في 15 نيسان/أبريل، اتصل الرئيس دونالد ترامب هاتفياً بالجنرال الليبي خليفة حفتر، قائد ميليشيا يطلق عليها مسمى "القوات المسلحة العربية الليبية"، مباركاً الهجوم الذي شنّه الجيش الوطني الليبي التابع له ضد الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس. وإذ تحدث الرئيس الأميركي عن "رؤية مشتركة" لليبيا، أقرّ بقيمة حفتر في مكافحة الإرهاب، والحفاظ على إنتاج النفط، ورعاية عملية الانتقال الديمقراطي التي تشهدها البلاد.
لكن لايمكن لشيء أن يكون أبعد عن الحقيقة من هذه الأقاويل. فالهجوم المفاجئ الذي شنّه حفتر في 4 نيسان/أبريل، وأُطلق عليه اسم "طوفان الكرامة"، هو في الواقع محاولة انقلاب على السلطة وعملية نهب أراد أن ينفذها شخص يطمح في أن يحتكر السلطة لنفسه. فناهيك عن الكارثة الإنسانية التي تسبّب بها الهجوم – أكثر من 400 قتيل بمن فيهم مدنيون وعشرات آلاف النازحين – فهو سيكون بمثابة نعمة لإنعاش الإرهاب، ولاسيما لتنظيم الدولة الإسلامية الذي قد يشهد طفرة جديدة. قد يسفر الهجوم أيضاً عن تعثّر إنتاج النفط، ويقوّض أي فرصة لممارسة سياسات جامعة. والمفارقة هي أن، وبغض النظر عن نتيجته، سيعزّز هذا الهجوم نفوذ ميليشيات إقليم طرابلس التي تعهّد حفتر بتفكيكها. كما من المرجح أن يدفع هجومه بليبيا إلى دوامة اشتباكات منخفضة الوتيرة بين الميليشيات قد تدوم لسنوات.
تنبع تعليقات ترامب من سوء فهم عميق للمشهد المُفكّك وتوازن القوى في ليبيا. لكن أكثر مايثير القلق ليس بالضرورة احتضانه لشخص يسعى إلى أن يحتكر السلطة – على رغم أن هذا الأمر مُقلق – بل نظرته المُخطئة لحفتر كشخصية قد تبدّل قواعد اللعبة وبإمكانها أن تحقّق في نهاية المطاف نوعاً من الوحدة وإضفاء الطابع المؤسسي لليبيا. هذا التقدير يتجاهل إحدى الحقائق التي برزت خلال مرحلة مابعد الثورة في ليبيا: إذ لم تتمكّن أي جهة مستقلة عسكرية أو سياسية من بسط هذا القدر من السيطرة والسيادة على كافة الأقاليم. بل وأيضاً، كان لدى الميليشيات ونخب الفصائل في ليبيا، بمن فيهم حفتر، مصالح اقتصادية وسياسية مشتركة في إبقاء الصراع على نار خفيفة، وتجنّب كلٍ من المحصلات الحاسمة في ساحة المعركة والمحاولات الخارجية لإنهاء الاقتتال. كما استغلّت التشكيلات المسلّحة ببراعة المصالح الأجنبية المتنافسة وغير المنسّقة في ليبيا. فالتناقضات الداخلية ضمن الجيش الوطني الليبي ونقاط ضعفه ليست هي ببساطة التي تحدّ من فعالية حفتر كوكيل محتمل للقوى الخارجية الآملة بتوحيد ليبيا، بل حقيقة أن المشهد الأمني المتزعزع في إقليم طرابلس والعوامل الديموغرافية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكامنة فيه، حالت لفترة طويلة دون تمتّع جهة واحد بالسيطرة على المشهد – ولاسيما جهة آتية من الشرق. بكونها الجهة الفاعلة الخارجية الأكثر نفوذاً المنخرطة بالنزاع، المؤشرات التي ترسلها واشنطن مهمة جدا. ربما تحاول وزارتا الخارجية والدفاع الأميركيتان انتهاج سياسة متوازنة وواقعية أكثر إزاء النزاع، لكن فرضية البيت الأبيض المخطئة – والمُذاعة على نطاق واسع – تعيق فعاليتهما. فبدلاً من دعم ميليشيا على حساب أخرى، يُعتبر الفهم الجلي لطبيعة قوات حفتر وخصومه أمراً ضرورياً لتجنّب ارتكاب المزيد من الأخطاء الفادحة في ليبيا.ميليشيات حفتر: ليست وطنية وليست جيشاً
يبدو أن اتصال ترامب الهاتفي يستند إلى سردية مخطئة إنما مألوفة روّجت لها قوات حفتر وداعموه العرب والمتعاطفون معه في الغرب، تقول بأن "جيش" الجنرال قادر على توجيه ضربة عسكرية قاضية إلى "الميليشيات الإسلامية والجهادية" (كما يروج) في طرابلس. لكن هذه المقولة لا ترتكز على وقائع راهنة.
