المصدر: المركز اللبناني للدراسات
لا زالت الشكوك والانتقادات تحيط باختيار لبنان للشروط والاستراتيجيّات الماليّة لجهة منح تراخيص النفط والغاز في مرحلة الاستكشاف والانتاج. وهذا ليس مفاجئًا، نظرًا لأنّ هذه التجربة جديدة كليًّا في لبنان، هذا البلد الّذي لطالما عانى من الجمود نتيجة للخلافات السياسيّة. ويزيد أيضًا من تعقيد الوضع واقع أنّه ما من استراتيجيّة مثاليّة يمكن للبنان اتّباعها. إلاّ أنّه ثمّة بعض المبادئ الإرشاديّة المعترف بها دوليًّا. وعلى صانعي السياسات التمعّن في تجارب الدول الأخرى والتعلّم من نجاحاتها كما إخفاقاتها. لكن لكلّ بلدٍ فرادته، وعليه تصميم خيار الاستراتيجيّات بحسب حاجاته، وأهدافه، وشروطه.
وقد اتّسم النقاش الدائر حول النظام المالي لقطاع النفط في لبنان بمبالغة في التركيزعلى أداة واحدة هي الإتاوة. فأدان البعض معدّل الإتاوات "المتدنّي" الّذي اختارته البلاد، سيّما عند مقارنته بإسرائيل. ويمكن تفسير هذا الموقف بالفهم المحدود لما ينطوي عليه النظام المالي فعلاً. ذلك أنّ الإتاوة لا تمثّل سوى بندٍ واحدٍ ضمن قائمة طويلة من الأدوات المالية وشبه الماليّة. إلى ذلك، فإنّ إسرائيل قد اختارت ترتيبًا يُعرف بنظام الامتيازات، وهو يختلف بتركيبته الإجماليّة وطريقة عمله عن اتفاقيّة المشاركة في الإنتاج الّتي اعتمدها لبنان. فتفاعل العناصر المختلفة جميعًا هو ما يجب أخذه بالاعتبار لتقييم النظام المالي. فلا شكّ أنّ حصر النقاش باختيار الضريبة الرئيسية ومعدّلها للحكم على النظام ينمّ عن محدوديّة. والأسوأ من ذلك هو أنّ الاكتفاء بأداة واحدة، أي الإتاوة في هذه الحالة، لإجراء التقييم، هو بكلّ بساطة غير دقيق.
لا شكّ أنّ الضريبة النفطيّة أمر في غاية التعقّد والتفرّع، إلى كونه دائم التطوّر. وهي تتأثر وتتبلور بحسب مجموعة من العوامل المتعدّدة الجوانب، منها الجيولوجيّة والتقنيّة وعوامل السوق، بالإضافة إلى التأثيرات السياسيّة غير المستقرّة والّتي لا يمكن التنبّؤ بها. وعند تصميم نظام مالي، لا بدّ من الأخذ بالاعتبار الظروف المتّصلة بالمنطقة التي يتواجد فيها النفط والغاز، إذ لا يمكن تبرير تخصيص حصّة كبيرة للحكومة في الحالات الّتي ترتفع فيها مخاطر التنقيب وكلفة التطوير.فيما يتعلّق بمنح التراخيص، اختار لبنان إجراء المناقصات التنافسيّة، فتشارك الشركات المؤهلة لخوض المرحلة الأولى في مزادٍ، وتُمنح الحقوق لأعلى مزايد. ويُذكر أنّ هذه الاستراتيجيّة أصبحت المفضّلة والأكثر اعتمادًا في العالم. ويُرجّح لشعبيّتها أن تستمرّ، سيّما لأنّ العديد من المنظّمات غير الحكوميّة تروّج لاستخدامها بحجّة أنّها تمثّل الإجراء الأكثر شفافيّةً.
غير أنّ نجاح المناقصة أو فشلها يعتمد إلى حدّ كبير على تصميمها والتزام الحكومة بالشفافية، إذ يجب منح الحقوق في جوٍّ من الانفتاح، وبحسب أعلى معايير المهنيّة والالتزام بالممارسات الدوليّة، وهي مسائل تشغل الكثيرين في لبنان. ويُضاف إلى ذلك أنّ اختيار معلّمات المناقصة هو منالقرارات الأساسيّة التي تواجهها الحكومات المضيفة عند تصميم المناقصة. فبعد التحقق من وثائق اعتماد المستثمرين المحتملين، وتحديد الشركات المؤهلة للمرحلة الأولى، تُحبّذ الممارسة الدوليّة الجيّدة وضع عدد محدّد من المعايير المعيّنة بوضوح لمنح الترخيص. ويوصى بذلك بشكل خاص في البلدان المحدودة الخبرة في مسائل النفط والغاز والمحدودة القدرات الإداريّة، على غرار لبنان.
