لقد باغت الربيع العربي الحكومات على حين غرّة. هذا صحيح. بيد أن الدمقرطة هي في الواقع منحى عالمي كان محتّماً أن تصل مفاعليه إلى العالم العربي عاجلاً أم آجلا. فليس ثمة شعب يقبل أن يُمضي جُلّ عمره مكبلاً بالاصفاد، وهو سيسعى إلى إطاحة مستبديه وتحسين مستوى معيشته حالما تلوح أمامه أول فرصة لتحقيق ذلك.
في العقود الماضية، اندلعت الديمقراطية في مناطق أخرى من العالم: في أميركا اللاتينية؛ في أوروبا الشرقية والوسطى؛ في آسيا وإفريقيا. لابل هي وصلت أيضاً إلى تركيا، وباكستان، وألبانيا، وإندونيسيا في العالم الاسلامي.
وبالطبع، ليس ثمة بلد يشبه الآخر، وكل مرحلة انتقال إلى الديمقراطية لها ظروفها الفريدة. فليس ثمة "نماذج" للتصدير أو مسارات لـ"التقليد". لكن هل ثمة شيء ما يمكن تعلُّمه من استعراض التجارب العالمية لعمليات الانتقال إلى الديمقراطية، ومن معاينة أين نجحت البلدان وأين فشلت؟ وأي ظروف سهَّلت عملية الدمقرطة وأي منها عرقلتها؟
إن دحرجة رأس نظام قديم ليس الأمر نفسه كما إقامة الديمقراطية. والوصول إلى الديمقراطية ليس الأمر نفسه كما ضمان استقرارها المديد ونجاحها المتواصل. فالعديد من البلدان وصلت إلى الديمقراطية، لكنها ما لبثت أن خسرتها في السنوات اللاحقة.
والواقع أن لدينا الكثير لتعلّمه من تفحّص عمليات الانتقال في أجزاء أخرى من العالم. وفيما نحن نشق عباب رحلاتنا الخاصة إلى مرفأ الديمقراطية في العالم العربي، سيكون لدينا نحن أيضاً الكثير لتعليمه إلى بلدان أخرى لاتزال تتوق إلى الحرية.
لقد انتشرت الديمقراطية في العالم الحديث على شكل موجات. الموجة الأولى اندلعت في أعقاب الثورتين الأميركية والفرنسية. كما دشَّنت هذه الموجة مرحلة من الدمقرطة في أوروبا والأميركيتين في القرن التاسع عشر، خصوصاً بعد "الربيع الأوروبي" العام 1848.
هذه الموجة قوَّضت قروناً من الحكم الملكي المُدجج بإديولوجيا دينية واجتماعية محافظة. وقبل العام 1922، كان هناك 29 بلداً ديمقراطياً في العالم. لكن هذه الموجة انحسرت بفعل صعود الشيوعية والحركات الفاشية ، التي جادلت بأن ثمة حاجة إلى أحزاب النخبة أو القادة العسكريين لنقل المجتمع إلى مستقبل أفضل. وقبل العام 1942، لم يعد في العالم سوى 12 بلداً ديمقراطيا.
الموجة الثانية من الديمقراطية ظهرت غداة الحرب العالمية الثانية وشهدت إعادة انتشار الديمقراطية في أوروبا الغربية ووصول الديمقراطية الى اليابان والهند وبعض الدول المستقلة حديثاً عن الاستعمار. وهكذا ارتفع مجدداً عدد الدول الديمقراطية في العالم ليصل إلى 36 دولة. بيد أن الديمقراطية بقيت نمطاً أقلّاوياً من الأنظمة في العالم.
الموجة الثالثة من الدمقرطة بدأت في أوائل السبعينيات، مع عمليات الانتقال الديمقراطي في أوروبا الجنوبية (إسبانيا، البرتغال، واليونان)، وأيضاً مع الانتقال الديمقراطي في البرازيل ومن ثَمَ في بلدان أخرى في أميركا الجنوبية والوسطى. وحينها قفز عدد الديمقراطيات إلى 60 دولة.
تلا ذلك موجة رابعة وأكثر اتساعاً أثارها تضعضع الاتحاد السوفييتي وتداعي جدار برلين العام 1989. وهكذا، وفي غضون سنوات قليلة، كانت كل أوروبا الشرقية والوسطى تقريباً قد تحوَّلت إلى الديمقراطية، بما في ذلك روسيا. لا بل حتى الصين نفسها هزَّتها احتجاجات ديمقراطية واسعة النطاق في ساحة تيانامين. كما أن العديد من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء أطاحت حُكّامها السلطويين ويمّمت وجهها صوب الديمقراطية.
وحينها، وللمرة الأولى في التاريخ، برزت أغلبية من الدول الديمقراطية في العالم- 117 من أصل 191- ، وصدرت كتب تصدح بـ "نهاية التاريخ" وتُعلن أن الجدل حول أفضل أشكال الحكم للإنسانية قد تمّ طي صفحته إلى الأبد لصالح الديمقراطية.
انتشرت الديمقراطية آنذاك في كل أنحاء العالم، الا ان العالم العربي بقي عصياً عليها.
