المصدر: Getty
دراسة

انعدام الأمن الغذائي في سورية التي مزّقتها الحرب: من الاكتفاء الذاتي طوال عقود إلى الاعتماد على الواردات الغذائية

لقد تعرّض الأمن الغذائي في سورية إلى التآكل في السنوات القليلة الماضية، في ظل تراجع إنتاج المحاصيل الرئيسة بدرجات متفاوتة بسبب تأثير الصراع على المبيدات، وعرقلة طرق التجارة، وانخفاض دعم الوقود.

نشرت في ٤ يونيو ٢٠١٥

أُعِدَّت هذه الورقة في إطار مشروع إعادة الإعمار الاقتصادي في سورية 2013-2014 الذي يديره مركز كارنيغي للشرق الأوسط، والذي سعى إلى المساعدة في رسم خريطة الديناميكيات الاجتماعية والسياسية والمؤسّسية التي سيتم إعدادها، عندما تبدأ عملية إعادة الإعمار في مرحلة مابعد الصراع في سورية. وُضعَت هذه الورقة في العام 2014 وجرى تحديثها في آذار/مارس 2015.

قبل انتفاضة آذار/مارس 2011، كانت سورية البلد الوحيد في المنطقة الذي كان مكتفياً ذاتياً في مجال إنتاج الغذاء، ولاسيما المحاصيل الزراعية الأساسية مثل القمح والشعير. وقد تحوّلت سورية حتى إلى مُصدِّر إقليمي قبل أن يُجبِرها جفافٌ كبيرٌ بين العامَين 2008 و2009 على استيراد كميات كبيرة من القمح للمرة الأولى منذ سنوات عدة.

وبعد مرور أربع سنوات على الصراع المُدمِّر، تتحوّل البلاد إلى مستورد صاف للقمح، في ظلّ تراجع إنتاج الفاكهة والخضار. يُشار إلى أن سورية كانت أنتجت في السنوات التي سبقت الانتفاضة، محاصيل أكثر بفضل التحسينات التي أُدخِلَت على ممارسات إدارة الأراضي والمحاصيل، التي ساعدت البلاد على جذب الأسواق الرئيسة في البلدان المجاورة والخليج.

أما الآن، فيبدو أن احتياطيات القمح الاستراتيجية الضخمة نفدت أو استُهلِكَت إلى حدّ كبير، وهي كانت ركيزةَ سياسة الأمن الغذائي التي اتّبعها حزب البعث لتحقيق الاكتفاء الذاتي والتخفيف من أي تأثير للعقوبات الاقتصادية الغربية.

ومع أن الأرقام المتاحة قليلة، يقول المحللون إن مخزون القمح السوري تضاءل إلى مقدارٍ يتيح الاستهلاك لأقل من بضعة أشهر، على خلاف احتياطيات القمح التي كانت تكفي قبل الأزمة لتغطية استهلاك البلاد لعام واحد على الأقل.2 والواقع أن معظم احتياطيات البلاد التي تُقدَّر بـ3.5 ملايين طن خُزِّنَت في أكثر من 140 صومعة في مناطق استولت عليها قوات المعارضة من النظام. ولايعمل حالياً سوى ثلث هذه الصوامع.

شهد القطاع الزراعي في سورية استثمارات عامة وخاصة كبيرة في التقنيات والبنية التحتية الزراعية الحديثة وسريعة النمو قبل اندلاع الأزمة في العام 2011. ففي شمال شرق سورية، كانت السلطات قد بدأت تستثمر في الري بالرشّ في العديد من المشاريع الأكبر حجماً التي تديرها الدولة، كما كان الحال في بعض الاستثمارات الخاصة الكبيرة.

أما اليوم فمعظم هذه البنية التحتية إما مُدمَّر أو مُتوقِّف عن العمل.

والواقع أنه كلما طال أمد الصراع، كان من المكلف أكثر على القطاع الزراعي أن يستعيد عافيته. وعلى الرغم من وجود مؤشرات على أن القطاع استطاع التأقلم على الأقل، كان لغياب الأسمدة والوقود الرخيص في بعض المناطق أثرٌ ضارّ سيجعل استعادةَ عافية القطاع الزراعي في البلاد أمراً يستغرق سنوات. 

تغيّرات في الاقتصاد الريفي وتفاقم الاختلالات الاجتماعية

يكتسي تأثير الأزمة السورية على الزراعة أهميةً خاصةً لأن القطاع هو مورد الدخل الرئيس لنسبة كبيرة من السكان. فوفقاً لخبراء سوريين محليين وخبراء زراعيين في الأمم المتحدة، يرتبط حوالى 40 في المئة من سبل العيش في سورية بالزراعة بشكل أو بآخر.

