يُعَدّ لبنان الأكثر عرضةً إلى التأثّر بتداعيات الأزمة السورية من بين الدول المجاورة كافة. فالدولة فيه ضعيفة والتوترات الطائفية على أشدّها والتحالفات السياسية الرئيسة اختارت اصفافاتها، فإما أيّدت نظام بشار الأسد وإما عارضته صراحةً. هذا وكان لبنان تأثّر بالمناوشات الطائفية، والاشتباكات الحدودية، والاغتيالات، وعمليات الخطف، وتدفّق اللاجئين إليه بأعداد كبيرة. ومع أن البلاد تفادت الانهيار حتى الآن، تواجه مخاطر على الأمد البعيد، ولذلك لابد من اتّخاذ خطوات طارئة لتعزيز الاستقرار.
الوضع الداخلي في لبنان
- انقسمت الأحزاب السياسية حول تأييد نظام الأسد أو معارضته، وذلك منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في العام 2005.
- يدعم حزب الله الأسد ولكنه يحرص على تفادي الصدامات الطائفية في لبنان.
- تقدّم بعض المجموعات السنّية المساعدة المباشرة للثوار السوريين، إلا أن الأحزاب السنّية الرئيسة تحرص أيضاً على صون الاستقرار الداخلي.
- على الرغم من تجنّب الاضطراب الداخلي، يمكن أن تشعل الأزمة السورية التوترات السنّية-الشيعية والاستياء السنّي من هيمنة حزب الله أكثر فأكثر، الأمر الذي من شأنه زعزعة الاستقرار في لبنان.
- أعلنت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي موقفاً رسمياً يقوم على سياسة النأي بالنفس عن الصراع السوري، الأمر الذي مكّن الدولة من الوقوف في موقف وسطي.
- يهدّد تدفّق اللاجئين السوريين إلى لبنان (الذي يأوي الآن أكثر من 120 ألف لاجئ مسجَّل وعشرات آلاف اللاجئين غير المعلنين) بزعزعة توازنه الهشّ.
- يعتمد مصير حزب الله جزئياً على نتيجة الأزمة السورية. إذا هزم الثوار نظام الأسد، فسيكون على الحزب أن يعيد النظر في خياراته السياسية والاستراتيجية. أما إذا بقي النظام، فستتعزّز قوة الحزب.
توصيات
دعم الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. هذه القوات تضطلع بدور مهم في ضبط الأزمة ولكنها تحتاج إلى مزيد من الدعم.
تعزيز الاستقرار عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة تكنوقراط من غير السياسيين. لابد من توطيد شرعية الحكومة عبر التخفيف من هيمنة تحالف 8 آذار. قد يستمر رئيس الوزراء الحالي في منصبه، لكن يجب أن تشمل حكومة الوحدة الوطنية الجديدة تمثيلاً أوسع لكلٍّ من تحالف 14 آذار وتيار المستقبل. أما الوزراء التكنوقراط، فيكونون من ذوي الاختصاص من المحايدين وغير المتحالفين مع أيّ من الفريقَين.
تلبية احتياجات اللاجئين السوريين ذي الأعداد المتزايدة تلبيةً سريعة وفعّالة بمساعدة المجتمع الدولي. فضلاً عن الأهمية الإنسانية لهذه المسألة، يمكن الحدّ من التداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية المحتملة لتدفّق اللاجئين إذا ما اعتُمِدَت استراتيجية أكثر صلابة لمعالجة هذا الموضوع.
إقرار قانون انتخاب عصري وإجراء انتخابات برلمانية في موعدها. ينبغي على الحكومة الحالية أو الحكومة الجديدة أن تقوم بهاتين الخطوتين بغية تجديد المؤسسات الديمقراطية في البلاد.
العلاقات المتداخلة بين سورية ولبنان
من بين جميع البلدان المجاورة لسورية، يعدّ لبنان البلد الأكثر عرضة إلى التداعيات الناجمة عن الصراع هناك. فالدولة ضعيفة، والعلاقات الطائفية مشحونة وقابلة للاشتعال بسهولة، والتحالفات السياسية الرئيسة في البلاد إما تدعم نظام بشار الأسد أو تعارضه. وقد صاحبت عملية الاصطفاف المحلية فترات من التوتّر أو الشلل السياسي. واندلعت جولات قصيرة من الاشتباكات المسلحة، ووقعَت عمليات اغتيال شخصيات مناهضة للنظام في دمشق، كان آخرها اغتيال رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبناني، اللواء وسام الحسن، في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2012.
ارتبط لبنان بسورية منذ العام 1976، ورسمت التحالفات المؤيّدة والمعارضة لنظام الأسد حدود السياسة اللبنانية منذ العام 2005. فاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005 أدّى إلى انتفاضة لبنانية ضد الوجود السوري في لبنان، وانسحاب القوات السورية في 26 نيسان/أبريل 2005. وكان قد برز تحالف مناهض لسورية في لبنان، تحت مسمّى تحالف قوى 14 آذار مكوّن من أحزاب سنيّة ومسيحية ودرزية. وكان التحالف مدعوماً من إدارة بوش وفرنسا والمملكة العربية السعودية ودول أخرى، وكان البعض داخل التحالف يأمل بأن تتّخذ الإدارة الأميركية خطوات لإضعاف نظام الأسد في دمشق، أو حتى إطاحته، كما حدث مع نظام صدام حسين في العراق. وفي الوقت نفسه، شكّل حلفاء سورية في لبنان، بقيادة حزب الله، تحالف قوى 8 آذار الذي يضم حركة أمل الشيعية وأحزاباً سنّية ومسيحية ودرزية وأحزاباً أخرى، والذي أيّد علناً نظام الأسد وحظي بدعم إيران وسورية.
نظراً إلى هذا التاريخ، عندما اندلعت الانتفاضة السورية في آذار/مارس 2011 واشتدّت حمأتها في الأشهر التالية، خشي معظم المراقبين داخل لبنان وخارجه من أن تنجرّ البلاد سريعاً إلى الصراع، بل قد تتمزّق بسببه. كانت الاصطفافات السياسية تعكس بشكل خطير خطوط المعركة بين مؤيّدي الأسد ومناهضيه داخل سورية. وألهبت الطبيعة الطائفية المتزايدة للصراع في سورية التوتّرات الطائفية الشديدة في لبنان بشكل مباشر، إذ تحرّك السنّة في لبنان لدعم الثوار فيما وقف حزب الله إلى جانب نظام الأسد.
وبالفعل، وقعت تداعيات كبيرة للصراع السوري في لبنان، تمثّلت في حدوث صراع طائفي في مدن طرابلس وصيدا وبيروت العاصمة، وبروز حالات من التطرّف، وفي موجة من عمليات الخطف والاشتباكات على طول أجزاء من الحدود اللبنانية-السورية، وتفاقم أزمة اللاجئين السوريين، والاغتيالات. وقد أدّى امتداد الصراع إلى تدهور الأمن والاستقرار في لبنان، وارتفاع حدّة التوتر السياسي، وتباطؤ الاقتصاد.
ولكن على الرغم من كل ذلك، تمكّن لبنان من تجنّب حدوث انهيار كبير. لكن البلاد قريبة من حافّة الهاوية. فالتوتّرات المذهبية (وخاصة بين السنّة والشيعة) في أعلى مستوياتها. كما أن شرعيّة الحكومة موضع تنازع من جانب شريحة واسعة من الشعب، ويتدهور الوضع الأمني في ظل زيادة التعبئة الطائفية وتزايد أعداد اللاجئين السوريين.
ويبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كان في مقدور لبنان البقاء متماسكاً، إذا ما استمر الصراع السوري في الأشهر وربما السنوات المقبلة. إن مصادر عدم الاستقرار في لبنان كثيرة واحتمال امتداد الصراع السوري إليه وارد بقوة، لكن لدى لبنان أيضاً عناصر وآليّات لاستيعاب التوترات، جعلته ينجح حتى الآن في استيعاب الأزمة وتفادي الانهيار، وقد تساعده في ضبط مخاطر الفترة المضطربة في المستقبل. وعلى رغم احتمال أن تحافظ البلاد على الاستقرار – ولو كان هشّاً - في المدى القصير، لاتزال المخاطر الجديّة على المدى الطويل قائمة. وسيكون لتطوّرات الصراع ونتائجه في سورية تأثير كبير على الدولة اللبنانية وحزب الله والأطراف السياسية الأخرى.
مصادر عدم الاستقرار وامتداد الصراع
يعاني لبنان من مصادره الذاتية من عدم الاستقرار، وأتت الأزمة السورية لتزيد الحالة اللبنانية هشاشة وعرضة إلى التوتر.
الدولة الضعيفة
قد لايكون لبنان دولة فاشلة تماماً، لكن خلافاً للدولتين الجارتين لسورية، تركيا والأردن، الدولة فيه ليست ذات سيادة حقيقية. فهي لاتحتكر القوة داخل أراضيها ولا تسيطر بشكل كامل على حدودها. ويمثّل حزب الله القوة الأقوى في لبنان ولديه سيطرة أكبر على مسائل القوة العسكرية والحرب والسلام والحدود. إضافة إلى ذلك، كانت القوات السورية منتشرة بالكامل في لبنان بين عامي 1976 و2005، وهيمنت طوال معظم تلك الفترة على الشؤون السياسية والأمنية اللبنانية.