على مفترق القرن الحادي والعشرين، بدا أن الموجة الرابعة نفسها بدأت تترنَّح، حين بدأت روسيا تعود أدراجها إلى السلطوية، وحين أظهرت الصين أن حكم الحزب الواحد يمكن أن يستمر وحتى أن يبني اقتصاداً قويا. كما أن العديد من الحكومات الديمقراطية في أفريقيا وأجزاء أخرى من العالم أثبتت أنها فاسدة وغير قادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية. علاوة على ذلك، قذفت أحداث 11 سبتمبر العالم والمنطقة العربية إلى أشداق نزاع مسلّح ومتطرّف.
بيد أن الربيع العربي هذا العام جدَّد مسيرة الديمقراطية، وهو أظهر أن النضال من أجل الحقوق السياسية والاجتماعية ليس مسألة مصطنعة أو اختراعاً غربيا، بل هو جزء من نهج طبيعي في التاريخ البشري. كما أن هذا الربيع وضع العالم العربي مجدداً في قُمرة القيادة في قصة التطور الحضاري للبشرية، بعد عقود من التهميش. وهكذا، فإن الثوار في ساحة التحرير وباقي العواصم العربية لم يهزُّوا أركان الحكام العرب وحسب، بل أيضاً الحكومات السلطوية في مناطق قصية كالصين.
هذا المسار التاريخي العام نحو الديمقراطية لم يدل فقط على أن الديمقراطية هي مجرد فكرة ذات شعبية واسعة، بل دلّ أيضاً على أن ثمة قوى تاريخية ومادية قيد العمل تجعل من الأشكال الأخرى من الحكومات السلطوية، أو التوتاليتارية، او الدينية الثيوقراطية، أو حكم الحزب الواحد او العائلة الواحدة، غير قابلة للاستمرار، وأن الدولة الديمقراطية لا غنى عنها في حكم المجتمعات الحديثة.
والأهم أنه مع تطوُّر المجتمعات، فإن مستوى الحِراك، والتواصل، والتمكين، يتطوَّر هو الآخر فتنهار أنظمة الحكم القديمة (التي كان يستطيع فيها الحاكم المحاط بزمرة صغيرة إدارة المجتمع والسيطرة عليه)، تحت وطأة مجتمعات أكثر تعقيداً وتمكينا. بالطبع، الديمقراطية ليست نمط حكم مثالياً أو كاملا، لكن يبدو أن المجتمعات الحديثة، مع تعقيدها وتمكينها الجماعي للناس، تتطلّب مؤسسات معقدة، ومرنة، ومستجيبة، لاتُوفرها سوى الانظمة الديمقراطية.
في حقل علم السياسة، برزت أدبيات كثيفة تخصصت في دراسة مختلف تجارب الانتقال إلى الديمقراطية في أميركا الشمالية والجنوبية، وأوروبا الشرقية والجنوبية، وآسيا، وإفريقيا، وحاولت أن تعثر على نقاط التشابه وأن تستقي الدروس منها. بيد أن هذه الأدبيات أعادت التأكيد بأنه ليس ثمة تجربتين متطابقتين في عملية الانتقال إلى الديمقراطية، وعلى أنه لاتوجد نماذج جاهزة يمكن تصديرها من دولة إلى أخرى. فكل مجتمع يجب أن يعثر على طريقه الخاص لمواجهة التحديات السياسية، وأن يبتدع التوافقات والمؤسسات التي تلائم على نحو أفضل ظروفه الخاصة.
ومع ذلك، لاشك أن ثمة فائدة من استطلاع وتحرّي هذا الحقل الواسع من عمليات الانتقال الديمقراطي. وهنا، لعل في جعبة علم السياسة ما يقدِّمه لعالم السياسة الواقعية.
هذا الموضوع الخاص بعملية الانتقال تناوله مفكرون من أمثال دانكوورت روستو، وغيارمو أودونيل، وجوان لينز، وألفرد ستيبان، وأرند لايبهارت، وغيرهم. ومن خلال مراجعة هذه الأعمال، يمكن استخلاص بعض الافكار والملاحظات.
أولاً، وكما اسلفنا، إن إلحاق الهزيمة بنظام سلطوي لايعني الوصول إلى الديمقراطية. فالعديد من دول العالم أطاحت نظماً سلطوية، لكنها انحدرت إلى الحرب الأهلية، أو انضمت إلى خانة الدول المنهارة، أو استُبدِلت بديكتاتورية أخرى. ثمة خطر من هذا النوع الآن مثلاً في ليبيا، واليمن، وسوريا.
إن الديمقراطية ليست غياب السلطوية، بل هي تكمن في إقامة مروحة معقّدة من المؤسسات السياسية المُعزَّزة بمجتمع تعددي منفتح، ومجتمع مدني حيوي، وسلطة قضائية قوية، وإعلام حر، وعناصر أساسية أخرى.
ثمة فكرة رئيسة ثانية من التجارب العالمية، وهي أنه حتى لو تمت إقامة ديمقراطية، فإن هذا لن يكون الأمر نفسه كما امتلاك القدرة على الحفاظ على هذه الديمقراطية وضمان استقرارها. فالظروف التي تُحقق الدمقرطة ليست هي نفسها التي تضمن بقاءها على المدى الطويل.