فبعد ثورة العام 2011، وفيما سقطت بنغازي في لُجج الفوضى والإهمال، كان هناك فعلاً وجود ميليشياوي إسلامي متطرّف، بدأ تحالف حفتر، الذي حمل اسم "عملية الكرامة"، بمحاربته العام 2014. لاحقاً، تلقّى بعض هؤلاء الإسلاميين الدعم من فصائل ثورية متشدّدة في مدينتي طرابلس ومصراتة غربي البلاد. لكن منذ أن حقّق حفتر انتصاره العسكري في بنغازي وعزز قبضته على شرقي ليبيا، تراجع التهديد الذي تمثّله الميليشيات الإسلامية بشكل ملحوظ. كذلك تراجع تدخل قطر وتركيا في ليبيا، ولاسيما بالمقارنة مع الدور الكبير الذي لا تزال تلعبه الإمارات العربية المتحدة ومصر. في المقابل، همّشت الفصائل الليبية المعتدلة والبراغماتية وجود المتطرّفين في طرابلس ومصراتة، حيث تمّ نفي العديد من المقاتلين، إما بإقصائهم، أو سجنهم أو حتى قتلهم. وعليه، من الخطأ وصف طرابلس بأنها تعجّ بالإسلام المتطرّف، وحفتر على أنه المنقذ الذي يتقدّم الصفوف للقضاء عليه.
علاوةً على هذه السردية "المتطرّفة" المضخّمة، ليس لقوات حفتر سمات الجيش المحترف الذي تبدو عليه، إذ تضمّ عنصراً ميليشياوياً كبيراً غير نظامي وأيضاً مقاتلين أجانب من تشاد والسودان. وتُظهر المقابلات التي أجريناها مع عناصر من الجيش الوطني الليبي ومسؤولين في الأمم المتحدة ومراقبين، أن هذا العنصر الميليشياوي يشكّل ما بين 40 إلى 60% من إجمالي عديد الجيش. صحيح أن هناك نواة من وحدات المشاة ووحدات مدرعة ووحدات من القوات الجوية والشرطة العسكرية النظامية – وهذه هي الصورة المحترفة التي ربما تفسّر الدعم الشعبي لفكرة "الجيش الوطني الليبي"، استناداً إلى استطلاع أجري مؤخراً، والتي من خلالها يعتبر الليبيون الجيش الوطني الليبي بديلاً مرحباً به عن الميليشيات الجامحة والجشعة التي تعمّ البلاد. لكن حتى هذه السردية معيبة. فإحدى أهم الوحدات النظامية التابعة لحفتر، وهي "كتيبة الصاعقة" التي غالباً ما يتمّ وصفها في الصحافة كمنظمة "نخبوية"، متورّطة في سلسلة انتهاكات، كما وجّهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات إلى أحد أبرز ضباطها بارتكاب سلسلة من جرائم الحرب المتعمدة.
إضافة إلى ذلك، منذ أن بدأ حفتر حملته العسكرية في بنغازي في العام 2014، اعتمد إلى حدّ كبير على ميليشيات مشكّلة محليا تضم "متطوعين". وإذ أُطلقت عليها تسميات ملطّفة على غرار "قوات الدعم"، كانت هذه القوات تضمّ أشخاصاً من ضواحي محددة من مدينة بنغازي، كما أن العديد منها أتت من قبيلة محلية نافذة وهي قبيلة "العواقير". وفي الواقع عملت قوات الدعم هذه كحراس للخطوط الخلفية في قوات حفتر، وساعدت أيضاً الوحدات النظامية خلال الهجمات على الخطوط الأمامية. ومع استمرار النزاع، شاركت أيضاً في انتهاكات عنيفة فهاجمت المنازل والشركات التابعة لأسر من بنغازي يُشتبه بأنها موالية لخصوم حفتر "الإسلاميين".