وحتّى في بلدان مثل الولايات المتّحدة، الّتي لها خبرة تفوق القرن من الزمن في مجال النفط والغاز، يمنع التشريع استخدام أكثر من متغيّرة واحدة في المناقصة. أمّا في لبنان، فيكمن أحد الشواغل في النيّة باعتماد ثلاث عوامل مناقصة، اثنان منها هما من المعلّمات الماليّة المهمّة: حدود لما يمكن للشركات المطالبة به ككلفة سنويًّا (أي "سقف استرداد الكلفة") وتشاطر الربح بين المستثمر والحكومة ("نفط الأرباح")، بالإضافة إلى برنامج العمل المقترح الشائع الاستخدام.
فيما يتعلّق بترسيم حدود الرقع، طُرحت الأسئلة حول ما إذا كانت الرقع التي ينوي لبنان عرضها للمناقصات كبيرة جدًّا، وحول ما إذا كان يتعيّن عرض جميع الرقع دفعةً واحدة. لكنّ أحجام الرقع البحريّة في لبنان لا تشذّ عن الحدود المعقولة، ولا توجد في الواقع صيغة محدّدة لتقسيم المساحة إلى رقع. ولاختيار أحجام الرقع يتعيّن الأخذ بالاعتبار عوامل عدّة، سيّما منها نوع الصفقة (مثلاً: بريّة، بحريّة، سطحيّة، عميقة)، مستوى التنافس، مدّة الترخيص، أحكام التخلّي الّتي تحدّد النسبة من الرقعة الّتي يتعيّن على المستثمرين إعادتها للحكومة عند نهاية كلّ من المدد المحدّدة في رخصة التنقيب. وعلى سبيل المثال، فإن المستوى العالي من التنافس بين المستثمرين المحتملين، والإمكانيّات الجيولوجيّة الجذّابة، كما في حالة وجود حوض مؤّكد، و/أو اعتماد قاعدة متساهلة للتخلّي يتيح للحكومة عرض رقع أصغر حجمًا. وفي المقابل، تميل الرقع المعروضة لأن تكون أكبر للحدّ من المخاطر التجاريّة عندما يكون الاهتمام محدودًا، وحيث ترتفع المخاطر الجيولوجيّة، كما في المناطق الحدوديّة حيث قد تُعتبر قاعدة التخلّي قاسية من وجهة نظر المستثمر.
ويُنصح ألاّ يطرح لبنان كامل أراضيه للتنقيب والاستغلال في الوقت نفسه. فمن خلال العرض التدريجي للرقع، تحتفظ الحكومة بالمرونة للقيام ببعض التغييرات من حيث شروط التراخيص المستقبليّة، بعد الحصول على معلومات جديدة.
وإذا نجحت عمليّة إرساء قطاع النفط والغاز، من المحتمل أن تقزّم أي قطاع آخر في الاقتصاد اللبناني. ولكن لتحقيق هذا النجاح، يتعيّن أولّاً استيفاء بعض الشروط. فمن بين الخطوات الأوليّة نذكر إرساء نظام مالي بسيط وإنّما صلب ومستقرّ ويتمتّع بالتنافسيّة على الصعيد الدولي. إلى ذلك، يجب أن يرتكز أي تقييم لهذا النظام على تحليل موضوعي وسليم وشامل. وعلى الحكومة أيضًا أن تلتزم بمسار شفّاف لجهة توزيع التراخيص.
نهايةً، فإنّ السؤال الّذي يجب أن يطرحه المطالبون بزيادة معدّل الإتاوة هو التالي: في ظل هذه الظروف، هل يجب أن نتوقّع من شركات النفط الأجنبيّة أن تستثمر في لبنان، وهو يمثّل منطقة غير مستكشفة، تعاني من عدم الاستقرار على الصعيدين المحلّي والإقليمي، إضافةً إلى ضعف المؤسّسات – سيّما خلال مرحلة تتراجع فيها أسعار النفط وتزداد المنافسة من المناطق الأخرى؟