فإنه يمكن تحقيق الديمقراطية عبر الاخضاع العسكري كما حصل في اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الاخضاع العسكري، كما أظهرت حالة العراق، قد لايخلق الظروف الخاصة بتأمين بروز ديمقراطية آمنة ومستقرة.
لقد مرّت أميركا اللاتينية، وأوروبا، وإفريقيا وحتى العالم العربي، في مراحل مبكِّرة من الدمقرطة، لكن العديد من حكوماتها الديمقراطية ضعفت وانهارت في وجه تحديات أكبر. فالديمقراطية تحتاج على الأقل إلى جيل كامل كي تستقر . ثم أنها تتطلَّب اهتماماً وتطوراً متواصلين لضمان أنها ستبقى ديناميكية وحيوية.
إن الديمقراطية ليست نهاية المطاف، بل هي عمل مستمر ومتواصل. وهذه نقطة هامة يجب أن نبقيها في الذهن، حتى ونحن نحبو خطواتنا الأولى نحو إقامة الديمقراطية في مصر وتونس وليبيا وأجزاء أخرى من عالمنا العربي.
هل تستطيع التجارب العالمية أن تضفي الضوء على سرعة ربيعنا العربي؟ وكيف أنه في غضون أشهر قليلة حصل كل هذا الحراك؟
ربما تستطيع هذه التجارب ذلك. فالدمقرطة غالباً ما حدثت في مناطق عدة في شكل موجات مفاجئة. وعلى سبيل المثال، ثورات 1848 اجتاحت كل العواصم الأوروبية تقريبا، وهذا كان بالطبع قبل عصر الأنترنت، وحتى قبل عصر الراديو والتلفزيون. وفي حقبة السبعينيات، أثارت التغييرات في البرازيل تغيرّات مماثلة في طول أميركا اللاتينية وعرضها. وفي العام 1989 أدى سقوط جدار برلين إلى تهاوي الحكومات في كل أوروبا الشرقية والوسطى. وفي التسعينيات، انتشرت موجة الدمقرطة كبقعة الزيت من دولة إلى أخرى في إفريقيا.
إن ظاهرة الموجة قد تعكس التغيُّر المفاجيء في موازين القوى، حين يُدرك المواطنون أن لديهم قضية مشتركة وأنهم يمتلكون القدرة على تغيير الأمور، وحين تدرك النخب التي كانت تدعم الأنظمة السلطوية بأن هذه الأنظمة ليست حصينة ومنيعة فتبدأ بالتخلي عنها. والواقع أن موجة الربيع العربي لاتختلف كلّياً عن باقي الموجات التي غيّرت أصقاع أخرى من العالم.
لكن، هل انتهجت البلدان طريقاً متشابهاً نحو الديمقراطية؟. كلا. الطرق كانت متعددة. لا بل حدّد أحد الباحثين وجود عشر طرق مختلفة على الأقل. قد تأتي الديمقراطية كنتيجة لثورة شعبية، لكن في حالات أخرى تكون خياراً من جانب عناصر في النظام السلطوي كما كان الأمر في البرازيل، وإسبانيا، واليونان، أو كحصيلة لتدخل عسكري أجنبي كما في ألمانيا واليابان. لكن ما هو مشترك في كل هذه التجارب هو أنه كي تنجح الديمقراطية وتتجذّر، يجب أن يتوافر لها عدد من العوامل الهامة.
بالأخص، إن طبيعة البنى السياسية والاجتماعية- الاقتصادية السابقة في البلد هامة جداً. والأهم هو الوحدة الوطنية. فالديمقراطية هي حكم الشعب. وإذا لم يكن ثمة اتفاق عمّن هو "الشعب"، فسيكون من الصعب للغاية إقامة ديمقراطية مستقرة. لقد أقامت تركيا ديمقراطية ولكن هذا حدث فقط بعد أن استُبعد الأرمن والمسيحيين من اصل يوناني، وهي لم تقرر بعد ما إذا كان الأكراد مواطنين كاملي المواطنة أم لا. وأوروبا حققت تقدماً مذهلاً في مجال التطور السياسي والاجتماعي- الاقتصادي، لكنها لم تكن قادرة على التعامل مع قضية اليهود سابقاً، ولاهي ناجحة الآن في دمج المواطنين المسلمين. إن القومية والديمقراطية يمكن أن تُزعزعا أو تُعززا بعضهما البعض.
حين تتعاطى الديمقراطية مع الانقسامات الداخلية عبر تقاسم السلطة، كما في لبنان أو حتى في العراق الحديث، فإن هذا يؤدي غالباً إلى الحفاظ على الانقسامات الداخلية وإلى إعادة انتاجها، بدل العمل على حلِّها. وبالنسبة إلى دول مثل مصر أو سوريا، حيث توجد مستويات مختلفة من التنوع الطائفي او الاثني، أـو في بلدان مثل ليبيا واليمن، حيث توجد الانقسامات القبلية، فإن التشديد على بناء الوحدة الوطنية والحفاظ عليها هو حجر الزاوية للنجاح في بناء الديمقراطية.
