المصدر: Getty

عدم إلحاق الضرر: نحو إجراء مراجعة بيئية للمشروعات المدنية التي تديرها المؤسسة العسكرية في مصر

كي تتمكّن مصر من التصدّي بشكلٍ فعّال للمخاطر البيئية المُقلقة التي تواجهها، عليها إدراج العدد الكبير من المشروعات والأنشطة الإنتاجية التي تديرها المؤسسة العسكرية في المجال المدني ضمن إطار وطني متكامل وموحّد يركّز على وضع الخطط اللازمة للتخفيف من حدّة تغيّر المناخ والتكيّف معه، ومراقبة الإجراءات المتّخذة، ومساءلة الأطراف المعنية في هذه العملية.

نشرت في ١٢ نوفمبر ٢٠٢٤

ملخّص

تواجه مصر سلسلةً من التهديدات المُحدقة بنظامها البيئي، ما يستوجب إدراج الاعتبارات البيئية وتدابير التحصين من تداعيات تغيّر المناخ مستقبلًا في صُلب دورة المشروعات الكثيرة التي تديرها المؤسسة العسكرية في البلاد، بدءًا من تصميمها ومرورًا بتنفيذها ووصولًا إلى مرحلة ما بعد تسليمها. وما لم يتمّ تصويب المسار الحالي، قد تسفر الأنشطة التي تتولّاها المؤسسة العسكرية راهنًا بغية جني الأرباح المالية وتحسين نمو الاقتصاد الكلّي، عن تضاؤل قدرة النظام البيئي المصري على التكيّف مع التهديدات المستقبلية.

محاور أساسية

  • تطرح الإدارة العسكرية للمشروعات في المجال المدني خطرًا جديًّا يتمثّل في مفاقمة الأضرار التي تلحق بالنظام البيئي المصري نتيجة سوء التكيّف، ما من شأنه أن يُضعف قدرة البلاد على مواجهة الاضطرابات الناجمة عن تغيّر المناخ.
  • ينطوي الإطار السياساتي والعملياتي الرامي إلى تحقيق الأهداف البيئية على مواطن ضعف، ما يقوّض الثقة بعملية إدماج المتطلبات البيئية في تصميم المشروعات وتنفيذها وما بعد تسليمها.
  • بما أن الهدف الأساسي للمؤسسة العسكرية هو توليد الإيرادات، فهي لا تعير مخاطر التدهور البيئي على المديَين المتوسط والطويل سوى اهتمامٍ ثانوي في أفضل الأحوال.
  • سوف تؤثّر رؤى المؤسسة العسكرية وأولوياتها إلى حدٍّ بعيد على استعدادات مصر للتعامل مع الاضطرابات المناخية والتصدّي لها، نظرًا إلى انخراطها المتزايد في تحديد الأهداف الاقتصادية الاستراتيجية وتوجيه دفّة استثمارات الدولة. 
  • يتعيّن على السلطات المتخصّصة وأجهزة الدولة في مصر عدم اتّخاذ تدابير من شأنها أن تزيد الأمور سوءًا بشكل كبير، على أقلّ تقدير.

خلاصات وتوصيات

  • كي تتمكّن مصر من تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتعزيز قدرتها على الصمود في وجه تغيّر المناخ، لا بدّ من إدراج المشروعات والأنشطة الإنتاجية التي تديرها المؤسسة العسكرية في المجال المدني ضمن إطار وطني متكامل وموحّد يركّز على وضع الخطط اللازمة للتخفيف من حدة تغيّر المناخ والتكيّف معه، ومراقبة الإجراءات المتّخذة، ومساءلة الأطراف المعنية في هذه العملية.
  • تستطيع المؤسسة العسكرية أن تؤدّي دورًا مهمًّا في تهيئة مصر من أجل التصدّي للاضطرابات الناجمة عن تغيّر المناخ، شرط إعطاء الأولوية إلى الهموم والاعتبارات البيئية في جميع المشروعات والأنشطة الإنتاجية التي تديرها في المجال المدني.
  • تسهم عوامل عدّة في زيادة احتمالات حدوث تداعيات بيئية خطيرة، من ضمنها ضخامة المشروعات والإسراع في إنجازها ضمن مهل زمنية ضيّقة، وتجاهل دراسات الجدوى وتقييمات الأثر البيئي للمشروعات، والاعتماد الزائد على الحلول المُستندة إلى التكنولوجيا، والتركيز المُفرَط على هدف الحدّ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
  • إن تعهّدات الحكومة بإخضاع الهيئات العسكرية النشطة اقتصاديًا لنفس معايير الشفافية المالية التي تخضع لها جميع المؤسسات والهيئات الاقتصادية الأخرى المملوكة للدولة، يجب أن تشمل أيضًا الممارسات البيئية لهذه الهيئات.
  • يجب إجراء عمليات مراجعة شفافة وقابلة للتحقّق منها بشكل مستقل من أجل تقييم التأثيرات البيئية للمشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية في المجال المدني، ما من شأنه التقليل من حدّة المخاطر على المدى القصير، وتوجيهها بشكل أفضل نحو جهود تجديد وإعادة تأهيل النظُم البيئية ونحو التخفيف من تداعيات تغيّر المناخ والتكيّف معه على المدى الطويل.

مقدّمة

تتولّى الهيئات العسكرية حصّة كبيرة من مشروعات الإسكان العام والبنى التحتية المموَّلة من الحكومة، بما في ذلك المشروعات القومية العملاقة لاستصلاح الأراضي الصحراوية، ناهيك عن أنها تُدير مشروعاتها الخاصة في قطاعات متنوعة مثل الزراعة والأعمال التجارية الزراعية، والصناعة التحويلية، واستخراج المعادن. وتنطوي جميع هذه الأنشطة على عواقب بيئية مُحتملة هامّة، من ضمنها زيادة انبعاثات الكربون، وتلوّث الهواء، وتلوّث المياه والإفراط في استخدامها، وتدهور التربة. تُصوَّر المشروعات "العملاقة" التي تديرها المؤسسة العسكرية بأنها ستسهم في سدّ النقص المزمن في الوحدات السكنية في البلاد وفي البنى التحتية، وتعزيز الأمن الغذائي، ومعالجة تدنّي الإنتاجية الاقتصادية، لكنها قد تفاقم أيضًا التهديدات المُحدقة بنسيج نظامٍ بيئي يشمل السكان والأنشطة الزراعية والموارد المائية، ويرزح أساسًا تحت وطأة الضغوط الناجمة عن تغيّر المناخ. يتبنّى مسؤولو الدولة والجيش بشكلٍ روتيني خطابًا "أخضر" مناصرًا للبيئة، بيد أن المعلومات حول الأنشطة التي تديرها المؤسسة العسكرية في المجال المدني تبقى محجوبةً. ونظرًا إلى غياب الشفافية هذا، من المستحيل إجراء تقييمات مستقلة للتبعات البيئية الناجمة عن هذه المشروعات أو لإسهامها المُحتمَل في جهود تخفيف حدّة تغيّر المناخ والتكيّف معه.

أصبحت التأثيرات البيئية للأنشطة العسكرية في المجال المدني أكثر وضوحًا للعيان بسبب التحديات الجسيمة التي تواجه النظام البيئي المصري بأبعاده المادية والحيوية والاجتماعية. وتزداد وطأة هذه التحديات لأن مصر معرَّضة بشدة للتأثّر بالتداعيات الناجمة عن تغيّر المناخ، بحُكم موقعها الجغرافي في منطقة تسجّل مستويات قياسية من ارتفاع درجات الحرارة وتُصنَّف من بين الأعلى على وجه الأرض، وأيضًا بحُكم طبيعة تضاريسها، إذ تغطّي الصحراء مساحات شاسعة من البلاد، ويتركّز أغلب سكانها في وادي النيل، وهو شريط ضيّق من الأراضي الخصبة على طول نهر النيل. ثمّة عوامل عدّة تُفضي مجتمعةً إلى تهديد الصحة العامة، وتقويض العدالة الاجتماعية الاقتصادية، والإضرار بإنتاجية العمل، وبالإنتاج الزراعي والأمن الغذائي، وبالتنوّع البيولوجي، وهي زيادة متوسط درجات الحرارة وارتفاع منسوب مياه البحر، وتفاقم تلوّث الهواء وندرة المياه، إضافةً إلى التصحّر وتدهور جودة التربة، وعدم كفاية ممارسات إدارة النفايات السامّة والخطرة. في غضون ذلك، ازداد بشكلٍ ملحوظ عدد الظواهر المناخية الشديدة التي أثّرت على البلاد خلال العقد الفائت، فاجتاحت السيول عددًا من المدن الكبرى، وألحقت أضرارًا بالغة بالبنى التحتية، وأسفرت عن خسائر في الأرواح وعن تعطيل النشاط الاقتصادي.1

صحيحٌ أن مصر وقعت إلى حدٍّ بعيد ضحيةَ ممارسات دولٍ أخرى، إلّا أنها تعاني أيضًا من جرّاء إرثٍ طويل من التدهور البيئي المستمرّ منذ عقود. في الحالتَين، لا خيار أمامها سوى بذل قصارى جهدها لمعالجة المخاوف البيئية القائمة، والتخفيف من تأثيرات تغيّر المناخ، ومحاولة التكيّف معها. هذه الحاجة ملحّةٌ وتزداد تلبيتها صعوبةً يومًا بعد يوم. فعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، ارتفع متوسط درجات الحرارة في مصر بنحو 1.6 درجة مئوية، وقد يسجّل قريبًا زيادةً مؤقتة تصل إلى 3 درجات مئوية بسبب ظواهر عابرة مثل بداية ظاهرة النينيو المناخية.2 وكما أشارت الخبيرة البيئية أوليفيا لازار، حتى إذا بقي متوسط ارتفاع درجات الحرارة العالمية (ما يُعرَف بالاحتباس الحراري العالمي) ما دون عتبة درجة ونصف الدرجة المئوية، ستشهد المنطقة العربية زيادةً في متوسط درجات الحرارة بمقدار درجتَين مئويتَين تقريبًا بين العامَين 2021 و2039، على أن تبلغ ذروتها في أشهر الصيف الحارة بنحو درجتَين ونصف الدرجة المئوية.3 وبالتالي، لن تشهد مصر زيادةً في الاضطرابات الناجمة عن التغيّر المناخي فحسب، بل ستتعرّض لها بوتيرة متسارعة. وقد أورد البنك الدولي تقديرات تشي بأن "التأثيرات المشتركة لتغيّر المناخ على الموارد المائية، وعائدات السياحة، والموارد الساحلية، والزراعة، وصحة الإنسان بسبب تلوّث الهواء وارتفاع الضغوط على الموارد المائية ستكلّف مصر ما بين 2 في المئة و6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي المصري بحلول العام 2060".4

