطات التونسية تعتقد أنه لاتزال لبعض العناصر روابط مع الإرهاب، حاول "أنصار الشريعة" أن ينأوا بأنفسهم ظاهرياً عن العنف في الداخل. ففي شباط/فبراير الماضي، تمنّى زعيمهم، أبو عياض، على الشباب التونسيين عدم السفر إلى سورية لخوض الجهاد، والتركيز بدلاً من ذلك على العمل السلمي في تونس. وفي مقابلة مع "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) في حزيران/يونيو الجاري، شدّد يوسف معزوز، القيادي في جناح الشباب في "أنصار الشريعة"، على أن تنظيمهم سلمي الطابع ويركّز على الوعظ والأنشطة الخيرية. والسبب وراء هذه الرغبة الشديدة لدى "أنصار الشريعة" في تصوير أنفسهم بأنهم مسالمون، لايقتصر على الخوف من تعرّضهم لعمليات انتقامية من الحكومة وحسب، بل يتعلّق أيضاً بتفادي إثارة الاستياء والنفور لدى أعضاء التنظيم الذين يعارضون استخدام العنف في تونس. واقع الحال هو أن مجموعة "أنصار الشريعة" عبارة عن تنظيم غير مترابط يعتمد على عشرات القادة الكاريزماتيين لاستغلال مشاعر التململ اليومية على مستوى القواعد الشعبية في المجتمع التونسي.

إذا دعم السلفيون غير الجهاديين العمل السلمي في المدى الطويل، يمكنهم أيضاً استقطاب التونسيين المعرّضين لإغراء الوقوع تحت تأثير الجهادية السلفية. بيد أن قدرتهم على الإقناع ستتوقّف على نجاحهم في إثبات أن نموذجهم السلفي أفضل وأكثر تفوّقاً. على السلفيين ذوي الميول السياسية أن يُظهروا أنهم قادرين على تحقيق نتائج أفضل من الجهاديين السلفيين. وفي هذا السياق، أمام الأحزاب السلفية السياسية مهمّة أصعب بكثير بالمقارنة مع المجموعات الأخرى مثل "أنصار الشريعة". فعلى تلك الأحزاب أن تثبت قدرتها على التأثير في القرارات السياسية، بدلاً من الاكتفاء بتوظيف مزيد من الطاقة في سياسة الشارع. حتى الآن، حقّق "أنصار الشريعة" نجاحاً أكبر في استقطاب التونسيين المحرومين. فعدد كبير من أعضاء المجموعة يتألّف من الشباب، كما أنهم يملكون جناحاً شبابياً قوياً وشديد التنظيم. هذا فضلاً عن أن تركيزهم على العمل مع القواعد الشعبية، وهذه نقطة مهمة، يمنح الشباب العاطلين عن العمل فرصة الشعور بأنهم ممكَّنون. في المقابل، لاتولي الأحزاب السياسية اهتماماً كبيراً بالأنشطة الشبابية. فعند فتح صفحة "جبهة الإصلاح" على موقع فايسبوك، تطالعنا صور أشخاص في متوسّط العمر. كما أن "الحكماء" المتقدّمين في العمر هم الوجوه الأساسية في التيار السلفي العلمي. نتيجةً لذلك، فإن قدرة هذه المجموعات على استقطاب الشباب محدودة.

بالنسبة إلى تونسي علماني أو مراقب غربي، يطرح تسييس السلفية معضلة معقّدة. ففي حين أن تزايد النفوذ السلفي في الحقل المدني ليس محبّذاً، إلا أنه من شأن تهميش السلفيين سياسياً أن يؤدّي إلى ترسيخ موقف الإرهابيين الذين يؤكّدون أن السبيل الوحيد للتأثير في مجريات الأحداث هو عن طريق القوة. يمكن تسوية هذا المأزق من خلال سيناريوَين محتملين: الأول هو الاعتدال التدريجي للأيديولوجية السلفية فيما يكتسب السلفيون خبرة سياسية؛ والثاني هو الابتعاد عن المسائل الدينية المثيرة للجدل والتركيز بدلاً من ذلك على معالجة المسائل الاقتصادية الملحّة في إطار إسلامي – من تطوير العمليات المصرفية الإسلامية إلى إنشاء منظومة رعاية اجتماعية مستلهمة من مبادئ المساواة في الإسلام مثلاً. 

قد تكون هذه النتائج بعيدة الاحتمال، فما بالكم بأن تكون مضمونة. لكن كما تُظهر مسيرة "النهضة"، ثمة سوابق تثبت إمكانية حدوث مثل هذا التطوّر السياسي. فقد انتقل حزب "النهضة" من الدعوة إلى فرض الشريعة إلى استبعادها بالكامل عن الدستور. وكما جاء على لسان راشد الغنوشي: "كم هي مذهلة قدرة [تونس] على ترويض النبات الأكثر عناداً".

شيريل جاكوبس صحافية مستقلة مقيمة في تونس.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.