المصدر: القدس العربي
ستظل بلاد العرب أسيرة لحكام مستبدين ولحكومات سلطوية، ما لم تنتصر قيم العقل والعلم والإنسانية بين ظهرانينا وتتجاوز مجتمعاتنا كارثة انجذاب قطاعات شعبية واسعة لأصحاب الطروحات الرجعية من أمراء وقادة عسكريين وأمنيين ورجال دين.
تكالب الرجعيون على الثورات والانتفاضات الديمقراطية التي شهدتها بلاد العرب بين 2010 و2013، تكالبوا عليها رفضا للتنازل إن عن احتكارهم لشؤون الحكم أو عن سيطرتهم على مصادر القوة والثروة والنفوذ. تكالب الرجعيون على ربيع المواطنين العرب الذين طالبوا بالتداول السلمي للسلطة وبتأسيس حكم القانون الضامن للحقوق والحريات وللمساواة بين الناس دون تمييز، ربيع المواطنين العرب الذين أرادوا القضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين. تكالب الرجعيون من أمراء وعسكريين وأمنيين ورجال دين معممين وغير معممين على ربيع العرب لتصفيته وإبعاد المواطنين عن شؤون الحكم وإعادة التأسيس لممالك وجمهوريات الخوف والظلم التي تسطو منذ عقود طويلة على حاضرنا ومستقبلنا.
غير أن رجعيي العرب ما كان لهم أن يتمكنوا من تصفية الربيع وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في غضون سنوات قليلة لولا حضور صنوف من الوهن بين صفوف المطالبين بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحكم القانون. لم يقو أحد، لا في تونس ولا في مصر اللتين شهدتا ثورات شعبية حقيقية ولا في اليمن وليبيا وسوريا والبحرين وهي البلدان التي رتبت بها انتفاضات المواطنين إما مواجهات عسكرية أو اقتتال أهلي، على طرح رؤية متماسكة لبناء مجتمعات متقدمة العلم دليلها والتفكير العقلاني منهجها وقيم الإنسانية بوصلتها والأمل في التقدم والأمن والرخاء خيط يومياتها الناظم. لم تقو لا الحركات الشبابية ولا الحركات الاجتماعية والسياسية المنتسبة لليسار الديمقراطي ولليبرالية المدافعة عن الحقوق والحريات على المطالبة بإلحاق الثورات والانتفاضات الشعبية بثورات علمية تقضي على الجهل وتنشر قيم التفكير العقلاني وتباعد بين أنماط التفكير الأخرى (كمنظومات الأفكار الدينية والقيم التقليدية) وبين إدارة الشأن العام وقضايا الحكم والسياسة. لم يقو لا من انتسبوا لليسار ولا القليل من الحركات الليبرالية التي تكونت بين 2010 و2012 على التعامل بصدق وجدية مع شعارات الحقوق والحريات والمساواة والعدل التي رفعها المواطنون في الميادين والشوارع وكانت تلزم بالدعوة الصريحة لتحرير الناس من استبداد الأمراء والقادة العسكريين والأمنيين وأيضا من استبداد رجال الدين عبر الفصل بين الدين والدولة وبين الدين والسياسة فيما خص الشأن العام وبتحرير الناس في حياتهم الخاصة من قيود العبودية لمنظومات الأفكار الدينية والقيم التقليدية وإطلاق حريتهم في الاختيار.كان شرط تحرير الناس من استبداد الأمراء والعسكريين والأمنيين هو الشروع في التأسيس لديمقراطية تستند إلى تداول السلطة وحكم القانون ولا تخلط بين الدين والدولة وتضمن مشاركة المواطنين من خلال صناديق الانتخابات الدورية والنزيهة. وفي المقابل، كان شرط تحرير الناس في حياتهم الخاصة هو تمكينهم من الاختيار دون خوف بتمرير قوانين حديثة تسمح لمن يرغب طوعا في الالتزام بالأفكار الدينية والقيم التقليدية من فعل ذلك ولا تنزع الأهلية الأخلاقية أو الصلاحية المجتمعية عمن يبحثون عن الحياة وفقا لرؤى وتصورات مغايرة.
كان شرط تحرير الناس من استبداد الأمراء والعسكريين والأمنيين هو احترام الإرادة الشعبية التي تحملها صناديق الانتخابات والامتناع عن الانقلاب عليها مهما جاءت بما لا تشتهي سفن اليسار والليبراليين والابتعاد الكامل عن التحالف مع الرجعيات الملكية والعسكرية على حساب الإجراءات الديمقراطية. وقد أخفق اليسار مثلما أخفق الليبراليون في الالتزام بذاك الشرط، ودفعتهم خاصة في مصر النجاحات الانتخابية لقوى الإسلام السياسي للتحالف مع الرجعيين وذبح تداول السلطة وحكم القانون. وفي المقابل، كان شرط تحرير الناس في حياتهم الخاصة هو مواجهة الرجعيين من رجال الدين (معممين وغير معممين ودونما تمييز بين المنتمين للمؤسسات الدينية الإسلامية ونظرائهم في المؤسسات الكنسية) ومصارحة الناس بكون الدين يمثل رافدا واحدا من روافد الفكر والقيم في دنيانا وبكون العلم وقيم التفكير العقلاني والقيم الإنسانية المجردة تمثل روافد أخرى نجحت (قديما وحديثا) في تقريب المجتمعات التي تبنتها من التقدم والأمن والرخاء. وقد أخفق اليسار مثلما أخفق الليبراليون، ليس فقط في مصر، في مواجهة الرجعية الدينية بين 2010 و2012 بجرأة وشفافية. والحصيلة كانت الصمت المزدوج والمروع من اليسار والليبراليين على استبداد الأمراء والعسكريين والأمنيين وعلى الرجعية الدينية التي استبدلوا مواجهتها بالعلم والعقل والقيم الإنسانية بالتآمر الكارثي على قوى الإسلام السياسي التي اجتاحت صناديق الانتخابات ومن ثم الانقلاب على آملا التحول الديمقراطي.