فضلاً عن ذلك، سيؤدّي تآكلُ ثروة مجتمعات المزارعين دوراً حاسماً في المشهد الاجتماعي-الاقتصادي مابعد الصراع، ولاسيما أن تهميش الريف في العقد الذي طُبِّقَت أثناءه الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية قبل انتفاضة العام 2011، اعتُبِر أحد العوامل الاقتصادية التي أجّجت الانتفاضة.

كما أن تراجع المساحات الزراعية خفّض معايير العيش للمجتمعات الزراعية الريفية التي كانت تعتمد على الزراعة وتربية الماشية.

إضافةً إلى ذلك، تعني عسكرة الانتفاضة أن العديد من الشباب الذين كانوا يعملون في القطاع الزراعي-الصناعي وفي الأراضي، هم الآن جزء من اقتصاد حربٍ يعتمدون عليه بشكل متزايد. فهم يتقاضون رواتب من مجموعات المعارضة المسلحة، التي لها مصادر دخل خاصة بها من عمليات النهب والسرقة والاستيلاء على أصول الدولة.

وسيكون للدور المتقلّص للقطاع الزراعي تأثيرٌ سلبي على المؤشرات الصحية والغذائية الأساسية، مع تزايد عدد الأشخاص الذين يحصلون على طعام قليل بسبب تناقص مخزون الغذاء. إن عدم توافر الغذاء، وظروف العيش غير الصحية والاكتظاظ، والخدمات الصحية غير المتاحة أو المحدودة، وتراجع تحصين الأطفال دون سنّ الخامسة، كلها عوامل تؤدّي أيضاً إلى زيادة خطر الأمراض المُعدية، وتترتّب عليها تداعيات خطيرة على الوضع الغذائي لهؤلاء الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات.

الاعتماد المتزايد على الواردات الغذائية، ومعظمها من تركيا، في المناطق الواقعة تحت سيطرة المتمرّدين

من بين التبعات المثيرة للقلق للصراع المستمر منذ أربع سنوات، أن أعداداً أكبر من السوريين أصبحوا عاطلين عن العمل وأكثر اعتماداً على الطرود الغذائية التي ينقلها عبر الحدود المغتربون السوريون، والجمعيات الخيرية الخليجية، والوكالات التابعة للأمم المتحدة مثل برنامج الأغذية العالمي. تشكّل هذه المجموعات راهناً مصادر أساسية للحصول على الإمدادات الغذائية.

ينطبق هذا الأمر خصوصاً على المناطق الواقعة تحت سيطرة المتمرّدين، مع أن العديد من الأشخاص الذين نزحوا بسبب الصراع ويعيشون في المناطق الخاضعة إلى سيطرة الدولة في حلب ودمشق، يعتمدون على منح برنامج الأغذية العالمي التي توزّعها قنوات حكومية.

في شمال غرب سورية وعلى طول الحدود التركية، تعتمد الكثير من الأسر التي تسكن في خيمٍ أو ملاجئ مؤقتة بشكل كبير على المساعدات الغذائية المقدّمة من جمعيات خيرية ومتبرّعين في تركيا ودول الخليج.

تمرّ المقطورات يوميّاً في معبرَين حدوديّين رئيسَين هما معبر باب الهوى ومعبر باب السلامة، لإيصال المساعدات الغذائية إلى القرى الواقعة في المناطق الخاضعة إلى سيطرة المتمرّدين. اعتاد الناس والتجّار على العيش في مناطق الصراع وأصبحوا متكيّفين مع التغييرات التي طرأت على طرق التجارة.

يؤدّي التجار السوريون الذين يقومون بالاستيراد عبر المرافئ التركية لتزويد هذه المناطق بالسلع، دوراً أساسيّاً أيضاً، وفقاً لسكان بلدات ريف إدلب وحلب.

حتى المناطق التي تقطنها غالبية كردية على طول الحدود الشمالية والشرقية التي هي أقل تضرّراً من الصراع، مثل مدينة عفرين، ومنطقة الرقة، والمعبر الحدودي مع تركيا، مثل تل أبيض، شكّلت قنوات أساسية لنقل السلع والإمدادات الغذائية.