علاوة على الوحدة الوطنية، تتطلّب الديمقراطية المستقرة تقاليد دستورية وقانونية، ومؤسسات انتخابية، وتعددية سياسية، وبيروقراطية فاعلة، ومؤسسات أمن قومي، ومجتمع مدني حيوي، وسلطة قضائية قوية، وإعلام حر، وبعض مؤسسات النشاط الاقتصادي الحر. وفي البلدان التي كانت توجد فيها العديد من هذه المؤسسات في الأنظمة السابقة، فإن إقامة الديمقراطية وتحقيق استقرارها يكونان أمراً أكثر يُسرا من بلدان تفتقد لهذا الماضي.
وعلى سبيل المثال، في السنوات الأخيرة لحكم الجنرال فرانكو في إسبانيا، كانت تتوافر العديد من هذه الظروف والمؤسسات. ولذلك، حين توفي فرانكو لم يكن يتطلَّب الأمر سوى نقل السلطة السياسية من فرانكو إلى مسؤول مُنتخب، حيث أن معظم بقية المؤسسات كانت موجودة.
بينما في رومانيا تشاوشيسكو، لم يكن هناك أي من هذه المؤسسات حين تمّت الإطاحة بهذا الديكتاتور. وبالتالي، تعيّن على الحكومات الجديدة أن تعيد بناء مؤسسات البلاد السياسية، والقضائية، والمدنية، والإعلامية، والاقتصادية من الصفر.
تتمتع مصر بالعديد من الشروط المُسبقة التي أتينا على ذكرها- أي التقاليد الدستورية والقانونية، والتعددية الحزبية، والخبرة في الانتخابات، وصحافة حيوية، ومجتمع مدني، وعناصر من الحياة الاقتصادية الديناميكية- وبدأت مصر حياتها السياسية الدستورية منذ القرن التاسع عشر. بيد أن ليبيا تفتقد إلى مثل هذه الظروف. في مصر، كما في البرتغال، وإسبانيا واليونان أو البرازيل، المهمة تكمن في التركيز على نقل السلطة من الديكتاتور إلى مسؤولين مُنتخبين، وفي تمكين مؤسسسات انتخابية وهيئات منتخبة كانت موجودة إلى حد كبير. أما في ليبيا، كما في رومانيا بعد تشاوشسكو أو في هاييتي بعد دوفالييه، فالتحدي أكبر بكثير وهو إعادة بناء مؤسسات المجتمع والدولة برمتها.
بكلمات أخرى، قائمة المهام التي يتعيَّن على الانظمة الديمقراطية الجديدة تحقيقها، تعتمد كثيراً على الظروف التي كانت سائدة في النظام السابق. فحيث كانت مؤسسات الدولة والمؤسسات الاجتماعية متطورة بالفعل، تكون المهام أكثر محدودية؛ وحيث كان المجتمع والدولة متأخرين أو حتى متداعيين بفعل أعمال النظام السابق، تكون المهام أكبر وأصعب بكثير. وبالطبع، استقرار الديمقراطية في الحالات الأخيرة غير مؤكد والمخاطر أكبر بأن تفشل التجارب الديمقراطية وأن تكون عودة السلطوية في ظل قيادة مختلفة ممكنة تماما.
ثم أن طريقة أفول النظام السابق والتحرّك نحو عملية الانتقال هامة أيضا. فحيث يظهر التغيير بسبب قرار من داخل النظام نفسه ( كما في حالة البرازيل، والبرتغال، وإسبانيا، واليونان) يحتمل أن تكون عملية الانتقال أكثر سلاسة وديمومة؛ حيث أن النظام نفسه هو الذي يعرض التغيير ويضمن أن تمضي العملية قدماً إلى الأمام بدل مقاومتها. وهذا ماحدث، إلى حد ما، في الحالة التركية طيلة العديد من العقود.
في ربيعنا العربي ليس لدينا مثل هذه الظاهرة، لكن لدينا شيء قريب منها، فحالما نشبت الانتفاضات، على سبيل المثال في مصر وتونس، أدركت القوات المسلحة أنه يتعيَّن تفكيك الديكتاتورية وأن مصلحتها تكمن إلى حد كبير في أن تكون جزءاً من عملية التحوّل كي لا تكون ضحيّتها. لكن الخطر هنا هو أنه على رغم أن ذلك يساعد على ضمان الأمن والاستقرار خلال عملية الانتقال، إلا أنه قد يعرِّض عملية الدمقرطة نفسها إلى الخطر، لأن المؤسسة العسكرية قد تُصر على الحصول على حصة مستقلة من السلطة السياسية، وقد تقاوم الرقابة الديمقراطية عليها.
وهذا في الواقع كان جزء من مشكلة الانتقال التركي المديد إلى الديمقراطية. كما أنه كان تحدي كبير للعديد من الدول النامية التي تُواجه الحكومات الديمقراطية اليافعة فيها تداعيات سياسية أو اقتصادية، حيث أن الجيش- الذي لم يُخلِ كلياً الساحة السياسية - يدَّعي الحق في العودة إلى عرين السياسة مُتهماً الحكومات الديمقراطية بأنها غير فعّالة، فيعيد بالتالي إنتاج الحكم العسكري.
