القانون حين يصون حرية التعبير عن الرأي

يستند حق تناول أحكام القضاء بشأن قضايا الرأي العام إلى المصلحة المجتمعية المتمثلة في تمكين الناس من التعرف على وجهات نظر متعددة بشأن قضايا تشغلهم وممارسة حقهم الأصيل في مراقبة عمل سلطات الدولة ومن بينها السلطة القضائية.

نشرت من قبل
القدس العربي
 on ١ مايو ٢٠١٨

المصدر: القدس العربي

يضمن الحق في التعبير الحر عن الرأي للمواطن تناول أحكام القضاء المتعلقة بقضايا رأي عام بالتعليق والتساؤل والتفنيد والتقييم، شريطة عدم التورط في مناوءة المحاكم أثناء عملها أو التعرض للقضاة على أي نحو قد يمس السمعة والنزاهة والاحترام الشخصي والمهني.

فلسفيا وقانونيا، يستند حق تناول أحكام القضاء بشأن قضايا الرأي العام إلى المصلحة المجتمعية المتمثلة في تمكين الناس من التعرف على وجهات نظر متعددة بشأن قضايا تشغلهم وممارسة حقهم الأصيل في مراقبة عمل سلطات الدولة ومن بينها السلطة القضائية. فلسفيا وقانونيا، ينحو المشرع في سياق العهود الدولية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية كما القاضي في محاكم البلدان الديمقراطية إلى إرسـاء مبدأ حـق المواطن في مراقبة عمل سلطات الدولة عبر تمكينه من التعبير الحر عـن الرأي، والحصول الحر على المعلومات والأفكـار، وتـداولها دون خـوف مـن تعقب أو تـهديد أو عـقاب. وينبني على ذلك وفيما خص عمل السلطة القضائية الاعتماد على دور الصحافيين والإعلاميين والسياسيين في التعليق على أحكام القضاء بشأن قضايا الرأي العام دون مناوءة للمحاكم داخل قاعاتها أو انتقاد وتجريح القضاة، ويلزم من ثم بالتعامل مع الآراء العلنية لهذه الفئات على نحو يغلب اللين والتسامح على الغلظة والضيق لما لدورهم من أهمية في تحقيق الصالح العام والتمكين للنظام الديمقراطي.

أما حال تورط أفراد من المنتمين لفئات الصحافيين والإعلاميين والسياسيين في مناوءة المحاكم داخل قاعاتها ومن ثم تعويق إدارة العدالة أو في الإخلال بثقة الناس في القضاء عبر التعرض الشخصي للقضاة أو في تهديد حق المواطن في الحصول على محاكمة عدالة من خلال نشر وتداول ما يضر بفرضية «البراءة حتى تثبت الإدانة» ويسيء للسمعة الشخصية لمن يساءلون قضائيا، يصبح إنزال العقاب بالمتورطين إن في أمر من هذه الأمور أو فيها جميعا حتميا.

وهنا تغلب المحاكم فرض غرامات مالية على توقيع عقوبات سالبة للحرية.

وإذا كانت مهمة المشرع الوطني في البلدان الديمقراطية تعد مباشرة ويسيرة نسبيا عندما يأتي إلى تجريم «المناوءة الجنائية» للمحاكم والهيئات القضائية نظرا لارتباطها بأفعال وأقوال تحدث داخل قاعات المحاكم، فهو يواجه فلسفيا وقانونيا مهمة شاقة حين يأتي على تحديد معاني ومضامين «المناوءة المدنية» للمحاكم المرتبطة بأفعال وأقوال تحدث خارج قاعات المحاكم وعندما يبحث في العقوبات ذات الصلة.

تحدد النظم القضائية الديمقراطية أفعال وأقوال المناوءة المدنية للمحاكم على نحو حصري. في النظام القضائي البريطاني، يعد مبدأ «عدم جواز تدخل الأفراد في عمل الهيئات القضائية أثناء نظرها للقضايا» مكونا أساسيا ويستهدف الحيلولة دون الإخلال بحق الأفراد في محاكمات عادلة وحق القضاة في الحياد والتنزيه عن شبهات الانحياز.

