أي أفكار رومانسية في الغرب بأن في مقدور الانتفاضات العربية تأسيس ديمقراطية فورية في البلدان التي نجحت في إسقاط زعمائها، تبدو وقد تحطّمت بالفعل. فهذه الانتفاضات تبرهن، في ظل غياب الأحزاب السياسية القويّة وهياكل المجتمع المدني القابلة للحياة في معظم أنحاء العالم العربي، أنها مجرّد خطوة أولى في سياق عملية لن تتبع مساراً واضحاً، وستستغرق سنوات عدة قبل أن تتكشف. ستمرّ المنطقة بالكثير من التجربة والخطأ، وستشهد العديد من التقلّبات قبل أن تترسّخ فيها نظم سياسية واقتصادية مستقرّة.
بالطبع، التحدّي المتمثّل في استبدال القادة والأنظمة الحالية بأخرى تتبع القواعد الديمقراطية هو تحدٍّ هائل، وبالتأكيد ليس تلقائياً. وفيما يبدأ العالم العربي عملية التحوّل الطويلة هذه، فإن الحقيقة البديهية ولكن الواضحة والتي يتم تجاهلها في الغالب، هي أن الديمقراطية لن تزدهر إلا في ظل ثقافة تقبل التنوّع، وتحترم وجهات النظر المختلفة، وتنظر إلى الحقائق باعتبارها نسبية وتتسامح مع الاختلاف في الرأي لابل تشجعّها. من دون هذا النوع من الثقافة، لايمكن لنظام مستدام للضوابط والتوازنات أن يتطوّر مع مرور الوقت لإعادة توزيع السلطة بعيداً عن السلطة التنفيذية؛ ولايمكن كذلك وضع آلية لكبح التجاوزات من جانب أي مؤسسة رسمية. وفي الوقت الذي تفتح فيه المرحلة الأولى من الانتفاضات الطريق أمام بناء الدولة بعد عقود من الحكم السلطوي، ستكتشف الشعوب في العالم العربي أن مجتمعاتها ليست مجهّزة بالمهارات والقيم اللازمة لقبول قواعد السلوك التعددي والمختلف.
وبالتالي، فإن تجاوز لحظة الفرح الغامر لايتطلّب تغييرات في البنية السياسية والأفراد وحسب (القانون الانتخابي والدساتير والقادة)، بل أيضاً تغييرات جادة ومستدامة في النظم التعليمية للبلدان. فالجهود الحالية لإصلاح التعليم في المنطقة تركّز بشدّة على جوانب "فنّية"، مثل بناء المزيد من المدارس، وإدخال الحواسيب إلى المدارس، وتحسين درجات الاختبار في الرياضيات والعلوم، وجسر الفجوة بين الجنسين في مجال التعليم. وفي حين أنه ضروري وهام، إلا أن التركيز الحالي للإصلاح يفتقر إلى عنصر إنساني أساسي؛ فالطلاب في حاجة إلى أن يتعلموا في سنّ مبكرة جداً ماذا يعني أن يكونوا مواطنين يتعلمون كيف يفكّرون ويبحثون وينتجون المعرفة، ويسألون ويبتكرون بدل أن يكونوا رعايا للدولة تعلّمهم ماذا يفكّرون وكيف يتصرّفون. هذه الخصائص ضرورية إذا كانت المنطقة تريد الابتعاد عن الاعتماد التقليدي على "الريعيات" على شكل أموال نفط ومساعدات خارجية، لتقترب من نظام يمكّن مواطنيها من خلال المهارات اللازمة من بناء اقتصادات ذاتية التوليد ومزدهرة، والوصول إلى نوعية الحياة التي يمكن أن تتحقق من خلال احترام التنوّع، والتفكير النقدي والإبداع، وممارسة المرء لواجباته وحقوقه كمواطن فعّال.