في وسائل الإعلام

تونس.. خارطة طريق ما بعد الثورة

في أعقاب ثورة الياسمين التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي، ينبغي الشروع في البحث عن مستقبل تونس ما بعد الثورة. من هنا يجب التمعّن في الدور الذي ستقوم به الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني التونسية، فالحكومة الانتقالية، وأخيرا القوى الدولية وخاصة الدول المحيطة بتونس.

 Mohsen Marzouk
نشرت في ١٨ فبراير ٢٠١١

على رغم كونها استمرت لقرابة الشهر، فاجأت الثورة التونسية بزخمها الختامي الذي أرغم الرئيس زين الدين بن علي على الهروب، النخب المحلية  الحاكمة والمحكومة. كما فاجأت نتائجها المثيرة القوى الدولية بما فيها تلك التي تراقب الوضع التونسي عن  كثب لمدة طويلة مثل فرنسا.

ويمكن تلخيص نموذج الثورة الديمقراطية التونسية بكونها كانت تعبيرا عن حركة اجتماعية جماهيرية طاغية وطبيعية، استطاعت أن تتكثف سياسيا في لحظة قوية وحاسمة، وكانت قوتها وسرعتها تتجاوز ديناميكيات النسق السياسي المحلي وقدرة  محيطها الخارجي على التفاعل معها.

وقد أدت حرب الاستنزاف الطويلة بلا شك التي خاضتها شخصيات ونخب عديدة، إلى إحداث ثقوب متعددة في جدار مشروعية نظام بن علي. لكن المعركة الفاصلة بين يومي 13 و14 يناير/كانون الثاني 2011، تجاوزت كل التوقعات، فتحوّل ما اعتبر انتصاراً كبيرا إثر خطاب الرئيس السابق بن علي يوم 13 يناير/كانون الثاني وما جاء فيه من تنازلات، إلى مكسب لا قيمة كبرى له عندما أرغم المتظاهرون في اليوم التالي بن علي نفسه إلى الهروب، ما أدى  إلى انهيار نظامه برمته.

لقد كان لهذين العاملين، أي عامل المفاجأة وعامل تأخر النخب والقوى الدولية عن حركة الجمهور، دوراً في ما أعقب 14 يناير/كانون الثاني من فترة تردد وشعبوية واضطرابات قد تعطل على المستوى القصير والمتوسط  مسار الانتقال الديمقراطي، إذا لم يتم تداركها من الآن. 

ومع بداية عودة الهدوء إلى تونس بعد الانفلات الأمني ومحاولات قوى عديدة إجهاض الثورة بطرق متعددة، من المهم التساؤل عن الأدوار المقبلة لقوى ثلاث يشكل تفاعلها محرّك عملية الانتقال الراهنة. 

هذه القوى هي حسب ترتيب الأهمية: الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني التونسية، فالحكومة الانتقالية، وأخيرا القوى الدولية وخاصة جيران تونس، الجزائر وليبيا، فأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

وإذا بدأنا عكس هذا الترتيب، أي بالسياق الدولي، سنلاحظ أن أحد أهم المخاوف غير المعلنة للحكومة الانتقالية والنخب التونسية حاليا يتمثّل في الموقف الليبي الغامض. فالزعيم القذافي لم يتردد في الإفصاح علنا عن معارضته للثورة وغضبه من عزل الرئيس السابق، وذهب إلى حد القول بأن بن علي يستحق أن يبقى رئيسا مدى الحياة لتونس. وعلى رغم محاولاته تلطيف موقفه لاحقا، فإن التوجس من ردود فعل القذافي ستبقى قائمة. وسيكون من الهام متابعة تطور سياسته تجاه تونس خاصة في المجال الاقتصادي، حيث يشكّل التبادل التجاري بين البلدين وتوافد السياح الليبيين مصدر دخل هام لتونس.

أما الجار الغربي، الجزائر، فقد كان موقفه الرسمي باردا واكتفى بالتعبير عن احترام إرادة الشعب التونسي. لكن الذاكرة لازالت تحفظ كل عبارات الاعجاب التي كان الرئيس بوتفليقة يكيلها لنظام بن علي. وهو ما يجعل الأنظار، في هذه الحالة أيضا، متركزة على الموقف الجزائري الملموس كما سيتجسد في مجال التبادل الاقتصادي بين البلدين.

