المصدر: Getty

خارطة طريق للخروج من الأزمة الاقتصادية التونسية

فاز الرئيس قيس سعيّد بولاية رئاسية ثانية، لكن تونس تواجه مجموعةً من المشاكل التي تتطلّب إصلاحاتٍ ملحّة لتفادي الانهيار المالي.

 حمزة المؤدّبهاشمي علية, و إسحاق ديوان
نشرت في ١١ فبراير ٢٠٢٥

تابع المؤلّفون خلال العام الفائت عن كثب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس، وأصدروا تقارير عدّة حول المخاطر المُحدقة بالبلاد. يشكّل هذا المقال خاتمةً للجهود التي بذلوها على مدى العام الماضي، إذ يعكف على تقييم التحديات على مستوى الاقتصاد الكلّي في البلاد واقتراح توصيات حول كيفية تلافيها. حاول المؤلّفون التفكير في الخطوات الأنسب التي يجب اتّخاذها في البلاد إذا كانت لتونس قيادةٌ بنّاءة – أي، إذا انخرط صانعو القرار في عملية إصلاح حقيقية تنكبّ على معالجة تحديات البلاد الاقتصادية والمالية الهيكلية. لا يَنمّ هذا المسعى عن سذاجة، بل يهدف إلى مشاركة أفكارٍ قد تساعد على تعزيز قدرات الناشطين وقوى المجتمع المدني في الضغط من أجل إحداث تغييرٍ سياسي يُتيح لتونس الاستفادة من إمكانياتها وتحقيق الازدهار الاقتصادي.

مقدّمة

يعاني الاقتصاد التونسي من انخفاض القدرة الإنتاجية، وغياب زخم القطاع الخاص، وتقهقر إمكانيات الدولة، ما أدّى إلى تدهور جودة خدماتها. وساهمت هذه المشاكل في تأزيم الأوضاع الاجتماعية منذ العام 2011 على الأقل، حين أطاح التونسيون بالرئيس زين العابدين بن علي. واليوم، غالب الظن أن الوضع المالي سيزداد سوءًا. فقد تسبّبت الأوضاع الاقتصادية الصعبة بتراجعٍ حادّ في ثقة المواطنين بالدولة، إذ يسعى عددٌ متزايد من الشباب إلى الهجرة. في غضون ذلك، قد يؤدّي تنامي النزاعات السياسية بسبب قصور العملية الانتخابية وعدم معالجة التظلّمات الاقتصادية الراسخة والمتفاقمة نظرًا إلى خفض إنفاق الميزانية، إلى اضطرابات اجتماعية سياسية. صحيحٌ أن الحكومة تمكّنت من الحفاظ على الاستقرار خلال السنوات القليلة الماضية باعتماد سياسة التوسّع في الإنفاق العام، الذي موّلته الديون، إلّا أنها لم تعد قادرة على ذلك. فمستويات الدين العام باتت مرتفعة للغاية، ما يمثّل عبءًا متزايدًا على ميزانية الدولة من شأنه أن يُدخل البلاد في دوّامة الانهيار المالي.

ما السبيل إذًا لإنقاذ الاقتصاد التونسي؟ بدايةً، تشتدّ الحاجة إلى تطبيق مجموعةٍ من التدابير التقشّفية لأن إنفاق الدولة يتجاوز إمكانياتها. لكن التقشّف وحده ليس الحلّ الأمثل للمضيّ قدمًا لأنه قد يُشعل فتيل أزمةٍ اجتماعية. بدلًا من ذلك، يجب على أي برنامج إصلاحي جديد أن يعطي الأولوية لتعزيز النمو الاقتصادي. فالإصلاحات قد تسهم في تحسين آفاق البلاد على المدى القصير، وتُطلق دورةً حميدةً من المكاسب الاقتصادية، وتؤول بالتالي إلى تعزيز النمو على المدى المتوسط. لكن بلوغ هذا الهدف يتطلّب إجراء إصلاحات سياسية تُفسح المجال أمام تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الطموحة.

