انضمّ وزير الخارجية الأميركية جون كيري إلى الكثير من الدبلوماسيين الذين حذّروا من أن الوضع الراهن في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني غير قابل للاستمرار. فقد أصبح مبعوث اللجنة الرباعية طوني بلير الآن جزءاً من جوقةِ مَن يقولون إن نافذة التوصّل إلى حلٍّ للصراع توشك أن تُغلق. وهكذا، إن العديد من المراقبين الذين تزلّ ألسنتهم من دون سخرية واعية حين يقولون إن الوضع "لايزال غير قابل للاستمرار" (كما وصف تقرير للبنك الدولي، على سبيل المثال، حال بناء المؤسّسات الفلسطينية قبل ثلاث سنوات)، هم الأقرب إلى الصواب.
ويبدو، والحال هذه، أن المسارات كافة لمضيّ الفلسطينيين قُدُماً، من التركيز المحلي على المؤسّسات مروراً بالجهود الدبلوماسية لإحياء عملية السلام وانتهاءً بالمقاومة المسلحة، قد سُدَّت بالكامل. كما يبدو الواقع الراهن راسخاً تماماً، وهو أبعد من أن يكون هشاً.
لكن الأمر لايعني أن كل مايتّصل بالوضع الحالي يخدم المصالح طويلة الأجل لمعظم الأطراف الفاعلة في الصراع. فحتى أولئك الذين يعلنون بابتهاجٍ لا بأسى نهايةَ حلّ الدولتين، سيدفعون ثمناً باهظاً إذا ماكانوا على صواب. لكن الأطراف كافة تبدو إما غير مهتمة بتعطيل الاتجاهات الحالية في عملية السلام، وإما غير قادرة على ذلك. فقد اصطُلِح على تسمية النتيجة بأنها "حلّ الدولة الواحدة الذي ينشأ على أرض الواقع،" مع أن كلمة "حلّ" تسمية غير ملائمة. وبذلك تبدو عبارة "حقيقة الدولة الواحدة"، التي يتم تداولها أكثر فأكثر الآن، متناسبةً أكثر مع الواقع الراهن.
خلال رحلة قمت بها إلى الضفة الغربية في الآونة الأخيرة، كان الاتجاه الجديد الوحيد الذي وجدته هو أنه أصبح من شبه المستحيل العثور على شخص يتوقّع حصول أي جديد قريباً.
بذور الجمود
بالنسبة إلى الفلسطينيين، كان من المفترض أن يكون بناء السلطة الفلسطينية في العام 1993، والتي سرعان ما أعادوا تسميتها السلطة الوطنية الفلسطينية، نواة (أو أكثر) لدولة فلسطينية. وعلى مدى بضع سنوات، بدا أنها كذلك بالضبط، بغض النظر عن النتيجة. فسرعان ما أُنشِئَت الوزارات والمحاكم والخدمات الاجتماعية والأجهزة الأمنية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع أنها كانت في الغالب عاجزة وفاسدة وسلطوية. وبدا في تسعينيات القرن المنصرم أن فلسطين قد تحوّلت إلى دولة بالفعل، وإن كانت تشبه جيرانها أكثر من اللازم.
مامِن شك أن عناصر أساسية كانت مفقودة، وخصوصاً في مايتعلق بالمسائل الأمنية والموقف الدولي. ففلسطين لم تكن تسيطر على حدودها، وقد وافقت على معدلات الضرائب وتحصيل الإيرادات التي قرّرتها إسرائيل، ولم تمتلك قدرات على صعيد الأمن الخارجي. كما وجدت نفسها مقيّدة على صعيد الأمن الداخلي، ولم تحصل على أي اعتراف كطرف سيادي فاعل. بيد أن اللبنات الأخرى لقيام الدولة كانت موجودة: علّمت السلطة الوطنية الفلسطينية التلاميذ الفلسطينيين، ومنحت التراخيص للمنظمات غير الحكومية، وأدارت نظام الرعاية الصحية ونظّمته، وفصلت في النزاعات، وأجرت انتخابات رئاسية وبرلمانية، ووضعت القوانين واللوائح الخاصة بالشؤون كافة، من الخدمة المدنية إلى حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة. كما روّجت بشكل مطّرد لأي قضية رمزية تمكّنها من تأكيد المطالبة بإقامة الدولة، الأمر الذي جَلَب عليها في بعض الأحيان معارضةً شديدةً من جانب إسرائيل، وعدم اكتراث قاسٍ من جانب الولايات المتحدة.