كان شرط تحرير الناس من الاستبداد والمستبدين هو انفتاح قوى اليسار والليبرالية في عموم بلاد العرب على تصور المجتمع والسياسة وشؤون الحكم والفضاء العام يستند إلى مركزية المواطن صاحب الحق والحرية والصوت المسموع، إلى الأهمية القصوى لدور القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني ومبادرات الأفراد في بناء الديمقراطية والاقتراب بنا تدريجيا إلى مرافئ التقدم والأمن والرخاء، إلى ضرورة تقليص الاعتماد على مؤسسات الدولة التنفيذية (العسكرية والأمنية وكذلك المدنية) فيما عدا مؤسسات حكم القانون وإنفاذه (السلطة القضائية) ومؤسسات التمثيل الشعبي (السلطة التشريعية). فالدولة ذات الحكومة الصغيرة، أي الحكومة التي تتقلص بها أدوار المؤسسات التنفيذية وتخضع بها تلك المؤسسات إلى رقابة المؤسسات القضائية والتشريعية، مثل هذه الدولة هي فقط المؤهلة لإدارة التحول نحو الديمقراطية مع القطاع الخاص والمجتمع المدني والمواطنين. هنا أيضا أخفق اليسار مثلما أخفق الليبراليون في الابتعاد عن النظرة المريضة للدولة ومؤسساتها التنفيذية كدولة الرعاية المسؤولة عن تحقيق التقدم والأمن والرخاء ودولة الحماية التي «تحنو» على الجميع قطاعا خاصا ومجتمعا مدنيا ومواطنين (الدولة الأب)، ولم يواجه اليساريون والليبراليون أنفسهم بحقيقة أن الدول المتداخلة في كافة شؤون المجتمع والمواطنين هي دول يسيطر عليها أمراء وعسكريون وأمنيون أو حتى مدنيون منتخبون لا يرغبون أبدا في التداول السلمي للسلطة ولا في حكم القانون ولا يقبلون إخضاع مؤسساتهم التنفيذية لرقابة السلطات القضائية والتشريعية. وفي المقابل، كان شرط تحرير الناس من الرجعية الدينية في حياتهم الخاصة هو إخضاع المؤسسات الدينية الرسمية (إسلامية ومسيحية) للرقابة القضائية والتشريعية، والأهم هو تمكين المؤسسات التعليمية والثقافية من نشر العلم والتفكير العقلاني وقيم الإنسانية ومواجهة نزوع الدينيين إلى إدعاء احتكار الحقيقة ومطالبة الناس بالطاعة العمياء. كان لإخفاق اليسار والليبراليين في هذا السياق سببا جوهريا تمثل في افتقادهم للمصداقية فيما خص مواجهة الرجعية الدينية بسبب خنوعهم للمستبدين، وكان له سبب إضافي تمثل في اختزال اليسار والليبراليين لأمر بلاد العرب بين 2010 و2012 في قضايا الحكم والسياسة وتجاهلهم للمفاعيل الاجتماعية والثقافية الأوسع.
أما قوى الإسلام السياسي، فلم ترغب لا في نشر العلم ولا التفكير العقلاني أو القيم الإنسانية حيث كانت ومازالت منظومات الأفكار الدينية والقيم التقليدية (بجانب أنشطتها الاجتماعية) هي سبيلها للسيطرة على صناديق الانتخابات. وإذا كان الانقلاب على الصناديق ظل أمرا لم يتورط به الإسلاميون، إلا أن تحالفهم مع المستبدين من أمراء وعسكريين وأمنيين تكرر في أكثر من بلد عربي وحركته الرغبة في مكاسب سياسية سريعة لم يكن بينها التداول السلمي للسلطة (العدالة والتنمية في المغرب) أو حكم القانون (الإخوان في مصر.
وإذا كان الانقلاب على الصناديق ظل أمرا لم يتورط به الإسلاميون، إلا أنهم (وباستثناء حركة النهضة التونسية) تورطوا في توظيف منظم للرجعية الدينية في الشأن العام وفي قضايا الحكم والسياسة على نحو أدخل من جهة رجال الدين (مجددا معممين وغير معممين ومنتسبين للمؤسسات الإسلامية كالمسيحية) في مساحات مجتمعية ليست لهم (وضع الدساتير وصناعة القوانين مثالا) ودفع من جهة أخرى بالخائفين من خطر «الدولة الدينية» إلى الارتماء في أحضان استبداد الأمراء والعسكريين والأمنيين (مصر في 2013 نموذجا.