السياسة العسكرية في ليبيا: تقدم نحو الماضي؟

تزيد الأزمة في ليبيا مخاطر التقسيم والحرب الأهلية. ولكنّ حلّاً ناجحاً من شأنه أن يحوّل أخيراً الديناميكيات العسكرية في ليبيا إلى الاندماج في جيش وطني موحّد.

نشرت من قبل
الحياة
 on ٢٩ مايو ٢٠١٤

المصدر: الحياة

شُبّهت الحملة العسكرية التي شنّها رئيس هيئة الأركان السابق في ليبيا الجنرال خليفة حفتر في 16 أيار/مايو للإطاحة بالقوى الإسلامية التي تهيمن على المؤتمر العام الوطني بعزل قائد القوات المسلحة وزير الدفاع المصري الجنرال عبدالفتاح السيسي الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين الحاكمة في مصر في تموز/يوليو 2013. وعلى المنوال نفسه اتَّهم حفتر حزب العدالة والبناء التابع لجماعة الإخوان الليبية و كتلة "الوفاء للشهداء" البرلمانية الإسلامية الأكثر تحفّظاً بـ "تعزيز الإرهاب"، ودعا السلطة القضائية لتشكيل حكومة طوارئ والإشراف على انتخابات برلمانية جديدة. كما ردّد رئيس الشرطة العسكرية العقيد مختار فرنانة، أحد الحلفاء الرئيسيين لحفتر، ما قاله السيسي في مصر حيث أكّد على أن تحركهم جاء استجابة لـ "اختيار الشعب " وليس انقلاباً.

غير أن أوجه التشابه هذه تبدو سطحية وتنتهي عند هذا الحدّ. فالسياسة العسكرية التي تزداد تعقيداً، وتتمحور حول الصراع الذي يرمي إلى تحديد طبيعة القوات المسلحة الممزّقة والسيطرة عليها، هي التي أوصلت العملية الانتقالية في ليبيا إلى نقطة الانهيار. و يأتي ذلك على خلفية إخفاق السلطات الانتقالية في نزع سلاح و تسريح المليشيات الثورية القوية المتعددة أو دمجها في القوات المسلحة الوطنية، و في خلق فرص العمل و توفير الأمن و إنفاذ القانون بالسبل غير العسكرية.

تستند حركة حفتر إلى مشاعر الضغينة و شبكات الضباط المعهودة، و لا تغيّر بشكل أساسي الأنماط و العلاقات العسكرية السياسية التي أعاقت العملية الانتقالية حتى الآن. في المدى القريب، تزيد كثيراً من مخاطر اندلاع حرب أهلية. و يمكن لها في المدى الأبعد، في حالة مثالية، أن ترغم الأحزاب السياسية و المليشيات الثورية المتناحرة لتنطلق باتجاه الاندماج في جيش وطني موحد. غير أن الفشل، الذي يبقى أكثر ترجيحا، من شأنه أن يعيد ليبيا إلى توترات و خصومات عقدي الخمسينات و الستينات  التي انتهت إلى الانقلاب الذي قام به العقيد معمر القذافي.

تم تعطيل السياسة العسكرية الليبية بصورة كبيرة خلال السنوات العشرين الأخيرة من حكم العقيد معمر القذافي، بعد أن أزاح أو حيّد جميع منافسيه. فقد جرى تهميش القوات المسلحة سياسياً وإضعافها عملياً، وطغت عليها مجموعة من الأجهزة الأمنية وقوات حماية النظام الجديدة. غير أن سقوط القذافي أطلق العنان لديناميات جديدة تطوّرت باستمرار منذ ذلك الحين. وقد تشكّلت الانقسامات والتحالفات بين مختلف الجهات الفاعلة العسكرية ونظيراتها المدنية في هياكل الحكم الانتقالي والأحزاب السياسية التي تشكّلت حديثاً على أسس إقليمية/جهوية وقبلية ومؤسّسية مألوفة، ولكنها تتجاوزها الآن أيضاً بطرق جديدة.

ويكشف تحرك ضباط عهد القذافي ذلك بوضوح. فحفتر والعديد من كبار مؤيديه هم من بنغازي أو من مدن شرقية أخرى، ما يفسر دعم القوات الخاصة و سلاح الجو العلني له، بينما يزعم فرنانة تمثيل "المجلس العسكري للمنطقة الغربية" المستند إلى ميليشيات نفوسة-زنتان القوية. وقد نظّم الاثنان سلسلة "المؤتمرات الاستثنائية للجيش الليبي" التي أسفرت عن تشكيل "تجمع الضباط الليبيين الأحرار" في نيسان/أبريل 2013، و أعلنا أخيراً عن تشكيل المجلس العسكري الأعلى لمضاهاة الأركان العامة التي مقرها طرابلس الغرب.