ومع ذلك، تلعب أجهزة الأمن التابعة للدولة اللبنانية دوراً مهماً في إدارة الأمن الداخلي، وكانت عنصراً أساسياً في الحفاظ على الاستقرار النسبي. بيد أنها أضعف من حزب الله من حيث إجمالي القوة النارية، ومتشابكة مع حالة الاصطفاف السياسي والطائفي في البلد. وتنظر معظم الطوائف إلى الجيش اللبناني، على سبيل المثال، بصورة إيجابية عموماً، بوصفه مؤسسة وطنية جامعة، بيد أن صورة جهاز مخابرات الجيش مثلاً مسيَّسة في نظر البعض بسبب قرب بعض قادته المزعوم من أحزاب 8 آذار. وينظر البعض أيضاً إلى مديرية الأمن العام، المسؤولة عن المعابر الحدودية والموانئ والمطارات والتأشيرات، بوصفها قريباً سياسياً من تحالف 8 آذار. وتؤدّي قوى الأمن الداخلي دوراً مهماً، لكن البعض يعتبرها قريبة جداً من فريق 14 آذار وتيار المستقبل تحديداً.
استياء الشارع السنّي من هيمنة حزب الله
ترتبط مخاطر عدم الاستقرار في لبنان بالتوتّرات المذهبية بين السنّة والشيعة واستياء السنّة من هيمنة حزب الله وسلاحه. الطائفتان السنية والشيعية متساويتان في الحجم تقريباً في لبنان، وهما متحالفتان مع القوّتين الإقليميتين المتنافستين المملكة العربية السعودية وإيران. وتعود مشاعر الاستياء السنّي الأخيرة إلى العام 2005 مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إذ وُجِّهَت أصابع اتهام معظم الرأي العام السنّي إلى سورية وحليفها حزب الله، وهي الاتّهامات التي عزّزتها لوائح الاتهام الصادرة عن المحكمة الخاصة بلبنان. وقد أثار حزب الله المزيد من التوترات، في أيار/مايو 2008، عندما ردّ على قرارات اتّخذتها الحكومة، التي كان يترأسها فؤاد السنيورة (وزير المالية السابق والقيادي في تيار المستقبل)، باجتياح بيروت وإذلال مؤيّدي الحكومة والمجموعات السنّية المسلّحة في المدينة. كما جرت مناوشات واشتباكات محدودة في مناطق عدّة من جبل لبنان مع مناصري الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. استاء الرأي العام السنّي مجدداً بعد ثلاث سنوات، في كانون الثاني/يناير 2011، عندما استقال كل وزراء حزب الله وحلفاؤه من الحكومة التي كان يترأسها سعد الحريري، نجل الرئيس رفيق الحريري الراحل، الأمر الذي أدّى إلى انهيار حكومته.
ورأى جمهور واسع من سنّة لبنان في الانتفاضة السورية فرصة ليس فقط لدعم أخوانهم السنّة كي ينتفضوا ضدّ النظام الذي همشهم وقمعهم، والذي يهيمن عليه العلويون، بل أيضاً فرصة لإسقاط القوة الإقليمية التي تقف وراء قوة حزب الله في لبنان. كما أدّى انتفاضة الشعوب ذات الأغلبية السنية ضدّ الأنظمة السلطوية في تونس وليبيا ومصر واليمن إلى إشعال طموحات السنّة في لبنان.
تداعيات الأزمة
لم تبدأ الانتفاضة السورية بقوّة مدوّية، بل باحتجاجات معزولة، ولم يتم إدراك أهميتها الكاملة في لبنان على مدى أشهر. وعندما بدأت الاحتجاجات في سورية في آذار/مارس 2011، كان لبنان منكفئاً على نفسه. وعلى الرغم من بعض الاحتجاجات في لبنان التي قامت بها جماعات المجتمع المدني والتي دعت إلى إجراء إصلاح جذري للنظام السياسي الطائفي في لبنان، ركّز معظم الساسة اللبنانيين على القضايا الداخلية، غير عابئين بما يسمى الربيع العربي، أو بالتأثير المحتمل للاحتجاجات التي بدأت في سورية على المدى الطويل.
في أعقاب انهيار حكومة سعد الحريري في الشهر الأول من 2011، وافق النائب ورئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، الذي كان حليفاً لسعد الحريري في انتخابات 2009، على القيام بمهمة تشكيل حكومة جديدة. قوبل قرار الميقاتي بردود فعل غاضبة من الحريري وشرائح من الشارع السنّي، وبنظرة سلبية من قادة المملكة العربية السعودية.
حكومة ميقاتي وسياسة النأي بالنفس
عندما بدأت الاضطرابات السورية في آذار/مارس 2011، لم يكن ميقاتي قد شكّل حكومته بعد. كان غارقاً في المفاوضات السياسية مع حزب الله وحلفائه على الحقائب الوزارية من دون أن تلوح نهاية قريبة في الأفق. تزايدت ضغوط دمشق لتشكيل حكومة حليفة في لبنان، وحثّ حزب الله حلفائه، ولاسيّما التيار الوطني الحر المسيحي بزعامة ميشال عون، على تسهيل المحادثات مع ميقاتي. وأخيراً تمكّن الرئيس ميقاتي من إعلان تشكيل حكومة جديدة في 13 حزيران/يونيو تتّصف بأكثرية لمجموعة وزراء حزب الله وحلفائه، وثلث زائد واحد لوزراء تابعين لرئيس الحكومة ورئيس الجمهورية والزعيم وليد جنبلاط.
قوبلت الحكومة الجديدة بالترحيب في دمشق وطهران، لكن ليس في منطقة الخليج أو أوروبا أو الولايات المتحدة. ومع ذلك، كانت دول الخليج والدول الغربية في هذه المرحلة مهتمة بالتطورات الجارية في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن وسورية أكثر من اهتمامها بما يجري في لبنان، فقبلت التغيير باعتباره أمراً واقعاً، وتعاملت مع حكومة ميقاتي الجديدة بوصفها الحكومة الشرعية في لبنان.
وإذا ما أمعنا النظر في ماجرى، ربما كان استبدال حكومة الحريري بأخرى يهيمن عليها تحالف 8 آذار المؤيد لسورية ضربة حظ مؤقّتة بالنسبة إلى استقرار لبنان، لأنها أخرجت الحكومة اللبنانية من مرمى النظام السوري المحاصر. فلو ظهرت الانتفاضة السورية عندما كان الرئيس الحريري لايزال على رأس الحكومة اللبنانية، ربما شجّع عداء النظام السوري للحريري وتحالف 14 آذار دمشق على إطلاق حملة أكثر حدّة لزعزعة الاستقرار في لبنان. وفي ظل وجود حكومتين متعاديتين في بيروت ودمشق، ربما كان وضع لبنان أسوأ كثيراً خلال الانتفاضة السورية. بدلاً من ذلك، لم تتمثّل سياسة دمشق في زعزعة استقرار حكومة تعتبرها في الحدّ الأدنى صديقة، بل في التركيز على استهداف أعدائها تحديداً أكانوا داخل مؤسسات الدولة أو خارجها.
في خلال الأشهر الأولى التي تلت تشكيل حكومته، نجح الرئيس ميقاتي في تخفيف حدّة التوتّر من خلال رفض لقب المؤيّد للنظام السوري واعلان سياسة رسمية تتبنى شعار "النأي بالنفس" عن الصراع السوري. وتمكّن أيضاً من تأمين تمويل لبناني للمحكمة الخاصة بلبنان، وهي القضية التي قسمت حكومة سلفه الحريري وساهمت في إسقاطها. ومع تصاعد الصراع في سورية، فضّل تحالف 14 آذار ومؤيدوه التريّث وانتظار تطور الأوضاع التي تسير في اتجاه إضعاف النظام السوري، وتجنّب تصعيد المواجهة السياسية في لبنان قبل تبلور معالم التغيير في سورية. في الوقت نفسه، كان تحالف 8 آذار حريصاً على إبقاء الحكومة التي كان يهيمن عليها واقفة على قدميها وخفض حدّة التوتّر في لبنان.
الاشتباكات الحدودية
مع ذلك، انتقلت شرارات الصراع في سورية إلى العديد من النواحي اللبنانية. فاندلعت أول اشتباكات في بعض الأجزاء من الحدود السورية اللبنانية في تشرين الأول/أكتوبر 2011. وقد تمثّلت الاشتباكات في الأساس بمطاردة قوات النظام السوري للجماعات المتمرّدة عبر الحدود أو بقصف القرى التي قدّمت الدعم لمقاتلي المعارضة السورية. وقعت هذه الهجمات بشكل رئيس في المنطقتين الحدوديتين في البقاع الشمالي وعكار، حيث الروابط بين الثوار السوريين وعدد من القرى والبلدات السنّية قوية. حاول الجيش اللبناني نشر قواته (التي تعاني بالفعل من تناقض بين الطلب على انتشارها في الجنوب وسائر المناطق اللبنانية من جهة، وبين إمكاناتها المحدودة من جهة أخرى) في هذه المناطق الحدودية لسببين: من أجل وقف تدفّق الأسلحة والدعم من لبنان إلى سورية، ومن أجل تجنّب عدم الاستقرار الذي سينجم عن تصعيد الضربات السورية على لبنان. وقد أيّد حزب الله أيضاً هذه السياسة التي انتهجها الجيش للأسباب نفسها. غير أن الجيش لايملك القدرة على الاضطلاع بهذه المهمة بشكل كامل. وبالتالي فقد تواصلت الحوادث والاشتباكات وازداد تواترها وشدتها.