نظرًا إلى أن المؤسسة العسكرية وسّعت بشكلٍ هائل حجم ونطاق انخراطها في توفير السلع والخدمات العامة منذ العام 2013، لا بدّ من تقييم أنشطتها في المجال المدني ضمن هذا السياق الأوسع. لدى القوات المسلحة المصرية والهيئات العسكرية الأخرى إمكانيات كبيرة – خاصة في مجال التشييد والبناء – يمكن توظيفها بشكلٍ مفيد في توفير الدعم المباشر للسياسات البيئية الوطنية واستراتيجيات التخفيف من حدّة تغيّر المناخ والتكيّف معه. لكن من أجل تحقيق الاستفادة القصوى من مساهمة المؤسسة العسكرية، ينبغي إعادة توجيهها بعيدًا عن تركيزها الحالي على توليد الإيرادات للدولة، ولنفسها أيضًا. يبدو هذا الطموح بعيد المنال في الوقت الراهن، إذ لا تزال المؤسسة العسكرية تسلك مسارًا توسّعيًا في إنتاج وإدارة السلع والخدمات العامة، إلى جانب الأنشطة التجارية الأخرى. وما لم يتحقّق دمج الأنشطة العسكرية التي يتمّ تقديمها على أنها "خضراء" وصديقة للبيئة بشكلٍ منهجي ضمن مقاربة وطنية شاملة، قد تصبح هذه الأنشطة أشكالًا من سوء التكيّف، وتفضي إلى زيادة مكامن الضعف في البلاد، وتقويض قدرتها على الصمود في وجه الاضطرابات المناخية.

في ظلّ الأحوال الاعتيادية، ينبغي أن تخضع الأنشطة العسكرية في المجال المدني لمبدأ "عدم إلحاق الضرر": أي تجنّب مفاقمة الهموم البيئية القائمة أو تقويض قدرة البلاد على التخفيف من حدّة تغيّر المناخ والتكيّف معه. ولكن ما تواجهه مصر هو حالة طوارئ بيئية، وليس أحوالاً اعتيادية. لذلك، يجب على الأنشطة العسكرية أن تستوفي الحدّ الأدنى من المعايير، أي أن تكون تأثيراتها البيئية الفعلية والمُحتملة قابلة للتحقّق من جهات مستقلّة. فهذه الحاجة إلى الشفافية أمرٌ بالغ الأهمية وملحٌّ على السواء. تحديدًا، ينبغي على السلطات الرسمية إخضاع الأنشطة العسكرية في المجال المدني لنفس إطار تقييم الأثر البيئي الذي يُطبَّق، نظريًا على الأقل، على جميع الجهات الفاعلة الأخرى في القطاعَين العام والخاص، على أن يُصار إلى تحسين هذا الإطار وإنفاذه.

العوامل الدافعة والمُشكِّلة للمقاربات البيئية

يجب اعتبار التأثيرات البيئية الناجمة عن المشروعات التي تتولّاها المؤسسة العسكرية في المجال المدني مسألةً ملحّة نظرًا إلى سعي الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تعظيم إيرادات الدولة. فهذا المسعى يوجّه مقاربته تجاه الاقتصاد ككُلّ، حيث يحتلّ تسييل الأصول العامة مكانة بارزة، ما يحدّد المكانة المعطاة للتكلفة البيئية أثناء التخطيط للمشروعات. إن الاستراتيجية الأولى التي يعتمدها الرئيس هي التطوير العقاري لذوي الدخل المرتفع، والذي يعتبره أحد محرّكات النمو الرئيسة في البلاد. والاستراتيجية الثانية هي إنشاء بنية تحتية خاصة بالتجارة والنقل، بهدف الاستفادة من موقع مصر الجغرافي لتحويلها إلى مركز عالمي للصناعة وخدمات الشحن، ما يؤدّي إلى تحصيل المزيد من الرسوم وجذب الاستثمارات الأجنبية. أما الاستراتيجية الثالثة فهي استصلاح الأراضي الصحراوية وزراعتها، ويتمثّل الهدف الأساسي المُعلَن لهذا المسعى، إلى جانب تربية الأحياء المائية واستخراج المعادن، في سدّ الفجوة الغذائية التي تعاني منها البلاد وزيادة صادراتها. يوفّر كلٌّ من هذه الاستراتيجيات عوائد اقتصادية كبيرة، إلّا أنها تخلّف أيضًا تداعياتٍ ملموسة محتملة تلقي بظلالها على السكان والزراعة والنظام البيئي المائي، وتقوّض قدرة مصر على التصدّي للاضطرابات الناجمة عن تغيّر المناخ.

منذ تولّي السيسي سدّة الرئاسة في العام 2014، كَلَّف المؤسسة العسكرية بإدارة مجموعة واسعة من "المشروعات القومية" في مجالات أربعة هي: العقارات، والبنى التحتية، واستصلاح الأراضي، وتربية الأحياء المائية والأنشطة الاستخراجية. وعمَد أيضًا إلى توسيع دورها في إنتاج السلع والخدمات، أو في بلورة السياسات في قطاعات أخرى. يستند خيار السيسي هذا إلى اعتباره أن القوات المسلّحة هي الجهة الأكثر كفاءةً وولاءً ضمن مؤسسات الدولة المصرية، وبالتالي الأكثر قدرةً على تحقيق النتائج التي يسعى إليها. ويبدو أن المؤسسة العسكرية من جانبها تتشارك مع الرئيس افتراضاته الاقتصادية وتوقعاته المالية، لذا من غير المُرجَّح أن تختلف معه في تقييم الجدوى الاقتصادية للمشروعات ومخاطرها، سواء التجارية منها أو البيئية. والأهم من ذلك أن السيسي والمؤسسة العسكرية يفترضان أن توليد المزيد من الأموال يعني تلقائيًا الحصول على اقتصادٍ أكبر وأفضل، ويعتبران أيضًا أن الاقتصاد يتألّف من مجموعة مشروعات متمايزة. لذلك، كلما زادت المشروعات وكبرت، كان ذلك أفضل.

لكن هذه الافتراضات مصحوبةٌ بثمن. يستند تقييم المشروعات بشكلٍ كبير إلى مدى قدرتها على توليد إيرادات فورية أو، على الأقل، مُحتملة. كثيرًا ما يعتمد المسؤولون العسكريون والشركات العسكرية خطابًا يدعو إلى "أفضل الممارسات" البيئية والاستدامة، إلّا أن مصداقية هذه الادّعاءات هي موضع تساؤل نظرًا إلى إصرار الرئيس على تصميم المشروعات على نطاق ضخم وتحديد جداول زمنية عاجلة جدًّا لإنجازها. وهكذا، يجري إطلاق مشروعات عملاقة مثل التوسّع الحضري والعمراني في المناطق الساحلية، واستصلاح الأراضي الصحراوية، والاستزراع السمكي، وتربية المواشي، من دون إجراء مشروعات تجريبية أو اختبارها على نطاق مصغَّر لتقييم مدى جدواها البيئية - وكذلك التجارية - قبل التوسّع فيها. تُعيد هذه الأمثلة إلى الأذهان النتيجة التي توصّلت إليها دراسة صادرة عن البنك الدولي حول المخاطر المالية للبنية التحتية، والتي أظهرت أن ثلث النفقات الرأسمالية العامة تُهدَر في المتوسط على مستوى العالم، وترتفع هذه النسبة إلى النصف في البلدان المنخفضة الدخل.5 في أفضل الأحوال، تتّبع مصر نهجًا شائعًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يركّز على توجيه التمويل العام وجهود التخفيف من المخاطر البيئية نحو حفنةٍ من المشروعات الكبرى بدلاً من التركيز على استراتيجيات التكيّف على المدى الطويل.6

إن تقليل السيسي العلني من أهمية دراسات الجدوى يقلّص أكثر احتمال إدراج القضايا البيئية حقيقةً في مرحلة تخطيط المشروعات وتصميمها. ففي كانون الأول/ديسمبر 2018 مثلًا، قال في حديث متلفز: "في تقديري، لو أنا مشيت بيها [دراسات الجدوى]، وخلّيتها العامل الحاسم في حل المسائل في مصر، أتصور نحن كنا حنحقّق فقط 20 إلى 25 في المئة ممّا حقّقناه".7 وقد كرّر هذا الموقف مرارًا وتكرارًا، مشتكيًا في تشرين الأول/أكتوبر 2022 من أن "الناس بتحط معايير مؤسسية لإدارة العمل ]أو المشروعات العملاقة المموَّلة من الحكومة[، ولكن قد تكون أحيانًا إدارتنا لها معيقة جدًّا جدًّا لتقدّمنا، ويكون حجم الضرر الناجم عنها أكبر كثير من أي شكل ثاني".8 وجادل السيسي بأن الاستغناء عن دراسات الجدوى خفّض مدّة تسليم المشروعات من خمس سنوات إلى سنة واحدة.