لكن يبدو أن هذا الوضع انعكس اليوم. فقد ازداد حجم الدعم الدولي لإقامة الدولة في ظل انحسار الحماسة المحلية للفكرة. في تسعينيات القرن المنصرم، لم يكن القادة الإسرائيليون الذين دعموا فكرة إقامة دولة فلسطينية، يتجرّأون على الحديث عن الأمر لأنه كان محفوفاً بالمخاطر محلياً، ولأنهم رأوا فيه ورقةَ مساومةٍ يمكن أن تكلّف ثمناً باهظاً. والآن حتى القيادة الإسرائيلية فَقَدَت حساسيتها إزاء مصطلح "الدولة الفلسطينية". في العام 2013 (وحتى قبل ذلك ببضع سنوات)، جرى تكرار التأييد الدولي لحلّ الدولتين في كثير من الأحيان بحيث تحوّل إلى نوع من الابتذال في الخطاب الدبلوماسي. أما الذين يهتمّون قليلاً بالفكرة في الممارسة العملية، فلازالوا يتفوّهون بالمصطلح لتجنّب استعداء الجهات الفاعلة الدولية القوية.
عندما اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين كدولة غير عضو في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، أسهمت الخطوة في توفير دعم محلي عابرٍ لا أكثر للزعماء الفلسطينيين الذين عملوا بجدّ لتحقيق ذلك. فذلك الاعتراف لم يؤدِّ إلى حدوث أي تغيير ملموس على الأرض.
والواقع أن حلم قيام الدولة بات ينحسر بالنسبة إلى الفلسطينيين، إذ أن قلّةً منهم ترى أن ثمة ميلاً عملياً نحو هذا الاتجاه. ولايبدو أن السلطة الوطنية الفلسطينية مرتبطة بأي مشروع لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، حتى من وجهة نظر معظم الأفراد الموظفين في مكاتبها المختلفة. ولم تَعُد فكرة أن الدولة هي السبيل الأفضل لتحقيق الحقوق الفلسطينية تهيمن على المناقشات السياسية الفلسطينية. فقد أصبح الحديث عن حلّ السلطة الوطنية أو انهيارها شائعاً للغاية. ولايبدو أن أياً من المسارين أمر مرجّح قريباً بالمعنى المؤسّسي.
لكن إذا كان يُنظَر إلى السلطة الوطنية الفلسطينية على أنها هيئة لها هدف واضح وسلطة على الحركة الوطنية الفلسطينية، لا على أنها مجموعة من الهياكل البيروقراطية، فهذه السلطة انهارت منذ زمن بعيد. لقد انشطر أعظم إنجاز حقّقه الجيلان السابقان - إنشاء الحركة الوطنية التي تربط الضفة الغربية وقطاع غزة معاً، إضافة إلى الشعور الراسخ بالهوية الوطنية ومجموعة من الهياكل المخوّلة تمثيل الفلسطينيين خارجياً (إلى حدّ أقل بكثير) وتنظيمهم داخلياً - إلى نصفين متحاربَين.
هياكل من دون هدف
يواجه الفلسطينيون في الوقت الحاضر وضعاً يتّسم بالجمود والتخبّط. ولايشهد المجتمع أي نوع من التفكّك، إذ تستمر العديد من مجالات الحياة الفلسطينية، مثل المدارس والجامعات ونظام الرعاية الصحية، في العمل كما كانت على الدوام، إلا أن قلةً من الهياكل قادرة على قيادة الفلسطينيين في أي اتجاه معيّن.
في جميع أنحاء الضفة الغربية، داخل السلطة الوطنية الفلسطينية وخارجها على حد سواء، تتقدّم بعض الهياكل ببطء فيما تتهاوى هياكل أخرى. فالمؤسّسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إما تتدبّر أمورها بصعوبة وإما تتفكّك ببطء. وقد وجد الفلسطينيون وسائل تمكّنهم من تدبّر أمورهم بصورة يومية، الأمر الذي أسفر عن خليطٍ من المؤسّسات والقواعد والقيود. ومع ذلك، لايوجد في هذه البيئة مايوحي بمسارٍ للخروج من الوضع الحالي، إذ يبدو أن مختلف هياكل المجتمع الفلسطيني مجرّدة من الهدف أو الاتجاه.
