في محاضرة ألقتها في عام 1921، أعلنت الأديبة النسوية الرائدة مي زيادة موقفها بضرورة تحرير المرأة العربية. وتحدت – بشكل استباقي – ادعاءات معارضيها الذين افترضوا أن المرأة ضعيفة، مشيرةً إلى مساهمة المرأة الحاسمة – ولكن التي تم تجاهلها - داخل بيتها وفي عائلتها. في النهاية، صرحت زيادة أنها رأت أن تأثير المرأة وجد وراء كل عملٍ تسبب في حوادث لم تفسر بغير كلمة نابليون: "فتش عن المرأة!"
ما هي "قضايا المرأة"؟
إلى حدٍ كبير يتبنى بودكاست "تمكُّن" – الذي تنتجه صدى مطبوعة مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي – نفس طريقة التفكير التي أشارت إليها كلمات زيادة القديمة والأساسية. ففي هذه المساحة الصوتية الجديدة، نهدف إلى توفير منصة للنساء المتميزات من العالم العربي، وذلك بتقديم تحليلاتهن بشأن مجموعة من أهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي تؤثر على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى الرغم من أن هذه القائمة من القضايا تشمل مواضيع متنوعة وحاسمة، فهناك مجموعة بارزة من القضايا التي يتضح غيابها، إضافة إلى تلك التي توصف بأنها "قضايا المرأة"، أو القضايا التي يُفترض أنها تؤثر في المقام الأول – أو حصرياً – على النساء. في كثير من الأحيان، تقتصر المحادثات التي تتضمن النساء على هذه القضايا، التي تتنوع بين العنف الجنسي والحقوق الإنجابية وغيرها من المواضيع المتعلقة بحقوق المرأة وتمكينها بالرغم من أن المصطلح نفسه يفتقر إلى الدقة، ويثير الجدل. فبعض النقاد يقولون إن تصنيف القضايا بهذه الطريقة يؤدي إلى تهميشها في حقيقة الأمر، كما يعفي الرجال من التعامل معها. ومن ناحية أخرى، قد نعتبر كل قضية بوصفها قضية المرأة لأنّ حياة المرأة تتأثر بكل قضية. وفي هذا السياق، يفقد المصطلح فائدته التحليلية في التمييز وتحديد الأولويات.
إلى ماذا يهدف "تَمَكُّن"؟
بناءً على ذلك، عندما وضعنا تصورنا، لأول مرة، لبودكاست "تمكُّن" والمبادئ التي سيستند عليها، سعينا إلى الابتعاد عن القيود التي يفرضها مصطلح "قضايا المرأة" على النقاشات، بدلاً من ذلك جعلنا هدفنا هو التركيز على وجهات نظر النساء في القضايا التي تؤثر على المجتمع بأسره. الحقيقة التي تبرّر هذا الهدف هي هيمنة الرجال على مساحات النقاش فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، وكذلك عند مناقشة العلاقات الدولية بشكل عام، بينما تحظى تحليلات النساء بتقديرٍ أقل بالمقارنة مع نظرائهن الذكور. بالتأكيد، هذه المشكلة لا تظهر فقط على منطقة الشرق الأوسط، بل في كل مناطق العالم. فالاتجاهات العالمية تنعكس هي الأخرى في النقاشات عن المنطقة، بل أنها تزيد عليها في بعض الأحيان. على سبيل المثال، أظهرت دراسة بحثية أجراها المركز العالمي لرصد وسائل الإعلام، أنه من بين كل الأشخاص الذين يظهرون ويكتبون في الجرائد وبرامج الأخبار التلفزيونية والإذاعية، تمثل النساء 24 في المئة منهم فقط. وبالإضافة إلى ذلك، نُشرت عدة دراسات تشير إلى أن هناك فجوة بين المرأة والرجل بخصوص الاستشهادات في أبرز دوريات العلوم الاجتماعية، حيث تقل احتمالات الاستشهاد ببحوث لأكاديميات عن نظرائهن الذكور. وأخيرا، شهدت عدة قطاعات، في السنوات الأخيرة، حملات شعبية تعارض ظهور ما يسمى "مانيلز" (Manels)، أو الحوارات التي لا تتضمن أصوات النساء.
أما فيما يخص منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديداً، فقد اكتشفت الباحثة نغار رضوى أنه في مؤسسات البحث البارزة في واشنطن تمثل النساء 22 في المئة فقط من بين كل الخبراء المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط، و8 في المئة فقط من هؤلاء النساء هن من الأقليات العرقية (بما في ذلك النساء من أصل عربي). في هذا السياق، من المهم أن نعترف بأن النساء لسن مجموعة متجانسة، بل يمثلن هويات متنوعة تؤثر على مشاركتهن في النقاشات.