كذلك، يلاحظ وجود مكون سلفي في "القوات المسلحة العربية الليبية"، الأمر الذي يتنافى مع سردية كون قوات حفتر هي جيش مؤسساتي ومحترف. فهؤلاء السلفيون الذين كانوا يحظون بدعم معمر القذافي خلال سنوات اضمحلال حكمه، كانوا متواجدين في صفوف القوات الأمنية للنظام السابق وهم يعادون عقائدياً الإسلاميين السياسيين الذين كان حفتر يحاربهم. والمحاربون السلفيون هم مقاتلون رئيسون على الخطوط الأمامية في "القوات المسلحة العربية الليبية" أيضا. أما في المناطق الشرقية التي سيطر عليها حفتر، فقد مُنح هؤلاء مساحة ونفوذ لتطبيق منهجهم المتشدد لما يرونه كقيم اجتماعية إسلامية. ويشير كل ذلك إلى أن أي دعم من إدارة ترامب لحفتر على أسس إيديولوجية هو في غير محله. صحيح أن حفتر يعادي الإخوان المسلمين، وهي الجماعة التي يحاول البيت الأبيض في خطوة غير حكيمة تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية، إلا أن حفتر ليس علمانياً.
في الآونة الأخيرة، انضمّ السلفيون إلى وحدات عسكرية في الجيش الوطني الليبي خاضعة إلى قيادة أبناء حفتر. ويشكّل هذا البعد العائلي لقوات حفتر دليلاً إضافياً على أن الجيش الوطني الليبي ليس ما يبدو عليه قطّ. فالمقابلات التي أجريناها مع أعضاء من هذا الجيش وداعميه تشير إلى أنه بعد تلقيهما الحدّ الأدنى من التدريب العسكري، تمّ تسليم ولديه خالد وصدام مراكز قيادية، في إطار نهج احتكار للسلطة والحكم من قبل حفتر. وتستفرد بالسلطة زمرة ضيقة من أفراد أسرته ومقربين من القبيلة التي يتحدّر منها - قبيلة الفرجان. وبشكل خاص، تلقت وحدة ابنه خالد حفتر، الكتيبة 106، عتاداً وأسلحة متطوّرة من الخارج، ما جعل بعض وسائل الإعلام، في الكثير من الأحيان، تقارن بشكل متكرر بين كتيبه 106 وإحدى أكثر القوات نفوذاً وحرفية في عهد القذافي، اللواء 32 المعزز الخاضع إلى خميس، الابن الأصغر للقذافي.
أخيراً، إن القبول وفي بعض الحالات، الدعم الفعّال الذي حظي به الجيش الوطني الليبي التابع لحفتر من قوى خارجية كانا حاسمين لمسألة توسّعه. فالإمارات ومصر وفرنسا وروسيا دعمت الجيش الوطني الليبي، كل لأسبابها الخاصة، (سواء لمحاربة الإسلاموية أو لضبط أمن الحدود أو لمكافحة الإرهاب). وقد أثبت حفتر، كالعديد من الوكلاء الشرق أوسطيين، براعته في استغلال هذه الرعاية. وتتحمّل الولايات المتحدة بعض المسؤولية بدورها: فعلى رغم أنه تردد أن واشنطن أوقفت انخراطها العسكري إلى جانب حفتر في العام 2015، إلا أن دبلوماسيين أميركيين، استنادًا إلى المقابلات التي أجريناها، أظهروا موقفاً تكيفياً بشكل متزايد إزاء الجنرال، آملين جرّه إلى العملية السياسية ومسلّمين ظاهرياً بدعمه المفترض لإجراء انتخابات. كما التزموا الصمت إزاء تحرّكه العسكري في منطقة فزان - جنوب ليبيا - في وقت سابق من هذا العام، في خطوة اعتبرها على الأرجح معسكر حفتر بأنها ضوء أخضر ضمني.