تُعزى المشكلة جزئيًا إلى وجود حوافز اقتصادية مشوّهة. على خلاف الصورة الشائعة عن الاقتصاديات الخضراء باعتبارها حافزًا للاستثمارات الخاصة على مستوى العالم، فإن المشروعات التي تموّلها الحكومة في مصر – ومن ضمنها تلك التي تديرها المؤسسة العسكرية – لا تتقيّد بأهداف تجارية مثل جني الأرباح بشكلٍ مستدام. بدلاً من ذلك، تُقاس الربحية فقط من خلال مقدار الإيرادات المالية التي يمكن أن تحصّلها المشروعات والأنشطة الأخرى على المدى القصير: فلا تؤخذ في الحسبان سوى نفقات التركيب أو الإنتاج الأولية، ويتمّ تجاهل التكاليف التي ستتكبّدها الجهات الفاعلة الأخرى في السوق، أو حتى الحكومة. ووفقًا لدراسة صادرة عن البنك الدولي، ثمة ميلٌ عالمي إلى عدم أخذ تكاليف أساسية في الحسبان بشكلٍ كافٍ في مرحلة تصميم المشروعات والتخطيط لها، مثل تكاليف الصيانة المستقبلية وإعادة التأهيل الدورية التي تتطلّبها مشروعات البنية التحتية أو غيرها من الأصول طوال دورة بقائها.9

تقوّض هذه التحيّزات أي حافزٍ لتوقّع التكاليف المضافة الناجمة عن الممارسات البيئية الخاطئة، سواء راهنًا أو مستقبَلًا. يُضاف إلى ذلك أن وصول أجهزة الدولة المصرية، وخاصة العسكرية منها، إلى عناصر الإنتاج الرخيصة وأحيانًا المجانية – مثل الأراضي، والطاقة، والمياه، وموادّ البناء، والعملات الأجنبية – يقلّل في نظرها من أهمية تحقيق توازنٍ معقول بين التكلفة والعائد الاقتصادي على الاستثمار. قد يُعتبر هذا منطقيًا إذا كانت الدولة المصرية تضطلع بدور مستثمر أساسي فقط من أجل تمهيد الطريق أمام مشاركة شركاء من القطاع الخاص، كما يدّعي في الكثير من الأحيان الرئيس وغيره من المسؤولين. مع ذلك، من غير المُرجَّح أن يتحمّل مستثمرو القطاع الخاص عمليًا المخاطر في المشروعات العملاقة التي تُصمَّم وتُنفَّذ من دون مراعاةٍ تُذكَر لتراجع قيمة الأصول في المستقبل أو للفرص الضائعة.

هذا وأدّت العلاقة المشوّهة بين العرض والطلب إلى تقلّبات حادّة في العرض والأسعار في السوق، وإلى عزوف الجهات الفاعلة في السوق عن إيلاء الأولوية إلى استراتيجيات الاستثمار الصديقة للبيئة. وقد حجبت ذلك جزئيًا سهولةُ الاقتراض الحكومي من مصادر محلية وخارجية حتى أوائل العام 2022، وبالتالي لم تعمَد إدارة السيسي إلى إجراء تحليل مناسب للتكلفة والعائد. وفي النصف الأول من العام 2024، وفّر تأكيد الحزمة التمويلية لمصر بقيمة 57 مليار دولار من الإمارات العربية المتحدة وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي انفراجةً مؤقّتة من الضغوط الاقتصادية وفرصة لتأجيل هذه العملية. لكن نظرًا إلى أن إدارة السيسي أعادت التأكيد على أن إنشاء العقارات والمشروعات السكنية لذوي الدخل المرتفع يشكّل جزءًا أساسيًا من مقاربتها الاقتصادية، من المُرجَّح أن تُرجِئ مجدّدًا النظر جديًّا في التداعيات البيئية وأهداف الاستدامة المستقبلية.

الإطار السياساتي والعملياتي

تخضع الهيئات العسكرية المنخرطة في المجال المدني، شكليًا على الأقل، إلى المبادئ التوجيهية والمتطلّبات البيئية الإلزامية المنصوص عليها في القوانين واللوائح والسياسات الحكومية المختلفة. ولكن في الواقع، تتمتّع هذه الهيئات بدرجة من الاستقلالية تتراوح من الكبيرة إلى المطلقة في تصميم وترخيص المشروعات والأنشطة الأخرى التي تقع تحت إدارتها. ولديها كذلك هامش استقلالية مماثل في تحديد الأولويات واختيار الشركاء المدنيين والمتعاقدين من الباطن وأصحاب التراخيص الذين يتولّون فعليًا تنفيذ المشروعات. ما من دليلٍ قاطع على أن المؤسسة العسكرية تراقب امتثال الشركاء المدنيين للّوائح البيئية السارية. هذا يعني، من جهة، أن القوات المسلّحة غير مسؤولة بشكلٍ مباشر عن العيوب التي تعتري مقاربة الحكومة تجاه وضع الضمانات البيئية وتطبيقها. من الناحية النظرية على الأقل، قد تعمَد المؤسسة العسكرية حتى إلى تحسينها. لكن من جهة أخرى، يحجب الخطاب "الأخضر" الذي تتبنّاه المؤسسة العسكرية الطرقَ التي قد يسفر من خلالها السعي الحثيث إلى تعظيم إيرادات الدولة وتحفيز النمو من خلال الإنشاءات العقارية الضخمة والأشغال العامة ذات الرساميل الكثيفة، عن تقويض الاستدامة البيئية مستقبَلًا.

يبدو الإطار السياساتي الرسمي الخاص بتصميم وتطبيق الضمانات البيئية جيّدًا على الورق، لكن ثمة عيوب كبرى تشوب الإطار العملياتي، إذ تواجه الدولة صعوبةً في تعميم هذه الضمانات في مختلف القطاعات الحكومية والأنشطة الاقتصادية، وفي ترجمتها إلى أفعال محدّدة وملموسة. في الواقع، أطلقت الحكومة الكثير من الاستراتيجيات الوطنية والقطاعية، آخرها الاستراتيجية الوطنية لتغيّر المناخ في مصر 2050، التي لم يصدر سوى ملخّص عنها في أيار/مايو 2022.10 يرى الخبير في التخطيط العمراني إبراهيم عز الدين أن هذه الوثيقة اعترفت بـ"القصور في تنفيذ القوانين وتطبيقها، وضعف القوانين والتشريعات المعمول بها حاليًا نظرًا لقدمها وعدم ملاءمتها للواقع، وعدم العمل على تطويرها، وضعف الكوادر والقدرات داخل المؤسسات المعنية، وكذلك غياب التنسيق بين الوزارات والهيئات الرسمية... بالإضافة إلى محدودية التمويل الحكومي لملف البيئة، وغياب دور المجتمع المدني والقطاع الخاص، وانفراد المؤسسات الحكومية بعملية صناعة واتّخاذ القرار، وإغفال مبدأ المشاركة المجتمعية".11 كذلك، خلصت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إلى ما يلي حيال الاستراتيجية الوطنية لتغيّر المناخ: "دائمًا ما توجد استراتيجية لكن من دون آلياتٍ محدّدة للتنفيذ والمراقبة والمتابعة وتحديدٍ لنقاط القوة والضعف. تلك الفجوة الدائمة هي نتيجةٌ لعدم تكامل السياسات والاستراتيجيات التقاطعية والبناء على بعضها البعض".12

وهكذا، تجري الأنشطة والمشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية ضمن إطار غير مصمَّم لمراقبتها على نحو ملائم لضمان التزامها بالأهداف والتوجيهات البيئية. علاوةً على ذلك، من شبه المؤكّد أن أوجه القصور في الجانب المدني تحدّ من المعلومات المتاحة التي قد تستند إليها المؤسسة العسكرية لإجراء تقييمها الخاص للأثر البيئي. وتشمل أوجه القصور هذه ضعف التنسيق بين الوكالات، ما يعوّق عملية جمع المعلومات والتحقّق منها ومشاركتها. يُشار إلى أن المؤسسة العسكرية تنشر معطياتٍ مفصّلة حول مُدخلات مشروعاتها وأبعادها وإمكانياتها – بدءًا من تحديد عدد الكيلومترات من الأسلاك أو الأنابيب التي ركّبتها في موقعٍ ما، أو طول الطرقات التي أنشأتها، وأطنان الدقيق التي يمكن أن تنتجها مطحنة معيّنة، ووصولًا إلى عدد الأمتار المكعّبة من المياه التي تتدفّق عبر قناة ما – لكن اللافت أنها لا تصدر أبدًا بياناتٍ محدّدة حول التأثيرات البيئية الفعلية أو المُحتملة الناجمة عن هذه المشروعات. في الواقع، ما من دليلٍ مباشر على أن المؤسسة العسكرية لديها آلية – ناهيك عن آلية فعّالة يُعتدّ بها – لتقييم الأثر البيئي. إذًا، مع أن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة كشفت أن لديها مكتبًا فنيًّا مسؤولًا عن جميع المنشآت التي تتمّ في القوات المسلحة وعن تراخيص المشروعات الاستراتيجية وعن مراجعة المخالفات، فإنها لم تأتِ على ذكر أي إجراءات مؤسسية محدّدة لضمان الامتثال للّوائح البيئية.13

إضافةً إلى ذلك، ونظرًا إلى تحيّز المؤسسة العسكرية المُفرَط للحلول المُستندة إلى التكنولوجيا واعتبارها كفيلة بتوفير السبُل اللازمة لتحقيق التكيّف من دون إحداث تغييرٍ في السياسات أو السلوك، يجري قياس التأثيرات البيئية الفعلية أو المُحتمَلة من منظور ضيّق، من خلال احتساب صافي الانبعاثات الكربونية لكل مشروع على حدة، بدلًا من تقييم هذه المشروعات استنادًا إلى مدى تأثيرها على التوازنات الإيكولوجية في المناطق المحيطة بها أو على المستوى الوطني ككُل. ونتيجةً لذلك، تركّز مساعي التخفيف من حدّة الأضرار البيئية، بالمثل، على الحلول الفنيّة المطبَّقة على نطاق محلّي ضيّق. ويحاكي هذا المنحى الطريقة التي تتّبعها المؤسسة العسكرية لإجراء تحليل التكاليف والعوائد في المجال الاقتصادي، حيث تقيّم جدوى المشروع استنادًا إلى تكاليفه المالية المباشرة وإيراداته الفورية فقط، وليس من خلال تأثيره على الجهات الفاعلة الأخرى في السوق ومحاولة توقّع عوائده الاقتصادية على المدى المتوسط إلى الطويل. وعلى نحو مماثل، فإن الاعتبارات البيئية خاضعة أيضًا لتطلّعات الائتلاف الحاكم والنخب في البلاد إلى ارتقاء السلّم الاجتماعي والعيش برخاء، ما يدفع الدولة إلى الاستثمار في المشروعات العقارية الفاخرة والبنية التحتية المتطورة، مثل القطارات الفائقة السرعة التي لا يستطيع سوى ذوي الدخل المرتفع تحمّل تعرفة ركوبها.