أما على المستوى الشعبي، فللأسف، لاتزال خبرة المرأة تقتصر على المجالات التي تُعتبر نسائية تقليدياً بما في ذلك الطبخ والتجميل. وتوفر أداة البحث على موقع غوغل دليلا قويا على ذلك، فالبحث عن كلمة "خبيرات" يُفضي إلى العديد من النتائج مثل خبيرات التجميل ومنسّقات حفلات الزفاف، ولا يظهر، في أولى صفحات نتائج البحث، معلومات عن خبيرات في قطاعات أخرى أكثر تنوعاً، أو بشكل أدق في القطاعات التي يهيمن عليها الرجال تقليدياً. أكدت هذه الحقيقة في حوارها ضيفتنا الأولى في "تَمَكُّن"، الصحفية اليمنية وداد البدوي، حيث قالت إن أطراف النزاع في بلادها يبرّرون استبعاد النساء من وفودهم الرسمية، بقولهم إنه لا توجد نساء "مؤهلات" لمناقشة القضايا المهمة التي يتم تناولها على طاولة المفاوضات. وبحسب حديث وداد، هذا العذر الذي يقدّمونه ليس متجذراً في الواقع. ولذلك، تحاول وداد وزملاؤها تحدي هذه الأعذار في البرنامج التلفزيوني "النساء والسلام" الذي ينتجونه لقناة السعيدة اليمنية.
أما فيما يتعلق بالنقص المزعوم بالنسبة لخبرة النساء، فتشير بيانات البنك الدولي إلى أن عدد النساء في الجامعات يفوق عدد الرجال في بعض دول المنطقة، وعلى وجه التحديد، في دول الخليج. ولذلك، من الواضح أن التفاوت المستمر في التقدير لخبرة الجنسين ليس ناتجاً عن نقص النساء المتمكنات والمؤهلات في قطاعات متنوعة، بل عن الاستبعاد المنهجي للنساء والاستخفاف بمساهماتهن، بالإضافة إلى وجود اختلافات في مستويات الثقة والاستعداد للترويج للذات لدى المرأة بالمقارنة مع الرجل.
من هذه الناحية، يمكن القول إن قصدنا من إنتاج تَمَكُّن كان تدارك هذا التفاوت الذي تتصف به النقاشات المتعلقة بالمنطقة. ولكن فوق هذا، يقدّم البودكاست مبدأ أكثر تجذراً. فنحن، فريق تَمَكُّن، لا نؤمن فقط بأن النساء مؤهلات للمشاركة في النقاشات العامة في شؤون المنطقة، ولكن نؤمن أيضا بأن لديهن وجهات نظر فريدة ومهمة تثري وتقوي النقاشات بأسرها. وهذا المبدأ يتفق مع ما تقوله المفكرة النسوية سينثسا إنلو، التي قدّمت مصطلح "الفضول النسوي" الذي يشجعنا على التعامل مع تجارب كل النساء "بجدية". وبحسب ما تقوله إنلو، فإنه علينا دائماً أن نسأل ما هو موقع المرأة من الأحداث السياسية وما هو دورها فيها. وهذا نوع من التحليل يكشف عوامل حاسمة حول السياسة الدولية تتجاهلها التحليلات التقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، يطرح مقال نغار رضوى، الذي استشهدنا به سابقاً، نقطة مهمة تهملها معظم الحوارات غير العميقة بشأن تمثيل المرأة. وهي أن بعض الأشخاص في مساحات النخبة يستغلون مبدأ مشاركة النساء لخدمة مصلحتهم لتعزيز الوضع الراهن. أما بالنسبة لنا، فلا أجندة سياسية يتبناها بودكاست "تَمَكُّن" نرغب في الترويج لها أو تعزيزها. بل على العكس، نهدف إلى تمكين وجهات نظر ضيفاتنا حتى تؤثر على مساحات النخبة، بدلاً من تأثرهن بمصالح هذه النخب ومساحاتها.
ضيفات "تَمَكُن" وخبراتهن
في موسمنا الأول، أجرت رفيعة الطالعي، مُقدمة بودكاست "تَمَكُّن"، مقابلات مع 14 امرأة تميزن في مجموعة متنوعة من التخصصات بما في ذلك الصحافة، والمناصرة، والتعليم، والعمل الإنساني، والسياسة، والعلوم، والمحاماة، والفن، والتصوير. تنحدر هؤلاء الضيفات من 13 دول عربية مختلفة، وقدّمن خبرة واسعة النطاق بشأن قضايا تتنوع بين النزاع الراهن في اليمن، والتحولات الاجتماعية في دول الخليج، وأزمة اللاجئين، وتداعيات التغير المناخي وغيرها من القضايا المهمة في المنطقة.