تجاهل مشاكل الاقتصاد الكلّي قد يؤدّي إلى أزمة مالية

تواجه تونس تحدّيًا أساسيًا يكمن في تنامي عبء الدين العام، ما يميط اللثام عن مشاكل اقتصادية هيكلية التي أهملت الحكومات المتعاقبة معالجتها لفترة طويلة، مفضّلةً الإبقاء على الوضع القائم بدلًا من إجراء الإصلاحات الاقتصادية الضرورية. كذلك، ساهمت صدماتٌ خارجية عدّة في مفاقمة الوضع أكثر فأكثر، فباتت تونس على شفير التخلّف عن السداد. في الواقع، تشهد نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي منحى تصاعديًا منذ العام 2011، على وقع السياسات المالية التوسعية التي تنتهجها البلاد وهبوط النمو الاقتصادي إلى مستويات متدنّية للغاية، مسجّلًا 0.4 في المئة فقط في العام 2023، فيما أشارت التقديرات إلى نمو طفيف بمقدار 0.7 في المئة خلال العام 2024. فبحلول العام 2024، ناهزت نسبة الدين العام، الداخلي والخارجي على السواء، 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يمثّل مستوى خطيرًا جدًّا، واستأثرت تكاليف خدمة الدين بنسبة 20 في المئة من عائدات التصدير.

مع ذلك، أسفرت أزماتٌ عدّة منذ العام 2019 عن مفاقمة الأوضاع في البلاد. وكان أولّها تفشّي وباء كوفيد-19، إذ سجّل الاقتصاد التونسي مع نهاية العام 2020 انكماشًا غير مسبوق في الناتج المحلي الإجمالي بلغت نسبته 8.8 في المئة، بالتزامن مع ارتفاع النفقات العامة وانخفاض العائدات، ما أدّى إلى تسجيل عجوزات أكبر في المالية العامة. كذلك، تسبّبت الحرب في أوكرانيا بزيادة أسعار الوقود والموادّ الغذائية العالمية، التي تشكّل جزءًا كبيرًا من واردات تونس. فتزايدت تكاليف الدعم للتخفيف من وطأة ارتفاع الأسعار على الأُسر، من 6.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019 إلى 12.5 في العام 2023، وهذا أدّى إلى اتّساع العجوزات الداخلية والخارجية وتنامي الدين العام والديون الخارجية. علاوةً على ذلك، علَت في العام 2022 أسعار الفائدة العالمية وارتفع العائد على السندات التونسية إلى مستويات مُقلقة جعلت من المستحيل إعادة تمويل السندات التي اقترب موعد استحقاقها. وفي ظلّ تجاوز مدفوعات الفوائد على الدين العام معدّلَ نمو الناتج المحلي الإجمالي، واتّساع العجوزات المالية، تدهورت ديناميات الدين العام بوتيرة متسارعة تهدّد قدرة المالية العامة على تحمّل خدمة الديون. وإذا تواصل هذا المنحى، قد يصبح تخلّف تونس عن سداد ديونها واقعًا حتميًا لا مفرّ منه.

لقد أثّرت المشاكل المالية على الاقتصاد التونسي وأدّت إلى مزاحمة الاستثمارات الخاصة، نظرًا إلى استخدام المدّخرات المحلية إلى حدٍّ كبير في تمويل العجوزات العامة. ولكبح معدّل التضخم والحفاظ على حدٍّ أدنى من الاستقرار، تَقرَّر الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة، الأمر الذي قوّض الاستثمارات والصادرات. فخلال العقد الماضي، سجّل إجمالي الاستثمارات، الخاصة والعامة على السواء، مستوى أدنى مقارنةً مع العقد الذي سبقه. وبعد العام 2019، هبط حجم الاستثمارات إلى مستويات متدنّية تاريخية في تونس، أي ما دون 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما أسفر عن ارتفاع معدّل البطالة إلى أكثر من 15 في المئة. وبات نحو 17 في المئة من مجموع سكان البلاد يرزحون تحت خط الفقر، مع العلم بأن متوسط الفقر يسجّل مستويات أعلى في المناطق الريفية.