ما يزيد من احتمال تقويض الممارسة البيئية السليمة هو أن المعطيات المتعلّقة بالمشروعات، ومن ضمنها دراسات تقييم الأثر البيئي، إذا تمّ إجراؤها أساسًا، محجوبةٌ بالكامل، ما يفوّت فرصة الاستفادة من النقاش العام بشأنها ومن ملاحظات الخبراء في المجال. تسود هذه المشكلة في مختلف الهيئات الحكومية المدنية، التي نادرًا ما تُفصِح للمواطنين عن "المعلومات والبيانات والإحصاءات"، وهو حقٌّ تكفله المادة 68 من الدستور المصري.14 لسخرية القدر، من الأسهل في الكثير من الأحيان العثور على بياناتٍ عن المشروعات على المواقع الإلكترونية الخاصة بالمانحين والمتعاقدين الأجانب. عمومًا، يجوز الافتراض بأن تجاهل الرئيس لدراسات الجدوى ينطبق أيضًا على تقييمات الأثر البيئي، على الرغم من أن هذه الدراسات مطلوبة بموجب القانون رقم 4 للعام 1994 بشأن البيئة.15

المشكلة أسوأ بكثير مع المؤسسة العسكرية، المُعفاة قانونًا من الإفصاح عن البيانات المالية للهيئات المدنية. وقد امتدّ هذا الإعفاء ليشمل أيضًا حقّها في عدم الكشف عن أنشطتها في المجال المدني، بذريعة حماية الأمن القومي. وتخضع العقود التجارية مع المتعاقدين والمورّدين والعملاء من القطاع الخاص إلى بنود السرية الصارمة وعدم الإفصاح، ما يمنع تقييم مدى مطابقتها للمعايير البيئية. إضافةً إلى ذلك، جرى تعديل بعض أحكام قانون العقوبات في العام 2021 بحيث أصبح جمع المعلومات عن القوات المسلّحة وعملها - سواء على شكل إحصاءات أو دراسات أو بيانات أخرى - بغير إذن خطّي مسبَق من وزارة الدفاع، جريمةً يُعاقب عليها القانون. 16 هذا ولا يميّز القانون بين أنشطة المؤسسة العسكرية في المجال الدفاعي وأنشطتها في المجال المدني. يُشار أيضًا إلى أن الحكومة تتساهل نسبيًا مع حراك المجتمع المدني في القضايا البيئية، لكن يجري تفسير ذريعة الأمن القومي بشكلٍ فضفاض للغاية، بحيث أن أي مشروع مرتبط بمكتب الرئيس أو المؤسسة العسكرية يشكّل خطًّا أحمر لا يجوز تجاوزه.17

لمحة عامة عن المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية

من الضروري إدراج المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية ضمن إطارٍ متين ويمكن التحقّق منه بشكل مستقل، من أجل تحديد المخاطر البيئية المُحتمَلة وإجراء عمليات مراجعة بيئية في مراحل تصميم المشروعات وتنفيذها وما بعد تسليمها. ولا بدّ أيضًا من تعديل القوانين واللّوائح القائمة، علمًا أنها توفّر أساسًا يمكن البناء عليه. قد يكون من المُجدي البدء بوقف استثناء المؤسسة العسكرية من تقييمات الأثر البيئي الإلزامية. ومن الضروري أيضًا إدراج عملية التحصين من التداعيات المُستقبلية الناجمة عن تغيّر المناخ في مرحلة تصميم المشروعات وتحديد تكلفتها. علاوةً على ذلك، ثمة حاجة ملحّة لتقليل الأضرار التي قد تنجم عن الأنشطة الجارية راهنًا، إن لم يكن تلافيها بالكامل، لإبقاء نطاق وتكلفة الإجراءات التصحيحية التي قد يتعيّن اتّخاذها في المستقبل ضمن حدود معقولة.

لخّص صابر عثمان، الخبير البارز في تغيّر المناخ والمنسّق الأسبق لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغيّر المناخ في مصر والهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ، أبرز تداعيات تغيّر المناخ التي تشهدها مصر بأنها ظواهر جوية متطرّفة، وموجات من الحرّ والصقيع، ونسبة رطوبة متزايدة، وفيضانات مفاجئة، وعواصف رملية وغبارية، فضلًا عن ارتفاع منسوب مياه البحر، وتآكل الشواطئ، وتملّح التربة الخصبة، والغمر بالمياه.18 رأى عثمان أن المجالات الأكثر عرضةً للخطر تشمل الزراعة، والموارد المائية، والريّ، إضافةً إلى المناطق الساحلية، وصحة الإنسان، والتوسع العمراني والبنية التحتية، والسياحة والتنوّع البيولوجي. والأهم أن ثمة تداخلًا كبيرًا جدًّا بين هذه القطاعات والمشروعات المُموَّلة من الحكومة التي تديرها المؤسسة العسكرية في المجال المدني من أجل توفير السلع والخدمات. وينطبق هذا بشكل خاص على مجالات البناء (الإسكان والبنية التحتية، بما في ذلك استصلاح الأراضي)، واستخراج المعادن، والصناعة التحويلية.

البناء، والإسكان، والبنية التحتية

استثمرت الدولة المصرية خلال العقد الفائت أموالًا طائلة في بناء مشروعات الإسكان والبنية التحتية العامة. لكن الأرقام الرسمية تتباين بشكل صارخ: ففي كانون الثاني/يناير 2021، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي عن تسليم 31 ألف مشروع بتكلفة 5.8 تريليونات جنيه مصري بحلول نهاية العام 2020. وفي الوقت نفسه، صرّحت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية بأن 25 ألف مشروع بناء قد أُنجز أو كان قيد التنفيذ بتكلفة تتجاوز 4 تريليونات جنيه (حوالى 254.2 مليار دولار أميركي آنذاك) في الفترة بين 2014 و2021، بينما ذكر السيسي في تموز/يوليو 2022 أن الدولة أنفقت 8 تريليونات جنيه على البنية التحتية الأساسية وحدها منذ العام 2014.19 يُعدّ هذا التضارب في الأرقام الرسمية، والاختلاف في المنهجيات المُستخدمة للتوصّل إليها، مشكلة متكرّرة.20 في مطلق الأحوال، استحوذت المشروعات العملاقة على حصة الأسد من النفقات في فئة الأشغال العامة، ومن ضمنها العاصمة الإدارية الجديدة، والمدن السكنية والصناعية الجديدة، والنقل، والبنى التحتية العامة الأخرى. وشملت هذه المشروعات أيضًا استصلاح الأراضي الصحراوية وتخصيصها للزراعة الواسعة النطاق.

الأهم من ذلك أن الهيئات العسكرية قد أدارت حوالى ربع مشروعات البناء (بنية تحتية وإسكان) المُموَّلة من الحكومة بين العامَين 2013 و2018،21 ويبدو أن هذه النسبة بقيت مستقرّة منذ ذلك الحين، إن لم تكن قد ارتفعت بشكل ملحوظ. وبحسب الأرقام التي عرضها رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة المسؤولة عن الجزء الأكبر من مشروعات البناء العامة التي تولّتها الهيئات العسكرية، نفّذت الهيئة الهندسية مشروعات في المجال المدني بتكلفة مالية إجمالية بلغت 2.2 تريليون جنيه بحلول آب/أغسطس 2020، وهي تمثّل ما بين 27.5 و38 في المئة من مجموع الأرقام التي قدّمها السيسي ومدبولي عن جميع مشروعات البناء المُموَّلة من الحكومة خلال الفترة نفسها تقريبًا.22

تعاني مصر نقصًا كبيرًا في الوحدات السكنية الضرورية لاستيعاب النمو السكاني. وبما أن 43 في المئة من سكانها يعيشون في المناطق الحضرية، وهي نسبة يُتوقَّع أن ترتفع بالقيم النسبية والمطلقة، اتّبعت الحكومة نهجًا ذا شقَّين لتلبية هذه الحاجة.23 فمن جهة، كشفت عن خطط لتحسين المناطق العشوائية أو نقل المقيمين فيها إلى مساكن جديدة في مناطق أخرى بحلول منتصف العام 2021، بتكلفة إجمالية بلغت 63 مليار جنيه مصري.24 ومن جهة أخرى، ثمة 37 مدينة جديدة قيد الإنشاء أو التخطيط بتكلفة 700 مليار جنيه (وفق تقديرات العام 2022) بهدف استيعاب نموٍّ سكاني يُقدَّر أن يتراوح بين 30 و34 مليون نسمة خلال السنوات الأربعين المقبلة.25

إن المدن مسؤولةٌ عن 70 في المئة من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري على مستوى العالم، لذا تُعدّ الجهود التي تبذلها الحكومة المصرية للحدّ من التوسّع الحضري والعمراني ضروريةً من المنظور البيئي،26 ناهيك عن أن سعيها إلى بناء "مدن ذكية" جديدة وإلى تجديد 24 مدينة قائمة وتحويلها إلى مدن ذكية أمرٌ منطقيٌ أيضًا.27 ثمة تعريفٌ دولي للمصطلح مفاده أن "المدينة الذكية المستدامة هي مدينة مبتكرة تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وغيرها من الوسائل لتحسين نوعية الحياة، وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية، والقدرة على المنافسة، وتلبّي في الوقت ذاته حاجات الأجيال الحالية والمقبلة في ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية".28 جادل تقرير صدر في العام 2022 عن مركز بحوث السياسات الاقتصادية البريطاني بأن المدن الذكية حول العالم توفّر جوانب مهمة من "عملية 'التخضير'... ومن بينها تحسين خدمات إمدادات المياه والصرف الصحي، وإدخال تغييرات إلى إمدادات الطاقة، وإعادة تدوير النفايات، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة من خلال اعتماد معايير بناء أفضل و/أو ترميم المباني الموجودة".29

جزءٌ كبير من استثمارات الدولة المصرية في بناء المدن الجديدة، التي تديرها المؤسسة العسكرية، خُصِّص لتوفير البنية التحتية المرتبطة بهذه المدن. لكن الدولة موّلت أيضًا عددًا كبيرًا من المشروعات الخاضعة لإدارة المؤسسة العسكرية في مجالات النقل والتجارة، والصناعة، واستصلاح الأراضي والبنية التحتية الخاصة بالريّ، والمياه ومعالجة مياه الصرف الصحي. وقد صُمّم قسمٌ كبير من هذه البنية التحتية للاستفادة من الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمصر عند مفترق طرق التجارة العالمية، من خلال توفير مرافق خاصة بالشحن، والتخزين، وتقديم الخدمات، والصناعة التحويلية على طول قناة السويس وسواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. عمومًا، قد يولّد إنشاء البنية التحتية في أي قطاعٍ تأثيرات إيجابية موازية تتمثّل في تحسين جودة البنية التحتية في قطاعات اقتصادية أخرى أيضًا.

