في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أُعيد فتح معبر عرعر بين العراق والسعودية بعد إغلاقٍ دام ثلاثين عامًا في أعقاب الغزو العراقي للكويت. وعكس افتتاح المعبر استعداد السعوديين إعادة الانخراط مع العراق، بعد أن انتهج رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي سياسة الانفتاح على العالم العربي. وتربط الكاظمي علاقة صداقة شخصية مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وعندما حلّ ضيفًا في الرياض في شهر آذار/مارس الفائت، لاقت زيارته اهتمامًا وترحيبًا واسعين. ويعتزم الجانبان تعزيز آفاق التعاون بينهما، بما في ذلك الاستثمارات السعودية في العراق.
لكن عملية إعادة الانخراط مع السعودية واجهت معارضة في العراق، ولا سيما في صفوف المجموعات شبه العسكرية المقرّبة من إيران، ما يشي بأن السياسات الحدودية في العراق لا يمكن فصلها عن المنافسة القائمة بين الدول المجاورة للعراق. وقد منعت هذه المنافسة بغداد من الاستفادة من المشاريع المشتركة، ما أدّى إلى عواقب وخيمة على السكان.
وأكّد قيس الخزعلي، الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق، وهي مجموعة شبه عسكرية متحالفة مع إيران: "لا يمكن الوثوق بسهولة بالسعودية". وأضاف أن على السعوديين الاعتذار عن إرسال جهاديين إلى العراق بعد الغزو الأميركي في العام 2003. وقد انتقدت مجموعات شيعية كثيرة مشروعًا اقترحته السعودية للاستثمار في تربية المواشي في محافظة المثنى الواقعة على الحدود العراقية السعودية. وتعتبر هذه المجموعات أن المشروع يشكّل تهديدًا للمياه الجوفية في العراق، وتخشى أن يكون محاولة للسيطرة على الأراضي العراقية بذريعة الاستثمار. في غضون ذلك، تحاول السلطات العراقية والجهات الداعمة للانفتاح على المملكة لتسليط الضوء على مزايا هذا الانفتاح، ولا سيما لسكان جنوب العراق. فمحافظة المثنى هي أفقر محافظة في العراق، ويمكن أن تستفيد من إنعاش حركة الاستثمار والتجارة مع السعودية. وقد صرّحت وزارة الزراعة العراقية أن مزارعين بدأوا بتصدير خضارهم إلى السوق السعودية عبر معبر عرعر. وإذا استمر هذا المنحى، فسيساعد المنتجين والناقلين المحليين.
لقد أصبحت المعابر الحدودية والعلاقات عبر الحدود مكوّنات أساسية في التنافس الإقليمي المتزايد على النفوذ في العراق. ويُعتبر هذا التنافس القائم بشكل أساسي بين إيران والسعودية وتركيا مدفوعًا في المقام الأول بدوافع تجارية وجيوسياسية. على المستوى التجاري، لم يكن العراق، بعد سنوات من الحرب وانعدام الاستقرار، قادرًا على بناء قطاع صناعي قوي أو إنعاش قطاعه الزراعي بالكامل، فبات يعتمد على الواردات. وأفسح هذا الواقع المجال أمام دول أخرى للتنافس على السوق العراقي الذي يضم حوالي 40 مليون مستهلك.
أما على المستوى الجيوسياسي، فقد أصبح العراق هدفًا تسعى من خلاله الأطراف الثلاث نفسها، أي إيران والسعودية وتركيا، إلى تعظيم نفوذها الإقليمي إلى أقصى حد. وقد سهّلت الانقسامات الداخلية وضعف مؤسسات الدولة في العراق بلورة مثل هذه الطموحات. ويُعتبر فتح معابر حدودية جديدة وزيادة حجم التبادلات التجارية وتعزيز الروابط البرية والجوية بمثابة أدوات ضغط في إطار هذا التنافس.