تتطلّب معالجة المشقّات الاقتصادية والمالية التي تتخبّط فيها تونس حلَّ مشكلة الديون. وثمّة تعديلات كبيرة ينبغي على البلاد إجراؤها من أجل تجنّب أزمة ديون. وإذا كانت إجراءات التقشّف هي الآليات الوحيدة التي تطبّقها تونس لإرساء الاستقرار، فلا بدّ لها من تحسين حساباتها المالية العامة بشكل كبير. لكن ذلك قد لا يكون مجديًا نظرًا إلى أن تدابير التقشّف ستؤدّي على الأرجح إلى تراجع النمو الاقتصادي. أما في المقابل، إذا ارتفع النمو الاقتصادي في البلاد، فستنخفض العجوزات المالية بما يكفي للحؤول دون اندلاع أزمة الديون.

نحو خطة تجديد وطني ذات مصداقية

ماذا تتضمّن الخطة الوطنية التي من شأنها وضع تونس على مسار التعافي؟ تبرز بدايةً مقارباتٌ أربعة هي: التوفيق بين التدابير التقشّفية من جهة، والإصلاحات الموجّهة نحو النمو من جهة أخرى؛ وإعادة توجيه الإنفاق العام؛ وإعادة هيكلة الديون؛ وتحديد نوع الدعم المطلوب من صندوق النقد الدولي. في هذا الإطار، يتعيّن على تونس التركيز على مسارَين متوازيَين: إرساء الاستقرار على صعيد الاقتصاد الكلّي – أي خفض العجز وتأمين التمويل الدولي - وتطبيق إصلاحات هيكلية لتعزيز آفاق النمو. مع ذلك، تبقى القيادة السياسية العامل الأهم في المساعي الرامية إلى دفع عجلة الاقتصاد قدمًا. فلا بدّ من توافر قيادة سياسية قادرة على تقديم رؤية مُقنعة ومُلهمة عن العملية الإصلاحية، وحشد الدعم لها في أوساط الفئات الاجتماعية التي سوف تستفيد منها، وتقليل المعارضة المُحتملة للتغيير، وضمان تقاسم أعباء الإصلاح والمكاسب الناتجة من هذه العملية بشكلٍ منصف بين مختلف شرائح المجتمع، وإعادة بناء أواصر الثقة بالدولة وبقدرتها على الحكم بصورةٍ فعّالة.

ضرورة إدراج الإصلاحات السياسية في صُلب برنامج التجديد الوطني

صحيحٌ أن العناصر اللازمة لإحراز التقدّم متوافرة في تونس، إلّا أن التقاعس عن اتّخاذ إجراءات حازمة قد يكون كارثيًا. فالتداعيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الناجمة عن انهيار التحوّل الديمقراطي في البلاد أرغمت الأطراف كافة على استقاء دروسٍ صعبة، وخفض سقف توقّعاتهم، والاعتراف بأن أي عملية إنقاذ يجب أن تكون شاملة تُوزَّع فيها الأعباء على جميع الأطراف. لقد أصبحت مصالح كلٍّ من الشركات الكبيرة والشركات الصغيرة متناغمةً أكثر مما كانت عليه في الماضي، إذ إنها جميعها ستستفيد من الاستقرار الاقتصادي الكلّي والتطبيق الحازم لحكم القانون. وأدركت الاتحادات والنقابات العمّالية ومجموعات المصالح الأخرى أيضًا أن إلقاء أعباء الإصلاح على عاتق مجموعاتٍ أخرى لن يؤدّي سوى إلى حصيلة صفرية مدمّرة. بعد العام 2011، شهد المجتمع التونسي انقسامًا حادًّا على أساس الهوية، لكن بات واضحًا الآن أن هذه الانقسامات بين الإسلاميين والعلمانيين لا يجب أن تهيمن على المشهد السياسي. ومع أن نتائج الثورات العربية أتت مخيّبة للآمال، فقد أظهرت أن ما من بديلٍ مستدام عن التحوّل الديمقراطي. وكثيرًا ما تُحمَّل الديمقراطية، بشكلٍ غير مُبرَّر، مسؤولية ضعف الأداء الاقتصادي، بينما في الواقع، تميل الأنظمة السلطوية إلى تسجيل أداء اقتصادي غير كافٍ. لكن بناء دولةٍ ديمقراطية فعّالة هو مسارٌ يستغرق وقتًا وقد يكون مضنيًا.

