في وسائل الإعلام

أساطير اقتصادية: اقتصاد مصر الريعي

عجزت السياسات العامة في مصر عن إكساب القطاعات غير الريعية تنافسية، ماجعل مصر تعتمد أكثر فأكثر في علاقتها بالعالم الخارجي على موارد ريعية متناقصة.

نشرت من قبل
الشروق
 on ١٧ نوفمبر ٢٠١٤

المصدر: الشروق

 عادة ما يقصد بالاقتصاد الريعي البلدان التي تعتمد في القسم الأعظم من دخلها على موارد تأتي من خارج الاقتصاد كالمعونات الأجنبية أو تحويلات العاملين أو العوائد المتصلة بالموقع كقناة السويس في مصر، أو على الموارد الطبيعية كالنفط والغاز الطبيعي، والتي لا يشارك في إنتاجها وتصديرها للخارج سوى عدد يسير للغاية من العاملين بالاقتصاد كحالة الصناعات الاستخراجية، والخلاصة فإن الاقتصاد الريعي يعتمد على موارد لا يسهم في إنتاجها بدرجة أو بأخرى، ما يجعل الغالب من السكان معتمدا على تلقي نصيبهم من الريع الخارجي كما هو الحال في أغلب اقتصادات الخليج العربي، والتي تعتمد بشكل أساسي على تصدير الطاقة، وتضطلع الدولة بتحصيل الإيرادات من التصدير كي تقوم بإعادة توزيعها على السكان من خلال خدمات عامة مجانية ووظائف حكومية وإعانات اجتماعية. 

درج الكثير من الاقتصاديين ورجال الفكر والسياسة في العقود الماضية على اعتبار الاقتصاد المصري ريعيا بدرجة كبيرة، وخاصة مع ارتفاع أسعار النفط في ١٩٧٣ وما تلاها من تزايد الاعتماد على صادرات البترول وعوائد قناة السويس والمعونات العربية والأجنبية علاوة على تحويلات العاملين بالخارج، والتي ترتبط هي الأخرى بأسعار النفط كون الخليج العربي وليبيا أكبر مراكز للعمالة المصرية بالخارج، وإن تغير الوضع مؤخرا مع بروز دور المصريين في أستراليا وأمريكا الشمالية. وقد كان الاقتصاد المصري بالفعل يبدي العديد من ملامح الاعتماد على الريع الخارجي في السبعينيات والثمانينيات، ولكن الأمور بدأت في التغير منذ التسعينيات بانخفاض الأهمية النسبية للريع سواء كجزء من الناتج المحلي أو من إيراد الدولة فهل يمكن اعتبار الاقتصاد المصري ريعيا اليوم؟ 

إن الإجابة المختصرة على السؤال أعلاه تكون بلا إذ أن نصيب قطاع البترول والغاز الطبيعي مضافا إليه عوائد قناة السويس في الفترة بين ١٩٩٠ و٢٠١٢ لم يتجاوز ١١٪ من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما يعني بشكل جلي أن القسم الأكبر من الناتج المحلي في مصر يأتي من قطاعات إنتاجية زراعية أو صناعية أو خدمية كالسياحة والاتصالات والخدمات العامة والمرافق، وينسحب الأمر نفسه على نصيب المعونات الأجنبية من الناتج المحلي، والذي انخفض من نحو ٥٪ في ١٩٩٤ إلى ما هو دون ١٪ من الناتج المحلي في ٢٠٠٠، ولم يتغير كثيرا باستثناء السنة المالية الأخيرة التي شهدت تدفقا غير مسبوق، وغير مرشح للاستمرار على كل ومن ثم لا يقاس عليه، للمساعدات الخليجية. ومع التوسع في تعريف الموارد الريعية بضم تحويلات العاملين بالخارج فإن متوسط نصيب جميع أشكال الريع من مبيعات النفط وعوائد قناة السويس مع تحويلات العاملين في الفترة بين ١٩٩٠ و٢٠٠٦ لا يتجاوز ١٨.٤٪ طبقا لبيانات المركزي المصري، وهي نسبة لا تكفي بحال لوصم الاقتصاد المصري بالريعية. 