فعلى سبيل المثال، بذلت إيران جهودًا حثيثة من أجل فتح معابر حدودية إضافية مع العراق وربط البلدين عبر خطوط سكك حديدية جديدة. في الوقت الراهن، ثمة ستة معابر حدودية رسمية وخمسة معابر غير رسمية (فتحها المهربّون والميليشيات) على الحدود العراقية الإيرانية البالغ طولها 1458 كيلومترًا. يُشار إلى أن الحكومة الإيرانية طلبت العام الفائت فتح أربعة معابر إضافية مع إقليم كردستان، في إطار طموحاتها الرامية إلى رفع قيمة صادراتها السنوية إلى العراق من 13 مليار دولار إلى 20 مليارًا. لكن السلطات العراقية لم توافق على هذا الطلب لغاية الآن. وفي الوقت نفسه، اتفقت الحكومتان الإيرانية والعراقية على إنشاء خط سكة الشلامجة الحديدية لتسريع حركة عبور البضائع والأشخاص بين البلدين عبر مدينة البصرة جنوب العراق. في هذا السياق، أشار النائب الأول للرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري إلى أن خط السكة الحديدية هذا سيسهّل في نهاية المطاف نقل البضائع من الصين إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط.
واقع الحال أن تحويل العراق إلى صلة وصل بين آسيا وأوروبا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، عبر انضمامه إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، بات هدفًا مهمًّا لحلفاء إيران العراقيين وجزءًا من خطابهم السياسي الرامي إلى التصدّي للنفوذ الأميركي أو الاهتمام السعودي المتنامي في العراق. وقد دفعت الاتفاقية التي أُبرمت مؤخرًا بين الصين وإيران وبلغت قيمتها 400 مليار دولار، بعض هذه المجموعات إلى تأكيد رسالتها حول إيجابيات ربط العراق بالشرق بدلًا من الغرب.
علاوةً على ذلك، ترى تركيا وإيران، ثاني وثالث أكبر مصدّرَين للعراق بعد الصين، أن من مصلحتهما الحفاظ على حصتهما في السوق العراقي. لكن إجراءات الحظر التي فرضتها بغداد مؤخرًا على استيراد السلع، بما في ذلك البيض والدواجن، ألحقت الضرر بالمنتجين الأتراك والإيرانيين، ما دفع أنقرة وطهران إلى الضغط على الحكومة العراقية للتخفيف من وطأة هذه الإجراءات. يرى مسؤولون عراقيون أن هذا الحظر ساهم في إنعاش قطاع البيض المتعثّر في العراق، لكنهم أقرّوا أيضًا بأن المنتجين الأجانب يلتفّون على هذه القيود بشكل غير قانوني. وفي حالة تركيا، يخضع الجانب العراقي من المعبر الحدودي الأساسي إلى سيطرة حكومة إقليم كردستان، التي غالبًا ما تمتنع عن تنفيذ قرارات حكومة بغداد.
في هذا الإطار، تسعى تركيا إلى إقامة علاقة مباشرة مع المناطق العراقية الخاضعة إلى سيطرة بغداد، من دون المرور عبر إقليم كردستان. وفي العام 2017، أعاد الجانبان التركي والعراقي إحياء هذه الفكرة عند اعتراضهما على الاستفتاء من أجل استقلال إقليم كردستان. وناقشا كذلك قضايا عدّة شملت اقتراح فتح بوابة حدودية جديدة في أوفاكوي لتسهيل التجارة الثنائية. لكن تم تعليق الخطة بسبب المعارضة الكردية على الرغم من أن تركيا ما زالت تبحث عن سبل لتوسيع نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي في شمال العراق. ويتمثّل اقتراح آخر في إنشاء خط سكة حديدية يربط الموصل بعنتاب في جنوب تركيا.
لكن تفشّي جائحة فيروس كورونا فاقم الصعوبات التي اعترضت تنفيذ معظم هذه المشاريع. علاوةً على ذلك، يشي التنافس بين دول الجوار الثلاث، والذي فاقم أيضًا استقطاب المشهد السياسي الداخلي في العراق، بأن مشاريع فتح معابر حدودية جديدة، وإنشاء طرق وسكك حديدية، هي قرارات سياسية. في غضون ذلك، سيواصل الفساد المستشري، والخلل البنيوي في مؤسسات الدولة، ونفوذ الجهات الفاعلة غير الدولتية، في إثارة شكوك حول مدى قدرة العراق على الاستفادة من هذه الفرص.
وعلى المستوى الاقتصادي، ستستفيد المناطق الحدودية من فتح معابر حدودية جديدة وتوسيع الروابط مع دول الجوار، ما سيخفّف الضغط على المراكز الحضرية العراقية التي تستوعب سنويًا عشرات الآلاف من النازحين من المناطق الطرفية. لكن، إذا كانت التجارة الحدودية تسهم في إدامة اعتماد الاقتصاد العراقي على الاستيراد، لن يؤدي فتح معابر حدودية جديدة سوى إلى إطالة أمد الحرمان الذي يعانيه المزارعون والمنتجون المحليون.