تتفاعل جغرافيا الحدود اللبنانية مع ديناميكيات الصراع السوري بطرق عديدة. فقد كان نظام الأسد خلال الأحداث الأخيرة حريصاً على الإبقاء على ممرّ برّي بين العاصمة دمشق في جنوب غرب سورية وطرطوس على البحر المتوسط في شمال غرب سورية. وهذا هو السبب في أن كثيراً من المعارك في بداية الانتفاضة وقعت حول مدينة حمص، الواقعة إلى الشرق من طرطوس. وبالنظر إلى الصعوبات التي واجهها النظام السوري على طول هذا الطريق، توارد في أن حزب الله استكشف جسراً برّياً احتياطياً عبر الأراضي اللبنانية. يمتدّ الطريق البديل من سهل البقاع في لبنان عبر منطقتَي البقاع الشمالي والهرمل إلى منطقة غرب حمص، ومنها الى الساحل السوري وطرطوس. ويضمّ سهل البقاع الشمالي أغلبية شيعية كبيرة، وهو يخضع إلى هيمنة حزب الله منذ فترة طويلة.
يمكن للطريق البري الممتدّ من بيروت إلى دمشق أيضاً أن يكون طريق إمدادات استراتيجياً مهماً بالنسبة إلى العاصمة السورية، خصوصاً إذا مافَقَدَ النظام السيطرة على الأوتوسترادات الداخلية الاستراتيجية. وتساعد هيمنة حزب الله على بيروت والبقاع ونفوذه على الحكومة اللبنانية في طمأنة دمشق بأن في وسع بيروت الحفاظ على وظيفتها باعتبارها أقرب ميناء إلى دمشق وطريق إمدادات حيوي في حال كانت هناك حاجة ماسّة إلى ذلك.
تدفّق اللاجئين
حتى قبل الانتفاضة السورية، كان هناك مابين 300 و400 ألف سوري في لبنان يعمل معظمهم في وظائف ذات دخل منخفض في البناء والزراعة وقطاع الخدمات. بقي العديد من أسر هؤلاء العمال في سورية، وكان العمال يعودون إلى ديارهم في عطلة نهاية الأسبوع أو في أيام العطل. من الصعب الحصول على أرقام دقيقة وموثوق بها لأعداد السوريين في لبنان لأن السوريين لايحتاجون إلى تأشيرات دخول إلى لبنان، كما أن مديرية الأمن العام، المسؤولة عن تتبّع هذه الأرقام، لاتعلن عموماً عنها.
شهدت الانتفاضة السورية تدفّقاً من نوع آخر. بدأ أوائل اللاجئين السوريين يعبرون إلى لبنان في أيار/مايو 2011، هرباً من هجمات النظام السوري في بلدة تلكلخ وبحثاً عن ملاذ آمن في منطقة عكار. ازداد تدفّق اللاجئين بصورة مطّردة عندما فرّ السوريون من القتال الدائر في حمص وحماه وإدلب وحلب ودمشق في نهاية المطاف أيضاً. بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2012، كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) تساعد بالفعل أكثر من 120 ألف لاجئ حيث يتوقّع أن ترتفع الأرقام بصورة مطّردة. لكن هذه الأرقام تُغفل عشرات آلاف النازحين الآخرين الذين عبروا الحدود وأقاموا مع أصدقائهم أو أقاربهم، أو النازحين الذين يمتلكون الوسائل المالية فاستأجروا غرف الفنادق أو الشقق في جميع أنحاء البلاد وأعدّوا منازل مؤقتة لهم في لبنان. وقد عملت الحكومة اللبنانية بهدوء مع المفوضية العليا للاجئين في محاولة لمساعدة هؤلاء، لكنها كانت بطيئة في رفع هذه القضية على المستويين الوطني والدولي، خوفاً من إحراج النظام السوري. وفي بداية كانون الأول/ديسمبر من العام الجاري، أطلقت الحكومة أخيراً نداء على المستوى الدولي للحصول على مساعدات مالية بقيمة 178 مليون دولار لتلبية احتياجات اللاجئين.
أثّر عدد اللاجئين السوريين بالفعل في المجتمعات المحلية التي يقيمون فيها. ومع تدفق المزيد من اللاجئين إلى لبنان وحلول فصل الشتاء، فإن الوضع قد يشعل توتّرات محلية خطيرة. ففي المناطق ذات الغالبية الشيعية والتي يتم فيها استضافة اللاجئين السنّة أساساً، بقي الوضع حتى الآن هادئاً إلى حد كبير، لكن ثمة خطر في أن يتحوّل إلى نقطة اشتعال مع استمرار تصاعد التوترات الطائفية.
حتى الآن، ليس هناك سوى عدد ضئيل من السوريين النازحين في لبنان يحملون السلاح أو يشاركون مباشرة في التمرد المسلح، والقسم الأكبر منهم موجود في الشمال. الغالبية العظمى من اللاجئين المتبقين هم مدنيون منهكون فارّون من ظروف لاتطاق ويبحثون عن السلامة. ومع ذلك، إذا زاد عدد اللاجئين السوريين بصورة كبيرة، أو أصبحوا مسيّسين ومسلحين على نطاق أوسع، سيصبح وجودهم عامل عدم استقرار مثلما كان وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان في سبعينيات القرن الماضي.
في الواقع، ثمّة خطر يتمثّل في احتمال أن تنجرّ مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ذات الأغلبية السنّية، مثل عين الحلوة قرب صيدا والمخيمات الأخرى في بيروت وحولها، إلى التوتّرات الطائفية المتزايدة. تصرّ الحركتان الفلسطينيتان الرئيستان، فتح وحماس، على عدم التورط في الصراعات اللبنانية أو السورية، غير أن عدداً من الجماعات الإسلامية الموجودة في هذه المخيمات - مثل عصبة الأنصار وجند الشام – لها صلات جهادية متطرفة، ويمكن أن تنخرط بسهولة في القتال الطائفي.
انتفاضة الشمال
في أيار/مايو 2012، اهتزّ الهدوء النسبي الذي تمتّع به لبنان منذ بداية الانتفاضة السورية. ففي يوم 12 أيار/مايو، اعتقل مكتب الأمن العام، الذي يترأسه اللواء عباس إبراهيم، وهو ضابط يُعتبر مقرّب من حزب الله، الناشطَ السنّي الشاب المناهض لسورية، شادي مولوي، في مدينة طرابلس الشمالية. أدّى هذا الاعتقال إلى اندلاع احتجاجات صاخبة في المدينة وأجزاء أخرى من الشمال. أخذت الجماعات السلفية، التي لم يكن لها سوى عدد قليل من الأتباع في المدينة الشمالية لسنوات عديدة والتي تشجّعت بسبب التمويل المتدفّق من الخليج واستنفرت لدعم المتمردين في سورية، زمام المبادرة في النزول إلى الشوارع مسلّحة بالبنادق والشعارات المناهضة لحزب الله والأسد. وقد مثّلت الاحتجاجات الواسعة المسلحة التي تلت اعتقال مولوي تمرّداً سنّياً ضد قوة حزب الله والحكومة التي يهيمن عليها، وإعلاناً صريحاً عن تأييد الثورة السورية.
فشلت محاولة الجيش اللبناني لاستعادة النظام عندما أطلق جنود عند نقطة تفتيش تابعة للجيش في منطقة عكار الشمالية النار على موكب شيخ سنّي من المنطقة، ما أدّى إلى مقتله ومرافقه. أصبح يُنظر إلى الجيش، الذي يُعتبَر عموماً رمزاً للوحدة الوطنية وركيزة لاستقرار لبنان المحفوف بالمخاطر، بوصفه طرفاً غير محايد. ثم امتدّت اضطرابات الشمال إلى بيروت مؤقّتاً حيث قتل وأصيب العديد من الأشخاص في اشتباكات بين الجماعات المناهضة لسورية وتلك المؤيّدة لها. وفي مدينة صيدا في جنوب لبنان، أطلق الشيخ أحمد الأسير حركة احتجاج أيضاً لكنها غير مسلّحة عموماً، ضد هيمنة حزب الله ونظام الأسد.
عمليات الاختطاف والاعتقالات والاغتيالات
مع احتدام الأزمة في الشمال، تعرّض استقرار لبنان إلى ضربة من جهة أخرى يوم 22 أيار/مايو، عندما اختطف المتمردون السوريون في منطقة حلب أحد عشر لبنانياً من الطائفة الشيعية. كان اللبنانيون عائدين على ماقالوا من زيارة دينية في جنوب العراق، لكن المتمردين زعموا أنهم عناصر من حزب الله كانوا يساندون نظام الأسد. اتّسم ردّ فعل حزب الله على عملية الخطف بالهدوء، فعمد إلى سحب المتظاهرين الذين نزلوا في البداية الى الشوارع واعتمد على الحكومة كي تفاوض على إطلاق سراحهم.