من الواضح أن هذه النقاشات أعطت الأولوية لقضايا متنوعة بحسب خبرة الضيفة. مع ذلك فإن مستمعي تمكُّن قد يلاحظون أن هناك مفارقة في أن كثير من النقاشات العميقة بين مقدمة البودكاست والضيفات دارت في مواضيع، قد تعتبر قضايا نسوية أو نسائية، سواء كان على المستوى الشخصي أم المستوى السياسي بالرغم من أننا سعينا إلى الابتعاد عنها. فعلى سبيل المثال، تحدثت بعض الضيفات عن الضغوط الاجتماعية التي لاتزال تدفع البنات نحو الزواج في سنٍ مبكرة، كما تحدثن عن الصور النمطية عن النساء التي تسيطر على حياتهن المهنية. وكذلك ناقشن أزمة تزويج القاصرات في مخيمات اللاجئين، بالإضافة إلى قوانين الأحوال الشخصية التي تميّز ضد النساء.
ولذلك، لم نبتعد عن قضايا المرأة في النهاية لأنها ظهرت في تحليلات ضيفاتنا، كما ظهرت من خلال صراحتهن بخصوص تجاربهن الشخصية. وعلى الرغم من أن الشعار النسوي الثوري "المسائل الشخصية هي سياسية" كان منذ فترة طويلة شعارا رائجا، فنحن نشهد أن هذا المبدأ يعود من جديد في بودكاست "تَمَكُّن"، وكذلك في العالم العربي، الذي شهد أثناء الصيف الماضي سلسلة من جرائم قتل النساء بطرق وحشية، التي أثارت النقاش حول الظروف السياسية والاجتماعية التي تؤدي إلى العنف ضد المرأة في بيتها وفي الأماكن العامة.
تعريف التَمَكُّن
ندرك أن عنوان البودكاست في حد ذاته – تَمَكُّن – قد يثير الجدل. وتعاملنا مع هذا الأمر بشكل مباشر فطلبنا من ضيفاتنا أن يقدمن تعريفاتهن لكلمة "تَمَكُّن" وأهميتها في عملهن. على سبيل المثال، حدّثتنا الناشطة العراقية جنان مبارك عن قيادتها للمركز العراقي لتأهيل المرأة وتشغيلها، قائلةً إن بعض النساء اللواتي تعمل معهن يرغبن في دخول سوق العمل، بينما ترغب أخريات في العمل داخل البيت. وهي تعلن أنها لا تهتم بتقييم خياراتهن المختلفة، ولكنها دائماً تقول لهن إن "أهم شيء هو أن تقرري: هل أنتِ صاحبة القرار أم لا؟".
وفي إجابتها على نفس السؤال، شرحت عالمة الاجتماع ميرة الحسين وجهة نظرها في تلك "اليد الخفية" التي تظهر في كل النقاشات عن التمكين، وتبدو كما لو كانت هذه "اليد الخفية" هي التي تتدخل لتُمَكن النساء، لأنه يُفترض، من حيث المبدأ، أن المرأة ضعيفة وتحتاج إلى من يمكنها، وإلى من يساعدها في تمكين نفسها. طالبت ميرة أن نتبنى موقف الشك تجاه هذه اليد، وأن نسأل مَن هو المسؤول عن عمليات التمكين في الواقع. وعندما فكرت ميرة في ذلك السؤال، قالت إن "المرأة ليست بحاجة إلى التمكين، بل. . . " "التحرير؟" سألتها رفيعة. "لا، إزالة العوائق التي تُوضع أمامها".
يبدو أن مي زيادة ردت على السؤال الذي طرحته ميرة بشكل مباشر - قبل قرن تقريبا- في ختام المحاضرة التي استشهدنا بها في الفقرة الأولى. حين صرحت أن "تحرير المرأة في يدها أكثر منه في يد الرجل".
بودكاست "تَمَكُّن" في جوهره هو مساحة تحليلية توفر للنساء الفرصة لتقديم وجهات نظرهن في قضايا متنوعة. ولكنه في نفس الوقت، ليس مساحةً محايدةً، لأننا نؤمن بأن وجهات النظر هذه مهمة ومتميزة للغاية كما نؤمن بأن مسؤولية تحديد وتعريف مصطلحات مثل "التمكين" و"التحرير"– وليس فقط العملية لتحقيقهما – هي فعلا في يد المرأة. وما دام عدم المساواة بين الجنسين مستمر بشكل منهجي، فلن نتمكن عمليا من الابتعاد عن قضايا المرأة، ورغم ذلك فقد كَشَفَ الموسم الأول من بودكاست "تَمَكُّن" أن تحديد طبيعة هذه القضايا ونطاقها - وكذلك علاقتها بالتجارب الشخصية – هو أيضا في يد المرأة.
على خُطا الأديبة مي زيادة والمفكرة سينثيا إنلو، فتشنا عن المرأة في أهم القضايا التي تؤثر على منطقة الشرق الأوسط. وإذ أننا لا نزعم أننا اكتشفنا هؤلاء الضيفات، غير أننا كشفنا عن خبرتهن كما سعينا إلى تمكينهن لتحديد حدود النقاشات وفضاءاتها. وفي النهاية، نعتقد أن عمق النقاشات وجودتها قد أُثرِيَت بسبب تدشين هذه المساحة.
كيتلين هاشم مُحررة اللغة الإنجليزية لمطبوعة صدى. لمتابعتها على تويتر: @KaitHashem.