المصدر: Getty

سورية: جذور ثورة عام 2011 وفرص التفاقم أو الانفراج عام 2012

يواجه النظام السوري مصاعب وتحديات وجودية وتاريخية، ورغم أنّه ما زال صامدًا، فقد وصل إلى طريق مسدود: فالنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي -وحتى العقائدي- الذي كان يُفترض أن يديره توقف عن العمل منذ وقت طويل، والانتفاضة نفسها تجاوزت خط الاحتواء.

نشرت من قبل
الحياة
 on ٢٩ ديسمبر ٢٠١١

المصدر: الحياة

حين اندلع «الربيع العربي» في تونس ومصر، اكّد الرئيس بشار الأسد أن نظامه مُحصَّن ضده وسيكون بمنأى عن الثورات الشعبية. بيد أن تطلعات الشعب السوري وآماله والخلل العميق في النظام أطلقا الانتفاضة ودفعاها قدماً إلى الأمام.
 
عشية العام 2011، كان النظام السياسي والاقتصادي السوري الذي تأسس خلال السبعينات والثمانينات قد تفكك إلى حد كبير. فهذا النظام كان قد قام على أساس تمكين جمهور الريف على حساب النخب المدينية المُهيمنة تاريخياً، لكن سنوات مديدة من الإهمال والجفاف، وتقلُّص الدعم الحكومي، عاودت إفقار المناطق الريفية وتهميشها. انكسر العقد بين النظام وجمهوره الريفي، وأصبحت هذه المناطق هي مراكز الثورة، فيما النظام يعتمد الآن على التحالفات في المراكز المدينية الرئيسية. بيد أن هذه الأخيرة لا يُعتمد عليها: فهي لن تقاتل مع أو ضد أي نظام. إنها ستقف في صف أي من سيُكتب له النصر.
 
يضاف الى ذلك أن النظام السوري القديم بُنِي على قاعدة إعادة توزيع الثروة، لكنه في غضون السنوات الماضية أصبح نظاماً قائماً على تجميع الثروة عند ارباب النظام وحلفائهم. فالطبقات الدنيا والوسطى شهدت تدهوراً في وضعيتها الاقتصادية، فيما حصد رجال النظام البلايين. وهكذا كان قد انهار العقد الاجتماعي - الاقتصادي حتى قبل سنوات من هبوب رياح الربيع العربي.
 
علاوة على ذلك، هذا النظام انطلق في البداية كدولة بعثية لها رؤية إيديولوجية ولها نوع من الحياة السياسية الداخلية، تضم فئات شبابية وعمالية وفلاحية وثقافية الخ. لكن مع الوقت تحول من نظام الحزب الواحد الى نظام العائلة الواحدة ذات الاجهزة الاستخباراتية المتعددة. وهكذا توارى حزب البعث عملياً كإطار سياسي، ولم يعد ثمة حياة سياسية أو عقد سياسي يذكر في البلاد.
 
على الصعيد الإيديولوجي، انتهى الحزب الذي كان يعد بالوحدة (العربية) والحرية والاشتراكية بأن يكون متحالفاً مع إيران ضد معظم الدول العربية، لافظاً أي شكل من أشكال الحرية السياسية، ومُفككاً الاشتراكية لصالح إثراء نخبه الخاصة. وبعد فقدان كل هذه المقومات، بات تبرير النظام الأخير هو: «إما أنا أو الحرب الأهلية». والحال ان الخلل في البلاد أعمق بكثير من كونه مجرد صراع بين نظام ومُحتجين. إذ أن هذا النظام دخل في تناقضات اساسية وافلاس وظيفي عميق منذ سنوات عدة، وما نراه الآن هو عوارض هذه الاعطال العميقة.
 
ظهرت الدلائل الأولى على الاحتجاج في دمشق في كانون الثاني (يناير) 2011، لكن الانتفاضة لم تبدأ عملياً إلا في درعا في آذار (مارس). جاءت معالجة النظام للانتفاضة غير متّسقة منذ البداية. فهو استخدم القمع الشرس، في الوقت نفسه الذي كان يُطلق فيه وعود الإصلاح. لكن لا القمع كان كافياً لوقف الاحتجاجات، ولا وعود الإصلاح كانت جدية وسريعة بما يكفي لاستيعاب الانتفاضة.
 
وتمددت الانتفاضة من درعا إلى دوما وبانياس وحماة وحمص وتلكلخ والرستن وجسر الشغور ودير الزور واللاذقية وضواحي دمشق وحلب وبلدات ومناطق أخرى. وكما حدث في بلدان عربية أخرى، كانت هذه انتفاضة شعبية يقودها مواطنون لا حزب أو هيئة قيادية واضحة، وهذا ما جعل من الأصعب على النظام وقفها. ومع ذلك، برزت شبكات التنسيق في الداخل، وتشكّلت معارضة سياسية في الخارج.
 