لكن هنا يجب أن نتذكَّر بأن السياسات الديمقراطية غالباً ما تتمحور حول الأزمات والتحديات- أي أن هذا هو النهج الطبيعي لمواجهة ثم حل الصعوبات في النظم الديمقراطية-. وبالتالي، عملية الانتقال إلى الديمقراطية يجب أن تكون كاملة وحاسمة في آخر المطاف؛ فهي لاتستطيع ـأن تكون منحة مؤقتة من القوات المسلحة يمكن له استعادتها حال بروز أولى علائم صعوبة ما.
تقول التجارب العالمية أيضاً انه في بعض الحالات، حيث يكون الانتقال نتيجة انتفاضة شعبية، تكون المحصلات مختلفة للغاية اعتماداً على ما إذا كانت الانتفاضات سلمية أو مسلّحة، موحّدة أو متشظية. ففي الحالات التي تكون فيها الانتفاضات سلمية، كما في معظم أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية والفليليبين الخ، كانت عمليات الانتقال أكثر ديمومة، حيث تم الحفاظ على احتكار الدولة للقوة المسلحة وبقيت السياسة غير عنفية. وفي الحالات التي كانت فيها الانتفاضات مسلحة كما في كوستاريكا أو بوليفيا أو حتى في كوبا كاسترو، انتهى الأمر بالنخب الحاكمة الجديدة إلى الاعتماد على القوة المسلحة والاخضاع بالقوة للحفاظ على السلطة.
هذا ليس أمراً حتمياً، لكنه جرس إنذار هام ينبهُنا إلى حالات كما في ليبيا الآن حيث الانتفاضة كانت مسلحة، وفي سوريا حيث قد تلجأ المعارضة، إذا ما فشلت في تحقيق التغيير سلماً، إلى امتشاق السلاح. وبالطبع، وحيث كانت معارضة الحكم السلطوي مسلحة ومتشظية في آن كما في العراق الحديث، فأن المخاطر تكون أضخم بكثير.
كذلك، ما يرتدي أهمية فائقة في التجارب العالمية هو نجاح أو فشل مراحل الانتقال الديمقراطي في هندسة عملية الانتقال نفسها.
فأولاً، ثمة الكثير من الجدل حول متى يبدأ "الانتقال" ومتى ينتهي. هل هو يبدأ حين يُطاح بالديكتاتور، وينتهي حين تُجرى أول انتخابات حرة ونزيهة؟ أم أنها تبدأ حين تبدأ عملية إطاحة الديكتاتور وتنتهي حين تستقر الديمقراطية في خاتمة المطاف وتكون ناجزة؟
هذه قد تكون نقاشات تتعلّق بعلم معاني اللغة وربما لا يمكن تسويتها بشكل مرضٍ للجميع، لكن من الهام هنا الملاحظة، رغم ذلك، أن المرحلة الانتقالية تتضمَّن أحداثاً رئيسة كوضع دستور جديد، وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة، وتمكين المجالس والمسؤولين المنتخبين؛ وبأن الديمقراطية قد تبدأ مع إجراء أول انتخابات حقيقية تتضمن تنافساً على مواقع لها صلاحيات حقيقية. لكن لا يمكن القول بأن العملية استقرّت إلا بعد إجراء العديد من الانتخابات، وإلا بعد أن يصل المجتمع إلى توازن جديد وإلى الاندماج مع مؤسساته الديمقراطية الجديدة.
كما أن ثمة عاملاً رئيساً في عملية الانتقال في تجارب دول اخرى في العالم هي طبيعة وهوية الحكومة الانتقالية أو السلطة التي تدير هذه العملية.
إن الطريقة التي يتم فيها التعامل مع هذه العوامل الانتقالية، هي مفتاح الحصيلة النهائية للعملية الانتقالية نفسها. فالنهج العام للتغيُّر السياسي قد تتحكَّم به ظروف تاريخية وبنيوية عميقة من الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكن في العملية الانتقالية نفسها غالباً ما تكون القرارات والخيارات التي يتخذها قادة أفراد ومجموعات هي الحصيلة الحاسمة.
ثم أن طبيعة السلطة الانتقالية وهويتها لها بالطبع أهمية كبرى. والأمر هذا لايتعلَّق بما إذا كانت هذه السلطة مدنية أو عسكرية – على رغم أن السلطات العسكرية تمتلك الوسائل للحفاظ على الممارسات السلطوية أكثر من الشخصيات المدنية الجديدة- بل يتعلّق من باب أولى بالقرارات والخيارات التي يتخذها هؤلاء الأفراد في السلطات الجديدة.
وهكذا، فإن بعض ضباط الجيوش البرازيلية والبرتغالية واليونانية دفعوا باتجاه الديمقراطية، فيما قادة مدنيون في حالات أخرى، بما في ذلك البرازيل وإسبانيا والفيليبين وأندونيسيا ودول أخرى، دفعوا باتجاه استمرارية السلطوية.