فضلاً عن ذلك، تقلّص المشهد الحزبي السياسي في الضفة الغربية منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية إلى حزب واحد متصدّع تمثّله حركة "فتح" برئاسة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس. وقامت حركة فتح، التي تتولّى إدارة الحكومة في الضفة الغربية من رام الله، ببعض المحاولات الحثيثة الموثوقة لإحياء نفسها على مستوى القاعدة الشعبية. لكنها لاتزال منقسمة جداً على مستوى القيادة، بحيث أصبح من غير الواضح ما إذا كانت ستتمكّن من الالتفاف حول قيادة جديدة عندما تنتهي فترة ولاية عباس في نهاية المطاف، كما فعلت بعد وفاة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات.
أما حركة حماس، الخصم الرئيس لحركة فتح، فقد دُفِعَت إلى العمل السري في الضفة الغربية، مع أنها لاتزال تحكم قطاع غزة. أما الفصائل والحركات الأصغر حجماً، فحضورها العملي ضئيل. ويبدو أن محاولات التشجيع على تعبئة الشباب من خارج الأحزاب القديمة قد تلاشت، في الوقت الحالي على الأقل.
في السابق، كان المجتمع المدني في السلطة الوطنية الفلسطينية قوياً ومتنوّعاً إلى حدّ ما. ففي تسعينيات القرن المنصرم، كان المجتمع المدني قوياً إلى الحدّ الذي مكّنه من القيام بوظيفة المعارضة السياسية، وتمكّن من التأثير من أقصى اليسار إلى اليمين الديني. وكانت الجمعيات المهنية - التي تشكّل مجموعة مهمة من الهياكل في العديد من المجتمعات العربية - تتكوّن من هيئات متماسكة ظهرت في أماكن مختلفة (الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات الفلسطيني). حاول بعض الناشطين تحويل هذه المنظمات من أدوات للتعبئة القومية، إذ غالباً ما أُنشِئَت للقيام بهذه المهمة، إلى جمعيات تسعى إلى تعزيز الكفاءة المهنية وتحقيق مصالح أعضائها.
وقد استُؤصِل الآن الجانب الإسلامي من طيف المجتمع المدني في الضفة الغربية في إطار حملة على حركة حماس. وسلمت أجزاء أخرى من المجتمع المدني نسبياً، لكن يبدو أنها فقدت بعض نفوذها السياسي. كما غرقت معظم الجمعيات المهنية في أتون الانقسام والتحزّب.
في المقابل، لايزال الاقتصاد الفلسطيني يعتمد على المساعدات، وعلى عوامل خارجة عن إرادته، مثل السياسات الإسرائيلية بشأن التنقّل والوصول، وتحويل الإيرادات، والشروط الاقتصادية لبروتوكول باريس الذي ينظّم العلاقات الاقتصادية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وتتضافر هذه العوامل لتسلب السلطة الوطنية الفلسطينية قدرتها على صنع السياسات في العديد من المجالات الحيوية.
لاتزال المؤسّسات الرسمية الفلسطينية قائمة، إلا أن عمليات التطوير في العديد منها جُمِّدَت منذ العام 2007. وقد توقّف بعضها عن العمل تماماً، مثل البرلمان. أما العملية التشريعية فمرتجلة، ويخشى كبار القادة من استحداث قوانين وهيئات قد تعمّق الانقسام المؤسّسي بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة. وقرّر عباس مؤخراً تشكيل محكمة دستورية عمَلاً بتغييرٍ تشريعيٍّ أُجري منذ أكثر من سبع سنوات. بيد أنه أحجم عن المضي قُدُماً في الأمر بعد توقيع المرسوم، لقناعته بأن هذه الخطوة ليست ملائمة في البيئة الحالية. ولم يُنشَر المرسوم الخاص بالمحكمة إلى الآن، وبالتالي لايمكن وضعه موضع التنفيذ.
وهكذا، يبدو من الصعب على مجتمع يتوفّر على هيئات حوكمة تفتقر إلى القدرة على صنع القوانين أو إصلاح المحاكم، أن يتقدّم نحو أي مستقبل سياسي واضح.