للنخب السياسية والاقتصادية وقوى المجتمع المدني أدوارٌ مهمة في إعادة إحياء الأمل. فعلى النخب السياسية خصوصًا أن تشرح بشفافيةٍ المخاطر المُقبلة، وأن تقنع الجهات المنقسمة في ما بينها بأن العمل الجماعي وتضافر الجهود يتيحان فرصًا لإحراز تقدّم. ولا يمكن لذلك أن يتحقق إلّا من خلال الانفتاح السياسي والتعدّدية اللذَين يعزّزان آفاق التعاون المُثمر. ثمّة خطوات عدّة يمكن أن تؤكّد على هذا الالتزام، من ضمنها تنظيم عمليات وطنية للتشاور والمصالحة والحوار، إضافةً إلى تحقيق تكافؤ الفرص بين جميع الشركات، واحترام حقوق الإنسان، وتوسيع المجالات الحرّة المتاحة للنقاش والنقد. ولكي تحظى خطة التجديد الاقتصادي بالدعم الشعبي، يجب توزيع أعباء الإصلاح والمنافع الناتجة منه بشكلٍ عادل بين الجميع.

ضرورة التوفيق بين التقشّف وإعادة توجيه النفقات لتحقيق الاستقرار الاقتصادي

أحد الشروط المسبقة لتطبيق خطة التجديد الاقتصادي هو تخفيف التقشّف، وفي الوقت نفسه إعادة تنظيم النفقات. فمعظم الإنفاق العام يوجَّه حاليًا، إلى جانب مدفوعات الفوائد على الدين العام، نحو أجور موظفي القطاع العمومي، ونظام الدعم، والتمويل المخصّص للشركات المملوكة للدولة، وهذا كلّه يعود بالنفع على الدوائر السياسية النافذة. والواقع أن النهج الصارم في خفض الإنفاق كان ممارسةً شائعةً في ثمانينات القرن الماضي، إلّا أنه اليوم قد يتسبّب بزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي. في موازاة ذلك، يبرز الجانب الإيجابي للإصلاحات. نظرًا إلى المخاطر الأكبر المترتّبة عن التقاعس، والمكاسب الأكبر المتوقّعة من اتّخاذ الإجراءات اللازمة، لم يَعُد في وسع صانعي القرار التونسيين تأجيل القرارات، ولا سيما أن المزيد من التأخير لن يؤدّي سوى إلى مفاقمة المشاكل. وتتطلّب استراتيجية النمو توجيه بعض النفقات نحو الاستثمارات العامة والخاصة. فإضافةً إلى الاستثمار في البنية التحتية، لا بدّ أيضًا من زيادة الإنفاق على قطاعَي الرعاية الصحية والتعليم من أجل دعم النمو والارتقاء في الطبقات الاجتماعية، ما سيتطلّب إجراء تخفيضات كبيرة في النفقات. سيكون ذلك صعبًا من الناحية السياسية، ولكن المطلوب هو حشد الفئات التي ستستفيد من برنامج التجديد الداعم للنمو.

أما الشرط المسبق الثاني، فيتمثّل في إعادة توجيه الإنفاق العام نحو النفقات الاجتماعية، ذلك أن شبكات الأمان، وإن كانت ضرورية، لا تكفي وحدها. فقد أضرّ التضخّم بالفقراء، نظرًا إلى أن الاستهلاك الأساسي يشكّل نسبةً كبيرةً من ميزانيات الأُسَر. مع ذلك، لا يكمن الحلّ في الدعم الشامل، إذ إنه مكلفٌ ماليًّا، وغالبًا ما يستأثر بحصّةٍ كبيرة من الإنفاق العام؛ ناهيك عن أنه غير فعّال اقتصاديًا، إذ يشجّع على الاستهلاك المفرط؛ وغير عادل اجتماعيًا، إذ يفيد الأثرياء أكثر ممّا يفيد الفقراء. ولذا، من شأن شبكات الأمان الاجتماعي الهادفة والموجَّهة نحو الفقراء أن تحلّ هذه المشاكل، علمًا أن في الإمكان تحسين هذه الشبكات في تونس من خلال زيادة تغطيتها للمحتاجين وتركيزها عليهم. ولا بدّ أيضًا من تحسين الرقمنة والشفافية، والقضاء على الزبائنية والفساد. وفي حين أن رفع الدعم إجراءٌ يضرّ بالأُسر ذات الدخل المتوسط، لا تكمن المشكلة الأساسية للطبقة الوسطى في غياب الحماية الاجتماعية، بل في ندرة فرص العمل الجيّدة وتردّي الخدمات التي تقدّمها الدولة.