المهمة الرئيس للسلطة الانتقالية هي تدبَّر أمر هذه العملية من لحظة انتهاء الحكم القديم إلى بداية صعود المسؤولين الجدد المنتخبين. وفي الحالات التي تبقى فيها الدولة والمجتمع متماسكين، حيث لايتطلب الأمر سوى ترحيل الرئيس القديم وتعديل الدستور وانتخاب رئيس وبرلمان جديدين، تبدو المهمة سهلة نسبيا. لكن في الحالات التي تنهار فيها الدولة وتُدمَّر مؤسسات المجتمع والاقتصاد (أو لاتكون هذه المؤسسات أصلاً متطوِّرة حقاً) تكون المهمة أصعب بما لايُقاس.
على أي حال، تبقى العناصر الرئيسة في عملية الانتقال هي الاتفاق على دستور جديد وإقامة سلطات جديدة منتخبة.
في خلال وضع مسودة الدستور أو العمل على تعديله، تبين في تجارب الآخرين ان آلية التعديل هي بأهمية مضمون التغيير تقريباً. ففي مجال آلية التعديل، إن لم يأتِ التعديل كحصيلة لمشاورات واسعة وآلية متوافق عليها وقبول شعبي عام، قد يُعتبر أفضل الدساتير غير شرعي وقد يفشل في لعب دوره كوثيقة ناظمة للممجتمع السياسي. والبلدان التي وضعت فيها هيئات منتخبة بالكامل هذه الدساتير ، مع توافر حيِّز وفير من الوقت للنقاشات والمشاورات، ومن ثَمَ صودق عليها في استفتاء عام، كانت هذه الدساتير أكثر ديمومة. أما الدساتير التي وُضِعت على عجل وفُرضت من دون مشاورات وقبول واسعين، فقد أثبتت أنها الأضعف.
وفي ما يتعلَّق بالمضمون، ثمة الكثير من النقاشات في العالم حول ما إذا كانت الديمقراطية تُمثِّل إجماعاً سياسياً ، أو مجرد إجماع على كيفية التعاطي مع الخلافات. والواقع أن هذا الرأي الأخير (أي الاتفاق على كيفية التعاطي مع الخلافات) هو الأقرب إلى الحقيقة.
فالديمقراطية هي مجموعة من المؤسسات التي صُمِّمت انطلاقاً من الافتراض أن المجتمع تعددي وأن الإجماع حول كل القضايا أمر مستحيل. الديمقراطية هي مجموعة من القواعد والمؤسسات التي يتجسد دورها في احتواء وتدبُّر أمر التعددية والاختلاف في الرأي. لكن مع ذلك، يجب أن نتذكّر هنا أن هذا يفترض وجود وحدة وطنية وعلى الأقل اتفاق وإجماع على قواعد العملية الديمقراطية.
والحال أن الهدف الرئيس من وضع أو تعديل الدستور في عمليات الانتقال الديمقراطية، لايمكن في السعي إلى الاتفاق على كل مبدأ أو هدف سياسي واجتماعي- اقتصادي، بل في إقامة مروحة من المؤسسات والقواعد التي تستوعب الخلاقات، وتمكِّن رأي الأغلبية، وتحمي آراء الأقلية .
وفي هذا السياق، الدساتير الديمقراطية خريطة طريق لتنظيم الحياة السياسة التعددية والتنافسية، وليست كبرنامج حزب يضع خط سياسي واحد.
من بين الأنظمة الدستورية، اختارت معظم البلدان في اول مرحلة مابعد المرحلة الانتقالية الأنظمة البرلمانية لا الرئاسية. هذا كان الحال، على سبيل المثال، بالنسبة إلى معظم الدول في أوروبا الوسطى التي انتقلت من السلطوية الشيوعية إلى الديمقراطية.
والسبب هو أنه في الانظمة البرلمانية تشعر معظم الأحزاب بأنها متمكِّنة ومنخرطة؛ هذا في حين أنه في الأنظمة الرئاسية ثمة خطر بإعادة تمركز السلطة في أيدي حفنة قليلة من الأشخاص، وينتهي الأمر بالعديد من الأحزاب بأن تشعر بأنها استُبعِدت وهُمِّشت ثانية. هذا لايعني أن الأنظمة الرئاسية لاتستطيع النجاح في تعزبز العملية الانتقالية، لكن يتعيّن عليها ان تبذل جهوداً مضاعفة لضم مختلف الأحزاب إلى حكوماتها، ومقاومة إغراء إعادة إنتاج التمركز في السلطة السياسية الذي كان موجوداً قبل عملية الانتقال.
علاوة على ذلك، التعاطي مع قوة الجيش غالباً ماكانت تحدياً دستورياً كبيراً في عملية الانتقال. وكما هو معروف، الهدف النهائي لكل الديمقراطيات هو أن يرضخ الذراع المسلّح للدولة إلى سلطة المسؤولين المُنتخبين من الشعب. في عملية الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية، يبقى للجيش غالباً نفوذ كبير.
وقد تعاطت بعض البلدان مع هذا الأمر بإقامة مجلس للأمن القومي كما في تركيا، حيث تم تأطير وتحديد دور الجيش. لكن الحقيقة أنه ليس ثمة حلولاً سحرية لهذا التحدي المُتمثِّل في إخضاع القوات المسلحة إلى السيطرة المدنية الديمقراطية، لكن من الهام الملاحظة أن هذا الهدف، كهدف نهائي على الأمد الطويل، لايجب أن يكون موضع جدل، بيد أن تحقيقه قد يتطلّب فترة انتقالية لتنظيم العلاقات المدنية- العسكرية، في إطار بعض القواعد المتفق عليها.
