المصدر: الحياة
من الخطأ قصر النقاش حول نواقص الانتخابات البرلمانية في مصر، والمزمع إجراؤها في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، على العناصر غير الديموقراطية والمقيدة للتنافسية الحاضرة في الإطار الدستوري والقانوني الناظم للانتخابات، أو على التأثير المستمر وذي المستويات المتعددة الذي يمارسه الحزب الوطني الحاكم على العملية الانتخابية مستغلاً تداخله مع أجهزة الدولة وقربه من مؤسسة الرئاسة، أو على العوائق الأمنية والتنظيمية الكثيرة التي تواجهها المعارضة الحزبية وغير الحزبية للدفع بمرشحيها إلى الانتخابات والتواصل مع قواعدها الشعبية وعموم المواطنين، أو على محدودية الرقابة المحلية وغياب الرقابة الدولية. فعلى أهمية هذه العوامل جميعها وحقيقة مسؤولية نخبة الحكم بمعناها الواسع عنها، ثمة نواقص أخرى بالغة الأهمية أيضاً تدلل عليها بعض مشاهد السباق الانتخابي الراهن وتتجاوز في ما خص مسبباتها ومفاعيلها ثنائية تسلط النخبة ومعاناة المعارضة.
مشهد أول: إلى اليوم، ولم يعد يفصل الناخبين المصريين عن يوم الانتخاب سوى أسابيع معدودة، لم يعلن أي من الأحزاب الرئيسة المشاركة في الانتخابات ولا جماعة «الإخوان المسلمين» عن برامج انتخابية وما زالت تصريحات قيادات الحزب الوطني والمعارضة تقتصر على العام من المواقف في شأن قضايا المجتمع والسياسة والاقتصاد في مصر. يرتب الضعف البيّن للبرامج، وبعض المسؤولية هنا يتحملها نظام الانتخاب الفردي المعمول به إلى اليوم، استمرار غياب بعض السمات الجوهرية للسباق الانتخابي كما يمارس في البيئات ذات التنافسية المقيدة المشابهة للبيئة المصرية. فلا الحزب الحاكم يوظف برنامجه للدفاع عن حصاد سياساته منذ الانتخابات البرلمانية السابقة وللإفصاح للناخبين عن حدود الثابت والمتغير في اختياراته في حال فوزه بالانتخابات مجدداً، ولا المعارضة تقوى على توجيه النقد الموضوعي لسياسات الحكم وصياغة مقترحات تفصيلية لسياسات بديلة تراها أنجع في مقاربة قضايا الوطن. كذلك يدفع ضعف البرامج المرشحين للانتخابات إما إلى إعادة إنتاج أجوف لشعارات ومواقف احزابهم وحركاتهم (من شاكلة «المواطن أولاً» و «الإسلام هو الحل» وغيرها) من دون مواءمتها مع سياقات الدوائر الانتخابية الشديدة المحلية، أو يعمق من ظاهرة شخصنة السباق الانتخابي واختزاله إلى تنافس يوظف فيه المال الانتخابي بكثافة بين مرشحي نخبة رجال الأعمال وممثلي القطاعات المهنية المختلفة والمنتمين الى العصبيات والعائلات القوية التأثير في المناطق الريفية والمحسوبين على بيروقراطية الدولة والأجهزة الأمنية، وجميع هؤلاء باستثناء المجموعة الأخيرة حاضرون في ترشيحات الحزب الحاكم والمعارضة الحزبية وغير الحزبية. بل إن حقيقة تفاوت مصالح وإمكانات هذه المجموعات والفئات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إن لم يكن تناقضها الحاد، لا تبدو محل اعتبار فعلي.
مشهد ثانٍ: إذا ما استثنينا آلية وإجراءات اختيار مرشحي الحزب الوطني للانتخابات البرلمانية، لا يملك الناخبون المصريون الكثير من المعرفة أو الدقيق من المعلومات عن الكيفية التي يتم بها تحديد مرشحي جميع الأحزاب والحركات الأخرى. فحزب الوفد، وبعد أن قررت جمعيته العمومية بغالبية ضعيفة المشاركة في الانتخابات، شكل لجنة من قياداته لاختيار المرشحين ولم يعلم عن آليات عملها وتواصلها مع القواعد التنظيمية والشعبية للحزب سوى الشيء القليل، ومن ثم همشت شفافية الوفد في هذا السياق. وتكرر الغياب الموجع ذاته للشفافية في ما خص جماعة «الإخوان المسلمين»، فما لبث مكتب إرشاد الجماعة أن خرج على الرأي العام المصري منذ أسابيع قليلة بتأكيدات على أن استطلاع آراء الأعضاء في شأن المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها أكد تفضيل غالبية ساحقة لخيار المشاركة (بلغت في تقديرات بعض أعضاء مكتب الإرشاد 98 في المئة) حتى خالف علانية بعض رموز الجماعة هذه التأكيدات مقترحين أن الغالبية المفضلة للمشاركة تجاوزت بالكاد نسبة 50 في المئة ثم تبع ذلك تكوين عدد من الأعضاء جبهة للمعارضة وتوالى إعلان نواب للجماعة في مجلس شعب 2005 - 2010 انسحابهم من السباق الانتخابي الراهن. أما الحزب الوطني، ومع تطوره المؤسسي والتنظيمي خلال الأعوام الماضية، فتبدو للوهلة الأولى آلية وإجراءات اختيار مرشحيه متسمة بالشفافية والنزاهة. فالاختيار ينتظم في مراحل ثلاث: مرحلة المجمعات