في غضون ذلك، تبدو الصعوبات في قطاع غزة، وإن اختلفت، حقيقيةً شأنها شأن مثيلاتها في الضفة الغربية. فالمؤسّسات الفلسطينية تعمل بسلاسة أكبر بقليل وبتنسيق أكبر مما هو عليه الحال في الضفة الغربية. بيد المشلكة تكمن هنا بالضبط: فالقوة المستبدّة لحركة حماس تكاد تقيّد جميع الجهات الفاعلة والمؤسّسات والهياكل، ومع ذلك، يبدو أن الحركة لم تَعُد قادرة على التحرّك في أي اتجاه، بل هي تعمل على تحصين نفسها أكثر في حكم المنطقة الصغيرة المكتظّة بالسكان.
يبدو العديد من مؤشرات هذه العملية غير واضح، إلا أنها تسارعت بشكل كبير في الأشهر القليلة الماضية. يتحدّث قادة المنظمات غير الحكومية المحلية، على سبيل المثال، عن تزايد ضغوط حكومة حماس عليها كي تسجّل نفسها محلياً أو تشرك المسؤولين في غزة في أي نشاط يشارك فيه المسؤولون في رام الله بشكل ما. كما لمست المنظمات غير الحكومية الدولية وجود بيئة أقل ودّية.
لم يتنكّر قادة حماس في غزة للمصالحة مع الضفة الغربية وحركة فتح، لكنهم بدأوا بالتخلّي عن أي ادّعاء بأن حكمهم في غزة مؤقّت.
التخبّط بحثاً عن بدائل: جميع الخيارات مطروحة على الطاولة
عندما يبحث الفلسطينيون عن خيارات سياسية للخروج من المأزق الحالي، لايظهر على السطح أي حلّ موثوق.
المصالحة
يبدأ كل نقاش سياسي فلسطيني داخلي تقريباً بموضوع الانقسام بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة. وبما أن الحركة الوطنية منهكة، أصبح التأكيد على المصالحة إلزامياً بالنسبة إلى القادة الفلسطينيين أكثر مما أصبح التأكيد على حلّ الدولتين بالنسبة إلى الجهات الفاعلة الدولية.
بيد أن المصالحة لم تَعُد مؤثّرة، إذ تظهر في الضفة الغربية بوادر خلاف أو تردّد في مايتعلّق بهذا الموضوع. ويبدو أن حركة فتح ترى حماس، بشأن أي مسألة جوهرية، عدواً أكثر إلحاحاً من إسرائيل. ولذلك، فرضت ضرورة التوافق مع القواعد والمعايير اللفظية الخاصة بالمصالحة، قيوداً حقيقية على المسؤولين. فقد كان قرار الرئيس عباس بعدم تشكيل المحكمة الدستورية، على سبيل المثال، استجابة مباشرة لضغوط مَن يخشون أن تُعمِّق المحكمة الانقسام المؤسّسي القائم بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة.
على النقيض من ذلك، يبدو أن حماس تتخلّص من تلك الهواجس. الواقع أن الحركة وصلت، منذ آذار/مارس الماضي، إلى مستوى ملحوظ، وحتى جريء، من النشاط التشريعي. فقد استقطبت بعض التشريعات، مثل قانون التعليم الجديد الذي يفرض الفصل بين الجنسين، بعض الاهتمام الدولي، بيد أن المراقبين أهملوا الأهمية المؤسّسية لهذه الخطوات. واستخدمت حماس هياكلها التشريعية – مكتب لصياغة التشريعات تابع لوزارة العدل، ومجموعة مخصّصة من آليات التشاور مع الجماعات ذات الصلة، وماتبقّى من البرلمان – لإجراء تغييرات جوهرية في النظام القانوني الذي يدعم التعليم والعقارات والنشاط الاقتصادي، والذي استهدفته بقانون جديد للشركات ملائم للمستثمرين.