تصاعدت عمليات الخطف في منتصف آب/أغسطس، عندما أدّت عملية خطف لبناني شيعي آخر في سورية إلى أن تخطف عشيرة المقداد، التي ينتمي إليها، أكثر من 30 سورياً في لبنان وأن تهدد مواطني البلدان التي تدعم الثوار السوريين. وقد حثّت دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا رعاياها على مغادرة لبنان، لكن ليس قبل أن ينجح "الجناح العسكري لعشيرة آل المقداد"، كما أطلق على نفسه، في خطف رجل أعمال تركي شاب.
نأى حزب الله بنفسه عن ممارسات عشيرة المقداد. صحيح أنّه كان مستاءً بسبب استمرار اعتقال اللبنانيين الأحد عشر في سورية، لكنه لم يكن يرغب بالتأكيد في الوقوع في فخّ التصعيد. في أيلول/سبتمبر، حثّ حزب الله بهدوء الجيش اللبناني على ملاحقة مجموعة عشيرة المقداد في أجزاء من الضاحية الجنوبية ووادي البقاع، ما أدّى إلى الإفراج عن رجل الأعمال التركي وغيره من الأشخاص الذين كانت تحتجزهم العشيرة.
تبعت عمليات الخطف التي تمّت بدوافع سياسية موجة من جرائم الخطف بدوافع جنائية للحصول على فدية، فضلاً عن ارتفاع وتيرة عمليات الخطف والسطو والسرقات. ولذا ليس من المستغرب – في ظل استخدام أجهزة أمن الدولة كل قدراتها ومواردها، وتدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وارتفاع عدد اللاجئين الفارّين من القتال في سورية، حيث الكثير منهم في حاجة ماسّة، وبعضهم مسلح وخطير - أن ترتفع معدلات الخروج على القانون والإجرام.
اهتزّ النظام السياسي اللبناني أيضاً في آب/أغسطس 2012 بسبب اعتقال وزير الإعلام السابق ميشال سماحة. فقد ضُبِط سماحة، أقرب مستشار لبناني للرئيس بشار الأسد، وهو يهرّب متفجرات التي سلّمه إياها مدير الأمن السياسي، علي مملوك، لاستخدامها في هجمات في شمال لبنان. وبدا اعتقال سماحة مؤشراً على أن النظام السوري كان عازماً على معاقبة الشمال السنّي في لبنان، وأن شبكته الأمنية قد ضعفت إلى درجة اضطر معها لتهريب المتفجرات في سيارة وزير لبناني سابق. كما كان مؤشراً على أن النفوذ السوري في لبنان تراجع كثيراً إلى حدّ يجرؤ معه جهاز أمن لبناني على اعتقال شخص قريب من الأسد مثل سماحة. وكشف اعتقال سماحة أيضاً أن جهاز الأمن موضع السؤال، فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، لديه التكنولوجيا والقدرات والإرادة لتنفيذ العملية.
جاءت أكبر ضربة لاستقرار لبنان في 19 تشرين الأول/أكتوبر - وربما ردّاً على اعتقال سماحة - عندما أدّى انفجار سيارة ملغومة في حي الأشرفية المسيحي في بيروت إلى مقتل رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبنانية اللواء وسام الحسن، ومرافقه وضحية مدنيّة. جرت عملية الاغتيال الأرفع مستوى منذ سنوات، في أعقاب محاولات اغتيال فاشلة ضد اثنين من قادة تحالف قوى 14 آذار المناهض لسورية سمير جعجع وبطرس حرب. وعلى الرغم من عدم توفّر أي دليل فوري، ألقى التحالف باللائمة في هذه الاغتيالات على النظام السوري.
ألهبت عملية الاغتيال الرأي العام من مؤيّدي تحالف 14 آذار وأوصلت لبنان مرة أخرى إلى حافّة الانهيار. اندلعت احتجاجات في أجزاء عديدة من البلاد، كما اندلعت اشتباكات مسلحة في طرابلس وكذلك في بيروت. طالب تحالف 14 آذار باستقالة رئيس الوزراء وحكومته على الفور، في حين حذّر رئيس الجمهورية وغيره من الزعماء السياسيين في لبنان من الفراغ السياسي الذي يمكن أن ينتج عن استقالة الحكومة. وندّدت القوى الدولية التي تدعم عادة تحالف 14 آذار بعملية الاغتيال، لكنها حذّرت من انهيار سريع للحكومة ومن حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار السياسي التي ستعقب ذلك.
انحسرت الأزمة وتراجع لبنان مرة أخرى عن حافة الهاوية، لكن ليس من الواضح ما إذا كان في مقدور البلد النجاة من المزيد من هذه الأزمات.
حزب الله ودمشق
يستمر حزب الله في محاولة الابتعاد عن دائرة الضوء. فعندما أدرك أنه أُلقي القبض على سماحة بالجرم المشهود على مايبدو، اختار ألا يدافع عن حليف الأسد، بل البقاء هادئاً. سعى الحزب في الأشهر الأولى من الأزمة السورية إلى التقليل من شأن ارتباطه الفعلي بما يجري في سورية في سبيل البقاء بعيداً عن الأضواء والإبقاء على الهدوء الداخلي في لبنان. ولكن في تشرين الأول/أكتوبر 2012، بدأت التقارير تتزايد عن تورّط حزب الله في القتال في سورية. ففي القرى الشيعية اللبنانية، أقيمت العديد من الجنازات لمقاتلي حزب الله الذين دفنوا على أنهم "شهداء" من دون الإفصاح عن مزيد من المعلومات. وادّعى الثوار السوريون بأن رجال حزب الله كانوا يقاتلون جنباً إلى جنب مع قوات نظام الأسد.
قدّم زعيم حزب الله، السيد حسن نصر الله، تفسيراً للموقف في كلمة ألقاها في أوائل تشرين الأول/أكتوبر قائلاً إن حوالى عشرين بلدة لبنانية شيعية عبر الحدود في سورية تعرضت إلى هجوم من جانب الجيش السوري الحر. كان بعض السكان أعضاء في حزب الله وكانوا يدافعون عن بلداتهم وعائلاتهم. وتشير مصادر مقرّبة من حزب الله في لبنان إلى أن نظام الأسد طلب بالفعل من حزب الله تقديم دعم واسع له، لكن الحزب أرسل عدداً صغيراً فقط من المقاتلين بسبب حرصه على الابتعاد عن الأضواء في الصراع. ومع أنهما لايزالان حليفين استراتيجيين، يبدو أن هناك خلافاً طفيفاً بين دمشق وحزب الله، حيث كان بوسع الأسد الحصول على دعم أكثر علنية وقوة من حزب الله والحكومة التي نصّبها. رأت معظم قيادات حزب الله أنّ نظام الأسد يملك اليد العليا في القتال في سورية، وأنه ليست ثمة حاجة ملحّة للانخراط في الصراع بشكل أكبر، غير أن هناك بعض التكهنات التي تقول إنه إذا خسر نظام الأسد مدينة حلب، وتبعت ذلك معركة من أجل السيطرة على دمشق، فحزب الله قد يقوم بدور أقوى وأكثر مباشرة.
التباطؤ الاقتصادي
تسبّبت الأزمة السورية في تباطؤ اقتصادي في لبنان، ولكن لا في انهيار شامل، الأمر الذي ستكون له عواقب سياسية وربما أمنية واسعة لو حصل. فقد انخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 1 - 1.5 في المئة انخفاضاً من 4 - 5 في المئة في السنوات السابقة. وتراجعت السياحة بنسبة 50 في المئة في العام 2012، مقارنة مع العام 2011، وانخفضت الصادرات بنسبة 20 في المئة في العام 2012. وتضرّر قطاع السياحة بسبب عدم الاستقرار، وتضرّر أكثر بسبب موجة عمليات الخطف التي أفزعت السياح الخليجيين الذين ينفقون كثيراً وجعلتهم ينصرفون عن لبنان. وقد عوّض تدفّق بعض السوريين الذين يملكون الموارد المالية هذه الخسارة جزئياً. واضطرّت مئات الشركات لإغلاق أبوابها، ما أضاف الآلاف إلى صفوف العاطلين عن العمل. وتضرّرت الصادرات اللبنانية بسبب إغلاق الطرق البرية عبر سورية والتي كانت ذات أهمية خاصة لنقل البضائع إلى تركيا والعراق والأردن، لكن أرباب الصناعة تكيّفوا مع الوضع باستخدام الطرق البحرية، على رغم أنها تزيد في تكاليف النقل.