خلال تقدّمه جنوباً، سمح فراغ على صعيدي الأمن والحوكمة للجيش الوطني الليبي بتغيير توجهات الميليشيات المشكّلة محلياً بفعالية – بما فيها تلك التي تولّت حراسة المنشآت النفطية – فأغدق عليها بعطايا النقد والعتاد. وأثناء توجّهه للهجوم على طرابلس، اعتمد حفتر استراتيجية مماثلة آملاً أن تقف الميليشيات المحلية في طرابلس ومحيطها في صفّه، ومُغرياً إياها بمزيج من المال والقوة والحسابات السياسية الوصولية. لكن هذه الخطة أدّت إلى نتائج عكسية بشكل لافت. فقد اتّحدت ضده الميليشيات المتباينة في طرابلس التي كانت على خلاف لفترة طويلة. حتى المواطنون العاديون الذين رحّبوا ربما بحفتر في العاصمة كمنقذ من الميليشيات، انقلب عدد كبير منهم ضده.
يُعتبر إدراك الخلفية السياسية والأمنية المتشرذمة التي واجه في إطارها القوات المسلحة العربية الليبية هذه العوائق، مهماً لفهم لماذا يُعدّ إيمان ترامب بحفتر في غير محله.
سوء حسابات حفتر: الميليشيات المترسّخة والاستغلالية في إقليم طرابلس
فوق كل شيء، تجاهلت تقديرات حفتر التي اعتمدها لتنفيذ هجومه الواقع بأن عدداً كبيراً من ميليشيات إقليم طرابلس لديها حوافز سياسية واقتصادية للدفاع عن مناطق نفوذها، على عكس الفراغ الأمني في الجنوب والديموغرافية القبلية السائدة في الشرق حيث حقق حفتر نجاحاً أكبر.
بالطبع، تشير المقابلات التي أجريناها إلى أنه في بعض الحالات، تمكّن حفتر من حشد الدعم في غربي ليبيا من جانب قواعد اجتماعية وجماعات مسلحة مختلفة، ترى بعضها في تقدّمه فرصة للهيمنة على القبائل المحلية. ففي مدينة ترهونة، جنوبي طرابلس، على سبيل المثال، شكّل فصيل من ميليشيا مهيمنة استُبعد من الترتيبات الأمنية بين ميليشيات العاصمة، حليفاً مهماً لقوات حفتر. وبعض القرى كالزاوية، الواقعة أيضًا على الساحل الغربي، والزنتان في جبل نفوسة، مُنقسمة بين فصائل موالية للجيش الوطني الليبي وأخرى معادية له. يُذكر أن ميليشيتين من أبرز ميليشيات طرابلس - كتيبة ثوار طرابلس وقوة الردع الخاصة – لم تقم بالتعبئة الكاملة للتصدي للهجوم. وقد كان نصف الالتزام هذا خطوة مدروسة: فمن خلال نشر بعض القوات لمواجهة هجوم حفتر في وقت تمتنع فيه فصائل أخرى عن المحاربة، تأمل الجماعتان أن تحتفظا ببعض النفوذ في أي اتفاق مستقبلي محتمل مع أي من الفصائل المتناحرة.
لكن عموماً، أساء حفتر التقدير حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الميليشيات في غربي ليبيا للدفاع عن مصالحها الاقتصادية ومجتمعاتها المحلية. فنظراً إلى اقتصاد ليبيا المتركّز على النفط، تعني السيطرة على طرابلس ومحيطها النفاذ إلى أصول مالية قيّمة كان حفتر يهدف إلى احتكارها من خلال هجومه. علاوةً على ذلك، وعلى عكس نموذج القوات المسلحة العربية الليبية، فإن الكثير من ميليشيات إقليم طرابلس – بمن فيها مقاتلون ثوار وإسلاميون وأمراء حرب وسلفيون محافظون – متغلغلة في مجتمعاتها المحلية.
لسنوات، طرحت العديد من هذه الجماعات المسلحة المستقرة في طرابلس نفسها كشرطة أمر واقع في المدينة، حتى وهي تعزّز سيطرتها على الأرض وتنتزع الثروات عبر شبكات فساد ضمّت نخبة من السياسيين ورجال الأعمال. وعلى رغم أن هذه الجماعات حدّت من وتيرة العنف حول العاصمة، إلا أن مناوراتها المتواصلة كرّست الوضع القائم وضمنت استمرار هيمنة الميليشيات على قطاع الأمن في طرابلس وضواحيها. وتشير عملية الدمج التي حصلت مؤخراً بين الجماعات المسلحة الأربع الرئيسة في العاصمة ضمن ما يسمى بقوة حماية طرابلس إلى مدى ترسّخ الميليشيات في العاصمة ونيّتها التصدي لأي تحديات لنفوذها بشراسة، بما في ذلك تقدّم القوات المسلحة التابعة لحفتر.