وينطوي الشرط المسبق الثالث على الإقرار بأن إعادة هيكلة الدين تأتي بمنافع محدودة. عندما يكون مستوى الديون الخارجية مرتفعًا "جدًّا"، خصوصًا بسبب صدمةٍ خارجية المنشأ، يمكن لخفض الدين أن يفيد المدين والدائن على السواء. وبذلك يستعيد البلد المدين قدرته على الوصول إلى السيولة، الأمر الذي يتيح له تحقيق النمو مجددًا. أما حينما يكون فرط أعباء المديونية ناجمًا عن سياسات داخلية خاطئة، فلن تكون معالجة هذه المشكلة ناجحةً إلا إذا كان إجراء إصلاحاتٍ موثوقة أمرًا مطروحًا. لكن طبيعة الدين العام في تونس تُضيّق كثيرًا هامش إعادة هيكلته، نظرًا إلى هيمنة الديون الداخلية والشروط غير المرنة للديون الخارجية، إذ إن نسبةً كبيرةً من هذه الأخيرة مستحقّةٌ لجهاتٍ دائنة متعدّدة الأطراف لا تقبل بإعادة التفاوض حول تسوية الدين. أما الديون التجارية القابلة لإعادة الهيكلة، فتمثّل حصة صغيرة، ولذا لن يخفّف هذا الإجراء عبء الدين على نحو مفيد.

لذلك، من الضرورة بمكان التعويل أكثر على الجهود الداخلية. ومن المرجّح أن يكون تقليل عبء الدين المحلي آلية التسوية الرئيسة، ويتحقّق ذلك غالبًا عن طريق "التقييد المالي"، الذي ينطوي على إبقاء أسعار الفائدة الحقيقية سلبية (عادةً أسعار اسمية متدنّية في بيئة تضخّمية). لكن هذه الاستراتيجية غالبًا ما تضعف بسبب محاولات التهرّب منها (أسواق الصرف الأجنبي غير الرسمية، وهروب رؤوس الأموال بصورة غير مشروعة)، وقد تهدّد بإضعاف النظام المصرفي. لكي يكون التقييد المالي فعّالًا، يجب أن يعتمد على فرض ضريبة معتدلة على رؤوس الأموال والأرباح المتراكمة على مدى فترات طويلة.

والشرط المسبق الرابع هو أن يكون أيّ برنامج لصندوق النقد الدولي متكيّفًا مع الواقع التونسي. فالصندوق سيواصل في المستقبل الاضطلاع بأدوارٍ حيويةٍ تشمل توفير السيولة، وتحديد نطاق إعادة هيكلة الديون المطلوب، وفرض شروط سياسات الإصلاح، وضمان أن تبذل تونس جهودًا كافيةً في مجال الإصلاح، وأن يتقاسم الدائنون العبء بشكل عادل. ثمّة تجارب سابقة مع برامج صندوق النقد الدولي في المنطقة، ومع أنها ساعدت في استقرار أوضاعٍ مالية صعبة، لم تؤدِّ إلى رفع معدّلات النمو. ولذا، لا بد أن يكون برنامج الصندوق متكيّفًا مع السياق التونسي ليحقّق النجاح.