تبدو الدوافع المحدَّدة لهذا البروز المفاجئ للطاقة التشريعية غير واضحة. من المحتمل أن تكون حماس قد تشجّعت إما بالمساعدة القطرية، وإما من خلال صعود الحركات الإسلامية عموماً. لكن ثمة دلائل أيضاً على أن الأجندة الإسلامية التي كانت مؤجّلة في السابق قد عادت. فقد أدّى اعتماد قانون التعليم، على سبيل المثال، إلى زيادة التركيز (العام باعتراف الجميع) إلى حدّ كبير على القيَم الدينية كهدف للنظام التعليمي. وكان أحد مجالات النشاط الأكثر بروزاً المحاولة المتقطّعة على مدى عشر سنوات لصوغ قانون جنائي شامل أكثر اعتماداً على المصادر الإسلامية. وقد قرّرت حركة حماس على مايبدو تأجيل المحاولة مرة أخرى بسبب الجدل الحادّ الذي يمكن أن تثيره أي خطوة نحو أسلمة المجتمع والرغبة في تجنّب الظهور بمظهر مَن يعمّق الانقسام بين غزة وبين الضفة الغربية.
مهما يكن دافع قيادة حماس، يبدو التأثير الكلّي واضحاً: فالانقسام بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة يتعمّق، وعملية التفاوض الخاملة بشأن المصالحة، يخفيان الانقسام المتنامي بطريقة لاتُقنِع سوى قلّة من الأشخاص. وبذلك أصبح أحد المجالات القليلة للتنسيق المؤسّسي – التعليم والمناهج – مهدّداً الآن. ولايختلف قانون التعليم الجديد الذي أقرّته حركة حماس عن القانون المعتمد في الضفة الغربية وحسب، بل أعلنت حكومة غزة أيضاً بفخرٍ عن قرارٍ لاستبدال بعض كتب التربية الوطنية. فقد ظلت الكتب والامتحانات موحّدة في الضفة الغربية وقطاع غزة حتى هذه المرحلة، ويتم تنسيقها من جانب وزارتي التربية والتعليم.
القوى الجديدة
تشير حالة الانقسام المتزايد بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة إلى أحد الأسباب الرئيسة الكامنة وراء عدم ظهور قوة ثالثة في الحياة السياسية الفلسطينية. ففي ظل الأجواء الحالية، يحصّن شطرا القيادة الفلسطينية المتحاربان نفسَيهما بشدّة، الأمر الذي يوفّر مساحة سياسية لاتُذكَر للقيام بمبادرات جديدة.
فَقَدَت البدائل التقليدية لحركتَي فتح وحماس – فوضى الفصائل التي كانت حاضرة في الحركة الوطنية الفلسطينية على مدى عقود - معظم حيويتها، ولايبدو أن هناك قوة جديدة تحلّ محلّها.
بُنيَت حركتا فتح وحماس، على الرغم من كل عيوبهما، رويداً رويداً على شبكة من الفروع المحلية، ورُبِطَتا بجميع أنواع الهياكل والمنظمات الشعبية والجمعيات المحلية بطريقة جعلتهما جزءاً لايتجزّأ من المجتمع الفلسطيني. من الصعب طبعاً بناء مثل هذه الحركة بين عشية وضحاها، بيد أنه ليس ثمّة علامات تُذكَر على أن مثل هذه الجهود قد بدأت حتى. فالقطاعات حيث يمكن أن يُتوقَّع أن تظهر منظمات جديدة، مثل الاتحادات الطلابية والجمعيات المهنية والمخيمات والأحياء المختلفة، لاتزال تسيطر عليها الفصائل القديمة – أو لاتزال في سبات أحياناً.
إحياء الفصائل
يُحتمَل أن تتمكّن حركتا حماس وفتح من البروز مجدّداً كطرفين فاعلين قادرين على القيام بما هو أكثر من مجرّد تحصين نفسيهما في الحكم المحلي. والواقع أنه ظهرت مؤشرّات نادرة على الحيوية من جانب الحركتَين في العام الماضي. فقد حاولت فتح، وبنتائج متباينة، إعادة تأسيس نفسها في قطاع غزة، وشاركت حركة حماس بشكل موثوق في انتخابات اتحاد الطلبة في الضفة الغربية.