في العام 2016، قدّرت مجموعة أكسفورد للأعمال أن مصر بحاجة إلى إزالة "العقبات والاختناقات البارزة في قطاع النقل التي تسبّبت بارتفاع تكلفة التجارة والتوزيع، وأعاقت حركة التنقّل".30 وبات تحديث وتطوير شبكة الطرق حاجة ملحّة نظرًا إلى حالتها المتهالكة عمومًا وتفاقم الازدحام المروري، ولا سيما أن حوالى 94 في المئة من جميع عمليات نقل البضائع في البلاد تتمّ عبرها. هذا وقد سعت أجهزة الدولة أيضًا إلى جعل مصر مركز عبور أساسيًا لحركة التجارة العالمية، وإنشاء البنية التحتية المرتبطة بذلك، مثل الموانئ ومرافق التخزين التي يمكن أن تعزّز النشاط الصناعي المُوجَّه نحو التصدير والسياحة. إضافةً إلى ذلك، خُصِّصت استثمارات ضخمة لتطوير البنية التحتية الخاصة بالمياه ومعالجة مياه الصرف الصحي من أجل تلبية حاجات سكان المناطق الحضرية الجدد، ومتطلّبات توسيع الأنشطة الصناعية ومشروعات استصلاح الأراضي والريّ.

في تشرين الأول/أكتوبر 2022، قال السيسي إن الدولة بنت 1000 جسر وأضافت 17 ألف كيلومتر من الطرق السريعة المتعدّدة المسارات إلى شبكة الطرق منذ العام 2014.31 وأدّى تخفيف الازدحام المروري بفضل تحسين النقل العام إلى انخفاض معدّل تلوّث الهواء بنسبة 4 في المئة في القاهرة الكبرى، وفقًا لدراسة صادرة عن البنك الدولي في العام 2023، ما جعل الدولة تحقّق مكاسب من تراجع معدّل الوفيات، بقيمة 110.4 ملايين دولار تقريبًا.32 ومن المتوقّع تحقيق مكاسب إضافية بفضل تطوير النقل النهري والنقل بالسكك الحديدية، علمًا بأن هاتَين الوسيلتَين لم تسهما معًا سوى بنسبة 5 في المئة على الأكثر من إجمالي حركة شحن البضائع محليًا في العام 2022.33 يُشار إلى أن خطوط السكك الحديدية حصلت على 11 في المئة من إجمالي الميزانية المُخصَّصة لقطاع النقل في العام 2022، وأصدرت الحكومة خطة لتطوير النقل النهري بهدف جعل الشحن النهري أقل تكلفةً وصديقًا للبيئة.34

أعلنت الحكومة أيضًا أنها ستزيد بمقدار ثلاثة أضعاف قدرة الموانئ البحرية، لتستوعب 370 مليون طن بحلول العام 2030، وستربطها بالمناطق الصناعية واللوجستية والسكنية التي يتمّ بناؤها في مواقع محدّدة بدءًا من الإسكندرية وشرق بور سعيد على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ومرورًا بقناة السويس، ووصولًا إلى العين السخنة على البحر الأحمر.35 ويَعِدُ هذا التركُّز المكاني، الذي يؤمّن روابط أفضل مع المدن والأسواق ويحدّ من استخدام المركبات ومن استهلاك الوقود، بتعويض النقص في إشغال المناطق الصناعية القائمة منذ سبعينيات القرن المنصرم.36

تشمل أشغال البنية التحتية العامة التي يجري إنجازها بإدارة عسكرية مشروعاتٍ ضخمة تهدف إلى استصلاح الأراضي الصحراوية، ويجري الترويج لذلك باعتباره وسيلةً لسدّ الثغرات في الإمداد الغذائي المحلي، وتوفير العملة الصعبة التي تُنفَق على الواردات الغذائية، وتحقيق فوائض للتصدير. ومنذ أن تسلّم السيسي سدّة الحكم، أعلن عن خطط لتحويل أراضٍ صحراوية بمساحة 3.5 ملايين فدان على الأقل (14700 كيلومتر مربع) إلى أراضٍ زراعية، ما يؤدّي على الأرجح إلى زيادة إجمالي الأراضي الزراعية في البلاد بواقع الثلث تقريبًا.37 والجدير بالذكر أن استصلاح الأراضي يتطلّب حفر آلاف الآبار وبناء محطات ضخٍّ كبيرة ومدّ مئات الكيلومترات من الترع.

أطلقت المؤسسة العسكرية أيضًا مشروعات كبيرة لتربية الأحياء المائية والماشية، ما ساهم في زيادة إجمالي إنتاج الأسماك بنحو 18 في المئة بين العامَين 2016 و2020، بدافع تحقيق الاكتفاء الذاتي من الموادّ الغذائية والأهداف المتعلقة بالتغذية وخفض الواردات.38 من المؤكّد أن الحاجة ماسّة إلى تحقيق هذه الأهداف. فمع أن مصر كانت لا تزال مُصدّرًا صافيًا للمواد الغذائية في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، ثمّة عوامل عدّة ترغمها راهنًا على استيراد نصف حاجاتها الغذائية تقريبًا، ومنها النمو السكاني، ونقص الأراضي الصالحة للزراعة والمياه المُخصَّصة للزراعة، وخسارة الأراضي الزراعية في وجه الزحف العمراني، وتضاؤل اليد العاملة الزراعية، ونقص الاستثمارات الحكومية والخاصة على السواء.39 في موازاة ذلك، انخفض نصيب الفرد من استهلاك الموادّ الغذائية (بقياس السعرات الحرارية) بأكثر من النصف بين 1989 و2015، بينما واصل مؤشّر أسعار الأغذية المحلّي ارتفاعه.40

لا بدّ أن تُستكمَل زيادة الإنتاج المحلّي من الموادّ الغذائية بمساعي الدولة إلى تحسين كفاءة استخدام الموارد المائية المتوفّرة وتوليد مصادر جديدة. لكن عوامل كثيرة مثل سوء إدارة وسوء تخصيص الموارد المائية، والتلوّث، والسحب غير المشروع للمياه، والاستغلال الجائر للمياه الجوفية، وازدياد ملوحة التربة بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر، ومتطلّبات النمو السكاني المتسارع، وتغيّر المناخ، أسهمت كلّها في تسجيل عجزٍ مائي سنوي ناهز 7 مليارات متر مكعب أو ما يقرب من 10 في المئة من إجمالي الطلب في العام 2023.41 وعلى الرغم من توقّع المصادر الرسمية أن يرتفع متوسط كفاءة الريّ من 60 في المئة راهنًا إلى 75 في المئة بحلول العام 2037، فإن توفير المياه لأغراض زراعية ستقابله ارتفاعات متوقّعة في الاستخدام المنزلي والصناعي للمياه. علاوةً على ذلك، قد تنخفض إمدادات المياه الصالحة للاستخدام إلى أقل من 500 متر مكعب سنويًا للفرد بحلول العام 2025، وهو المستوى الذي تحدّده الأمم المتحدة بأنه مستوى "الندرة المطلقة".42

بالنظر إلى المستقبل، قد تنخفض إمدادات مياه نهر النيل بنسبة 20 في المئة خلال السنوات الخمسين المقبلة، وقد تزيد أنماط تغيّر المناخ من تقلّب التدفّق السنوي لنهر النيل بنسب تصل إلى 50 في المئة. في موازاة ذلك، سيؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى ازدياد معدّلات تبخُّر المياه من الخزّانات وفي النُظم البيئية الطبيعية، وتسريع عملية النتح التبخّري في النباتات، وتعطيل أنظمة الجذور.43 ستزيد هذه الظواهر الطلبَ على مياه الريّ وتخفّض إنتاجية المحاصيل. ونتيجةً لارتفاع درجات الحرارة ومنسوب مياه البحر وانخفاض هطول الأمطار، سوف تتراجع معدّلات إعادة تغذية الأحواض الجوفية بالمياه وتصبح أحواض المياه الجوفية الساحلية أكثر عرضةً للتملّح الناجم عن تسرّب مياه البحر. وقد أدّت تداعيات تغيّر المناخ هذه بالفعل إلى تقصير دورات المحاصيل الزراعية، ما أثّر على غلّة محاصيل استراتيجية مثل القمح والذرة، إذ تراجعت ما بين 30 و40 في المئة خلال العام 2023. وانخفضت أيضًا غلّة محاصيل تصديرية مهمة مثل الزيتون والمانغو بنسبة تراوحت بين 15 و50 في المئة خلال العقد الماضي، بينما تضرّر محصول البرتقال بالكامل تقريبًا في العام 2023. كذلك، أسفرت تداعيات تغيّر المناخ عن تفشّي طفيلياتٍ وأمراضٍ جديدة ألحقت أضرارًا إضافية بالقطاع الزراعي.44

إضافةً إلى معالجة المشاكل في نظام الموارد المائية، تهدف خطة الحكومة المُحدَّثة للمساهمات المحدّدة وطنيًا الصادرة في حزيران/يونيو 2023 إلى إعادة تأهيل وتبطين 20 ألف كيلومتر من ترع الريّ، وتوسيع إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والمياه المُعالجة، وبناء محطات ضخمة لتحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف الصحي.45 يُشار إلى أن المساهمات المحدّدة وطنيًا عبارة عن التزامات تتعهّد الدول بموجبها بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في إطار التخفيف من حدّة تداعيات تغيّر المناخ، وتشمل أيضًا الأهداف المحدّدة في اتفاق باريس.46

