انتخابات الشرق الألماني: الصرخة العنصرية لضحايا العولمة

استمرار الصعود الانتخابي والسياسي لليمين المتطرف في ألمانيا دليل على شيوع العنصرية والفاشية كما على عودة القبول الشعبي لخطابات الوطنية المغلقة وكراهية ومعاداة الأجانب.

نشرت من قبل
القدس العربي
 on ٣ سبتمبر ٢٠١٩

المصدر: القدس العربي

لا تغيب الموضوعية عن توجه أغلبية الليبراليين والتقدميين الألمان لتفسير استمرار الصعود الانتخابي والسياسي لليمين المتطرف كدليل على شيوع العنصرية والفاشية كما على عودة القبول الشعبي لخطابات الوطنية المغلقة وكراهية ومعاداة الأجانب. فقد واصل اليمين المتطرف ممثلا بحزب البديل لألمانيا نجاحاته في صناديق انتخاب حكومات الولايات، فحصد في ولاية براندنبرغ الشرقية 23٪ وفي ولاية ساكسونيا الشرقية 27.5٪ من أصوات المواطنين وأصبح فيهما كما في ولايات شرقية أخرى القوة السياسية الثانية موظفا مقولات وطنية ألمانية تعادي الاتحاد الأوروبي مثلما تعادي الأجانب واللاجئين.

أدرك أيضا أن اندفاع الليبراليين والتقدميين الألمان إلى مرادفة صعود اليمين المتطرف في بلادهم مع عنفوان عموم اليمين المتطرف في القارة الأوروبية، من فرنسا إلى إيطاليا ومن بريطانيا إلى النمسا وبينهم عديد الدول الأخرى في شمال ووسط وشرق القارة، يسهم نفسيا في تقليل «المصاب الألماني» ويبعد أشباح الماضي العنصري (نازية ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين) بالتشديد على أن «أزمة اليمين المتطرف» ليست سوى أزمة أوروبية شاملة ولا تعبر عن خصوصية ألمانية مدمرة. بل أن نزوع ذات الأصوات الليبرالية والتقدمية إلى المساواة بين ما يحدث أوروبيا وما يحدث أمريكيا منذ فاز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية في 2016 وشرع في تطبيق حزمة من السياسات الرجعية اقتصاديا واجتماعيا يعبر أيضا عن السعي للتعامل مع صعود اليمين المتطرف كأزمة عالمية تواجهها الديمقراطيات الغربية.

أدرك ذلك جيدا، فالكثير من استطلاعات الرأي العام في البلدان الغربية يدلل على أن حكومات الغرب الديمقراطية لم تعد محل ثقة شعبية واسعة وفقدت نخبها القدرة على إقناع الناس بكون آليات الانتخابات الحرة وتداول السلطة وحكم القانون تمثل مجتمعة الضمانة النهائية لصون مصالحهم الفردية وتحقيق الصالح العام. بل أن بعض تلك الاستطلاعات يبين أن قطاعات شعبية أوروبية وأمريكية ليست بالهامشية باتت تنظر بإعجاب إلى الحكم غير الديمقراطي كما في روسيا والصين وترى به النموذج الأفضل، وتلك هي النظرة التي يجسدها سياسيو اليمين المتطرف من بوريس جونسون في بريطانيا الذي يريد تعطيل البرلمان إلى دونالد ترامب الذي يكرر يوميا امتهان القيم الديمقراطية ولا يترك دون استغلال فرصة سانحة للعبث باستقلال القضاء الأمريكي أو لإظهار ضعف الكونغرس إزاء سلطاته الرئاسية. ولا تغيب الموضوعية عن نزوع الليبراليين والتقدميين الألمان والأوروبيين والأمريكيين إلى التعويل على ردود أفعالهم هم وعلى النجاحات الانتخابية والسياسية لقوى اليسار الجديد (أحزاب الخضر في أوروبا وأصوات اليسار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي) كدليل على تمسك المجتمعات الغربية بقيم العدل والحق والحرية والمساواة والتعددية والحدود المفتوحة (قيم الحداثة والديمقراطية والعولمة) وعلى استعداد الأغلبيات للتضامن مع من يتهددهم اليمين المتطرف بالاضطهاد والتعقب والطرد.