كما واجه القطاع المصرفي، الذي يعتبر العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، تحدّيات خطيرة. فالقطاع لديه ودائع تبلغ نحو 120 مليار دولار، أي مايقرب من 250 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفّر حجر الأساس للثقة في الاقتصاد. لكن البنوك لديها 42 مليار دولار في شكل قروض للقطاع الخاص - بعض المستفيدين من هذه الأموال تأخروا في سدادها خلال الأزمة الحالية - ولديها نحو 30 مليار دولار من القروض على القطاع العام. وتشعر المصارف اللبنانية بقلق شديد أيضاً بشأن الإجراءات التي يمكن أن تتّخذها وزارة الخزانة الأميركية نظراً إلى الحملة التي تشنها واشنطن ضد مصادر تمويل حزب الله، وفرض عقوبات دولية على إيران، والعقوبات الأميركية ضد سورية. في شباط/فبراير 2011 اتّهمت وزارة الخزانة الأميركية أحد البنوك اللبنانية الرائدة (البنك اللبناني الكندي) بغسل الأموال والتورط في الاتّجار بالمخدرات وتمويل حزب الله. ويخشى المصرفيون اللبنانيون من أن تُستهدف المصارف اللبنانية مرة أخرى. فأي مساس جدّي بالمصارف اللبنانية قد يكسر العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، وسيؤدي إلى أزمة حادّة في إدارة الدين العام وتمويل نمو القطاع الخاص.
ومع ذلك، حالت التحويلات الكبيرة من أكثر من نصف مليون لبناني يعملون في الخارج، وطبيعة القطاع الخاص الذي يجيد استيعاب وتحدّي الصدمات السياسية والأمنية، والقطاع المصرفي المرسمل بشكل كبير، حتى الآن، دون انهيار الاقتصاد.
دور الأطراف الخارجية
من الواضح أن النظام السوري مارس ضغطاً كبيراً على الحكومة اللبنانية. ومع أن دمشق غير راضية عن سياسة "النأي بالنفس" التي اتبعها الرئيس ميقاتي، فقد كانت راضية بمعارضة لبنان، أو على الأقل امتناعه عن التصويت، في مؤتمرات القمة الإقليمية والدولية المتعلقة بسورية. ونجحت الحكومة السورية أيضاً في إقناع القوى الأمنية التابعة للحكومة اللبنانية باتّخاذ إجراءات ضد بعض المتعاطفين مع الثورة السورية والمناهضين للنظام. وحثّت دمشق الحكومة اللبنانية أيضاً على وضع حدّ لعمليات تهريب الأسلحة المحتملة من لبنان إلى سورية، وتحسين مراقبة حدودها. التزمت الحكومة اللبنانية في بعض الأحيان بذلك، حيث جرى اعتراض السفينة "لطف الله 2"، التي كانت ترسو في ميناء طرابلس في نيسان/أبريل 2012 وتحمل على مايبدو أسلحة إلى الثوار السوريين. كما كثّفت الدوريات على طول الحدود.
ومع ذلك، لايزال من السهل اختراق الحدود، حيث استمرت الغارات وعمليات القصف والقنص السورية على البلدات الحدودية اللبنانية. ومن غير المرجح أن تصعّد سورية هذه الغارات عبر الحدود وتحوّلها إلى عمليات أكبر لأنها لاترغب في زعزعة استقرار الحكومة الصديقة في بيروت. بيد أن من المرجح أن تستمر في شنّ هجمات لمعاقبة المدن والقرى التي ترى أنها توفّر العون للثوار.
وبالطبع اعتمد المتمردون السوريون أيضاً على حلفاء في لبنان لمساعدتهم. ومع أن تركيا لاتزال قاعدة الدعم الرئيسة لهم، لجأوا أيضاً إلى لبنان طلباً للإغاثة الإنسانية والدعم اللوجستي. ومن الطبيعي أن جزءاً من هذا حدث بسبب العلاقات العشائرية وصلات القرابة بين المدن والقرى عبر الحدود الشمالية، وأدّت الجماعات الإسلامية المتواجدة في شمال سورية وشمال لبنان دوراً بارزاً في ذلك. ومع هذا، فإن حجم الدعم الفعلي الذي يمكن توفيره من شمال لبنان محدود لأن القوى الأمنية اللبنانية والسورية تتعاون في محاولة للإبقاء على مثل هذه التعاملات في حدودها الدنيا.
يمرّ معظم الدعم السعودي والقطري للثوار السوريين عبر تركيا، وهو يتم بالتعاون مع أنقرة. ولعل دول الخليج تدرك أن الوضع في لبنان غير مستقر بما فيه الكفاية لكي يكون قاعدة دعم رئيسة للثوار، وأن الحكومة اللبنانية وحزب الله على وجه الخصوص يمكن أن يعملا لعرقلة محاولات الدعم. ومع ذلك، ثمّة تقارير تفيد بأن الأموال الخليجية، سواء الخاصة أو العامة، تصل إلى الجماعات الإسلامية والسلفية في لبنان المستعدّة لمساعدة الثوار السوريين.
من المثير للاهتمام أن السيناتور الجمهوري الأميركي جون ماكين والسيناتور المستقل جو ليبرمان قاما بزيارات إلى لبنان ليعلنا بصوت عال دعمهما لمقاتلي المعارضة السورية، وقد تم ذلك في حالة ليبرمان من منطقة وادي خالد اللبنانية الشمالية الحدودية. لكن إدارة أوباما عموماً نصحت بالهدوء، مفضّلة الحفاظ على استقرار لبنان وإبقائه بعيداً عن المواجهة في البلد الجار. وقد دافعت دول الاتحاد الأوروبي أيضاً عن سياسة النأي بالنفس.
في الواقع، وخلافاً لما حدث بين عامي 2005 و2008، نصحت الدول الغربية المؤيدة لتحالف 14 آذار بتسوية الخلافات وليس المواجهة في لبنان. وعلى الرغم من التوترات التي تغلي في لبنان، والموقف السعودي الأكثر حدة، فقد كان الموقف الغربي عنصراً هاماً في الاستقرار الهش الذي صمد أمام التقلّبات حتى الآن. في المستقبل، يمكن أن تتغيّر هذه النصيحة الخارجية لصالح التشجيع على بدء مواجهة سياسية مع حزب الله، يمكن أن تتدهور بسرعة إلى مصادمات خطيرة.
آليات التكيّف في لبنان
لقد كانت مفاجأة للكثيرين، حتى في البلد نفسه، أن بوسع لبنان - الذي خضع إلى هيمنة سورية لأكثر من أربعين عاماً - الحفاظ على استقرار وهدوء نسبيين خلال أول 20 شهراً من الاقتتال في سورية. وهذه ليست مجرّد نتيجة سياسات معيّنة – كسياسة "النأي بالنفس" مثلاً - ولكن بسبب عوامل بنيوية أخرى.
أولاً، على عكس البلدان العربية الأخرى في بداية انتفاضات العام 2011، كان النظام السياسي اللبناني ديموقراطياً أساساً، ويقوم على المشاركة الواسعة في السلطة، ويكفل للمواطنين اللبنانيين هامشاً واسعاً من الحرية والمشاركة والتحرّر من القمع. وعلى الرغم من وجود بعض الاستياء من أوجه القصور الكثيرة في النظام السياسي، والخلاف الكبير حول قضية سلاح حزب الله، والخلاف على تمثيل الحكومات المتعاقبة في لبنان، لم يكن لدى أي جماعة، وليس لديها الآن، التزام ثوري بإسقاط النظام الدستوري الأساسي.
ثانياً، مرّ لبنان بالفعل بحرب أهلية طويلة ودموية. وليست لدى القادة والمواطنين – الذين كانت لدى بعضهم شهية للصراع في العام 1975، عندما بدأت الحرب الأهلية - رغبة للاندفاع في صراع آخر من هذا القبيل. ولكن إذا استمر الصراع السوري لفترة أطول وتصاعدت التوترات الطائفية أكثر مما هي عليه الآن، فهذه المناعة النسبية تجاه الصراع قد تنهار.
ثالثاً، تتحوّل الاشتباكات بين السنّة والعلويين في سورية إلى اشتباكات بين السنّة والعلويين داخل لبنان ولكن ليس إلى اشتباكات مباشرة بين السنة والشيعة. ويشكّل العلويون اللبنانيون، ويُقدَّر عددهم بحوالى مئة وعشرين ألفاً، نسبةً صغيرة جداً من سكان لبنان، وهم موجودون في طرابلس وعكار فقط. ونتيجة لذلك، فقد ظلت هذه الاشتباكات محلية الطابع. وإذا ماتصاعدت الاشتباكات بين السنّة والشيعة، فستكون أوسع نطاقاً بكثير. وعلى الرغم من تحالفهما غير المباشر من خلال نظام الأسد، فإن لدى الطائفتين العلوية والشيعية تاريخاً وهوية متمايزين، والاقتتال الطائفي في أحد المحاور لايتحول تلقائياً إلى محور آخر.
رابعاً، يمتلك حزب الله تفوّقاً مسلحاً ساحقاً في لبنان إلى الحدّ الذي يثني خصومه السياسيين عن تحدّيه مباشرة من خلال قوة السلاح. التمرد السنّي المسلح في الشمال بعيد عن متناول حزب الله في حين كانت الاشتباكات في بيروت، حيث يتواجد حزب الله بشكل كبير، أكثر محدوديّة. في الوقت نفسه، يحرص حزب الله على تفادي اندلاع اشتباكات طائفية في لبنان، كما يتجنّب الدخول في صراع مباشر.