وهذا يعني، أولًا، إدراك أن التدابير التقشّفية القاسية تنطوي على خطر زعزعة الاستقرار الاجتماعي، من دون أن تعالج الأسباب الجذرية للأزمة. عوضًا عن ذلك، ينبغي أن يكون أيّ برنامج لصندوق النقد مشروطًا بالالتزام بتحقيق النمو الشامل للجميع، ومُدرَجًا ضمن استراتيجية تجديد وطني. ثانيًا، سيكون أيّ برنامجٍ مع الصندوق مهمًّا لا بسبب السيولة التي سيوفّرها فحسب، بل أيضًا بسبب ختم الموافقة الذي يمنحه لإطلاق التمويل من المصادر الرسمية والخاصة. فيجب أن يعمل صندوق النقد والمجتمع الدولي، خصوصًا الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، معًا من أجل توفير السيولة الكافية لتجنّب التقشّف المُزعزِع للاستقرار، ودعم الاستثمارات الجريئة التي تحفّز الاقتصاد. وثالثًا، فيما من غير المرجّح خفض الديون بشكلٍ كبير، يجب أن يُعاد تمويل الديون الخارجية جزئيًا بديونٍ عامة جديدة ذات آجال استحقاق أطول ومعدّلات فائدة أقل.

فرص النمو قائمة ويمكن أن تحقّق مكاسب سريعة

لا تعود مكامن الضعف الاقتصادية التي تعاني منها تونس إلى الصدمات الأخيرة فحسب، بل أيضًا إلى اختلالاتٍ هيكلية قائمة منذ فترة طويلة. وبغية استحداث المزيد من فرص العمل، يجب أن يعالج برنامج التجديد الوطني التحدّيات المزمنة المتمثّلة في تحسين قدرة الدولة، وبثّ الروح الدينامية في القطاع الخاص، وتنمية سوق عملٍ شامل للجميع. ولا بدّ أيضًا من معالجة التحدّيات الجديدة، بما في ذلك مواكبة التحوّل الرقمي، ومواجهة تداعيات تغيّر المناخ.

كذلك يتطلّب أيّ ميثاق نمو انخراطًا وشجاعةً سياسيَّين، وهما كانا غائبَين. فبين العامَين 2011 و2021، خشيت الحكومات القائمة على تقاسم السلطة ردَّ فعل الجهات التي تطالها الخسائر على المدى القصير، وعجزت عن حشد تحالفات قوى من شأنها تحقيق مكاسب على المدى الطويل. فينبغي إقناع الجهات المعنيّة المهمّة، ولا سيما نقابات العمّال، والنخب الاقتصادية، والمستهلكين، بأن التضحيات قصيرة الأجل تستحقّ العناء. وسيكون إقناعها أسهل إذا ما تراكمت المكاسب بسرعة. ولتحقيق هذه النتيجة لا بدّ من أن تكون السياسات قادرةً على توليد صدمة كبرى من التوقّعات تجعل من الأسهل تطبيق الإصلاحات في المستقبل. لذا يجب أن تكون خطط الإصلاح الناجحة مرتكزةً على إجراءات مبكرة وسردية مقنعة حول التجديد والتقدّم. فمن شأن ذلك أن يسهم في حشد السياسيين، والناشطين الاجتماعيين، وروّاد الأعمال، لبناء تحالفٍ مؤيّدٍ للنمو. ويمكن لحزمة إصلاحاتٍ سليمةٍ قادرةٍ على إطلاق دورةٍ حميدةٍ من المكاسب الاقتصادية أن ترفع معدّلات النمو على المدى القصير بطرق عدّة. وقد يكون للإصلاحات الاقتصادية الكلّية تأثيرٌ سريع، فتجذب المزيد من التمويل الدولي، الأمر الذي يقلّل مخاطر الأعمال، ويساعد في توليد استجابة على مستوى العرض من جانب القطاع الخاص. وتسهم المكاسب المبكرة بدورها في تعزيز ثقة المواطنين في المستقبل، ما يسهّل الإصلاحات بعد قبولهم بالتضحيات على المدى القصير.