فضلاً عن إساءة قراءة ترسخ ميليشيات إقليم طرابلس اجتماعياً واقتصادياً، أساء حفتر تقدير ردود فعل النخب والميليشيات في مدينة مصراتة المرفئية الواقعة شرقي طرابلس. فبعدما كانت مصراتة مركزاً ثورياً واقتصادياً، تضاءل نفوذها العسكري تدريجياً على إثر موجة الحرب الأهلية الثانية التي شهدتها ليبيا في العام 2014 بسبب انقسامات سياسية وإيديولوجية. وخلال السنوات الأربع الأخيرة، سعت شخصيات بارزة، أهمها وزير الداخلية والدفاع في حكومة الوفاق الوطني فتحي باشاغا، بشكل متزايد إلى التقارب مع فصائل شرقية متحالفة مع حفتر، وقد أشارت المدينة أيضاً لقبولها بإشراك حفتر في تسوية للحكم، شرط أن يرفض الحكم العسكري. في المقابل، كانت لدى قادة الميليشيات الإسلاميين المتشدّدين في مصراتة تحفظات كبيرة حيال أي نوع من الاتفاقات مع القائد السبعيني. هجوم حفتر لم يراهن فقط على عنصر المفاجأة، إنما كان رهان على أن هذه الانقسامات الداخلية ستمنع مصراتة من التوصل إلى اتفاق بشأن رد فعلها إزاءه. غير أن البعض اعتبروا هجومه المفاجئ بمثابة خيانة، في حين نظر إليه البعض الآخر على أنه تهديد وجودي. والنتيجة كانت تعبئة شعبية على نطاق المدينة بأسرها بدلاً عن ذلك.
أخيراً، قلّل حفتر من شأن مهارة الميليشيات الليبية الغربية في التلاعب بالدول الخارجية لتعزيز نفوذها السياسي والعسكري. فقد قدّم العديد من الجماعات المسلحة داخل وحول طرابلس نفسها إلى الولايات المتحدة والقوى الأوروبية كشركاء في مكافحة الإرهاب وإدارة ملف الهجرة وحتى كضامن أمني لحكومة الوفاق الوطني المركزية الضعيفة. ويُعتبر الدعم الأميركي لميليشيات مصراتة المتحالفة مع الحكومة خلال المعركة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في سرت في العام 2016 خير مثال على ذلك: فموقف العديد من هذه الجماعات المسلحة النافذة والمستقلة كان غامضاً إزاء حكومة الوفاق الوطني إن لم نقل معادياً لها. هذا وتلقت جماعات مسلحة أخرى في إقليم طرابلس دعماً غير مباشر من إيطاليا للتصدي للاتجار بالمهاجرين.
ستواصل الميليشيات في غربي ليبيا استغلال الانقسامات الدولية والدعم الخارجي. وسيشمل ذلك الأسلحة والمعدات، كما تبيّن من خلال زيارة قام بها وزير الداخلية والدفاع باشاغا مؤخراً إلى تركيا، وحتى تزويدها بالمرتزقة كما اتّضح من خلال إقدام الجيش الوطني الليبي مؤخراً على إلقاء القبض على طيار أُسقطت طائرته الحربية التابعة للحكومة المركزية زُعم أنه من الجنسية البرتغالية. ومن خلال تمديد أمد المعركة، من المرجح أن يعزز الدعم الخارجي موقف المتطرّفين الليبيين في وقت يُرغم فيه البراغماتيون على أن يصبحوا أكثر تشدّداً. وقد بدأ يبرز بالفعل مزيج من الشخصيات غير المرغوب فيها – عناصر إجرامية وإسلاميين وثوريين يقاومون بعناد – في المشهد الأمني. وسيسمح لهم استمرار النزاع بالتمتّع بنفوذ سياسي قد يكون من الصعب انتزاعه منهم إن لم يتمّ اتخاذ تدابير سريعة لإنهاء الحرب.