ينبع تزايد الاعتماد على تركيا باعتبارها شريان الحياة لجهة تأمين الغذاء، من الانهيار الوشيك للنشاط الصناعي في حلب، عاصمة البلاد الاقتصادية التي كانت سابقاً تؤمّن معظم المواد الاستهلاكية الأساسية لسكان المنطقة. يعني ذلك من نواحٍ كثيرة أن هذه المناطق أصبحت بشكلٍ فعّال امتداداً للسوق التركية.

فقدان إنتاجية الأراضي الصالحة للزراعة

أدّى الصراع إلى تضاؤل الأراضي المزروعة لأسباب عدّة: انقطاع التيار الكهربائي، وتدمير قنوات الري، وارتفاع كلفة الوقود. يمكن للتناوب في زراعة الحبوب والبقول أن يساعد على استعادة مغذيات التربة أو الحفاظ عليها، وعلى الحد من مخاطر الآفات، ولكن هذا الأمر تم تجاهله، مايطرح أيضاً مشكلة خطيرة.

يدور القتال العنيف في البلاد وسط منطقة رئيسة لزراعة المحاصيل، تمتد على طول ساحل المتوسط الغربي، وشرقاً نحو الحدود الشمالية مع تركيا. كما أثّر تعطيل الإنتاج الغذائي في الغوطة التي يمزّقها الصراع على توفّر المنتجات الطازجة في العاصمة وعلى الأسعار.

وكان من بين التبعات غير المتوقعة للصراع انهيار الضوابط الصارمة على سوء استخدام أو الاستخدام المفرط للمياه الجوفية. يحفر المزارعون في مناطق البلاد الخاضعة إلى سيطرة المتمرّدين الآبار الجوفية لري الأراضي الزراعية الجديدة. ولولا الآبار الجوفية، لما كانت هذه الأراضي ستُزرع أو تُحصد في ظل المستويات الراهنة لهطول الأمطار.

يشكّل تأثير استنزاف طبقات المياه الجوفية، فيما يستغل المزارعون الأزمة لضخ المياه من الآبار الجديدة، مشكلة من شأنها أن تفاقم أزمة المياه على المدى الطويل في البلاد، في ظل انخفاض منسوب المياه الجوفية. لكن هذا كان أحد عوامل صمود المجتمعات المحلية الريفية في المدى القصير، وساعدهم على إنتاج مايكفي من الغذاء في المناطق المحلية، وخفّف من حدة تعطيل طرق التجارة.

مع أن العديد من المزارعين في المناطق الأقل تأثّراً بالصراع سعوا إلى الحفاظ قدر الإمكان على زراعة المحاصيل على الرغم من الأعمال العدوانية، قوّض الانخفاض في معدّل عائدات المنتجات المحلية، ونقص الأسمدة، وارتفاع تكاليف الوقود، مستوياتِ الإنتاجية، وفقاً لخبراء في الاقتصاد الزراعي تمّت مقابلتهم لإعداد هذه الدراسة.

تسبّبت طبيعة القتال من قرية أو بلدة إلى أخرى باضطراب وفوضى في سلسلة الإمدادات، وبالتأخّر على الطرقات المستخدمة لنقل المنتجات إلى الأسواق. لكن في الكثير من الحالات، ضمنت الترتيبات الفعلية على الأرض التدفق المستمر لإمدادات الأغذية والطاقة الضرورية من المناطق الخاضعة إلى سيطرة الدولة إلى أراضي المعارضة بسهولة نسبية – وهذا الأمر خير مثال على أن إرادة البقاء لدى الإنسان تفوق أي اعتبار آخر، حتى خلال الصراع.

انتقلت بعض المجتمعات الزراعية النازحة محليّاً من المناطق الريفية في حمص ودمشق إلى قرى زراعية مثل طفس واليادودة جنوب منطقة حوران الخصبة، حيث لجأت إلى بلدات مهجورة كان سكّانها قد هربوا منها إلى مخيّم الزعتري للاجئين في الأردن.

مع ذلك، من الواضح أن لاشيء يمكن أن يعوّض عن فقدان قدر كبير من إنتاج الخضار والفاكهة الطازجة - من الخيار إلى الطماطم والأشجار المثمرة - التي كان سهل حوران الخصب يصدّرها قبل الأزمة إلى الخليج في تجارة مزدهرة كانت تدرّ ملايين عدّة من الدولارات.

ينطبق هذا الأمر أيضاً على سائر المناطق الزراعية الرئيسة في سهل الغاب وإدلب وحلب.

تدمير الصناعات الزراعية في سورية

سيكون أحد التبعات الكبرى للأزمة، الاعتماد المتزايد والمتنامي على واردات المواد الغذائية الأساسية. فنصف القدرة الإنتاجية متوقفة عن العمل في قطاع الصناعات الزراعية الذي كان مزدهراً، والقائم على تحويل وتغليف المواد الغذائية.