خامساً: تؤدّي الطائفة المسيحية دوراً مهماً بصفتها عازل بين الطائفتين السنّية والشيعية؛ وجزءٌ من هذا الدور يعود إلى العامل الجغرافي. على طول الساحل، تتواجد الجماعات السنّية المسلحة بشكل رئيس في الشمال، في حين أن الجماعات المسلحة الشيعية موجودة في بيروت والجنوب. ولعل مايمنع حدوث مواجهات مباشرة بين الطائفتين هو وجود منطقة مسيحية واسعة تمتد من جنوب طرابلس مباشرة وصولاً إلى شرق بيروت. والعامل الآخر من هذا الدور سياسي، إذ يتولى مسيحيان منصبَي رئيس الجمهورية وقائد الجيش وهما موقعان يتّسمان بأهمية كبيرة في النظام اللبناني، الأمر الذي ساعد الأجهزة السياسية والأمنية للدولة على الحفاظ على موقع وسط في ظل تصاعد التوتر بين السنة والشيعة.
بالإضافة إلى ذلك، يتكشّف العديد من النزاعات السياسية بين السنّة والشيعة من خلال حليفيهما المسيحيين: سمير جعجع المتحالف مع تيار المستقبل، وميشال عون المتحالف مع حزب الله. ففي وسع جعجع وعون أن يتشاجرا علناً، بالنيابة عن حلفائهما الأقوى، القضايا السياسية الشائكة مثل سلاح حزب الله وقانون الانتخابات وتشكيل الحكومة من دون تأجيج التوتّرات بين السنّة والشيعة مباشرة.
أيضاً، وفيما يغرق نظام الأسد في مشاكله الداخلية، تمكّن الرئيس اللبناني ورئيس الوزراء من تأكيد مواقف لبنانية أكثر وطنية، وحتى توجيه نقد مباشر مبطّن إلى الرئيس الأسد وحكومته، وهو الأمر الذي لم يكن بالإمكان تصور حدوثه قبل عامين فقط. والواقع أن إضعاف نظام الأسد يمثّل فرصة تاريخية للدولة اللبنانية لاستعادة بعض استقلالها المفقود منذ زمن طويل.
المخاوف المنظورة
هناك العديد من العوامل الديناميكية في الأزمة السورية خارجة عن سيطرة لبنان. ولكن مع ذلك، ينبغي على القادة اللبنانيين والسلطات البناء على الاستقرار الذي تمكنوا من الحفاظ عليه حتى الآن.
إدارة الأزمة
في الوقت الذي تستمر فيه الأزمة السورية، ستنشغل الحكومة وقوى الأمن بمطاردة الشرر وإخماد الأزمات المتناقلة. وسيشمل هذا التعاطي مع الاشتباكات المتكرّرة بين الأحياء السنّية والعلوية في طرابلس وعكار، وإخماد الصراعات بين السنّة والشيعة حيث تندلع، ومحاولة منع حصول المزيد من الاغتيالات أو السيارات المفخخة، ومكافحة موجة عمليات الخطف والإجرام في جميع أنحاء البلاد، والسيطرة على الحدود اللبنانية بشكل أفضل لتجنّب الانجرار إلى القتال في سورية. بيد أن القدرات الأمنية للدولة تضرّرت بسبب اغتيال اللواء الحسن، الذي كان قد بنى قدرات فعّالة لجهاز مخابرات الأمن الداخلي.
والأهم من ذلك، هو أنه يجب على الحكومة أن تضع وبسرعة استراتيجية منسّقة للتعامل مع التزايد السريع في أعداد اللاجئين السوريين في لبنان. فقد أدّى تدفّق اللاجئين حتى الآن إلى توتر النسيج الاجتماعي للبلد، والذي يقترب من نقطة الانهيار؛ إذ يصل عدد المشرّدين داخلياً في سورية إلى 3 ملايين، ولبنان هو البلد الوحيد المجاور لسورية الذي لايسيطر على حدوده بشكل فعّال. وإذا ما أدّى تفاقم الدمار في سورية إلى تزايد كبير في أعداد اللاجئين السوريين في لبنان، فإن ذلك قد يقلب الوضع السياسي والأمني في البلاد تماما.
يجب على الدولة اللبنانية أن تعمل مع المفوضية العليا للاجئين وغيرها من المنظمات المعنية للاستعداد لحصول زيادة سريعة في أعداد اللاجئين، وضمان أن يقيم اللاجئون في ظروف توفّر الأمن الاجتماعي الكافي لهم ولأطفالهم - خصوصاً مع حلول فصل الشتاء - والعمل مع الأحزاب السياسية في البلد فضلاً عن مجتمعات اللاجئين للتأكد من ألا ينغمس هؤلاء في السياسة الداخلية اللبنانية. ففي الماضي، ساهمت الظروف الاجتماعية الرهيبة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين فضلاً عن التسييس الداخلي غير المسؤول للوجود الفلسطيني في لبنان إلى انهيار لبنان في العام 1975. ويجب على لبنان أن يتعلّم من تلك الإخفاقات لتجنب حدوث معاناة إنسانية ومخاطر سياسية مماثلة في مايتعلق باللاجئين السوريين القادمين.
وينبغي على الحكومة اللبنانية التوصّل إلى مقاربة استراتيجية للتعامل مع التدفّق الحالي والمحتمل للاجئين السوريين. وقد سمحت حتى الآن لمفوضية اللاجئين ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، والمنظمات غير الحكومية بأن تأخذ زمام المبادرة، في الوقت الذي توفّر لها الدعم الاحتياطي فقط؛ إذ يتطلّب الحجم المحتمل لتدفّق اللاجئين والتداعيات الإنسانية والأمنية التي قد تترتب عليه استراتيجية أقوى من الحكومة.
الحفاظ على العملية السياسية
من المحتمل أن حكومة الرئيس ميقاتي جنبّت لبنان انزلاق أكبر نحو التداخل مع الصراع الدائر في سورية، وأن سياسة النأي بالنفس ساعدت في فتح طريق وَسَطي بين موقفَي التحالفَين الأساسيين، 8 و14 آذار. لكن حكومة الرئيس ميقاتي أصبحت مع الوقت نقطة خلاف بحدّ ذاتها، حيث أصرّ تحالف 14 آذار، وبعد اغتيال اللواء الحسن، على استقالة الحكومة قبل المباشرة بأي حوار وطني أو المضي بإتجاه انتخابات نيابية.
لاتزال حكومة ميقاتي تتمتع بأغلبية ضئيلة في البرلمان، توفّرها لها الكتلة النيابية الصغيرة للزعيم الدرزي وليد جنبلاط. ويبدو أن الأطراف الخارجية الداعمة لتحالف 14 آذار منقسمة حول هذه المسألة، إذ تفضّل المملكة العربية السعودية، على مايبدو، إسقاط حكومة ميقاتي، في حين تنصح الولايات المتحدة وأوروبا باتباع مقاربة أكثر حذراً. وقد طالب تحالف 14 آذار بتشكيل حكومة تكنوقراطية "محايدة"، واقترح البعض الآخر تشكيل حكومة وحدة وطنية. لكن يبدو أنه من الصعب تحقيق كلا الخيارين في ظل المناخ الحالي من الاستقطاب السياسي. وقد حثّ رئيس الجمهورية على إحياء جلسات الحوار الوطني التي استضافها في السابق للعمل على إيجاد أرضية مشتركة، بيد أنّ تحالف 14 آذار يرفض المشاركة فيها إلى أن يتم إسقاط حكومة الرئيس ميقاتي.
تتمثّل إحدى المهمات الرئيسة التي تواجه هذه الحكومة أو أي حكومة في المستقبل في تنظيم الانتخابات البرلمانية المقرّر إجراؤها في ربيع العام 2013. وستكون هذه أول انتخابات بعد اندلاع الثورة السورية، وستحدّد التحالف الذي يتمتّع بأغلبية في البرلمان المقبل، وسيسمّي ذلك البرلمان رئيساً جديداً للحكومة في العام 2013، وينتخب رئيس جمهورية لبنان المقبل في العام 2014.
ثمّة تحديان انتخابيان يلوحان في الأفق. الأول هو ما إذا كان سيتم إجراء الانتخابات بالفعل. فإذا ماتسببت الأحداث في سورية في حدوث أزمات أمنية وتوترات سياسية في لبنان تتجاوز ماحدث حتى الآن، فقد لاتتمكن الحكومة من تنظيم الانتخابات. وبالإضافة إلى ذلك، إذا كان هذا الطرف أو ذاك يعتقد أن التحالف الذي يقوده سيخسر الانتخابات، فقد يستخدم نفوذه لتأجيلها. مايبعث على القلق هو أنه إذا كانت أي جماعة رئيسة تدفع في هذا الاتجاه، فقد تجد العديد من السياسيين والنواب مستعدين للتعاون معها. إذ، في هذه الحالة، سيمدّد النواب ولايتهم (كما فعلوا مرات عديدة خلال الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990)، ويستمر رئيس الوزراء والحكومة في ممارسة سلطتهما، وتُمدَّد على الأرجح ولاية رئيس الجمهورية كما تم تمديد ولاية سلفَيه.