الخروج من الفوضى
بعد أن تجاوز الاقتتال عتبة الشهر الواحد، من الواضح أن أي آمال سابقة حول هجوم حاسم قد تبدّدت. فأنصار حفتر، المحليون والأجانب، أعجبوا على ما يبدو بالسردية الواهية المبنية على فكرة أن الجنرال يقود جيشاً في وجه ميليشيات. كانت هذه السردية فعّالة في الماضي في شرقي ليبيا، حيث كان الصراع ذا طابع إيديولوجي أكثر وتمكّن حفتر من الاستفادة من التظلمات الاجتماعية والسياسية قديمة العهد. لكن في الغرب السياق مختلف: فهجوم حفتر لا يمكن أن يُعتبر محاولة لبناء دولة أو فرض نظام سلطوي مستقر، لا بل هو إعادة ترتيب للعبة الميليشيات القائمة منذ زمن طويل. باختصار، الهجوم على طرابلس ليس سوى محاولة من ائتلاف ميليشياوي للهيمنة على ائتلاف آخر.
ثمة مؤشرات على أن النزاع يدخل في مرحلة جديدة تعجّ بالمخاطر. ففي مواجهة نقص التمويل الوشيك، قد تسعى قوات حفتر إلى إضفاء طابع عسكري على بنية النفط التحتية في البلاد، أو إلى بيع النفط في السوق بشكل منفرد. وفي وقت يثبت فيه حفتر قدرته على البقاء في ضواحي طرابلس، سيميل داعموه الأجانب إلى تصعيد انخراطهم العسكري لمساعدته على قلب الموازين. لكن أي مساعدة من هذا النوع قد تسبّب على الأرجح معاناة إنسانية، بدلاً من دعم تقدّمه الفعلي على الأرض.
إن الانخراط الأميركي القوي والمتوازن، والأكثر اتّساقاً مع الوقائع المحلية، على عكس تصريح ترامب، سيكون حاسماً للحؤول دون تحقّق أي من هذه السيناريوهات. ويمكن للدبلوماسيين الأميركيين العمل على منع حفتر من استغلال موارد ليبيا النفطية، كما فعلوا في العام 2018 عندما حاول نقل نفوذ المؤسسة الوطنية للنفط إلى سلطات موازية في المنطقة الشرقية. كما يمكن للحكومة الأميركية، بما فيها الكونغرس، منع الجهات الفاعلة الإقليمية عن التدخّل أكثر، من خلال تسليط الضوء علناً على الانتهاكات التي ترتكبها هذه الدول لقرار الأمم المتحدة بحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا. ويجب أن يتمثّل الهدف من ذلك في دفع النزاع إلى نقطة يكون فيها الطرفان مستعدين للموافقة على وقف إطلاق النار والعودة إلى العملية السياسية. ومثل هذه العملية لا بدّ من أن تكون شاملة، وتركّز بشكل خاص على المجتمعات المحلية في الشرق والجنوب، وأيضاً على كبار ضباط الجيش الوطني الليبي الذين أظهروا تعاوناً يصبّ نحو إجراء حوار ومحادثات مع نظرائهم في الحكومة. تجدر الملاحظة هنا أنه يجب إبقاء أخطاء الماضي حاضرة في الذهن، ولاسيما نظراً إلى العروض المتعدّدة المقدّمة إلى حفتر للانضمام إلى تسوية سلمية، وهي عروض رفضها وقضى عليها بالقوة العسكرية.
لاشكّ بأن استبدال حكومة الوفاق الوطني العاجزة بهيئة تضمّ عدداً أكبر من الأطياف الفاعلة وتكون شرعية، أمرٌ ضروري. ولا شك أيضاً في أنه يجب تفكيك مجموعة الميليشيات الغارقة في الفساد واللصوصية في طرابلس. لكن هذا أمرٌ يجب أن يتم من خلال الجمع بين المفاوضات السياسية والأدوات التكنوقراطية، التي كانت تحقق تقدّماً ملموساً ولو بطيئاً قبل أن يشنّ حفتر هجومه في 4 نيسان/أبريل، ولن تتمكن ليبيا من المضي قدماً من خلال دعم تحالف ميليشياوي على حساب تحالف ميليشياوي آخر.