في كل الحالات،  المواقف العربية من تونس وخاصة مواقف الجيران ستتحدد بمدى قدرة أنظمتها السياسية على تحمّل وجود نظام ديمقراطي على حدودها قد يشكل إلهاما لشعوبها التائقة هي أيضا إلى الإصلاح والتغيير.

على المستوى الدولي، يمكن القول أنه بعد المفاجأة الأولية، تطور موقف أوروبا والولايات المتحدة في اتجاه العمل، بشكل محتشم، على دعم مسار الانتقال الديمقراطي التونسي. وتجسّد ذلك من خلال وعود أوروبية بتقديم دعم مالي واقتصادي عاجل لتونس، إضافة إلى تسريع مسار مفاوضات منحها مرتبة الشريك المتميّز، وهي مرتبة لم يستطع نظام بن علي الحصول عليها لاعتبارات من بينها عدم احترامه لحقوق الانسان.

كما التزمت أوروبا بتجميد أرصدة بن علي وعائلته في أوروبا وبالتعاون مع الحكومة التونسية التائقة لاستعادتها.

على رغم هذه الوعود، لا يزال الموقف الأوروبي دون المطلوب، وعلى الأقل دون سقف منطوق خطاب أوروبا الداعم لحقوق الإنسان والديمقراطية. فنحن لم نسمع إلى الآن من القيادات الأوروبية الكبرى التزامات معلنة وقوية لدعم الثورة التاريخية التونسية. كما يتواصل الخجل الرسمي الأوروبي الذي تمثّل في عدم الضغط بشكل كاف على بن علي خلال محاولاته قمع الثورة، ويتجسد الآن بعدم إعلان الالتزام الواضح والقوي لدعم الثورة المنتصرة. 

أما الموقف الأمريكي فقد تميز بقوة النبرة السياسية الداعمة للشعب التونسي قبل وبعد انتصاره، من جهة، وبضعف إجراءات دعم هذه الثورة خاصة في المجال الاقتصادي، من جهة أخرى. فالشعب التونسي ليس في حاجة فقط إلى كلمات الإشادة السياسية وإنما هو الان في حاجة إلى دعم مساره الانتقالي وتلبية حاجيات اجتماعية واقتصادية متزايدة.

ويمكن القول أن المطلوب من القوى الدولية لدعم مسار هذا الانتقال يتمثل في النقاط الأربع التالية:

  • الدعم الحازم للثورة التونسية وحمايتها من أية تاثيرات خارجية قد تكون سلبية عليها

  • تقديم الدعم الاقتصادي الفوري لمساعدة الحكومة التونسية الانتقالية على مواجهة ظرف صعب خلال الفترة المقبلة، مع توقعات تراجع المداخيل السياحية وتعطل الأداء الاقتصادي.

  • تقديم الخبرة والدعم المالي لمسار الإصلاحات السياسية وإعادة بناء المؤسسات وذلك على صعيدي المجتمع السياسي والمجتمع المدني

  • المساهمة في خلق حالة تأطير للمسار الانتقالي الديمقراطي التونسي، ليبقى في إطار المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، ومساعدته على تجنب وقوع ثورته في قبضة قوى ذات توجه أيديولوجي مناقض لتلك المنظومة.

لكن الدور الدولي لن يكون فاعلا إذا لم يستند إلى حركة سياسية واجتماعية داخلية قوية، تنجح في تسطير مسار انتقالي سيادي واضح وسلس يعطي التونسيين أجندة تغيير ديمقراطي وطنية ملموسة. تقع المسؤولية في هذا الإطار على عاتق النخب السياسية ونخب المجتمع المدني مجتمعة. وأول خطوة يجب عليها القيام بها هي تأطير مرحلة الانتقال الديمقراطي أولا ثم وضع برنامج زمني واضح له.