إن الفهم الضيِّق لعملية الانتقال يميل إلى اعتبار الانتخابات الحقيقية هي الهدف النهائي. بالطبع، كلٌ من عملية ادارة الانتخابات كما هيكلية الانظمة الانتخابية هي في غاية الأهمية. ففي ما يتعلّق بادارة العملية، قد لا تكون الانتخابات جديدة للبلاد (في الواقع، العديد من الحكومات السلطوية في العالم العربي وأماكن أخرى أجرت انتخابات مرارا) لكن أهمية هذه الانتخابات الجديدة هي أنها يجب أن تجري في بيئة عادلة وغير أكراهية بإشراف هيئة محايدة وموثوقة، وتستند إلى قوائم ناخبين صحيحة، وتؤدي إلى نتائج يمكن فرزها بطريقة شفافة.
وفي مايتعلّق بالهيكلية، فإن معظم بلدان ما بعد المرحلة الانتقالية اختارت التمثيل النسبي لا النظام الأكثري. ففي هذه البلدان، لم يكن للمجتمع في السابق فرصة للتنظُّم سياسياً، فيما نخب النظام السابق توفَّرت لها عقود مديدة لتعزيز قوتها وقواعد دعمها بطريقة زبائنية. ولذا، فإن التمثيل النسبي يسمح بتفتُّح الحياة السياسية وازدهارها ، كما يسفر عن دمج أوسع بكثير للمجتمع في مؤسسات الدولة الديمقراطية الجديدة.
وحالما يتم انتخاب برلمانات وحكومات جديدة، يتمثَّل التحدي الرئيس في القيام بالمهام التي تُعزز الديمقراطية الجديدة. هذه المهام ستتباين وفقاً لظروف كل دولة ومجتمع. ففي الحالات التي تكون فيها الوحدة الوطنية مترنِّحة، تكون المهمة العليا ذات الأولوية القصوى هي إعادة بناء هذه الوحدة. وفي البلدان التي يفتقد فيها المجتمع إلى مؤسسات المجتمع المدني والحياة السياسية، ستكون الأولوية القصوى هي بناء العناصر الاجتماعية- السياسية.
أما في البلدان التي يُعتبر فيها المجتمع متطوراً بشكل جيِّد لكن مؤسسات الدولة تعرَّضت إلى السلب والنهب والاغتصاب، فإن بناء الدولة سيكون هو الهم الرئيس. وفي البلدان حيث الدولة والمجتمع متطوران لكن الاقتصاد في أزمة، كما قد يصف البعض حالة مصر على سبيل المثال، فيجب أن تكون اليد العليا للأهداف الاقتصادية.
على أي حال، أثبتت التجارب العالمية لمراحل الانتقال، من البيرو إلى أوكرانيا، أنها كانت دوماً معقدة، وصعبة، وتفرض تحديات جمّة. وفي غالب الأحيان، كانت هذه البلدان تتقدّم خطوة إلى الأمام لتتراجع خطوتين إلى الوراء، وهذا مع أثمان اقتصادية واجتماعية باهظة في البداية، لأن مايجري يُمثِّل قطيعة مع مسار مستقر سابق. لكن، في معظم الـ 120 حالة من حالات الانتقال في العالم، أثبت خيار الشعب للديمقراطية أنه الخيار الصحيح، فتغلَّب على التحديات التي فرضها هذا المسار، وثابر وجالد ليصبح هو المبدأ الناظم للحياة السياسية.
في العالم العربي، قمنا للتو باتخاذ خطوات هامة، وإن متأخرة، نحو الديمقراطية. ومصر وتونس ربما تتقدمان في هذا المجال على غيرهما من البلدان. فهما بالفعل في خضم مرحلة انتقالية. وخلال الاسابيع القليلة الماضية بدأت ليبيا، كما هو مأمول، في ملامسة نقطة التحوّل الرئيس نحو الديمقراطية. واليمن وسوريا تكابدان عناء أزمة عميقة، حيث يتصارع الشعبان والنظامان لتحديد ما إذا كان الانتقال ممكناً أم لا.
صحيح أن الربيع العربي أثّر في معظمه على الجمهوريات العربية، لكن المّلّكِيَات العربية ليست محصَّنة ضده. فملك المغرب، على سبيل المثال، أدرك أن التحرُّك نحو الملكية الدستورية هو سهم التاريخ وقام بخطوات هامة، وإن جزئية، نحوه. لكن في الخليج، لاتزال تسود حالة من الرفض والإنكار. فالمطالب من أجل الإصلاح في البحرين قُمِعت بالقوة ، والعديدون في الخليج، بما في ذلك في السعودية، لازالوا يعتقدون أنه ليس ثمة حل وسط ما بين الحكم الملكي المطلق وبين التمثيل الديمقراطي.