لا يمكن أن يتحقّق النمو ما لم يستقرّ الاقتصاد الكلّي، وتتمكّن الجهات الفاعلة من تكوين التوقّعات والحصول على التمويل، وما لم يصبح سعر الصرف في تونس تنافسيًا. وثمّة أنواع ثلاثة من السياسات ضرورية لتحقيق النمو، وإن لم تكن كافية وحدها. أولًا، على الصعيد المالي، يتطلّب خفض العجز تدريجيًا تمويل ما تبقّى من العجز إلى حدٍّ كبير من مصادر خارجية. ثانيًا، ينبغي أن تساهم السياسة النقدية الاستيعابية في تحسين قدرة الشركات على الوصول إلى التمويل. وثالثًا، قد يتسبّب الخفض الحقيقي لقيمة العملة بمعاناةٍ اجتماعية في البداية (جرّاء ارتفاع أسعار الواردات)، إلا أنه يمكن أيضًا أن يحسّن التنافسية، ويساعد في تحفيز التعافي الاقتصادي إذا ما تبعته استجابةٌ على مستوى العرض.

من الضرورة بمكان أيضًا تحديث الدولة من أجل تحسين جودة الخدمات التي شهدت تدهورًا. فالتونسيون، ولا سيما الأُسَر الأكثر ثراءً، يعتمدون على الخدمات الصحية والتعليمية الخاصة بشكل متزايد. وينطوي التحديث على تقليص حجم القطاع العمومي، ورفع الأجور، وتعميم عمليات الحكومة الإلكترونية، وتحسين الضوابط والموازين، وزيادة اللامركزية. ومن المؤشّرات الموثوقة التي تشير إلى العزم على تطبيق هذا البرنامج: تحويل الإنفاق إلى مجالاتٍ منتجة، وإتاحة مساحةٍ للمواطنين لإخضاع المسؤولين إلى المساءلة والمحاسبة، بدءًا من الوزراء، ووصولًا إلى معلّمي المدارس.

فضلًا عن ذلك، ينبغي أن تعمل السلطات على فكّ قيود القطاع الخاص. فالاستثمار الخاص تراجع جرّاء الضوابط الأكثر صرامةً على التمويل، وفقدان التنافسية الدولية، وتزايد المخاطر السياسية. وتبدأ المؤشّرات الموثوقة التي تنمّ عن عزمٍ على تنشيط القطاع الخاص بسياساتٍ اقتصاديةٍ كلّيةٍ داعمةٍ للنمو، تشمل أسعار الصرف التنافسية والوصول إلى التمويل، وبإقرارٍ بالدور الحيوي لتكافؤ الفرص. كذلك يتطلّب تحسين النمو بصورة أساسية أن يحلّ الأداء محلّ السعي وراء الريع، مع إرساء تنافسيةٍ تحفّز الشركات على الابتكار. فرأسماليّة المحسوبيات، التي سادت قبل انتفاضة العامَين 2010-2011 وبعدها، شجّعت على الاحتكارات، ما أدّى إلى تدنّي مستويات الابتكار والاستثمار، وتقليص فرص العمل، ولا بدّ من عكس هذه الاتجاهات كلّها.

من الجدير بالذكر أن التحوّل الرقمي يعيد تشكيل هياكل الإنتاج العالمية. فهو يفسح المجال أمام تحسين إنتاجية العمل، واستحداث فرص عملٍ جيّدة، خصوصًا في قطاع الخدمات، ناهيك عن دوره المهمّ في تحديث الخدمات الحكومية. والواقع أن تونس استثمرت في البنية التحتية الرقمية، حيث وسّعت إلى حدٍّ كبير الاشتراكات في شبكات النطاق العريض المتنقّل والثابت. لكن تحقيق تقدّم ملموس أكثر يتطلّب بناء رأس المال البشري بسرعة أكبر، وتشجيع الشركات على التحرّك بسرعةٍ أكبر في هذا المجال.

بعد عقودٍ من العولمة المفرطة، وصلنا إلى مفترق طرقٍ في التجارة العالمية، حيث نشهد توجّهًا نحو نقل مواقع التصنيع لتكون أقرب إلى المستهلكين، ما يسهم في تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وإنتاج السلع في بلدان مجاورة للتخفيف من المخاطر الجيو-استراتيجية. وستؤدّي السياسات الخضراء في أوروبا قريبًا إلى فرض ضرائب على السلع المستوردة من البلدان ذات المعايير البيئية المتدنّية، ما يزيد من الحوافز التي تدفع إلى اعتماد تقنيات إنتاج أكثر مراعاةً للبيئة. ويمكن أن يكون توطين الإنتاج في تونس جذّابًا للمستثمرين من الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، خاصةً إذا أصبحت البلاد أكثر ملاءمةً للأعمال، وطوّرت قطاع الطاقة المتجدّدة.