في مجال العلاقات الخارجية، بدأ النظام متمتعاً بتحالف مع ايران وعلاقات جيدة مع تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي وعلاقات لا بأس بها مع اوروبا وحتى الولايات المتحدة. لكن مع استمرار القمع خسر النظام دعم قطر، والسعودية، ودولة الإمارات، وتركيا، وأوروبا، والولايات المتحدة، الواحدة تلو الأخرى. أحد أسباب هذه الخسائر كان تأثير ارتفاع عدد الضحايا على الرأي العام الإسلامي والغربي. والسبب الآخر هو تدهور العلاقات بين الرئيس الاسد وقادة دول اخرى حيث قطع وعوداً بايقاف القتل وتحقيق الإصلاح السريع ثم نكث بها.
 
علاوة على ذلك، ادى تخبّط النظام الى فتح شهية بعض القوى الإقليمية والغربية، بخاصة في مجال تقليص النفوذ الإيراني، والتعويض عن الانسحاب الأميركي من بلاد الرافدين، ودعم وصول هيمنة سنّية الى دمشق للتعويض عن وصول الهيمنة الشيعية الى بغداد. وقفت روسيا والصين ضد عمل دولي مشترك ينطلق من مجلس الامن، الا ان الموقف الروسي بدأ يضعف مؤخراً مع ارتفاع وتائر القتل في سورية، ومع الصدمة السياسية التي تكبدها رئيس الوزراء الروسي بوتين في الانتخابات الاخيرة.
 
وربما كان لمقابلة الرئيس الاسد مع شبكة التلفزيون الاميركي «اي بي سي» تأثير سلبي كبير على اصدقاء النظام في الخارج، فكان هؤلاء يستندون دائماً الى ضرورة التعاون مع الرئيس الاسد للخروج من الازمة، الا ان المقابلة قدمت الرئيس الاسد كأنه يقول انه اما غير مسؤول عمّا يحدث او غير عارف به او غير قادر على السيطرة على قواته المسلحة واطراف نظامه.
 
قد يشكل قبول سورية بروتوكول الجامعة العربية فرصة لاستكشاف معالم حل سياسي، الا ان من المرجح ان يكون حلقة اضافية لاضاعة الوقت وتعميق الازمة. فالنظام يبدو غير قادر او غير قابل بالدخول في مفاوضات تصل الى تغييرات جذرية في النظام، وقد لا يتغير هذا الموقف الا بعد تأزّم اعمق بكثير للنظام او بعد حدث مفاجئ كانقسام كبير او انقلاب ما في القوات المسلحة. وقد يؤدي ذلك الى فتح مجال لحل «يمني» للازمة حيث يتفاوض اطراف من النظام والقوات المسلحة والمعارضة على خريطة طريق تضم: وقف القمع، تشكيل حكومة انتقالية، رحيلاً آمناً للرئيس وعائلته، والمضي في تعديل الدستور واجراء انتخابات برلمانية ورئاسية الخ.
 
في حال فشل المبادرة العربية واستمرار الازمة ستنتقل الجامعة الى احالة الملف السوري على مجلس الامن، الامر الذي قد يؤدي الى مزيد من العقوبات، وقد يخلق اطاراً لتصعيد خارجي من نوع آخر. يبدو التدخل العسكري الخارجي احتمالاً بعيداً الآن، الا ان التدخل هذا لا يمكن استبعاده كلياً، وهو قد يأتي في حال تفاقم الوضع في سورية بشكل فرض حظر جوي ومناطق آمنة للثوار واللاجئين.
 
إن النظام السوري لا يزال صامداً، لكنه يواجه مصاعب وتحديات وجودية وتاريخية. لم تحدث فيه انشقاقات كبرى وهو لا يزال متراصاً حتى الآن، على عكس ما حدث في مصر وتونس وليبيا واليمن، الا أن الحكم وصل إلى طريق مسدود: فالنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي -وحتى العقائدي- الذي كان يُفترض أن يديره توقف عن العمل منذ وقت طويل، والانتفاضة نفسها تجاوزت خط الاحتواء.
 
بالطبع، من المستحيل التكهن بمحصلات الأحداث في العام 2012، لكن اذا سقط النظام ستكون لذلك مضاعفات بنيوية كاسحة على المنطقة. فهو قد يُغرق سورية في لجج الفوضى لفترة، لكن سورية ليس فيها موازين قوى طائفية قادرة على إدامة الحرب الأهلية إلى أمد طويل كما في لبنان والعراق. علاوة على ذلك، أي نظام جديد في دمشق سيكون بمشاركة سنية كبيرة ويحتمل أن يتحالف عن كثب مع تركيا ومجلس التعاون الخليجي وأن يُضعف الروابط مع إيران و «حزب الله». وهذا سيرسم خريطة جديدة في الشرق الأوسط حيث تتحالف دمشق والرياض والدوحة والقاهرة في ما بينها وتتعاون بشكل وثيق مع تركيا، فيما تتراجع ايران من سورية ولبنان لكن مع بقاء او زيادة نفوذها في العراق.
 
ولا يسع المرء هنا سوى أن يأمل بأن تحدث عملية الدمقرطة في سورية، التي طال انتظارها، بالتراضي بين مكونات المجتمع السوري وبأقل إراقة دماء ممكنة، وبأن توفّر سورية الجديدة الأمان والمشاركة السياسية والازدهار لكل مواطنيها، وان تكون سورية كما كانت في الماضي منارة ثقافية وسياسية في المشرق العربي وعنصر استقرار وازدهار.
 
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.