أعادت الحرب تشكيل الجغرافيا الاقتصادية في سورية، إذ خفضت الشركات والصناعات مصاريفها في مناطق البلاد الأكثر أمناً، أو انتقلت إلى الخارج سعياً إلى الأمان.

لاتزال المناطق التي تشهد صراعاً منخفض الحدة مثل مدينة اللاذقية التي تطل على البحر المتوسّط وتملك ميناء، ومدينة السويداء الجنوبية التي لم تتأثر بساتينها وأراضيها الزراعية البعيدة بالصراع، تصدّر بعض الفائض من منتجاتها الطازجة إلى الأسواق المجاورة، بما في ذلك العراق والأردن ولبنان، للحصول على النقد الأجنبي الذي ثمة حاجة ماسّة إليه. ومن المتوقّع أن تتعزّز الصادرات نتيجة التحسّن الذي طرأ على هطول الأمطار وأنتج محاصيل أفضل.

أسفرت الحرب عن ظهور مشاهد اقتصادية متناقضة إلى حدٍّ بعيد، علماً أن القطاع الزراعي لايشكّل سوى جانب واحد من التناقضات العديدة التي ولّدتها الأزمة.

كان الانتقال إلى أماكن أكثر أمناً واضحاً جدّاً في منطقة جنوب سورية التي كانت تُعدّ الأبرز لإنتاج الخضار والفاكهة في البلاد، وأكسبت صادراتُها إلى الخليج البلادَ مئات ملا

حلّت السويداء، التي نجت من الأضرار واسعة النطاق في درعا المجاورة، محلّ درعا اليوم باعتبارها المركز الرئيس للصناعات الزراعية في جنوب سورية.

استمرّ تدفّق التجارة النشطة من جنوب سورية إلى الأردن ومن لبنان إلى سورية، حيث تُفرغ الشاحنات المنتجات الخاصة بالتصدير من أراضٍ زراعية تبعد كيلومترات قليلة فقط من مناطق المواجهة العسكرية.

إضافةً إلى ذلك، تصرّف المستثمرون ورجال الأعمال الرائدون في قطاع الصناعات الزراعية بشكلٍ نشِط سعياً منهم إلى إنقاذ بعض إنتاجهم الضائع، إما من خلال نقل التصنيع إلى مناطق "آمنة" أو الانتقال إلى مناطق صناعية قريبة من الحدود في تركيا والأردن. ومن الأمثلة البارزة على ذلك شركة الدرة للمنتجات الغذائية التي تصدّر منتجاتِها راهناً إلى أسواقها السابقة من المنطقة الصناعية الشمالية في الأردن.3

سياسات حكومية لتعزيز الأمن الغذائي واستخدامه كسلاح حرب

أزالت الدولة تدريجيّاً القيود عن استيراد أغذية مثل البطاطا واللحوم الحمراء والدواجن، التي كانت البلاد سابقاً مكتفية ذاتيّاً في إنتاجها، للمساعدة في تعزيز الأمن الغذائي وضمان أن جزءاً على الأقل من نظام الدعم المالي المتضائل لايزال يعمل.

والواقع أن الحد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية في المناطق الخاضعة إلى سيطرة الحكومة أمرٌ ضروري لتفادي حدوث استياء أوسع في صفوف الرأي العام والحفاظ على دعم الموالين للنظام.

وقد شجّعت الدولة أيضاً المستوردين من القطاع الخاص على استخدام المزيد من رؤوس أموالهم لتمويل الواردات الغذائية، وذلك لتخفيف الضغط على العملة الأجنبية النادرة، وبالتالي الحد من التمويل التجاري الذي يعرض على التجار عملة الدولار بأسعار تفضيلية.

كما سعت السلطات إلى تنشيط خطوط الائتمان مع إيران وروسيا للمساعدة في تمويل استيراد المواد الغذائية الأساسية لسدّ النقص، بعد أن استولى المتمرّدون على صوامع الغلال الكبرى في شمال غرب سورية ومنطقة الجزيرة – الحسكة والرقة ودير الزور الريفية - حيث كان الجزء الأكبر من الاحتياطي الاستراتيجي مخزّناً.