يجري تنفيذ معظم هذه المشروعات تحت إدارة المؤسسة العسكرية، التي بنت مئات الكيلومترات من الترع الجديدة لنقل المياه، وقامت بتبطين الترع القائمة للحدّ من خسائر المياه بسبب تسرّبها إلى التربة. وأخذت على عاتقها أيضًا حفر آلاف الآبار، وتشييد محطات ضخمة لمعالجة مياه الصرف الصحي لزيادة إمدادات المياه الزراعية، ناهيك عن إنشاء "نهر اصطناعي" بطول 170 كيلومترًا ينقسم بين ترع مكشوفة ومواسير مغطّاة لتزويد مشروع "الدلتا الجديدة" بالمياه. ويهدف هذا المشروع إلى استصلاح 1.5 مليون فدان من الأراضي الصحراوية غرب دلتا النيل مستخدمًا مياه الصرف الصحي المُعالَجة من الإسكندرية، وإنشاء ترعة منفصلة بطول 42 كيلومترًا لنقل ما يزيد عن 3.65 مليارات متر مكعب من مياه النيل سنويًا.47 يجري أيضًا العمل على تطبيق خطة تنموية في إطار رؤية مصر 2030 لريّ مساحة 660 ألف فدان موزّعة بين غرب قناة السويس وشرقها بنحو 4.45 مليارات متر مكعب من المياه المخلوطة بصورة متساوية بين مياه النيل العذبة ومياه الصرف الزراعي.48 وفي حين أن تحلية مياه البحر عملية مُكلِفة وتستهلك كميات كبيرة من الطاقة، تُعدّ تحلية المخزون الكبير الذي تمتلكه مصر من المياه الجوفية المالحة أوفر من حيث التكلفة.49

الصناعة التحويلية واستخراج المعادن

انخرطت المؤسسة العسكرية في قطاع الصناعة التحويلية منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، حين شهدت الصناعة الحربية الصغيرة الحجم في مصر توسّعًا سريعًا، لدرجةٍ أُعيد معها توجيه الطاقة الإنتاجية غير المُستغَلّة نحو الإنتاج المدني.50 مع ذلك، بقيت الحصة السوقية للشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية ضئيلة طوال عقود عدّة، على الرغم من إضافة شركات وأنشطة جديدة معنيّة في إنتاج السلع وتوفير الخدمات في المجال المدني. لكن الطفرة الكبيرة التي شهدتها الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية العاملة في قطاع التصنيع المدني منذ العام 2014 من حيث العدد وحجم الإنتاج ساهمت في زيادة بصمتها البيئية المحتملة. وينطبق الأمر نفسه على قطاع استخراج الموارد الطبيعية، حيث باتت المؤسسة العسكرية تتمتّع بحضورٍ بارز على مدى العقد الفائت.

لقد كانت الهيئات والشركات العسكرية من بين "297 من الشركات المملوكة للدولة، و51 هيئة اقتصادية، و60 شركة تابعة لوزارة الدفاع"، أشارت تقارير وزارة المالية أنها "تعمل في 19 من أصل 24 قطاعًا طبقًا للتقسيم الخاص بالمعايير العالمية للقطاعات (Global Industry Classification Standards (GICS" في العام 2018.51 وشملت منتجاتها في الأسواق المدنية ما يلي: الأجهزة الكهربائية المنزلية والإلكترونيات، والآلات والمكوّنات والأدوات الصناعية والزراعية، وموادّ ولوازم البناء، والموادّ الكيميائية الصناعية، والأسمدة، والصناعات الزراعية، والمعادن، والرخام والغرانيت، والإسمنت، والصلب، وتجهيزات ومركبات النقل والعمل.52

صحيحٌ أن حصة المؤسسة العسكرية من إجمالي الإنتاج في معظم هذه الفئات متواضعة، إلّا أنها بلغت 16 و24 في المئة من القدرة الإنتاجية الوطنية للصلب والإسمنت على التوالي، وتتزايد حصتها باطّرادٍ في قطاعات مثل الموادّ الكيميائية الصناعية، والأسمدة، والرخام والغرانيت.53 علاوةً على ذلك، يرأس جنرالات القوات المسلّحة الهيئات المعنيّة بوضع السياسات أو يشاركون فيها، مثل الهيئة العامة للتنمية الصناعية والتحالف الوطني للثورة الصناعية الرابعة (الذي يُعنى بتكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة). هذا وتنوّه المؤسسة العسكرية بمساهمتها بالأجندة "الخضراء" البيئية من خلال إنشاء مرافق للشحن الكهربائي وتحويل المركبات للعمل بالغاز الطبيعي في شركتَي "وطنية" و"تشل أوت" (ChillOut) لمحطات الوقود، التي تخدم الأسواق المدنية. وتُجري شركات عسكرية أخرى مفاوضات مع شركات أجنبية لتجميع السيارات الكهربائية بموجب ترخيص في مصر، وتصنيع أو توفير معدّات لتوليد الطاقة المتجدّدة وإعادة تدوير المخلّفات الزراعية.

كذلك، شهد دور المؤسسة العسكرية في قطاع المعادن توسّعًا هائلًا خلال العقد الماضي، مصحوبًا أيضًا بتأثيرات بيئية كبيرة مُحتمَلة. كانت هذه التأثيرات إيجابية مثلًا حين أجرت المؤسسة العسكرية عملية تطهير واسعة للبحيرات الداخلية والساحلية الضحلة، حيث عملت على إنشاء مشروعات استزراع سمكي وأخرى لاستخراج المعادن. وأبرز مثال على ذلك بحيرة قارون، ثالث أكبر بحيرة في مصر. فعلى الرغم من إعلانها محميّة طبيعية في العام 1989، واقع الحال أنها تواجه ارتفاعًا متزايدًا في معدّلات الملوحة والتلوّث بعد تسرّب مياه الصرف الصحي الزراعية والصناعية والمنزلية غير المُعالَجة إليها على مدى سنوات. وحصل ذلك على الرغم من انخراط الشركة المصرية للأملاح والمعادن – المملوكة بنسبة 50 في المئة للمؤسسة العسكرية – في استخلاص الأملاح منها منذ العام 1986. وفي تموز/يوليو 2020، أطلقت وزارة البيئة حملة تطهير لبحيرة قارون، بدأت بعدها الشركة المصرية للأملاح والمعادن بإنشاء أول مصنع من أصل تجمّعَين صناعيَّين اثنَين لاستخراج المعادن لأغراض تجارية.54 وبحسب الموقع الإلكتروني الرسمي للشركة، يكمن هدفها الأساسي في تحسين تركيز ملوحة بحيرة قارون "لما يمثّله ذلك من أهمية بيئية واقتصادية واجتماعية للمجتمع المحيط ولمصر عامة"، واستخراج وتصنيع تشكيلة منتجات من ملح الطعام والأملاح الصناعية وتقديم منتجاتها للأسواق المحلية والإقليمية والعالمية.55

تسيطر شركةٌ عسكرية أخرى على الموقع الوحيد الذي يحوي رمالًا سوداء في بحيرة البرلس، وهي ثاني أكبر بحيرة في مصر، ومُنحت الحق الحصري لاستكشاف واستخراج ومعالجة المعادن الموجودة في الرمال السوداء ومشتقاتها في جميع أنحاء البلاد.56 كذلك، صُنّفت على أنها منشأة صديقة للبيئة، وتعمل على إنتاج المعادن الثقيلة وتوزيعها في الأسواق المحلية وتصديرها إلى الخارج.57 إضافةً إلى ذلك، رخّص القانون رقم 193 لسنة 2020 للحكومة التعاقدَ مع شركة مملوكة للمؤسسة العسكرية في شأن استغلال المحاجر والملاحات التي تقع في دائرة اختصاص كلٍّ من المحافظات وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في مصر، على أن تكون فترة الاستغلال ثلاثين عامًا.58 وأعلنت المؤسسة العسكرية أيضًا إنها نفّذت أعمال تطهير داخل بحيرة المنزلة، التي شهدت لغاية العام 2021 مستويات عالية من التلوّث بسبب مخلّفات مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي التي تصبّ فيها.59 ونتيجةً لهذه النسب العالية من التلوّث، باتت الأسماك فيها غير صالحة للاستهلاك البشري بسبب تزايد خطر الإصابة بالأمراض المنقولة في المياه، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى حظر استيراد الأسماك من مصر.

المخاطر المُحتمَلة الناجمة عن المشروعات والأنشطة التي تديرها المؤسسة العسكرية

تتمثّل المشكلة الأبرز في معظم القطاعات التي تتولّى فيها المؤسسة العسكرية إنتاج السلع والخدمات المدنية في استهلاكها الكثيف للطاقة والمياه في بلدٍ يعاني نقصًا حادًّا في هذَين المَوْردَين. ويفاقم هذا الواقع مشاكل أخرى مثل تلوّث الهواء والمياه والتربة، ويضرّ بالتالي بالصحة العامة. ويزيد أيضًا حجمَ الخسائر في حالة التربة وفي إنتاجية العمالة، ولا سيما أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد الأمور سوءًا. يُضاف إلى ذلك أن هذا الوضع يهدّد حتى القدرة على توليد الطاقة اللازمة لمجابهة هذه الضغوط. توفّر التكنولوجيا حلولًا جزئية لبعض هذه المشاكل، لكنها تحجب الثغرات الكامنة في الاستراتيجيات الراهنة، والمخاطر الناجمة عن متابعة هذا المسار الضارّ. وخير مثالٍ على ذلك النهج الذي اتّبعه الرئيس والمؤسسة العسكرية تجاه التوسع الحضري والعمراني، والذي يفاقم تآكل الشواطئ، ويزيد نسبة الملوحة في المياه والتربة، ناهيك عن تعميق التفكّك الاجتماعي والفصل السكاني واللامساواة. يُشار إلى أن بعض هذه التداعيات لا يمكن إصلاحه، في حين أن تكاليف بعضه الآخر القابل للإصلاح ستزداد بشكلٍ كبير في المستقبل.

التوسّع العمراني

أعطت إدارة السيسي أولوية كبيرة في استراتيجيتها الاستثمارية والتنموية إلى مشروعات التطوير الحضري والعمراني في المدن القائمة أساسًا وفي المدن الجديدة على وجه الخصوص. كان هذا النموذج محطّ انتقادات لاعتماده المُفرَط على الاستثمار العقاري الفاخر، والاقتراض بتكاليف عالية على المدى القصير من أجل تمويل استثمارات لا يمكن أن تدرّ عوائد إلّا على المدى الطويل، ولعدم مراعاته بشكلٍ كافٍ مفاهيم العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية على نطاق أشمل. وبالفعل، تتجاهل الخطط الرامية إلى إنشاء 37 مدينة جديدة أخرى – كان قد بدأ العمل على 20 منها في العام 2021 – واقع أن نسب الإشغال والسكن في 23 مدينة جديدة بُنيت في الفترة الممتدّة بين 1970 و2015 لا تزال بالغة التدنّي.60 وقد جادل زياد بهاء الدين، نائب رئيس وزراء مصر الأسبق ووزير التعاون الدولي الأسبق، بأن هذه المقاربة تعبّر عن قصورٍ في الحوكمة، إذ لم يتمّ أبدًا إعداد دراسات تُثبت الحاجة إلى أيٍّ من هذه المدن الجديدة، ولم يناقش البرلمان أيًّا من المشروعات العملاقة التي تمّ إطلاقها خلال العقد الفائت.61 كان بهاء الدين يشير إلى الجوانب الاقتصادية لهذه الأنشطة، ولكن ما قاله ينطبق أيضًا على الإدارة البيئية.