فلقد أنجز الشعب التونسي ثورته وأعلن أن الديمقراطية هي خياره. وما أن أنجز ذلك حتى تأخرت أغلبية النخب السياسية والمدنية المدهوشة أمام المعجزة الشعبية، وتفرقت في تعريف مكاسبها وأهدافها، فتعطل دورها الضروري في تحويل الهبّة الشعبية إلى نتائج ومؤسسات وبرامج عمل ترتقي إلى تضحيات الناس وطموحات المرحلة. وصارت المرحلة التي أعقبت هبة 14 كانون الثاني/يناير بدون إطار سياسي عام يعرف مكاسبها بما يسمح بالدفاع عنها وضمانها ويحولها من اللحظة الثورية إلى مسار البناء السياسي الديمقراطي.

كما أن جواً قاتماً من التشكيك وغياب الثقة حوّل العمل السياسي إلى نوع من العلاقات الانفعالية التراجيدية قد يؤدي إلى تعطيل حوار النخب،  في خضم بحثها عن تسويات تجسّد مرحلة تقاسم السلطة الحالي بين جزء من النخب الحاكمة سابقا والنخب المعارضة التي انتقلت إلى السلطة في الحكومة الانتقالية، أو تتأهب للمشاركة في السلطة لاحقا بعد تنظيم انتخابات حرة ومفتوحة.

لحماية الثورة من الانتكاس وبث روح الثقة في نخبها وجمهورها، لابد من تعريف مكتسباتها أولا والالتزام بها ثانيا وتثبيت آليات ضمان لها تحميها حاضرا ومستقبلا.

وفي هذا الإطار، أدعو السيد رئيس الجمهورية المؤقت إلى أن يتقدم بمشروع وثيقة التزام ديمقراطي وطني، لهذه المرحلة الانتقالية، تحتوي المبادئ والقواعد الديمقراطية التي تشكّّل ما صار يصطلح عليه بمكاسب الثورة، وهي المبادئ الأساسية للحرية السياسية، وسيادة القانون العادل والعدالة والمساواة، وأخص بالذكر منها:

  • حرية التعبير والإعلام والتنظيم والتظاهر

  • التداول الحر على السلطة وتحقيق شرعية الحكم عبر انتخابات دورية حرة ونزيهة ومفتوحة تمثّل إرادة الشعب وسلطته

  • سيادة القانون العادل الذي يقوم على المبادئ الكونية لحقوق الانسان

  • الفصل بين الأحزاب والدولة والدين والحكم والسلطات الثلاث

  • المساواة الكاملة في المواطنة من دون تمييز على أساس الجنس أو الدين أو المعتقد أو الانتماء الجغرافي

  • الحريات الفردية الكاملة

  • عدم تدخل الجيش في الحياة السياسية مع صون دوره في حماية الدستور

  • العدالة الاجتماعية والتقسيم العادل للثروات وإتاحة الفرص للجميع على قاعدة المساواة

بعد صياغة هذا الالتزام الديمقراطي الذي يحتوي المبادئ والشعارات الأساسية لثورة 14 كانون الثاني/يناير ، يتم عرضه للتوقيع على أعضاء الحكومة المؤقتة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني كافة، بحيث يشكل قاعدة المشترك بينها ويرسم بذلك ميدان العمل السياسي للقوى السياسية لتتنافس وتختلف ولكن في سياق ما كرسته الثورة من محددات جديدة،  وهذا سواء أكانت تلك القوى السياسية هي من يتواجد الآن في الحكومة، أو من هو خارجها، أو من ينتظر التأشيرة، أو من أخطأ سابقا وعليه أن يصحح مساره بالاصطفاف تحت سقف الواقع السياسي الجديد الذي أنتجته انتفاضة شعب تونس.

يجب أن يُشكّل التوقيع على تلك الوثيقة التزاما سياسيا جماعيا وشخصيا. وبعد ذلك يعرض الالتزام للتوقيع الفردي شعبيا فيخرج الالتزام من دائرة النخبة ليشكل الحجر الأساس للثقافة السياسية الميثاقية الجديدة في تونس.