وتختلف الآراء في الضفة الغربية حول مدى السرعة التي يمكن أن تعود بها حماس إلى الساحة إلى حدّ كبير، لكن يبدو أن ثمة شعوراً بأن الحركة تعرّضت إلى سلسلة من الضربات الحادّة في الأراضي الفلسطينية خلال السنوات الستّ الماضية. فعندما خاضت حماس الانتخابات البرلمانية في العام 2006، وفّر العديد من المؤسّسات والمواقع غير التابعة للحركة لهذه الأخيرة فضاءات مناسبةً للوصول إلى الفلسطينيين، مثل المنظمات غير الحكومية والمدارس والمساجد والجامعات. ويجري الآن إغلاق تلك الكيانات أو إخضاعها مراقبة شديدة. فقد أعفت وزارة الأوقاف جميع أئمة المساجد الذين يبدو أن لهم صلات مع حماس، من وظائفهم، وأصدرت توجيهاتها لمَن حلّوا في أماكنهم حول مضمون خطبهم. وأصبحت الضفة الغربية بيئة أقل ليبرالية بكثير في هذا المعنى، وهناك دلائل على أن مَن بقوا خارج السجن من كوادر حماس لم يعودوا صامتين، بل هم مستاؤون من أن الحركة التي تركّز الآن على غزة بصورة كبيرة قد تخلّت عنهم.
إذن، فرص فتح في غزة تشبه كثيراً فرص حماس في الضفة الغربية.
ليس من المستحيل أن تؤدّي أزمة كبرى أو تحوّل مهم في الوضع السياسي، إلى توجيه ضربة قوية إلى إحدى الحركتَين أو إقناع الأخرى باعتماد مقاربة أكثر جرأة. في الواقع، تظهر حماس مؤشّرات على أنها تنتظر أن تُمنى فتح بالفشل. لكن لايبدو أن أياً من الطرفين يميل إلى اتّخاذ إجراءات عاجلة لمنع حدوث مثل هذه الهزّة الخارجية، كما لايبدو أن أياً منهما مستعدّ للاستفادة من أي فرصة إذا ماسنحت.
إحياء منظمة التحرير الفلسطينية؟
ثمة هيكل واحد يدّعي بأنه يتحدّث باسم جميع الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، وهو منظمة التحرير الفلسطينية. غير أن إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية أدّى إلى تهميش منظمة التحرير. وقد عمدت حركة فتح، التي سيطرت على منظمة التحرير، إلى نقل طاقاتها من المنظمة إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، ونتيجة لذلك تدهورت حال منظمة التحرير الفلسطينية وذبلت.
من المستبعد نسبياً أن يُعاد إحياء منظمة التحرير الفلسطينية. فالآلية الرئيسة التي تتم مناقشتها للقيام بذلك – داخل حركة فتح وبين بعض الناشطين الشعبيين المستقلين – تنطوي على إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، المؤسّسة الضعيفة التي تهدف إلى تمثيل جميع الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، والهيئة التي تشكّل منظمة التحرير الفلسطينية. والواقع أنه وُضِعَ قانون انتخابي للمجلس داخل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي تهيمن عليها حركة فتح.
غير أن إجراء الانتخابات في معظم الأماكن لن يكون عملياً من الناحية اللوجستية، ومن المرجح أن يخشى معظم الفلسطينيين الذين يعيشون خارج الضفة الغربية وقطاع غزة من تعريض أي وضع اكتسبوه في البلدان المضيفة إلى الخطر إذا ما أدلوا بأصواتهم. وحتى في ماعدا هذه المسائل العملية، من الصعب أن نرى حركة فتح تنخرط في أي عملية من شأنها السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالإفلات من قبضتها.
المقاومة الشعبية
على مدى السنوات القليلة الماضية، ازداد التوافق في المجتمع الفلسطيني حول الحاجة إلى إيجاد وسائل جديدة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وسائل قد تنجح حيث فشلت الجهود السابقة. وثمّة من يقول إنها يجب أن تشمل شرائح كبيرة من السكان في سياق حملات واسعة، بدلاً من المجموعات الصغيرة في صراعات مسلحة. ويختلف دعاة هذا النهج حول قضايا مثل اللاعنف والعلاقة بين المقاومة الشعبية والكفاح المسلح، إلا أن هذه الفكرة كان لها صدًى كافٍ إذ حظيت بدعم معظم الحركات القائمة (وحتى أجزاء من حماس).