يتمثّل التحدّي الثاني في صياغة قانون جديد للانتخابات. فقد أوضحت العديد من الأحزاب موقفها ممّا يُسَمّى قانون انتخابات العام 1960 المُرتَكِز على اعتماد الأقضية دوائر انتخابية، والذي كان أساساً لانتخابات العام 2009، ولكن ليس هناك حتى اليوم اتفاق على قانون يحلّ محلّه. اقترحت الحكومة، ومن خلفها تحالف الثامن من آذار، نظام الانتخابات النسبي الذي يتكون من ثلاث عشرة دائرة انتخابية، فيما اقترح تحالف 14 آذار نظاماً أكثرياً مكوّناً من حوالى 50 دائرة انتخابية صغيرة، ويختلف المقترحان اختلافاً كبيراً عن قانون العام 1960، ومن شأنهما خلق برلمانات ذات تكوينات سياسية وحزبية مختلفة. ويمكن في نهاية المطاف استخدام الخلاف العالق حول قانون الانتخابات ذريعة لتأجيل الانتخابات.
من هذا المنطلق، يتعيّن على لبنان تشكيل إما حكومة وحدة وطنية جديدة تشمل مشاركة سنّية أكثر تأثيراً وتمثيلاً من أجل نزع فتيل شعور الطائفة السنّية الخطير بالتهميش، وإما حكومة تكنوقراطية أكثر حياداً لايُنظَر إليها على أنها تعطي أفضلية لأي من الجانبين. كما ينبغي أن يجري التوصّل بسرعة إلى اتفاق على قانون جديد للانتخابات وإجراء انتخابات حرة ونزيهة في الربيع. هذا من شأنه أن يطمئن جميع اللبنانيين، وكذلك أصدقاء لبنان، بأنه على الرغم من الأزمة في الجوار، فإن لبنان قادر على الحفاظ على مؤسساته السياسية الديموقراطية وتجديدها.
تعزيز الدولة
يوفّر تراجع قوة نظام الأسد فرصة للبنان لاستعادة بعض سيادته المفقودة وفرض المزيد من أمن الدولة. في الواقع، أظهرت عملية اعتقال الوزير السابق ميشال سماحة أن لدى قوى الأمن الداخلي قدرة وشجاعة جديدتين. وقد تمكّن مسؤولون لبنانيون، بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء للمرة الأولى خلال أكثر من عقدين، من الإدلاء بتصريحات تنتقد دمشق صراحة. وربما كان اغتيال اللواء حسن تحذيراً من دمشق إلى المسؤولين اللبنانيين من مغبّة تضخيم ضعف سورية والتقليل من شأن قدرتها الدائمة. ومع ذلك، ينبغي على لبنان تعزيز قدرات الجيش وقوى الأمن الداخلي وسائر الأجهزة الأمنية، حتى لو تعرّضت إلى تهديدات مباشرة.
وفي الوقت نفسه، تحتاج الحكومة إلى مراجعة خططها المالية والاقتصادية لدعم اقتصاد لبناني معزول عن الداخل السوري ويعاني من تداعيات الصراع فيه. وهذا يعني اقتصاداً يفتقر إلى وجود طرق التصدير البرية، ويعاني من تراجع القطاع السياحي، ويتحمّل أعباء أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين. وينبغي أن تهتم بشكل خاص بالاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية الملحّة لمدينة طرابلس والشمال، الذي خلق بيئة مؤاتية للتطرّف والعنف.
المخاوف على المدى الطويل
في حين قد يتمكّن القادة اللبنانيون من إدارة التحدّيات المباشرة في الأشهر القليلة المقبلة، قد يواجه لبنان تحدّيات أكثر حجماً وتنوّعاً، إذا ماقُدّر للأزمة السورية أن تستمر بعد لفترة طويلة، واعتماداً على نتائجها النهائية.
التعامل مع نتائج الأزمة السورية
ثمّة مخاوف جديّة تتعلق بكيفية تعاطي لبنان مع السيناريوات المختلفة لتطوّر الصراع السوري وانتهائه. فكل نتيجة تجلب معها مجموعة من المخاوف الخاصة. السيناريو الأكثر تفاؤلاً بالنسبة إلى لبنان يتمثّل في التوصل إلى تسوية للصراع عن طريق المفاوضات وبدء عملية انتقالية موجهة وهادفة تتضمّن رحيل الرئيس الأسد، وتشكيل حكومة انتقالية تتكون من شخصيات من النظام والمعارضة. هذا، إذا حصل، من شأنه أن ينهي الصراع الأساسي ويمضي بسورية قدماً نحو الإصلاح السياسي من دون أن يؤثّر بشدة على التوازنات السياسية الدقيقة في لبنان.
ومع ذلك، فإن مايبدو مرجحاً في الوقت الحالي، هو حرب أهلية طويلة. ربما يتمكّن النظام من الاحتفاظ بسيطرته على دمشق فضلاً عن شمال غرب البلاد، حتى لو فقد شيئاً من السيطرة على حلب وبعض المدن والمناطق الشمالية والشرقية. سيكون حزب الله ضرورياً للحفاظ على طرق الإمداد إلى دمشق وتوفير طريق بري من خلال سهل البقاع الذي يربط دمشق وشمال غرب سورية. ربما أمكن للبنان أن ينجو من ارتدادات هذا السيناريو من خلال إدارة منسَّقة للصراع الداخلي. ولكن إذا أسفرت الحرب الأهلية السورية عن تدفق أعداد أكبر من اللاجئين إلى لبنان، فالتوازن الحالي الدقيق قد ينهار.
في الوقت الحالي، يبدو تحقيق نصر مطلق لأي من طرفي الصراع السوري بعيد المنال، ولكن من شأن ذلك أن يخلق حقائق جديدة وصعبة بالنسبة إلى لبنان. وإذا ماتمكّن نظام الأسد بوسيلة ما من الصمود في وجه الثورة وإضعافها تدريجياً - والتاريخ لايخلو من المفاجآت – فمن المرجح أن تجري تصفية للحسابات في لبنان. سيشعر النظام بأنه قد انتصر، وربما ينتقل إلى معاقبة معارضيه وتأكيد هيمنته الكاملة في لبنان جنباً إلى جنب مع حزب الله. فحتى في الأوقات الطبيعية، تعرّضت الفصائل المناهضة لسورية في لبنان إلى عمليات اغتيال وتخريب، بيد أن تصفية الحساب من جانب نظام سوري جريح لكن عائد بقوة يمكن أن تكون أكثر فظاعة.
بدلاً من ذلك، إذا تمكّن الثوار، بعد فترة طويلة من القتال، من إسقاط النظام في النهاية، فالكثير سيعتمد على تركيبة فصائل الثوار وتوجّهاتها في تلك المرحلة. فإذا ماتمكّنوا من تنظيم أنفسهم في جبهة وطنية موحّدة تطوّق الجماعات المتطرّفة، وتركّز بشكل واضح على العملية الانتقالية والإصلاح في سورية، فعندئذ لاينبغي أن يتسبّب انتقال السلطة بحدوث عدم استقرار كبير في لبنان. أما إذا هيمنت العناصر المتشدّدة المتأثرة بتنظيم القاعدة في الانتفاضة السورية في نهاية المطاف، وقادت الجهود الرامية إلى إسقاط النظام، ففي وسع هذه العناصر - كما قال العديد من قادتهم - نقل المعركة إلى لبنان. ولن يكون سقوط نظام دمشق الذي يهيمن عليه العلويون والمتحالف مع إيران إلا مقدمة، وسيشجع تلك العناصر على ملاحقة حزب الله الشيعي المدعوم من إيران في لبنان. وعندها سيكون لبنان عرضة إلى خطر السقوط في حرب أهلية جديدة ومدمّرة.
مايلوح في أفق هذه المخاوف المتوسطة وطويلة الأجل، هو أنه بينما يضعف نظام الأسد ويصبح حزب الله أكثر انكشافاً من الناحية الاستراتيجية، وتستمر الأزمة بين إسرائيل وإيران، فقد تشنّ إسرائيل في مرحلة ما حرباً جديدة ضد حزب الله. يبدو المنطق الكامن وراء هذه المخاوف منذراً بالسوء. فلا يزال حزب الله حليفاً أساسياً وقوة ردع لإيران ضدّ إسرائيل إذا مافكرت الأخيرة (أو حتى الولايات المتحدة) بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. وقد تستنتج إسرائيل أن سورية لم تعد قادرة على تسهيل عملية إعادة تسليح حزب الله كما حصل بعد حرب 2006. وربما تستنتج إسرائيل أيضاً أن الاستعدادات التي قامت بها منذ حرب العام 2006 وأنظمة الدفاع الصاروخي الخاصة بها، والتي جرّبتها في حرب غزة الأخيرة، قد تجعل كسب مثل هذه الحرب ضد حزب الله في نهاية المطاف أمراً ممكناً ومقبولاً من حيث التكاليف. فحرب العام 2006 بين إسرائيل وحزب الله أدّت إلى حالة من الردع المتبادل والهدوء على طول حدود البلدين، ويمكن لسقوط نظام الأسد أن يدخل في المعادلة حسابات جديدة قد تقلب هذا التوازن.