ساعد هذا التمويل والمساعدات في الحد من بعض التأثيرات السلبية للعقوبات الغربية، مع أن خط ائتمان قدره مليار دولار قدّمته إيران إلى سورية صبّ بشكلٍ أساسي في خدمة تجّار القطاع الخاص المرتبطين بالطبقة الحاكمة.4

في نهاية المطاف، كان رجال الأعمال الأذكياء هم الذين أنقذوا الدولة، إذ أمّنوا قدراً كافياً من واردات الحبوب من منطقة البحر الأسود، فضلاً عن المواد الغذائية من الدول المجاورة، الأمر الذي ساعد في كبح جماح ارتفاع الأسعار الناجم عن تراجع قيمة الليرة السورية.

إن قدرة المؤسسة العامة للحبوب التابعة للدولة على تأمين جزء من حاجات السوق من خلال إنشاء شبكة منافذ استهلاكية تابعة للدولة، لم تمنع فقط حدوث نقص في الغذاء، بل ضبطت أيضاً ضغوط التضخم.

أرغمت المطالب المالية على السلطات هذه الأخيرة على رفع الدعم عن الوقود، وعن سائر السلع الأساسية جزئياً، فيما تقوم السلطات باستيراد كمية أقل من المواد الغذائية مما كانت عليه الحال في ظل النظام الباذخ سابقاً.

إضافةً إلى ذلك، ساعد وقف المساعدات تدريجياً في المناطق الخاضعة إلى سيطرة المتمرّدين وتوجيه ماتبقى من نظام الدعم الحكومي إلى المناطق الموالية للنظام، في تخفيف العبء المالي.

أفاد الوسطاء المرتبطون بنظام الرئيس السوري بشار الأسد أيضاً من الحصول على السلع الرخيصة المدعومة من الدولة، من مواد غذائية ووقود، لإعادة بيعها أو تهريبها إلى المناطق التي وقعت في يد المعارضة.

خفف هذا الأمر الضغطَ على النظام لتلبية حاجات السكان في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، والتركيز على الأمن الغذائي في معاقله.

تتناقض الوفرة النسبية للقمح والوقود في المناطق الخاضعة إلى سيطرة الحكومة في حلب ودمشق واللاذقية وطرطوس، بشكلٍ حاد مع النقص والجوع في المناطق المحاصرة من قبل النظام، والتي يقع معظمها في الأرياف. ومن شأن هذا التفاوت في الإمدادات أن يعمّق الانقسام التاريخي بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية.

إضافةً إلى ذلك، ساعد توجيهُ معظم المساعدات الغذائية الآتية من الأمم المتحدة مروراً بالسلطات، النظامَ السوري من نواحٍ عدّة، إذ سمح له بتعزيز الأمن الغذائي على أراضيه.

يقول عاملون في الأمم المتحدة إن وكالات الأغذية مثل برنامج الأغذية العالمي، عاجزة عن تحديد ما إذا كان النظام قد وزّع الطرود الغذائية بشكلٍ عادل. فالشروط تحتّم على المساعدات التوجّه عبر منظمات غير الحكومية سورية حصلت على موافقة الأجهزة الأمنية السورية، مايثير الشكوك حول العدالة في توزيع المساعدات.

من المؤكّد أن المواد الغذائية التي أرسلها برنامج الأغذية العالمي إلى ميناء اللاذقية لتتم إعادة توزيعها بإشراف الدولة، إضافةً إلى السلع التي قدّمتها جمعيات خيرية خليجية وأُرسلت عبر تركيا إلى المناطق الخاضعة إلى سيطرة المتمردين في شمال سورية، تسهم كلها في تخفيف العبء على السلطات والحد من حاجة الدولة إلى الواردات الغذائية.

يمكن أن يصبح استخدام النظام السوري للغذاء كأداة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية في المناطق المحاصرة، مثل حمص والمعضمية والغوطة الشرقية في دمشق، أكثر انتشاراً.

حتى الآن، تشكّل سياسة "تجويعهم لإخضاعهم"، التي أدت في مناطق محدّدة إلى وقف إطلاق النار - حيث سلّم المتمردون سلاحهم لقاء تخفيف حصار الجيش والسماح بدخول السلع والمواد الغذائية - الاستثناء وليس القاعدة. وفي المستقبل، يمكن أن يفاقم استخدامُها المتزايد كأداة حرب الأوضاعَ الغذائية في مزيدٍ من المناطق، وأن يؤثر بالتالي على عشرات الآلاف من الأشخاص.