أما خصوم حفتر فيتّهمونه ورفاقَه بالسعي لاستعادة النظام القديم، ولا ريب أن تحالفه حظي بدعم متزايد في أوساط الجنود وضباط الصف من عهد القذافي. غير أن مشاعر الاستياء إزاء التهميش الكامل تتجاوز المعسكرين الموالي والمناهض للقذافي، لأنهما مستهدفان بقانون العزل السياسي الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، الذي يحظر على أعضاء النظام السابق تولّي الوظائف العامة لمدة عشر سنوات. بالإضافة إلى ذلك لدى المعسكرين قضية مشتركة تتمثّل في رغبتهما بوضع حدّ لعمليات الاغتيال المتواصلة لكبار ضباط الجيش والمخابرات، ومسؤولين حكوميين كبار آخرين. كما دفع ذلك بنائب رئيس هيئة الأركان السابق سالم جنيدي، الذي استقال من منصبه في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 احتجاجا على استمرار سلطة الميليشيات الثورية، و بوزير الدفاع عبدالله الثنّي، الذي يشغل حالياً منصب رئيس الوزراء المكلف، بالانضمام إلى صفوف المعسكر نفسه. و كون جنيدي والثنّي يتحدّران من منطقة الحدود الغربية في ليبيا يؤكّد على الطبيعة الإقليمية المتقاطعة لتحالف الضباط.

ثمّة أيضاً معسكر ثانٍ مستند إلى مؤسّسات الدولة الرسمية، لكنه اعتمد هياكل أمنية "هجينة" منذ العام 2011. من بين رموزه اللواء يوسف منقوش، الذي شغل منصب نائب وزير الدفاع المؤقّت إلى أن تم تعيينه رئيساً للأركان في كانون الثاني/يناير 2012، وخليفته اللواء عبدالسلام جادالله العبيدي، الذي تولّى المنصب في آب/أغسطس 2013. و اذ افتقرا إلى قاعدة مؤسسية قوية داخل الجيش، فقد اضطرا إلى التعامل مع قوات درع ليبيا، و هي الإطار الجديد الذي دفعت به مليشيات مصراته القوية في غرب ليبيا لدمج العديد من المليشيات الثورية التي ظهرت خلال و بعد انتفاضة العام 2011 ضد القذافي. و قد أثار هذا، أيضاً، استياءً عميقاً لدى الكثيرين في القوات المسلحة النظامية.

يبدو واضحاً أن السياسة العسكرية الناشئة تتمحور جزئياً حول المناصب الرسمية مثل منصب رئيس الأركان، الذي يعمل باعتباره إحدى الواجهات العديدة بين مختلف الجماعات المسلحة على الأرض ووزارة الدفاع والمؤتمر الوطني العام. وتنطبق الديناميكية نفسها أيضاً على المعسكر الثالث التي تشكّل منذ العام 2011، والذي يتمحور من الناحية المؤسّسية حول وزارة الدفاع و يضمّ أيضاً الميليشيات الثورية. فقد ألغى القذافي الوزارة في العام 1991، ولكن منذ إحيائها في العام 2011 سيطر عليها أشخاص من زنتان و مليشيات مقرّبة معادية للإسلاميين، فيما تمسّك كل من صادق مبروك وخالد الشريف، وكلاهما عضو قيادي سابق في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة التي تأسّست في العام 1995، بمنصب وكيل الوزارة.

استند مبروك والشريف إلى هذا الموقع لجذب الميليشيات الثورية المتحالفة معهما لتشكيل الوحدات الرسمية الجديدة والإشراف عليها، مثل حرس الحدود والحرس الوطني. كما أن رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين متحالف أيضاً مع هذا المعسكر، حيث أيّد في تموز/يوليو 2013  قيام  "غرفة عمليات ثوار ليبيا" التي تضم ميليشيات إسلامية وأخرى متحالفة معها من مدينة مصراتة لمواجهة الكتل السياسية المتنافسة في طرابلس. وكما هو متوقع، فقد أمر أبو سهمين باعتقال حفتر بعد أيام على بدء حركته في أيار/مايو 2014، متجاهلاً مبادرة السلام التي طرحتها حكومة الثنّي في 19 أيار/مايو.

لا يبدو أن أياً من هذه التحالفات والأنماط ثابت. على سبيل المثال، أبو سهمين يتحدّر من الأقلية الأمازيغية في ليبيا، في حين أدرج زميله الأمازيغي أسامة الجويلي عدة كتائب ثورية من الزنتان في مرتبات وزارة الدفاع خلال فترة تولّيه منصب الوزير في 2011-2012. وبالمثل، بينما تم تشكيل حرس المنشآت النفطية من ثوار سابقين يخضعون لقيادة وزارة الدفاع، تهيمن ميليشيات الزنتان على فروعه الغربية والجنوبية الغربية، وفي أواخر العام 2013 انضمّ فرعه الشرقي إلى تمرّد قاده الفيدراليون الذين ساندوا حفتر في أيّار/مايو 2014.

وكما حصل في العام 2011، ربما تنقسم القوات المسلحة الليبية وتتمزّق مرة أخرى، ما يجعل قدرتها على البتّ في ميزان السطلة السياسية موضع شك إِلى حدّ بعيد. غير أن ضعف وتفكّك هيئات الإدارة المدنية في البلاد يشير إلى أن السياسة العسكرية هي التي ستوجّه حسم المناقشات الخلافية حول توزيع السلطة والثروة، على نحو يشبه كثيراً ما حدث في الانتقال من عهد الملكية إلى الجمهورية في العام 1969. لا تزال هذه المناقشات في حالة تقلّب مستمرّ، و زادها تعقيدا انخراط المليشيات الثورية القوية في المعادلة. لكن بقدر ما بشّرت السياسة العسكرية بالانتقال من النظام الملكي الذي جسّد هيمنة إقليم برقة إلى الجمهورية في عام 1969، فإنها قد تكون الآن وسيلة لكسر الجمود السياسي في ليبيا وإنهاء الإرث القبلي والإقليمي المدمر لعهد القذافي.

تم نشر هذا المقال في جريدة الحياة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.