الانتخابية وفيها يصوت أعضاء الحزب العاملون (2.5 مليون عضو) للمرشحين في انتخابات تمهيدية، مرحلة ثانية ندر أن يوجد نظير لها لدى الأحزاب السياسية التي تعقد انتخابات تمهيدية للمرشحين يجمع فيها في ما خص هؤلاء بين نتائج الانتخابات التمهيدية ونتائج استطلاعات الرأي العام التي يجريها الحزب، مرحلة ثالثة وفيها ترفع لقيادة الحزب التوصيات بأسماء المرشحين لاتخاذ القرار النهائي. نحن إذاً، أمام عملية معقدة تنظيميا، وذات مراحل متتابعة بها من الشفافية ما يحفز الأعضاء على الترشح والتنافس (اقترب عدد أعضاء «الوطني» المتنافسين على الترشح من 4 آلاف عضو). بيد أن مثل هذا المشهد التنافسي داخل الحزب الوطني، حين التدقيق به، يعكس شكلاً حديثاً ومظهراً شفافاً لا يستتبعهما بالضرورة مضمون حداثي أو جوهر شفاف. فقيادة الحزب تتخذ في نهاية المطاف القرار في شأن هوية المرشحين ولا تلزمها بالكامل نتائج الانتخابات التمهيدية أو حصيلة استطلاعات الرأي إلى الحد الذي يصبح معه مشروعاً التساؤل حول مدى الاختلاف الجوهري بين عملية الاختيار الحالية والكيفية التي اعتادت بها قيادات الحزب في الثمانينات والتسعينات تحديد مرشحيه. واليوم كما بالأمس يعمل «الوطني» في ترشيحاته على ضمان تمثيل المجموعات والقطاعات ومن ثم المصالح المؤثرة بداخله، نخبة الأعمال ومؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية والعصبيات العائلية والمهنيين.
مشهد ثالث: تشرف على العملية الانتخابية لجنة عليا للانتخابات (وفقاً لنص القانون الرقم 18 لعام 2007 المعدل للباب الخاص باللجنة العليا للانتخابات في القانون الرقم 73 لعام 1956) تشكل برئاسة رئيس محكمة استئناف القاهرة وعضوية رئيس محكمة استئناف الإسكندرية وأحد نواب رئيس محكمة النقض (يختاره مجلس القضاء الأعلى) وأحد نواب رئيس مجلس الدولة (يختاره المجلس الخاص للشؤون الإدارية)، إضافة إلى سبعة أعضاء منهم ثلاثة من أعضاء الهيئات القضائية السابقين وأربعة من الشخصيات العامة يختارهم مجلس الشعب (أربعة أعضاء) ومجلس الشورى (ثلاثة أعضاء). ويعطي القانون اللجنة العليا كامل الصلاحية للإشراف على مختلف جوانب العملية الانتخابية من تنقية وإعلان جداول الناخبين، وتسجيل المرشحين، وتحديد موعد بدء الحملات الانتخابية، والرقابة على الأموال التي تنفق بها ومراقبة التزام المرشحين بالامتناع عن توظيف الشعارات الدينية أو الخطاب التمييزي أو استخدام مؤسسات الدولة ودور العبادة، ومتابعة حيادية التغطية الإعلامية للحملات، والترخيص للمراقبين وغيرها. بيد أن تفعيل صلاحيات اللجنة العليا، المبهرة على الورق، يعترضه الكثير من المعوقات التي لا تقتصر بأي حال من الأحوال على ممارسة الحزب الوطني الحاكم نفوذه للتأثير في العملية الانتخابية ونتائجها. فعلى رغم أن اللجنة حددت بدقة موعد بدء الحملات الانتخابية منتصف الشهر الجاري، بعد الانتهاء من إجراءات تسجيل المرشحين، إلا أن شوارع المدن والقرى المصرية تحفل اليوم بالفعل باللافتات والمعلقات الانتخابية في تجاوز صريح لقرارات اللجنة. كذلك ما إن أعلنت اللجنة في مسعى لكبح جماح توظيف المال الانتخابي أن إنفاق كل مرشح على حملته الانتخابية ينبغي ألا يتخطى حاجز المئتي ألف جنيه مصري، وبصرف النظر عن مدى واقعية المبلغ المعين، حتى سارع بعض مرشحي «الوطني» و «الوفد» و «الإخوان» وغيرهم إلى توجيه النقد العلني للجنة وتعسفها باستخفاف بيّن.
إلا أن المؤكد أن الفعل الأكثر إثارة للجدل العام لجهة الاستخفاف هذا بقرارات اللجنة يرتبط بإعلان جماعة «الإخوان المسلمين» (لم يتغير إعلان الجماعة هذا إلى لحظة كتابة المقال) عزمها على استخدام شعار «الإسلام هو الحل» في حملات مرشحيها الانتخابية، ضاربة بذلك عرض الحائط بالنص القانوني المانع لتوظيف الشعارات الدينية في الانتخابات والمتكرر في القانون المشكل للجنة والمحدد لصلاحياتها وغيره من القوانين المتعلقة بمباشرة الحقوق السياسية، بل ومتجاهلة نصاً دستورياً صريحاً (المادة الخامسة) يحظر أي نشاط سياسي ذي مرجعية دينية. يثير مثل هذا التوجه الكثير من الشكوك والتساؤلات المشروعة حول حدود الالتزام الفعلي لـ «الإخوان» بالإطار الدستوري والقانوني الناظم للحياة السياسية، والذي يبدو أن الجماعة تقبله على مضض في سبيل المشاركة بينما تسعى للتقويض العملي لمكوناته التي لا تتماشى مع تفضيلاتها، وفي هذا مصدر خطر بالغ على السياسة في مصر وعلى الجماعة ذاتها.