التداعيات طويلة الأجل لتفاقم انعدام الأمن الغذائي

أدّت الفوضى والصراع في سورية أيضاً إلى استنزاف الثروة الحيوانية في البلاد، والتي قدِّرت منظمة الأغذية والزراعة عددها في العام 2010 بـ 15.5 مليون رأس غنم ومليونَي رأس ماعز، لكن يُعتقد أن هذا العدد انخفض بنسبة 40 في المئة على الأقل.5 كما فقد قطاع الدواجن، الذي كان أساساً استثماراً للقطاع الخاص مع صادرات كبيرة من اللحوم والبيض، حوالى 70 في المئة من إنتاجه وفقاً لعبد السلام علي، نائب وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية.

زادت التداعياتُ الناجمة عن نهب الثروة الحيوانية في سورية من خلال تهريب الحيوانات الحية عبر الحدود العراقية والأردنية واللبنانية والتركية أسعارَ اللحوم الحمراء؛ وتسعى سورية الآن إلى الاستيراد من البرازيل والهند ورومانيا للمرة الأولى منذ سنوات كثيرة. كما أزالت القوانين الزراعية الجديدة القيودَ المفروضة على واردات اللحوم الحمراء، مايشكّل مؤشّراً على النقص الحاصل.

كما أن التفكيك التدريجي لنظام الدعم، والقدرة المتراجعة للحكومة على تشجيع إنتاج الحبوب من خلال أسعار الحيازة المرتفعة، سيكون لهما أيضاً تداعيات اجتماعية.

والواقع أن الصراع عطّل سلاسل التموين الغذائي التقليدية، واستبدل الأسواق المركزية بأسواق صغيرة للبيع بالتجزئة في أطراف المدن. كما أدّى الصراع إلى فتح أنماط وطرق جديدة للتجارة نحو تركيا، يمكن أن تُعيد تحديد المشهد الاقتصادي في المحافظات الشمالية. فعلى سبيل المثال، بعضُ حصاد تلك المنطقة من القطن وزيت الزيتون يذهب إلى تركيا.

ويُعَدّ خفض عدد المراكز الحكومية لتجميع القمح نتيجةً مباشرةً لفقدان السيطرة على معظم المناطق الريفية الشمالية والشرقية. كما أن المخاطر الأمنية التي يفرضها نقل القمح تعني أن المزارعين المحليين يلجأون إلى تركيا كسوق بديلة.

إن تدمير أجزاء واسعة من قطاع التصنيع، والانقطاع الحاد في الإنتاج الزراعي في الأجزاء الشمالية والغربية والشرقية من سورية، جعلا هذه الأجزاء، حيث تقع معظم الأراضي الصالحة للزراعة، مندمجةً أكثر فأكثر مع السوق التركية.

يبقى أن نعرف إلى أي مدى سيصبح ذلك، على المدى الطويل، امتداداً للسوق التركية إذا ما استمرت الأزمة. وتَكثُر الأمثلة على الاعتماد على تدفّق السلع والمواد نصف المصنّعة من تركيا لتعويض فقدان السلع في الأسواق الريفية التي كانت تتزوّد من المصانع الحلبية.

كانت الأجزاء الريفية لشمال شرق حلب تُشكِّل المُزوِّد الرئيس للأسواق الزراعية المحلية، التي كانت تلبّي الطلب الأعلى والأكثر تنوّعاً لسكان المناطق الحضرية في حلب.

والواقع أن سهولة تدفّق السلع ورأس المال البشري بدّلت بالفعل المشهد الاقتصادي لهذه المناطق الحدودية – فازدهار المدن الحدودية التركية مجدداً هي نتيجة مباشرة للانتقال من حلب ومناطقها النائية. 

أما في المراكز الحضرية من البلاد التي لاتزال تحت سلطة الدولة، مثل دير الزور وحماة وحمص وإدلب وأجزاء من درعا، فلايزال اقتصاد ماقبل العام 2011 الموجَّه من الدولة يؤدّي دوراً حاسماً في النشاط التجاري. كما أن القدرة الإنتاجية المتبقّية من المعامل الموجودة في المنطقتَين الصناعيّتَين عدرا وحسياء، الواقعتَين قرب دمشق واللتين تأثّرتا بشكل أقل بكثير من منطقة الشيخ نجار الصناعية في حلب، لاتزال تُزوِّد بعضاً من الطلب على المنتجات في المناطق التي تسيطر عليها الدولة.

في غضون ذلك، يُولِّد تدفّق السلع والخيم وغير ذلك من المؤسسات الخيرية الخليجية، إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، ديناميكيتَه الخاصة في مايتعلّق بالاعتماد المتزايد على الغذاء من خارج سورية، نظراً إلى شلل النشاط الاقتصادي الأوسع الذي قد تكون له عواقب لاتُعَدّ ولاتُحصى في المستقبل. وهذا الأمر يمكن أن يدمّر التجربة المتراكمة التي اكتسبها القطاع الزراعي خلال أجيال عدة.

