أثّرت التدابير الأمنية المتزايدة على طول الحدود التونسية مع ليبيا سلبًا على المجتمعات المحلية، ولا سيما الفئات التي تشتغل في الأنشطة الرعوية، بعد أن تقلّصت مساحات الرعي والموارد المائية المتاحة. واقع الحال أن المساعي الرامية إلى تعزيز الأمن كانت مُكلفة جدًّا. فلطالما اعتمدت المجتمعات المحلية في المناطق الحدودية المهمّشة على الزراعة الرعوية والتفاعل عبر الحدود لتأمين سبل العيش. لكن نظرًا إلى التهديدات الكثيرة التي تواجهها هذه الأنشطة في الوقت الراهن، قد تواجه الحكومة التونسية قريبًا موجات جديدة من السخط الشعبي في أوساط سكان المناطق الحدودية.
يرتكز نشاط تربية الماشيةوالإبل في جنوب تونس بشكل أساسي على الماعز والجمال. ومع أن الرعاة هناك ليسوا من البدو الرحّل، إلا أنهم يحتاجون إلى حرية التنقّل للعثور على مساحات الرعي والموارد المائية التي اللازمة لرعاية الماشية. في الماضي، كانوا يعتمدون على ترتيبات عرفية وقبَلية لتأمين مسارات التنقّل الموسمي للمواشي على جانبَي الحدود. وبقي هذا النظام قائمًا بعد نيل تونس استقلالها، بموافقة السلطات على جانبَي الحدود، على الرغم من أن الحداثة والتغييرات التي طرأت على نمط العيش قوّضت الأنشطة الرعوية. لذا، سعى السكان المحليون إلى مزاولة أنشطة أخرى عدا رعاية الماشية، مثل الزراعة أو التهريب أو التجارة عبر الحدود.
نتيجةً للهجمات الإرهابية التي شهدتها تونس في أواخر العام 2015، عمدت الحكومة إلى تشديد قبضتها الأمنية من خلال تشييد جدار يمتدّ على مسافة نصف الحدود التونسية مع ليبيا، والبالغ طولها 500 كيلومتر، بدعم من الشركاء الدوليين. وبموجب منحة قُدّمت في العام 2016، ساعدت وكالة خفض التهديدات التابعة لوزارة الدفاع الأميركية تونس على إقامة نظام مراقبة أمنية إلكترونية. كذلك، ساهمت ألمانيا بدورها من خلال تقديم أجهزة مراقبة ورصد مُتحرّكة. ويتألّف هذا الجدار العازل من حواجز ترابية، وخنادق مائية وأسوار، وتم تزويده بأجهزة كشف الحركة، وكاميرات، ورادارات مراقبة وأنظمة استشعار بالأشعة تحت الحمراء.
وعلى طول النصف الشمالي الأكثر اكتظاظًا بالسكان من هذه الحدود، أُقيمت منطقة عازلة بعمق 10 إلى 20 كيلومترًا لتشكّل خط الدفاع الأول. وقد كانجزءٌ كبير من أراضي هذه المنطقةمُخصّصًا لأنشطة الرعي، لكنه يخضع راهنًا لسيطرة الجيش التونسي الذي ينفّذ دوريات هناك وينسّق أنشطة السلطات الجمركية والحرس الوطني. أما النصف الجنوبي من الحدود، الذي يمتدّ من حاجز الذهيبة الحدودي إلى بُرج الخضراء، فيشكّل منطقةً عسكريّةً عازلةً يستوجب دخولها الحصول على تصريح من وزارة الدفاع.
لم يترك تركيز الدولة على الأمن أي مجال للالتفات إلى الوقائع الاجتماعية السياسية الراسخة في المنطقة، حيث تشكّل أنشطة الرعي والزراعة نمط حياة ومصدرًا أساسيًا للعيش، ولا سيما بعد أن وضعت الحكومة في العام 2015 قيودًا على حركة التهريب والتجارة عبر الحدود، فضلًا عن تباطؤ الاقتصاد الحدودي بسبب الأزمة المالية التي تعانيها ليبيا نتيجة الصراع في البلاد. لذا، لجأ الكثير من التجار عبر الحدود إلى رعي الماشية والأنشطة الزراعية لتعويض خسائرهم. ونظرًا إلى أن تقليص مساحات الرعي والموارد المائية بموجب مرسوم حكومي ما فتئ يُمدّد العمل في المنطقة العازلة، بات السكان المحليون يواجهون مزيدًا من القيود على الفرص المتاحة محليًا لتأمين سبل عيشهم.