ولم يقتصر انخفاض الوزن النسبي للموارد الريعية على الناتج المحلي فحسب بل امتد كذلك إلى نصيب الريع من الإيرادات الحكومية، إذ بلغ متوسط نصيب تحويلات الهيئة العامة للبترول وهيئة قناة السويس _ بما فيها الضرائب ـ من إيراد الدولة الإجمالي في الفترة (١٩٩٠ـ٢٠١١) ١٩.٦٪ طبقا لبيانات البنك المركزي، وهي نسبة ولا شك كبيرة نسبيا لأنها تمثل نحو خمس الإيرادات ولكنها بعيدا عن أن تكون غالبة، وذلك لأن العقدين الماضيين قد شهدا تحولا تدريجيا للدولة نحو الاعتماد على الإيرادات الضريبية، والتي أضحت تمثل في الفترة ذاتها ما يقارب ٦٥٪ من إجمالي إيراد الدولة سواء أكانت ضرائب مباشرة أو غير مباشرة مخصوما منها الضرائب التي تؤديها الهيئة العامة للبترول وهيئة قناة السويس. وإذا ما قارنا نسبة الضرائب من إجمالي الإيرادات في مصر بغيرها من البلدان النفطية ظهر جليا أن مصر لا تقع ضمن دائرة البلاد الريعية بأي حال إذ أنه في الفترة ما بين ١٩٩٣ و٢٠٠٣ بلغ نصيب الضرائب من إيراد الدولة ٦.٧٥٪ في السعودية ١٣.٤٢٪ في الإمارات العربية المتحدة و٣٢.٧٦ في الجزائر مقارنة بنحو ٦٤٪ في مصر. 

ومما سبق فإنه بالإمكان الدفع بأن الموارد الريعية لا تمثل نصيبا غالبا لا كنسبة من الناتج ولا كنسبة من إيرادات الدولة، وهو ما يخرج مصر من زمرة الاقتصادات الريعية، بيد أن هذه الصورة العامة غير مكتملة، ولا تعبر تماما عن واقع الاقتصاد المصري في علاقته بالريع الخارجي، وذلك لأنه مع تواضع نصيب الموارد الريعية في الناتج إلا أن وزنها النسبي في علاقة مصر بالاقتصاد العالمي شديد الضخامة، فعلى سبيل المثال مثلت صادرات الطاقة من بترول وغاز طبيعي ما يزيد عن ٥٠٪ من إجمالي الصادرات المصرية في الفترة ما بين ١٩٨٠ و٢٠١١، ويتلقى قطاعا البترول والغاز ما يقترب من ثلثي الاستثمارات الأجنبية الإجمالي، وتساهم هيئتا البترول وقناة السويس بما يقارب ثلثي ضرائب الشركات، وتلعبان دورا رئيسيا في توريد العملة الصعبة للدولة وللاقتصاد، وهو ما ينم عن احتلال القطاعات الريعية لوزن نسبي في القطاع الخارجي يفوق وزنها النسبي في الاقتصاد ككل. 

ويقودنا هذا إلى لب الإشكال وهو عجز السياسات العامة في مصر في العقود الثلاثة الماضية عن إكساب القطاعات غير الريعية تنافسية سواء في تصدير السلع والخدمات أو في جذب رؤوس الأموال الأجنبية ما جعل مصر في وضعية شديدة الغرابة وهي الاعتماد المتزايد في علاقتها بالعالم الخارجي على موارد ريعية متناقصة سواء بصورة مطلقة مع تحول مصر لبلد مستورد ضاف للنفط في ٢٠٠٦ وللطاقة في ٢٠١٢، أو بصورة نسبية كثبات نصيب قناة السويس من الناتج المحلي وإيراد الدولة طيلة العقد الماضي، وجعل التوسع في القطاعات الاقتصادية غير الريعية ضعيف الإنتاجية وهامشي بدرجة كبيرة خاصة في قطاع الخدمات. ومن هنا كان تحدي الخروج من هذه الريعية غير المتكافئة Asymmetrical Rentierism هو التحدي الرئيسي الذي يواجه التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مصر. 

تم نشر هذا المقال في الشروق.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.