خلاصات/ملاحظات أولية

يعود صمود الأمن الغذائي النسبي في سورية حتى الآن، إلى حدّ كبير، إلى القطاع الزراعي المتطور في البلاد قبل الأزمة، وإلى اقتصاد مُوجَّه من الدولة ركَّزَ على القمح باعتباره سلعة غذائية استراتيجية، وساعدَه نظامُ دعم سخي لتعزيز إنتاج القمح.

ولايزال تقليدٌ زراعيٌّ عمرُه قرون يساعد هذا البلد المتوسطي العريق في التاريخ على تجنّب نقصٍ واسع النطاق في الغذاء، سبق أن اختبرته بلدان أخرى خاضت اضطرابات أقل. وفي الواقع، بعد مرور أربع سنوات على الأزمة، لم تحدث أي مجاعات (ماعدا الحصارات التي فرضها النظام على بعض المناطق). والسبب في ذلك يعود جزئياً إلى القدرة التراكمية على الصمود التي تتمتّع بها المجتمعات الزراعية.

ويعود معظم الفضل أيضاً إلى مجتمع الأعمال في سورية، الذي استمر في تأدية دور رائد في توفير معظم السلع الغذائية المستوردة المُباعة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، مع أن الدولة عزّزت دورها كشارٍ مباشر، وإن كان هذا الدور أقل فعالية بكثير. 

لكن كلما طالت الأزمة، أصبحت الخسائر أكبر في البنية التحتية الزراعية المتطورة في البلاد، يُضاف إليها تقلُّص حاد في المحاصيل سيُحوِّل البلاد إلى مستورِدٍ صافٍ للعديد من المواد الغذائية الأساسية التي كانت تُنتَج محلياً في السابق. فسورية كانت من بين أكبر البلدان المُنتِجة في العالم، مع إنتاج تراوح من البطاطا والدواجن الحية واللحوم، إلى مشتقات الحليب وزيت الزيتون.

يكفي القول إن الاعتماد على المساعدات الغذائية من الوكالات والمؤسسات الخيرية الدولية سيؤثّر على المزيد من السوريين، طالما أن الخسائر البشرية الناجمة عن الأزمة هي في تزايد. فمنذ اندلاع الأزمة، أُجبِرَت البلاد على استيراد المزيد من الغذاء، علماً أن حوالى 6 ملايين سوري يعتمدون على المساعدات الغذائية وفقاً للأمم المتحدة.7

يُولِّد تدفّقُ السلع إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، ديناميكيتَه الخاصة في مايتعلّق بالاعتماد الغذائي، الذي يمكن القول إنه ظاهرة مؤقّتة من المفترض أن تتضاءل عندما ينتهي القتال. ومع ذلك، يصعب أن نعي تماماً مقدار رأس المال البشري الذي يخسره جيل من المزارعين الذين صمدوا معظم فترة الصراع المتواصل.

في حوران وأجزاء من شمال غرب وشرق سورية، أدّى تعطّل أنظمة الري بسبب الصراع، إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي، إلى تفاقم الأمن الغذائي.

كما أن ندرة المياه التي تؤثّر على العديد من المراكز الحضرية والريف، يُتوقَّع أن تزداد سوءاً وتصبح تحدياً للزراعة، ولاسيما للأراضي الزراعية المرويّة. لذا، سيكون التوفير في المياه الجوفية خطوة استراتيجية بالنسبة إلى الزراعة السورية.

إضافةً إلى ذلك، سيؤدّي النقص المُتوقَّع في المنتجات الزراعية بسبب تراجع الإنتاج، إلى ارتفاع حاد في الأسعار، الأمر الذي سيُفاقِم سبلَ عيش غالبيةٍ من السوريين والمحنة الاجتماعية-الاقتصادية التي يقاسونها.

الواقع أن الاقتصادات المحلية المُرتكِزة بشكل أساسي إلى اقتصاد الحرب، الذي يعزّز تشرذم سورية على الصعيدَين الإثني والطائفي، ستعرقل أكثر عمليةَ تعافٍ مستدامة وسريعة مابعد الصراع.