بالطبع، لانستطيع من خلال هذا الاستعراض للتجارب العالمية أن نخرج (كما ألمعنا في البداية) بوصفات جاهزة لعمليات انتقال ناجحة، أو نماذج راسخة للتصدير. وعلى أي حال، ليس هذا هو الهدف. لكن، ما يعرضه العالم هو مروحة واسعة وغنيّة من التجارب المعقدة التي يمكن لنا أن نتفكّر فيها. ففي تجربة البرازيل وإسبانيا والمجر والهند، ثمة الكثير لنتعلّم منه؛ وفي المراحل الانتقالية في جنوب إفريقيا والفيليبين وأوكرانيا والأرجنتين هناك الكثير من التماثلات والإختلافات مع حالاتنا العربية الخاصة. وحتى في داخل العالم العربي، الاختلافات بين الحالات قد تكون أكثر من التماثلات.
لكن في وسعنا بالإجمال أن نستقي الثقة من التجارب العالمية بأن المسيرة نحو الديمقراطية هي في الواقع مسيرة تاريخية؛ مسيرة يرٌجّح كثيراً أن تنجح لا أن تفشل.
ونحن هنا نلحظ تقديراً وتثميناً للحاجة إلى الوحدة الوطنية، وإلى توكيد أهمية الحفاظ أو إعادة بناء المؤسسات الاجتماعية الرئيسة مثل المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، والإعلام، وغيرها، وإلى وعي الحاجة إلى مؤسسات دولة قوية تتمثّل في جهاز قضائي منيع، وبيروقراطية فعّالة، وقوات مسلحة مسؤولة وخاضعة للمحاسبة.
إن عملية الانتقال، بمعنى ما، هي ومضة في التاريخ. لكن بناء ديمقراطية قوية وذات ديمومة هي عمل أجيال. ونجاح العملية الانتقالية قد يُحدد نجاح أو فشل الديمقراطية الوليدة. إن القرارات التي تُتخذ في هذه المرحلة ستلقي بظلالها إلى أمد بعيد على الأجيال المستقبلية.
ومن شأن دستور مدروس ومتوافق عليه أن يكون المفتاح لتحقيق النجاح الديمقراطي؛ كما أن إجراء أول انتخابات حرّة حقاً وذات معنى للتنافس على المناصب العليا في الدولة، قد تكون الخطوة التي سيُصبغ بألوانها كل ما سيأتي بعدها في مجال السياسة.
في دراسات ومداخلات أخرى، يمكن للباحث أن يغوص بشكل أعمق في التجارب العالمية المتعلقة بالنماذج الدستورية أو الانتخابية، أو بدور الجيش في السياسة، أو بدور نخب رجال الأعمال والاقتصاديين في مرحلة ما بعد العملية الانتقالية. كما يمكن استقاء دروس محددة من الامثلة التي قد تكون أقرب إلى تجاربنا، على غرار تركيا أو إندونيسيا، على سبيل المثال.
لكن غرضي في هذه المداخلة كان لفت الانتباه إلى مدى عمق واتِّساع التجارب العالمية في مجال الدمقرطة، بما يوضح أننا لسنا وحيدين في هذا المضمار، وبأن لدينا الكثير لنكسبه من النقاشات المتواصلة والتعاون مع الأصدقاء من كل أنحاء العالم، وبأن هناك بحراً لجُباً من أدبيات علم السياسة حول المراحل الانتقالية.
كما كان هدفنا أيضاً الإشارة إلى أنه ليس ثمة تعويذة سحرية، ولاطريقاً مختصراً إلى الديمقراطية، ولا صيغة تمكننا من تجنُّب العمل الشاق في كل بلد، أـو من تجنُّب مواجهة القضايا والتحديات الخاصة وعدم ابتكار وسائل مواجهتها. فلا بد من قبول الاختلافات حول المقاربات والآراء، واحترام حق الآخر بأن يكون مختلفا، و بلورة عملية سياسية جديدة نستطيع جميعاً أن نشارك فيها ونستطيع في خضمّها أن نختار قادتنا، وأن نتخذ قراراتنا الخاصة، وأن نتحمّل مسؤولية صحة مجتمعنا، كما حكوماتنا.
إن تحدي الديمقراطية معقّد وصعب حقاً، لكن الشعوب في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا وغيرها من البلدان العربية، أظهرت أن الديمقراطية تستأهل الكثير من التضحيات. وفي الحقيقة، الشعوب العربية هي الآن التي تسطر كتابها الخاص حول الدمقرطة، فيماهي تشق طريقها قدماً إلى الأمام.
المراجع:
Lisa Anderson, ed., Transitions to Democracy. Columbia univ. Press. 1999.
Juan Linz, “Transitions to Democracy”, 1990. The Washington Quarterly, 13:3, 143-164.
Juan Linz and Alfred Stepan, Problems of Democratic Transition and Consolidation: Southern Europe, South America, and post-Communist Europe, Johns Hopkins Univ. Press, 1996.
Guillermo O’Donell, Philippe Schmitter, and Laurence Whitehead, Transitions from Authoritarian Rule: Latin America, Johns Hopkins Univ. Press, 1986.
Guillermo O’Donell, et al., Transitions from Authoritarian Rule: Comparative Perspectives, Johns Hopkins Univ. Press, 1986.
Dankwart Rustow, “Transitions to Democracy: Toward a Dynamic Model”. Comparative Politics. 1970.