تُعدّ الأنشطة التي تديرها المؤسسة العسكرية في المجال المدني مُعرَّضة بشكلٍ كبير لظاهرة التحايل على مبادئ الاستدامة البيئية، أو ما يُعرف بالتبييض الأخضر (greenwashing) من خلال الإدلاء بتصريحات مضلّلة حول الفوائد البيئية لمشروعٍ مُحدَّد والتعتيم على تأثيراته الضارّة لتحقيق الاستفادة وجني الأرباح. فعلى سبيل المثال، أشار مشروع "حلول للسياسات البديلة" المعنيّ بتقديم مقترحات للسياسات والذي يتّخذ من مصر مقرًّا له، إلى ما يلي: "بالرغم من ترويج ]الحكومة[ للمدن الجديدة على أنها صديقة للبيئة، لا يوجد أي إلزام باتّباع نُظم التقييم البيئي وعلى رأسها "نظام الهرم الأخضر المصري"... ]بل على العكس،[ تتوسّع خطة الحكومة المعمارية لمدنها الجديدة في تفضيل المباني الشاهقة ذات الواجهات الزجاجية، التي تزيد من الاحتباس الحراري داخل المباني وبالتالي الحاجة إلى مزيدٍ من الطاقة من أجل التبريد".62 ويذكر هذا الموجز نفسه أن المكوّن الأساسي في عمليات التشييد في البلاد، أي الإسمنت، يُعدّ من أكثر موادّ البناء تلويثًا للبيئة، نظرًا إلى أن "الأسطح الإسمنتية لهذه المباني تقوم بامتصاص حوالى 95 في المئة من أشعة الشمس وإعادة بثّها في الجوّ مرة أخرى، ما يسهم بشكلٍ كبير في رفع درجات الحرارة"... ويضيف الموجز: "بالرغم من مخاطر البناء الخرساني، فلا يزال عدد المشروعات التي تعتمد على موادّ بناء أقلّ تلويثًا للبيئة محدود جدًّا في مصر".

قد تبدو المشروعات "خضراء" بمعيار انبعاثاتها الكربونية، كلٌّ على حدة، ولكنها إشكالية في الواقع عند تقييم تأثيراتها البيئية الاستراتيجية الأشمل. وخير مثالٍ على ذلك مشروعات بناء الوحدات السكنية التي تديرها الهيئات العسكرية وشريكها المؤسّسي الرئيس، هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التابعة لوزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، والتي يعمل فيها عددٌ كبير من متقاعدي القوات المسلحة. 63 يُروَّج لهذه المشروعات بأنها "خضراء" صديقة للبيئة، لكن المشكلة تكمن على ما يبدو في النظر إلى الاعتبارات البيئية من منظور ضيّق، على أساس كل مشروع على حدة، وليس إلى المشروعات كلها بشكل شامل. على سبيل المثال، قد تقلّل أنظمة الإدارة والتحكم الرقمية المُوفِّرة للطاقة من انبعاثات الكربون في كل مبنى أو كل مدينة على حدة، لكن هذا الأمر لا يعكس تأثيراتها البيئية الإجمالية. وقد أشارت الخبيرتان البيئيّتان ليلى الرياحي ونادين بكداش إلى أن ناطحات السحاب في مدينة العلمين الجديدة – التي تسوّقها الدولة كأول مدينة صديقة للبيئة (Eco-City) لأنها تحتوي على محطات للطاقة الشمسية وتحلية المياه – بُنيت بشكلٍ ملاصق لشاطئ البحر، وببنية تحتية وأساسات كثيفة وعالية التأثير نتيجة التكدّس الرأسي للأبراج، ومن دون أي مراعاة للأضرار التي يُلحقها ذلك بالبيئة المحلية، ولا سيما أن تصاميم البناء تفتقر إلى الكفاءة في استخدام الطاقة.64

يُفترض أن يشمل التقييم السليم للأثر البيئي أيضًا انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناجمة عن استخراج موادّ البناء وتصنيعها، مثل الإسمنت والصلب، وتلوّث الهواء من أفران الطوب الأحمر الحرارية، ومخلّفات البناء، فضلاً عن التداعيات البيئية الناجمة عن استخدام وصيانة الوحدات السكنية والبنى التحتية طوال دورة بقائها. إضافةً إلى ذلك، قد توصَف بعض المشروعات بأنها "خضراء" أو مستدامة ككُل، استنادًا إلى أسباب سطحية، لمجرّد أنها تستخدم تكنولوجيا جديدة أو مكوّنًا ثانويًا محدّدًا.

لا يقتصر الخطاب الرسمي حول الاستدامة البيئية على الترويج التجاري أو التضليل المُتعمَّد - على الرغم من أنه ينطوي على هذَين البُعدَين بشكل كبير. بل يثير أيضًا تساؤلات حول مدى تكامل مشروعات التوسّع العمراني واتّساقها فعليًا. على سبيل المثال، جادل الخبير في التخطيط العمراني ديفيد سيمز والباحث روبرت مايسون، كلٌّ بشكل منفصل، بأن سيل المشروعات العملاقة والخطط العمرانية في الصحراء يؤدّي إلى نتائج عكسية من منظور بيئي، مقارنةً مع جهود زيادة نسبة المساحات الخضراء في المدن وتعزيز استدامة البنية التحتية القائمة وتهيئة الظروف الملائمة لتسريع عملية الانتقال الأخضر بما يخدم الغالبية العظمى من سكان المدن ذوي الدخل المتوسط والدخل المنخفض.65 بدلًا من ذلك، تنتهج السلطات الحكومية في القاهرة ممارسات أطلق عليها مايسون تسمية "التبييض الصحراوي" (desertwashing)، أي استخدام التوسع العمراني في الصحراء لمحاولة "تبييض [صورة الدولة] وتشتيت الانتباه عن المشاكل المرتبطة بالبيئة الحضرية للعاصمة من خلال توسيع المدينة أكثر فأكثر داخل الصحراء".66

لكن على الرغم من المخاطر المنتظرة، وحتى آذار/مارس 2023، لم يكن ملف العمران المصري قد أخذ في الاعتبار بعد الدراسات البيئية اللازمة أثناء إعداد الخطط العامة والتفصيلية لمدن وقرى مصر، ولم تضع وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية أي خطط بديلة في حال وقوع أي اضطرابات ناجمة عن تغيّر المناخ.67 وخير مثالٍ على ذلك الطلب المتزايد باطّراد على البنية التحتية الخاصة بالنقل واشتداد زحمة السير على الطرق نتيجة التركيز على بناء المدن الجديدة الراقية. وما يفاقم هذه المشكلة هو توقّع أن العمّال والموظفين الذين يتولّون توفير الخدمات والصيانة لهذه المدن وسكانها الميسورين سيعيشون في أماكن أخرى ويتنقّلون يوميًا من وإلى العمل ذهابًا وإيابًا.

وبالمثل، يُلاحَظ هذا الفصل الاجتماعي في استراتيجية تسعى إلى التركيز على إسكان الأُسر ذات الدخل المنخفض في مجمّعات سكنية تقع في ضواحي المدن، وخصوصًا في مناطق تقطنها شريحة كبيرة من السكان الريفيين. وقد أكّدت دراسة حالة منطقة الأسمرات السكنية الجديدة الواقعة في ضواحي القاهرة الشرقية، والتي تمّ بناؤها لإعادة إسكان القاطنين في المناطق العشوائية، ملاءمةَ توافر الخدمات والمرافق الأساسية (مثل الحصول على مياه الشرب النظيفة، والطاقة لأغراض الطهي والتدفئة والإضاءة، والمرافق الصحية، والتخلّص من النفايات، والصرف الصحي، والوصول إلى خدمات الطوارئ)، لكنها ذكرت وجود مستوياتٍ عالية من عدم الرضى حيال أمن الحيازة (أي حماية السكان من إخلاء منازلهم بالإكراه)، والقدرة على تحمّل التكاليف، وصلاحية السكن للأُسر الكبيرة، وسهولة الوصول إلى الموقع، خاصة لمزاولة الأنشطة التجارية التي كان السكان منخرطين فيها سابقًا.68 إضافةً إلى ذلك، يتمّ بناء مشروعات الإسكان العام وفقًا لطرازٍ تصميمي واحد وموحّد على المستوى الوطني، كما يتجلّى من خلال نموذج مدينة بدر، التي يتمّ توسيعها خصّيصًا لإسكان الموظفين الحكوميين المطلوب منهم الانتقال للعمل في العاصمة الإدارية الجديدة. عمومًا، ونتيجةً لغياب الدراسات حول ما تريده الأُسر ذات الدخل المنخفض أو التكاليف القادرة على تحمّلها، بقي مخزونٌ كبير من الوحدات المبنيّة التابعة لوزارة الإسكان غير مُباعٍ، علمًا أن التوسّع في الكتلة العمرانية يسهم في ارتفاع درجات الحرارة في البلاد (وهو ما يُسمّى بزيادة البصمة الحرارية).