وقد تفرض الأزمة اعتماداً اقتصادياً متزايداً للدولة على الحلفاء الأساسيين – أي إيران وروسيا، وبقدرٍ أقل العراق – الذين يدعمونها الآن عبر المساعدة سياسياً وعسكرياً بشكل أساسي، من أجل الحصول على القروض والاتفاقات التجارية التفضيلية. وقد دعمت إيران النظام حتى الآن بتسهيلٍ ائتماني قيمته 3 مليارات دولار. إلا أن الشحنات محدودة النطاق من الدجاج المجلّد والطحين، هي لفتة رمزية أكثر منها إجراء فعّال لتخفيف العراقيل، وهي تُظهِر حدود نطاق المساعدة التي يمكن أن يقدّمها الحليف الإقليمي الأكبر لنظام الأسد في مجال الأمن الغذائي. 

على المدى القصير والمتوسط، يمكن أن تُعيق متاعب أوكرانيا مع روسيا أيضاً سياسة الأمن الغذائي للنظام، التي تعتمد على الدول الأوروبية الشرقية الصديقة وروسيا لتعويض النقص في القمح. والسبب هو أن العقوبات الغربية قد تُصعِّب أكثر على سورية الانتقال إلى أسواق بديلة لتغطية النقص في الحبوب.
ستشكّل قدرة المزارعين السوريين التقليدية على الصمود في وجه المحن، عاملاً مهماً من شأنه أن يساعد القطاع على تعويض قدر كبير من خسائره، في حال التوصل إلى تسويةٍ بعد الصراع، ولاسيما أن المزارعين السوريين معروفون بروح المبادرة. 

فضلاً عن ذلك، يُتوقَّع من العديد من المغتربين السوريين الأثرياء، الذي يملكون أصولاً بمليارات الدولارات، أن يضطلعوا بدور رائد في إعادة الإعمار. ولاشك أن القطاع الزراعي هو أحد القطاعات التي سيكون معدل عائداتها الداخلي جذاباً للعديد من المستثمرين، نظراً إلى الطلب الهائل المكبوت وفقدان القدرة.

أخيراً، لقد تعرّض الأمن الغذائي في سورية إلى التآكل في السنوات القليلة الماضية، في ظل تراجع إنتاج المحاصيل الرئيسة بدرجات متفاوتة بسبب تأثير الصراع على المبيدات، وعرقلة طرق التجارة، وانخفاض دعم الوقود.

مصادر أخرى

  • مقابلات هاتفية أُجريَت مع عدد من المزارعين في إدلب وحلب وريف درعا، كانون الثاني/يناير – شباط/فبراير 2014.

  • مقابلة مع ناقد خميس، خبير بذور ومستشار في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة، شارك في مهام عدة في سورية بعد العام 2011.

  • مقابلة هاتفية مع موفق الشيخ علي، مدير شركة الأرض للتنمية المتطورة للموارد Earth Link & Advanced Resources Development، سورية.

  • “Agricultural Livelihoods and Food Security Impact Assessment and Response Plan for the Syria Crisis in the Neighbouring Countries of Egypt, Iraq, Jordan, Lebanon and Turkey,” Food and Agriculture Organization of the United Nations, March 2013, https://data.unhcr.org/syrianrefugees/download.php?id=1831.

  • “Monitoring and Evaluation Report, Syria Crisis Response,” World Food Program, April 2013.

  • مقابلة مع أحمد زين، تاجر سلع وصناعي زراعي رائد مقيم في دمشق.

هوامش

Francesca de Châtel, “The Role of Drought and Climate Change in the Syrian Uprising: Untangling the Triggers of the Revolution,” Middle Eastern Studies 50, no. 4 (2014): 521–535.

Syria: 2012 Wheat Production Outlook Is Favorable Despite Ongoing Conflict,” United States Department of Agriculture, published on June 12, 2012, http://www.pecad.fas.usda.gov/highlights/2012/06/Syria.

مقابلة مع مسؤولين في شركة الدرة للمنتجات الغذائية.

Alaa Shahine and Donna Abu-Nasr, “Syria Counts on $1 Billion Iran Fund to Support Pound,” Bloomberg Business, June 18, 2013, http://www.bloomberg.com/news/articles/2013-06-18/syria-counts-on-1-billion-iran-fund-to-support-pound.

“FAO/WFP Crop and Food Security Assessment Mission to the Syrian Arab Republic,” Food and Agriculture Organization of the United Nations and the World Food Program, July 5, 2013, http://www.fao.org/docrep/018/aq113e/aq113e.pdf.

مقابلة على التلفزيون السوري مع عبد السلام علي، نائب وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية.

Life-saving Food Aid in Jeopardy for Millions of Syrians, Warns UN Agency,” UN News Center, September 18, 2014. http://www.un.org/apps/news/story.asp?NewsID=48745#.VTf0JJ3F_Tp

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.