التأثير على التحالفات وصيغ الحكم
على المدى الطويل، سيكون لنتيجة الصراع السوري تأثير على التحالفات داخل لبنان، وربما تؤثّر على المواقف بشأن الترتيبات الأساسية للحكم. فقد وُلد تحالف قوى 14 آذار معارضاً لنظام الأسد قبل سبع سنوات، وإذا ماسقط نظام الأسد، فما الذي سيبقي أعضاء التحالف متماسكين؟ وإذا ظهر في دمشق مابعد الأسد نظام ذو مظهر سنّي معتدل، فقد تجدّد الأحزاب المسيحية والدرزية تحالفها مع الأحزاب ذات الأغلبية السنية في لبنان بهدف الاستفادة من الرياح المواتية الآتية من دمشق. أما إذا انتهى الأمر بوقوع دمشق تحت سيطرة العناصر الجهادية المتطرفة، واذا أدّى ذلك إلى صعود تيارات سنّية متطرّفة في لبنان، فقد يتخوّف المسيحيون والدروز من هذا الصعود، وربما يفكّرون بالتقارب مع الأحزاب الشيعية.
وبالمثل، يمكن أن تؤثر نتائج الصراع في دمشق على تحالف 8 آذار المؤيّد لسورية. فقد انضم العديد من الأفرقاء إلى هذا التحالف لأنهم افترضوا، بناءً على معطياتٍ كانت موجودة في الماضي، أن نظام الأسد وحزب الله أكثر اللاعبين قوة في لبنان. وإذا سقط نظام الأسد، فستشعر العديد من هذه الأطراف بالتيتّم، لكنها ستظل تعتمد على حزب الله. وما لم تنشب حرب أخرى بين إسرائيل وحزب الله، سيظل حزب الله أقوى لاعب في لبنان في المستقبل القريب، ويمكنه الحفاظ على تحالف محلي قوي.
من جهة أخرى، قد يثير تغيير السلطة في دمشق المصحوب بتغيير دستوري عميق، قضايا التغيير الدستوري في لبنان أيضاً. وبوجه خاص، إذا شعر حزب الله أن عودة سلطة سنّية في دمشق يقطع الطريق أمام استمرار دوره الاستراتيجي، فقد يقترح دمج سلاحه بصورة تدريجية مع الدولة في مقابل إعادة التفاوض على اتفاق الطائف - اتفاق تقاسم السلطة في العام 1989 الذي ساعد في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة – وتأمين حصة أكبر للطائفة الشيعية في البرلمان والسلطة التنفيذية. ربما تشمل إعادة التفاوض مطالب باستبدال نسبة 50 في المئة للمسيحيين ومثلها للمسلمين في البرلمان والحكومة بأخرى يحصل فيها كل من المسيحيين والسنة والشيعة على ثلث المقاعد. وربما تشمل المطالب التناوب على منصب رئيس الوزراء بين السنّة والشيعة، أو بعض الترتيبات البديلة لمنح الشيعة حصة أكبر في السلطة التنفيذية. وقد يؤدّي تفكيك اتفاق الطائف، والذي كان في حد ذاته نتيجة لسنوات عديدة ومؤلمة من الحرب الأهلية والمفاوضات المتقطّعة، إلى انهيار الوضع السياسي الراهن في لبنان وإلى فترة جديدة من الاضطرابات وعدم الاستقرار.
دور الأطراف الدولية
يتعيّن على المجتمع الدولي القيام بدور في تعزيز الاستقرار في لبنان. وتتمثّل أفضل وسيلة للأطراف الفاعلة الإقليمية والدولية لمساعدة لبنان، في المساعدة في حل أو نزع فتيل الصراع السوري. غير ذلك، اتبع العديد من اللاعبين الخارجيين - أنصار تحالفَي 8 و14 آذار - بالفعل سياسة تقوم على تشجيع الاستقرار في لبنان وإبقاء هذا البلد على مسافة من الصراع الدائر في الجوار. وكانت هذه المقاربة حكيمة ومفيدة.
ينبغي على دول الخليج، التي شجّع بعضها أو سمح بتمويل وتسليح الجماعات المتطرفة في شمال لبنان في دعم مباشر للمتمردين السوريين، أن تعيد النظر في سياساتها لجهة أنها تفضي إلى جرّ لبنان نفسه إلى صراع داخلي. ويجب على إيران، التي شجعت أو نسّقت مع حزب الله لإرسال بعض المقاتلين إلى سورية، أن تأخذ بعين الاعتبار أن هذه السياسة يمكن أن تؤدي أيضاً إلى صراع داخلي في لبنان.
بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات النيابية في الربيع المقبل - وعلى افتراض أنها ستتم - على الأطراف الخارجية التي تدعم كلا الطرفين المؤيد لسورية والمناهض لها في لبنان الدفع باتجاه تشكيل حكومة تضمّ الأفرقاء كافة بعد الانتخابات. فلبنان يحتاج إلى الاستمرار في أن يُحكم بعناية فائقة وفي ظلّ مشاركة واسعة في السلطة والحوار بين الطوائف والأحزاب الرئيسة. فلا فائدة من استخدام صيغة الغالب والمغلوب في حكم لبنان، ولاسيما في هذه المرحلة الدقيقة.
تمثّل الفترة الحالية أيضاً فرصة لأصدقاء لبنان لتعزيز دعمهم للأجهزة الأمنية اللبنانية. فهذا ضروري لهذه الأجهزة لإدارة الحدود والوضع الأمني الداخلي، والاثنان يشكّلان تحدياً متزايداً، كما أنّه يشكّل إشارةً إلى دعم محاولات الدولة لاستعادة أجزاء من سيادتها المفقودة منذ فترة طويلة.
ستكون قوة وصدقيّة أجهزة الدولة الأمنية مهمة أيضاً على المدى الطويل في التفاوض على العلاقة مع حزب الله. وقد اقترح رئيس الجمهورية صيغة تسمح لحزب الله بالاحتفاظ بسلاحه ولكنها تقتضي أن يكون قرار استخدام هذه الأسلحة في الحرب بيد الدولة. وجادل حزب الله بأنه لايمكنه التنازل عن أي من مهامه الأمنية ما لم تُعزَّز القدرات الأمنية للدولة بشكل كبير وإثبات فعّاليتها.
يتعيّن على المجتمع الدولي أيضاً الاستجابة بسرعة وفعالية للنداءات التي توجهها الحكومة اللبناينة والمفوضية العليا للاجئين ويونيسيف وغيرها من الوكالات للحصول على الأموال بهدف التعاطي مع تدفق اللاجئين السوريين. وما لم تُلَبّى الاحتياجات الإنسانية للاجئين وأسرهم، لن تقتصر التداعيات على المستوى الإنساني وحده، بل يمكن أن تؤثر أيضاً على الأمن الداخلي في لبنان؛ إذ سيكون اللاجئون اليائسون أهدافاً سهلة للتجنيد من جانب الجماعات المتطرفة، ويمكن أن يُستغَلّوا لنقل الصراع السوري إلى لبنان.
وبينما يدخل لبنان في السنة الثالثة من الصراع السوري، فإنه أشبه بزورق لايزال عائماً ولكن تتقاذفه الأمواج ويبقى معرّضاً إلى الغرق في أي وقت. صحيح أن لبنان نجا من العاصفة حتى الآن، لكنه يواجه تحدّيات خطيرة في المستقبل. ولذا يتعيّن على قادة لبنان، وكذلك أصدقائه في جميع أنحاء العالم، الاستمرار في تشجيع إبعاد لبنان عن الصراع السوري، وتجنّب استخدام السياسة أو الأمن اللبناني كإسفين أو ساحة لخوض حروب أخرى.
نبذة عن الكاتب
بول سالم هو مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، لبنان. تتناول أبحاثه ومنشوراته العلاقات الإقليمية والدولية للشرق الأوسط، إضافة إلى قضايا التطور السياسي والدمقرطة في العالم العربي. وضع عدداً من الكتب والمقالات في شؤون الشرق الأوسط، فضلاً عن دراسات لمؤسسة كارنيغي، منها "تحديات العملية الانتقالية في ليبيا"، و"بناء التعاون في الجزء الشرقي من منطقة الشرق الأوسط"، و"الدولة العربية: هل تمكّن التنمية أم تعرقلها؟". ويكتب سالم بانتظام مقالات في الصحف العربية والعالمية، وهو غالباً مايشارك في مقابلات تلفزيونية وإذاعية.
- Executive magazine, no. 159, October 2012, passim.
- على سبيل المثال، ذكرت صحيفة محلية أن قطر كانت تدفع رواتب شهرية لعدد من المسؤولين الدينيين في شمال لبنان، إضافة إلى تمويل محطة إذاعية إسلامية سلفية هناك. صحيفة الأخبار، 8 تشرين الأول/أكتوبر، 2012.
- أنظر على سبيل المثال: “Syrian Rebels Warn to Take Battle to Hezbollah Stronghold,” NOW Lebanon, October 9, 2012, http://goo.gl/hgu2M.