بيد أن الاكتفاء بإدانة حركات وأحزاب كالبديل لألمانيا وسياسيين كجونسون وترامب كمجموعات عنصرية وسياسيين فاشيين وكذلك التعويل في تفسير صعودهم فقط على إشارات عمومية إلى أزمة الحكم الديمقراطي في الغرب يحولان دون رؤية خريطة العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يؤشر إليها استمرار صعود اليمين المتطرف. فمن جهة، تترجم انتصاراتهم الانتخابية المتتالية معارضة قطاعات شعبية واسعة في أوروبا والولايات المتحدة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المطبقة منذ عقود والتي تتهم بالتسبب في ظلم الطبقات العاملة وتوسيع الفجوة بينهم وبين الطبقات الوسطى والغنية وفي التورط في مجاراة آليات عولمة رأس المال والاستثمارات والنشاط الاقتصادي على نحو دمر صناعات كبرى في الغرب وأضاع ملايين فرص العمل على الأوروبيين والأمريكيين غير الحاصلين على شهادات جامعية عليا وغير القادرين على منافسة العمالة الرخيصة في البلدان النامية. تتهم ذات السياسات أيضا بكونها متسببة في فتح حدود الغرب لموجات متلاحقة من الهجرة واللجوء والتعامل المتردد مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية والمهاجرين غير الشرعيين، ومن ثم تهديد الهوية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات وفرض الاغتراب على من يرون أنفسهم «أصحاب البلاد الأصليين» وملاكها الحصريين.

دون ريب تغيب الموضوعية عن بعض تلك الاتهامات، فالغرب لم يفتح حدوده خلال العقود الماضية بل أغلقها والهويات الاجتماعية والثقافية ليست كيانات ثابتة عصية على التغيير ونقية عرقيا (أوروبا الخالية من المسلمين وأمريكا البيضاء) بل خبرت دوما التبدل والتنوع وتعدد المكونات العرقية. غير أن الاتهامات المتعلقة بغبن الطبقة العاملة والانفتاح غير المحسوب على آليات العولمة التي يفيد منها فقط الأغنياء والنافذون والقادرون على المنافسة من الشباب تتسم بالكثير من المصداقية الفكرية والعلمية. وفي جميع الأحوال، لا يقلل التمايز بين موضوعية غائبة ومصداقية حاضرة من عنفوان معارضة «ضحايا العولمة» في الغرب لسياسات حكوماتهم الديمقراطية وصرختهم الانتخابية والسياسية بحثا عن التغيير عبر تبني سياسات اليمين المتطرف من إغلاق الحدود الألمانية في وجه طالبي اللجوء والبريكست البريطاني مترجما إلى خروج دون اتفاق من الاتحاد الأوروبي إلى جدار الحدود الأمريكي وكذلك عبر إيصال سياسيي اليمين المتطرف الشعوبيين إلى مقاعد الحكم وإحلالهم محل النخب والأحزاب التقليدية التي فقدت الكثير من مصداقيتها.

من جهة أخرى، يجسد صعود اليمين المتطرف صرخة مجتمعية لقطاعات شعبية في الغرب ترفض لأسباب متنوعة عمليات التحديث القيمي والثقافي والقانوني التي حولت إلى مقبول واعتيادي ومحتفى به بعض ما كان في الماضي مرفوضا أو محرما أو قاصرا على الهوامش. منذ سبعينيات القرن العشرين، والليبراليون والتقدميون في أوروبا وأمريكا الشمالية يرفعون رايات تحديث الأنساق القيمية لإقرار تحييد شامل لدور الدين في الحياة العامة والمساواة الكاملة بين الناس بمعزل عن اختياراتهم الشخصية والانتشاء بالتنوع الثقافي كأساس وحيد للمجتمعات المعاصرة. منذ سبعينيات القرن العشرين، وهم يدفعون باتجاه تمرير تعديلات قانونية علمانية الجوهر تنهي اضطهاد الرافضين للقيم الدينية وتضمن مساواة المثليين جنسيا وتصون حقوق الأقليات على أساس قاعدة الاختيار الحر. في المقابل، لم يعد النقاش العام في المجتمعات الغربية يرى في رافضي عمليات التحديث هذه سوى مجموعات مسكونة بفهم رجعي للقيم وللدين أو دعاة عنصرية وكراهية وخوف من الآخر وخوف من الاختيار الحر أو متخلفين عن ركب التقدم وعولمة الحدود والسماوات المفتوحة. صرخة الموصومين بالرجعية والعنصرية ونشر الخوف هي اليوم الاندفاع نحو تأييد اليمين المتطرف الذي يجدون بسياسييه وشخصياته العامة وحركاته وأحزابه وإعلامه الفضاء الوحيد للتعبير عن تفضيلاتهم والمطالبة باحترامها ومقاومة مصائر «الانقراض والاختفاء» التي يفرضها عليهم الكثير من الليبراليين والتقدميين بأدواتهم الإعلامية الكثيرة. أسجل ذلك، على الرغم من انحيازي الأخلاقي والفكري إلى الأنساق القيمية الحديثة وبالقوانين العلمانية وبقاعدة الاختيار الحر وبحتمية رفض العنصرية وخطابات الكراهية والخوف.

تم نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.