إن دوائر الالتزام المتعددة ستحصنه وتجعله مرجعية محمية بالعقول والقلوب والتوقيعات، ولكن ذلك قد لا يكون كافيا. لذلك أدعو إلى تحويله إلى وديعة لدى أطراف ثلاثة تلتزم بحمايته من كل انتكاسة، وهي رئيس الجمهورية بحكم موقعه الدستوري، وهيئة جمعية القضاة (ثم المحكمة الدستورية بعد تشكيلها) وأخيرا الجيش الوطني لا باعتباره ذو حق في المشاركة في الحياة السياسية بل باعتباره حاميا لدستور البلاد. هذه الأطراف حسب التدرج ستحمي مبادئ الثورة من الانتكاس، بترتيب الطرف التالي إذا عجز الطرف الذي يسبقه.

بهذه الطريقة تعرّف مكاسب الثورة وتحصّن. فتتمأسس الثورة وتجسد أهدافها سياسيا في انتظار أن يملأ الدستور الجديد والانتخابات المقبلة فراغ المشروعية والشرعية الحالي. 

الخطوة التالية تكون في وضع أهداف وإطار زمني للمرحلة الانتقالية وخاصة في ما يتعلق بالنقاط التالية:

  • وضع دستور جديد واعتماده شعبيا من خلال التصويت الحر والمفتوح عليه

  • وضع قوانين جديدة خاصة في مجال الانتخابات وحريات التنظيم والإعلام والتعبير

  • مواصلة تطهير المؤسسات وإعادة بنائها

  • إرساء مسار لكشف الحقيقة والمساءلة وإحلال العدالة

  • وضع برامج تنموية عاجلة ووضع تصورات استراتيجية لسياسة تنموية جديدة

  • الشروع في هذه الخطوات يتطلب الإجابة عن أسئلة تتعلق بالمشروعية وبالترتيب الزمني.

فمن سيصوغ مشروع الدستور الجديد والقوانين وكيف سيقع اعتمادها؟   البرلمان الحالي هو نتيجة الوضع السابق وليس له مشروعية. كما أن الأفكار المتداولة في تونس لتشكيل هيئة حكماء تعوّض عن البرلمان المنحل عمليا لا تجيب هي ذاتها على سؤال المشروعية. فكيف ستشكل هذه اللجان وما هي مشروعية قاعدة ونسب التمثيل فيها؟

للخروج من هذا المأزق أقترح الخطوات التالية:

  • يتم التركيز في إطار الحكومة المؤقتة ولجنة الإصلاح السياسي التي تم تشكيلها على وضع قانون انتخابي خاص يمهد لتنظيم انتخابات، في غضون الأشهر المقبلة، تنتج مجلسا نيابيا سيقوم استثنائيا بالاضطلاع بدورين تأسيسي وتشريعي عادي. ويكون عمله مؤطرا سياسيا ومبدئيا بالالتزام الديمقراطي الذي تحدثنا عنه في جزء سابق من هذا المقال. ويصدر هذا المجلس دستورا جديدا خلال السنة الأولى من عمله، على ان تكون لجنة الإصلاح السياسي بمثابة بيت خبرة تدعمه (المجلس التأسيسي) تقنيا. كما يقوم بإصدار التشريعات العادية المطلوبة خلال تلك المرحلة من دون التأثير على المستقبل السياسي للنظام الجديد.

  • وعلى أساس الدستور الجديد يتم تنظيم انتخابات جديدة بلدية وتشريعية ورئاسية. على أن يتم البدء بالانتخابات الرئاسية، بما يقطع نهائيا مع حالة فراغ المشروعية ويحقق الانتقال الديمقراطي في جانبه السياسي المركزي.

  • تواصل الحكومة المؤقتة والرئيس المؤقت تصريف الأعمال إلى حين الانتخابات التشريعية والرئاسية.

  • تواصل لجان مكافحة الفساد وتقصي الحقائق عملها باعتبارها عاملا اساسيا في حماية الانتقال الديمقراطي من تأثير قوى الحكم الفاسدة السابقة. 

  • تضع الحكومة المؤقتة برنامجا تنمويا واقتصاديا انقاذيا لحماية اقتصاد البلاد من الانهيار والاستجابة للحاجات الاقتصادية والاجتماعية العاجلة في انتظار وضع استراتيجية تنمية جديدة.

هذه الخطة التي نعرضها في خطوطها العامة، تحتاج طبعا إلى إجراءات تكميلية مصاحبة وتفصيلية تضيق بها مساحة هذا المقال.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.