أما في أستراليا، علما أن قوانينها لا تنص على جريمة «مناوءة المحاكم»، فقد جرت محاكم الدرجات المختلفة في أحكام عديدة على تغليب جانب حرية التعبير عن الرأي وقصر معنى «مناوءة المحاكم» على نشر مواد أو آراء من شأنها تعويق إدارة العدالة، ثم قصرت معنى تعويق إدارة العدالة على الإخلال بشرط المحاكمة العادلة الذي يكفل حقوق الأفراد أطراف النزاعات المنظورة. ثم يقدم النظام القضائي الأمريكي نموذجا إضافيا لتنظيم العلاقة بين إدارة العدالة والحق في التعبيرالحر عن الرأي وصون المصالح العامة ذات الصلة بالنظام الديمقراطي المتمثلة في تمكين الناس من تداول المعلومات والآراء ومن مراقبة عمل سلطات الدولة بما فيها السلطة القضائية على نحو يعلي من قيمة الحرية، وينزع المشروعية القانونية عن القيود المفروضة على حرية التعبير عن الرأي ما لم تكن في أضيق الحدود ووثيقة الصلة بالمصلحة العامة المتمثلة في عدم تعويق العدالة أو تعطيل عمل السلطة القضائية. تميز القوانين الأمريكية بين المناوءة الجنائية وبين المناوءة المدنية للمحاكم، فتعرف المناوءة الجنائية كجريمة بالمعنى الاعتيادي تتعلق بتعويق العدالة داخل قاعات المحاكم وتقر للمواطن كافة ضمانات التقاضي العادل ذات الصلة بالجرائم الجنائية مثل الحق في الحصول على المعلومات عن الاتهامات الموجهة إليه والحق في الحصول على المشورة القانونية والحق في الدفاع عن النفس. أما المناوءة المدنية للمحاكم فتعرف كأفعال وأعمال تحتوي على عدم امتثال لأحكام أو أوامر المحاكم داخل قاعاتها أو خارجها، وينظر إليها «كخطأ» يمكن تجاوزه بالامتناع المستقبلي عنه (أي بالامتثال لأحكام وأوامر المحاكم) ولا يستدعي إجراءات التقاضي الجنائي.

الأمر الجوهري، إذن، في تعامل النظم القضائية في البلدان الديمقراطية مع تنظيم العلاقة بين المصلحة العامة المتمثلة في التمكين لإدارة العدالة وصون الثقة الشعبية في السلطة القضائية وبين الحق في التعبير الحر عن الرأي والمصلحة العامة المتمثلة في مناقشة المواطن للقضايا محل الاهتمام الجماعي وفي تمكينه من مراقبة عمل سلطات الدولة هو نزوع تلك إلى تغليب قناعتين أساسيتين:

1) حصر الأفعال والأقوال ذات الصلة «بمناوءة المحاكم» فيما قد يحدث داخل أو خارج قاعات المحاكم بغرض تعويق العدالة، إن عبر الإخلال بحق الأفراد في محاكمات عادلة أو عبر الإخلال بثقة الأفراد المتقاضين في الهيئات القضائية من خلال الانتقاد والتجريح الشخصيين لأعضائها أو عبر تعريض الهيئات القضائية لمواد وآراء من شأنها المباعدة بينها وبين جادة الحياد والتزام فرضية «البراءة حتى تثبت الإدانة» أو عبر الامتناع عن تنفيد أحكام المحاكم وأوامرها.

2) يقر المشرع والقاضي أن حرية التعبير عن الرأي تمثل ضمانة جوهرية لصون التنظيم الديمقراطي للمجتمع، وأنها تتيح التعليق على أحكام المحاكم وأوامرها ونشر المعلومات والمواد والآراء المتعلقة بها وتقييمها والنقاش حولها شريطة الامتناع الشامل عن الانتقاد والتجريح الشخصيين لأعضاء الهيئات القضائية الذين يتمتعون بالحق الأصيل في صون كرامتهم الشخصية والمهنية وحماية سمعتهم وكذلك لأطراف المنازعات المنظورة أمام المحاكم الذين يتمتعون بالحق الأصيل أيضا في تطبيق فرضية «البراءة حتى تثبت الإدانة» والتمتع بضمانات التقاضي العادل والمحاكمة العادلة.

تم نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.