في وقت سابق من هذا الشهر، عُقِد مؤتمر كبير في بيت لحم لحملة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات". وقد استقطب المؤتمر حضوراً محلياً مهماً - وهو حضور جدير بالملاحظة لأن الحملة غالباً ماتُعَدّ حركةً تُمثِّل مَن هم خارج فلسطين - فضلاً عن مشاركة رسمية (مع أن الوزير الذي حضر المؤتمر تعرّض إلى استجواب حادّ). وربما ترتبط فتح المجرّدة من أي نهج توحيدي بحركة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" والمبادرات ذات الصلة الرامية إلى عزل إسرائيل دولياً، ومن الواضح أن بعض أعضائها يدافعون عن مثل هذه الأفكار.
مع ذلك، لايمكن أن تحجب قوةُ المقاومة الشعبية باعتبارها شعاراً الصعوبات التي تعترض تطبيقه. فمعنى المصطلح لايتغيّر من مستخدم إلى آخر وحسب، بل تتطلّب أيّ حملة متواصلة مستويات من التنظيم والبراعة التكتيكية والرؤية الاستراتيجية التي يفتقر الفلسطينيون إليها الآن، كما يتّضح من طبيعة حركة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، والمحاولات التي تهدف إلى تنظيم حملات دعم المطالب الفلسطينية في أماكن مثل بلعين، أو حشد مسيرات على نقاط التفتيش والجدار العازل. ومن المرجّح أيضاً أن تولّد مثل هذه الحملة قدراً كبيراً من المرارة والعداء على الصعيد الدولي.
المفاوضات
توحي المفاوضات الثنائية الفلسطينية-الإسرائيلية بالكثير من التشاؤم ولاتَشي بأي أمل. فأنا لم ألتقِ فلسطينياً واحداً أخذ على محمل الجدّ جهود الولايات المتحدة الأخيرة لإحياء عملية السلام عن طريق إلزام جميع الأطراف بالموافقة على عقد جولة جديدة من المحادثات المباشرة. بالنسبة إلى الأكثرية، بدت لغة الولايات المتحدة ومقاربتها مألوفة تطيل الأزمة أكثر مما تسعى إلى حلّ. فقد رأى الكثير من الفلسطينيين أن نوايا الولايات المتحدة خبيثة، واشتبهوا في أن المحاولة برمّتها تهدف إلى إلهائهم ليس إلا. لكن حتى أولئك الأكثر تسامحاً وقعوا في حيرة من أمرهم إزاء الإصرار الأميركي على أن هناك أي فرصة للتفاوض حول حلّ الدولتين في الوقت الحاضر.
دلائل المستقبل
مايبدو للناظر من الخارج أنه قوةُ التفكير الإيجابي، يبدو في غالب الأحيان توهّماً كبيراً للناظر من الداخل. فمن النادر أن تسمع عن شعور قسري بالتفاؤل من الفلسطينيين أو الإسرائيليين، ربما باستثناء المتطرّفين سياسياً الذين ينظرون إلى الاتجاهات الحالية باعتبارها تبريراً لمواقفهم المتطرّفة.
يتمثّل الانتقاد الرئيس للفهم القاتم للحظة الراهنة، في أن الاستسلام للتفكير الانهزامي لايقدّم أي حلّ بديل. ومن الصعب الردّ في هذه الحالة إلا إذا ما أردنا القول إن هذه البدائل ربما كانت موجودة – مثل جدّية المصالحة الفلسطينية – لكن حتى هذه البدائل قد تفقد ماكانت تنطوي عليه من آمال. بالنظر إلى المصالح الراسخة والقادة الضعفاء والتفكير قصير المدى، لايمكن إلا الاستخلاص أنه من المستبعد أن يقدّم أيٌّ من أطراف النزاع أو أيُّ جهد دبلوماسي خارجي، إمكانيةً واقعيةً للتغيير.
وفي ظل هذا القدر الكبير من الاضطراب الذي تشهده كل البلدان المجاورة، يبدو من المرجّح أكثر أن أي فرص جديدة – بغض النظر عن النتيجة – ستنبثق من تغييرٍ غير متوقَّع في بيئة إقليمية شديدة التقلّب. وإذا لم تحدث مثل هذه الصدمة غير المتوقّعة، فسيكون عمرُ الوضع الحالي أطول من عمرِ كثرٍ ممَّن يصفونه الآن بأنه وضع لايمكن أن يدوم.