لم تُلحق السياسات الحدودية التي انتهجتها الدولة التونسية الضرر فقط باقتصاد الحدود، إذ أدّت إلى حدوث أزمة اجتماعية اقتصادية، بل أسفرت أيضًا عن أزمة طالت سبل عيش المجتمعات المحلية الرعوية. ولا تزال جهة تطاوين تعاني قصورًا فادحًا في التنمية بسبب تردّي بنيتها التحتية العامة وشلل قطاعها الخاص، وبلوغ معدل البطالة فيها تقريبًا ضعف المتوسط الوطني في العام 2019. كذلك، سجّلت البطالة في رمادة والذهيبة أحد أعلى معدّلاتها في البلاد، إذ قُدِّرت بنحو 38 و42 في المئة على التوالي. وقد أثار هذا الوضع الاقتصادي المتأزّم الغضب في أوساط هذه المجتمعات المحلية الحدودية، ما أدّى إلى إضرابات عامة وتصاعد حدّة التوترات بين السلطات والسكان المحليين.
أرخت الأزمة الاقتصادية في ولاية تطاوين بظلالها على أوضاع الرعاة، بيد أن عوامل أخرى طرأت وأدّت إلى تدهور أحوالهم. العامل الأول هو نظام ملكية الأراضي القبَلية، الذي تخضع بموجبه 30 في المئة من الأراضي لملكية مشتركة تديرها مجالس التصرّف القبليّة، علمًا أن كل قبيلة في تطاوين لديها مجلسها الخاص. وقد أحدث هذا النظام توترات بشأن ملكية الأراضي بين القبائل، وتسبّب بنشوب خلافات في المجتمعات المحلية حول حدود الأراضي واستخداماتها، ما عطّل مسارات التنقّل الموسمي للمواشي. ويبرز عامل ثانٍ يتمثّل في الانخفاض الحاد في مساحات الأراضي المتاحة للأنشطة الرعوية. ويُعزى سبب ذلك في الدرجة الأولى إلى ظاهرتَي التصحُّر وتغيّر المناخ، إنما أيضًا إلى خصخصة أراضي المجتمعات المحلية وقيام المزارع الكبرى بشرائها. وفي العام 2010، قُدّرت ملكية الأراضي الخاصة في ولاية تطاوين بنحو 65,710 هكتارات (أي حوالى 82 في المئة). أما الأراضي المتبقية المملوكة للمجتمعات المحلية فتُشكّل مصدر خلاف بين الرعاة من جهة، وصغار المزارعين من جهة أخرى الذين يرغبون في توسيع الأراضي الزراعية، ما يشكّل تعديًا على مساحات الرعي ومسارات التنقّل الموسمي للمواشي.
علاوةً على ذلك، أثارت عسكرة المناطق الحدودية الجنوبية، والدور المتنامي للجيش في هذه الجهة، وتعاطي الجيش مع المجتمعات الحدودية في سياق من التوترات المتنامية وشحّ الموارد، مخاوف بشأن العلاقات التي تربط بين الجيش والسكان المحليين. فالجيش التونسي يفتقر إلى الخبرة في التعامل مع الشؤون المدنية، ما يعيق قبول السكان بالتدابير الأمنية الحدودية التي يتّخذها. إذًا، من أجل تهدئة التوترات وبناء الثقة في أوساط السكان المحليين، ولا سيما رعاة الماشية والمزارعين، ينبغي إبداء شفافية حيال دور الجيش في الحفاظ على الأمن. ويستلزم ذلك أيضًا التواصل حول حجم وحدود المناطق الحدودية الخاضعة للقيود العسكرية، ثم تخفيف شروط الدخول إليها. وقد تسهم عوامل أخرى أيضًا في تحسين هذه العلاقات، من ضمنها توفير خدمات من شأنها التعويض للسكان المحليين عن أي خسارة في عائداتهم، على غرار تأمين الخدمات صحية والتدريب الفني والمهني للشباب، وتعزيز المشاريع التنموية، وزيادة جاذبية المنطقة أمام المستثمرين وأصحاب العمل المحتملين.
غالب الظن أن الأزمة التي تشهدها المناطق الحدودية المهمّشة ستطيل أمد اللااستقرار الاجتماعي. فخلال السنوات الخمس الماضية، ولا سيما في العام 2020، واجهت الحكومة في تطاوين موجة احتجاجات دامت أشهرًا عدة، ما عرقل عملية إنتاج النفط وأرغم الحكومة التونسية على تقديم تنازلات كبرى للسكان المحليين. ولتجنُّب العودة إلى هذا الوضع، يتعيّن على السلطات أن تتعامل بمرونة أكبر مع أمن الحدود، وأن تأخذ في الحسبان أوجه الضعف الاجتماعية والاقتصادية التي تعانيها منطقة تتأرجح على شفير الهاوية، بكل ما للكلمة من معنى.
نشر هذا المقال أساساً في بيرفيريل فيجون (Peripheral Vision).