كشف تقريرٌ صادر عن البنك الدولي عن أن التحديّات الاقتصادية التي تواجهها تونس قد تفاقمت بسبب معاناتها المتزايدة من التداعيات الناجمة عن تغيّر المناخ، مثل ارتفاع منسوب مياه البحر، والتقلّبات في أنماط هطول الأمطار، إضافةً إلى التصحّر والندرة المتزايدة في المياه العذبة، في ظلّ تسارع وتائر النمو السكاني والتوسع العمراني. نظرًا إلى هذا المزيج الفريد من العوامل، تُعدّ منطقة حوض المتوسط معرّضةً بشكلٍ حادّ إلى عواقب تغيّر المناخ، ولا سيما أن معدّلات هطول الأمطار قد انخفضت، وبلغت ندرة المياه مستويات حرجة، وازدادت المخاطر البيئية تواترًا وحدّة. إذًا، تحتاج تونس إلى استثمارات ضخمة من أجل التكيّف مع الاحتباس الحراري العالمي، بيد أن السياسات المتّخذة في هذا الشأن محدودةٌ لغاية الآن. علاوةً على ذلك، تُعتبر تدابير التكيّف مُكلفةً، إذ يُقدّر أن تبلغ قيمتها حوالى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا خلال العقد المقبل. لكن تكاليف التقاعس مُكلفةٌ أكثر. فإجراءات التكيّف من شأنها استحداث فرص عملٍ جديدة وتحقيق النمو، إلّا أن تمويل هذه المشاريع يقع على عاتق الدولة، وبالتالي يتمثّل أحد التحدّيات الملحّة في تأمين التمويل اللازم للتحوّل الأخضر. أما على صعيد التخفيف من حدّة تغيّر المناخ، فتنطوي مصادر الطاقة المتجدّدة على إمكانيات كبيرة، ذلك أنها تشجّع الدول الأوروبية على نقل المزيد من عملياتها الإنتاجية إلى تونس.

خاتمة

تقف تونس راهنًا عند مفترق طرق. لقد فاز الرئيس قيس سعيّد بولايةٍ ثانيةٍ في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 6 تشرين الأول/أكتوبر، لكن نسبة الإقبال عليها كانت متدنيةً للغاية، ما عبّر عن استياء التونسيين المتزايد تجاه حكمه. ونظرًا إلى فداحة الأزمة، غالب الظن أن يتصدّر الملف الاقتصادي قائمة الأولويات الوطنية في المستقبل المنظور.

يُشار إلى أن المجتمع الدولي راهنًا في موقفٍ حرج. فالدول الأوروبية والمؤسسات المالية الدولية مُضطرّة للتعامل مع رئيسٍ ضعيف ومطعون في شرعيته. وتواجه تونس مفارقةً تكمن في نظامها الرئاسي المُطلَق، حيث يتمتّع رئيس الجمهورية بصلاحياتٍ رسميةٍ واسعة، لكن يُلاحظ بأنه يَفتقر إلى السلطة الحقيقية. وتمامًا كما استغّل سعيّد تفشّي وباء كورونا لتوطيد أركان حكمه، قد يشعل الاقتصاد الآن فتيل أزمةٍ أخرى قد تحوّل تونس إلى دولة فاشلة وتُفاقم التوتّرات الاجتماعية، قبل أن تمهّد الطريق نحو إحداث تغييرٍ سياسي. في نهاية المطاف، تحتاج تونس إلى قيادةٍ سياسية فعّالة ومُلتزمة تضع البلاد على سكّة الإصلاح الاقتصادي، وإلّا فستغرق أكثر فأكثر في لُجج الأزمة الاقتصادية وستتفاقم حالة انعدام الاستقرار على المستويات كافة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.