من الناحية الإيجابية، إن المدن الذكية مُصمَّمة خصّيصًا كي لا تكون بيئة حاضنة لتشكُّل الجزر الحرارية الحضرية، التي تُنتج درجات حرارة أعلى بسبب طرقها المعبّدة وأسطحها الإسفلتية التي تمتصّ أشعة الشمس وتعيد إطلاقها، وأيضًا بسبب الكميات المتزايدة من النفايات التي تولّدها، ناهيك عن أنها تعاني من نقصٍ نسبي في الغطاء النباتي وسوء جودة الهواء. لكن هذه المدن لا تلبّي حاجات المصريين الحقيقية من الوحدات السكنية. في الواقع، أظهر تعدادٌ وطني أُجري في العام 2017 أن ثمة 11.9 مليون وحدة سكنية شاغرة، وهو عددٌ يكفي، وفقًا للباحث العمراني يحيى شوكت، "لتسكين جميع الأُسر المُكوَّنة حديثًا لمدة الـ18 عامًا القادمة".69 لكن غالبية سكان مصر غير قادرين على تحمّل تكاليف هذا المخزون الكبير من الوحدات السكنية الشاغرة. ويُستخدَم الجزء الأكبر منها كمنازل صيفية أو كمنازل ثانية للأُسر من الطبقة المتوسطة العليا والمصريين في الخارج، أو كوسيلة لاستثمار المدّخرات في ظل ارتفاع التضخم.70 ويشير سيمز إلى أن هذه الظاهرة تتجلّى "على النحو الأكثر حدّةً في المدن الجديدة في مصر، حيث من الشائع أن تتجاوز نسبة الوحدات السكنية الشاغرة الـ70 في المئة في معظم المناطق"، معتبرًا أن هذا الأمر يشكّل "كارثة".71 ويساعد هذا الواقع أيضًا في تفسير لماذا لم يقطن سوى 1.6 مليون شخص في جميع المدن الجديدة التي أُنجزت بحلول العام 2017، أو ما يعادل 1.7 في المئة فقط من إجمالي سكان مصر.72

بدلًا من معالجة أزمة إسكان الفقراء أو الفئات ذات الدخل المنخفض والمتوسط، يكمن الغرض من بناء المدن الجديدة في إنشاء عقارات فاخرة وتعظيم الإيرادات المالية من خلال البيع إلى مستثمرين من القطاع الخاص. تكمن حاجات الإسكان الحقيقية في مصر في ما يُسمّى بالإسكان الاجتماعي لمحدودي الدخل وتطوير المناطق العشوائية، ولكن هذه المشروعات لم تحصل إلّا على النزر القليل من الأموال التي استثمرتها الدولة في بناء وحدات سكنية فاخرة في المدن الجديدة. حدّدت خطة مشروع الإسكان الاجتماعي المدعوم من الحكومة هدفَ بناء مليون وحدة سكنية بأسعار معقولة للفئات ذات الدخل المنخفض في الفترة الممتدّة بين 2011 و2016، لكن لم يتمّ تسليم سوى 215 ألف وحدة فقط، وحتى في هذه الحالة رأى شوكت "أن قدرة الأُسر غير المستقرة أو الفقيرة على الوصول إليه تظلّ إلى حدٍّ كبير نظرية".73 وبصورة أعم، ثمة نقصٌ في تقييم مدى توافق مثل هذه الخطط أو عمليات التطوير الرسمية للمناطق العشوائية مع حاجات السكان القاطنين في مناطق الإسكان غير الرسمي وجودة عيشهم. ولا يوجد ما يدلّ على تطبيق السلطات المصرية لمبادئ خط الاستواء، التي توفّر "قاعدة مشتركة للقياس وإطارًا لإدارة المخاطر للمؤسسات المالية من أجل تعريف وتقييم وإدارة المخاطر البيئية والاجتماعية عند تمويل المشروعات".74

من الناحية الأخرى، يجادل سيمز بأن الدولة استثمرت بشكلٍ كبير في مناطق صناعية منعزلة في مواقع صحراوية، ومجمّعات صناعية في المدن الجديدة، ومناطق صناعية حرة، ومناطق اقتصادية خاصة. تُعدّ هذه المناطق في الغالب بعيدة عن التجمّعات السكانية، وبالتالي عن الأسواق والروابط الاقتصادية الخلفية والأمامية، وخصوصًا عن تجمّعات القوة العاملة.75 وأكّدت دراسةٌ للبنك الدولي ذلك، مشيرةً إلى أن المناطق الصناعية في مصر جرى إنشاؤها على نحو متزايد بعيدًا عن المدن في العقد الممتدّ حتى العام 2020، ونتيجةً لذلك، بلغ معدّل إشغالها في المتوسّط حوالى 22 في المئة فقط.76 يمكن تفسير المفارقة الكامنة في بناء المزيد من هذه المناطق على الرغم من انخفاض معدّلات استخدامها، بمدى سهولة البناء على أراضي الدولة من دون وجوب التفاوض حول ملكية الأراضي واستخدامها، لأن المؤسسة العسكرية، التي تدير عملية إنشاء البنية التحتية الأساسية للكثير من هذه المناطق، تتحكّم أيضًا بالحصول على الأراضي ووجهة استخدامها. ويستكمل هذا النتائج التي توصّل إليها تقريرٌ صادر عن البنك الدولي أشار إلى محدودية ربط الموانئ البحرية والموانئ الجافة بالمراكز الاقتصادية في البلاد، الأمر الذي عزاه إلى تفكّك إدارة القطاع الفرعي الخاص بالموانئ، وغياب التنسيق في ما يتعلّق بالتخطيط الاستثماري، وعدم دمج الموانئ في تخطيطٍ أوسع لنظام النقل نظام، فضلًا عن غياب دراسات الجدوى التمهيدية في حالة واحدة على الأقل.77

يمكن القول إن استراتيجية التوسّع العمراني المُوجَّهة بشكل أساسي نحو العملاء الميسورين تؤدّي إلى ارتفاع معدّل البصمة البيئية الإجمالية لمصر (المرتبطة بالإفراط في الاستهلاك الصافي للموارد الطبيعية)، وهو أمرٌ يمكن تجنّبه إلى حدٍّ كبير. وتُفاقم هذه الاستراتيجية أيضًا العجز التجاري بسبب الحاجة إلى استيراد موادّ البناء أو الطاقة لتصنيعها محليًا. يُضاف إلى ذلك أن التركيز الطاغي على توليد الإيرادات من خلال إنشاء عقارات فاخرة في مدن جديدة راقية، يؤدّي إلى تبنّي ممارسات مضرّة بالبيئة في المدن القائمة. وفي إطار الاندفاعة نحو تسييل الأصول المملوكة للدولة، مُنحت المؤسسة العسكرية عقودًا تُدير بموجبها، في القاهرة والإسكندرية، حدائق وواجهات مائية وأراضي طرح النهر وعشرات الجزر الواقعة في وسط النيل، وتتمتّع أيضًا بحقوق الانتفاع التجاري منها، ما أفضى إلى المزيد من الزحف العمراني، وقلّص بشكلٍ أكبر إجمالي المساحات الخضراء، وحدّ من دخول عامة الناس إليها، وقوّض أيضًا الحواجز الطبيعية ضدّ الفيضانات.

بحلول العام 2020، كان 83 في المئة من سكان القاهرة يعيشون في مناطق يقلّ فيها متوسّط نصيب الفرد من المساحات الخضراء عن 1.5 متر مربع، وتشكّل هذه النسبة فقط سُدس التوصية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية بشأن أهمية حصول كل فرد على نصيب من المساحات الخضراء لا يقلّ عن 9 أمتار مربعة. تُعدّ المساحات الخضراء والترفيهية ضرورية للصحة النفسية والبدنية، وللتنمية الاجتماعية عند الأطفال، ولكنها تكاد تكون معدومة لغالبية المصريين. لقد بلغ إجمالي إنفاق مصر على المنشآت الرياضية في البلاد ككُل 14.5 مليار جنيه مصري (نحو 0.84 مليار دولار أميركي) في الفترة الممتدّة بين 2018 و2023، أي أقل بكثير من مبلغ 2.8 مليار دولار أميركي الذي تمّ إنفاقه على بناء مدينة أولمبية جديدة في العاصمة الإدارية الجديدة.78

إضافةً إلى ذلك، وعلى الرغم من الادّعاء بأن المدن الذكية مُوفِّرة للطاقة، فإنها قد تضاعف التأثيرات البيئية السلبية في أماكن أخرى. يُعدّ تآكل الشواطئ على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط في مصر نتيجةً أساسية للزحف العمراني الذي يعيق، جنبًا إلى جنبٍ مع بناء المنتجعات السياحية والمراسي البحرية، عمليةَ انجراف الرمال الساحلية وانتقالها نحو الشرق. ويؤدّي ذلك إلى تعرية الشواطئ من رمالها، ما يفاقم بدوره التداعيات الأوسع نطاقًا الناجمة عن ارتفاع منسوب مياه البحر: أي ارتفاع نسب الملوحة في المياه الجوفية ومصبّات الأنهار في المناطق الداخلية؛ وتباطؤ معدلات تغذية خزانات المياه الجوفية، وزيادة ملوحة التربة؛ وتدنّي الإنتاجية الزراعية؛ وتعطيل توافر مياه الشرب والري. إن مساعي الحكومة إلى إنشاء العقارات والمنتجعات الفاخرة في الساحل الشمالي وتعظيم السيولة الدولارية عبر جذب الاستثمارات الأجنبية والخاصة، تسرّع وتيرة انحسار الشواطئ الرملية الذي وصل بالفعل إلى مستويات عالية، بحيث سجّلت متوسط تراجع من 0.8 إلى 3.5 أمتار في السنة في الفترة الممتدّة بين 2005 و2015.79 وترافقت هذه العملية مع التحويل الذي طرأ على أراضٍ مملوكة للدولة وانتقالها إلى الملكية الخاصة، ناهيك عن تهجير المجتمعات المحلية الريفية والبدوية.80

تطرح كل هذه العوامل تحديات خاصة على منطقة دلتا النيل حيث أكثر من 30 في المئة منها عبارة عن أرضٍ منخفضة. تستضيف دلتا النيل ما يقرب من ربع سكان مصر وقطاعات أساسية مثل الصناعة والزراعة ومصائد الأسماك، وتسهم وحدها بنحو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.81 ويتمّ فيها حوالى ثلاثة أخماس (60 في المئة) إنتاج مصر من الغذاء، علمًا أنها قد تخسر ما يصل إلى 30 في المئة كحدٍّ أدنى من إنتاجها الغذائي بحلول العام 2030 بسبب التداعيات الناجمة عن تغيّر المناخ.82 كذلك، تتعرّض البنى التحتية الخاصة بالطاقة في المناطق الساحلية وفي الدلتا إلى خطر ارتفاع مستوى سطح البحر والتأثيرات المرتبطة به مثل العواصف والفيضانات.83

لقد أطلقت الحكومة خطة الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية في المتوسط. لكن من المستحيل تقييم مدى تناسب المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية مع هذه الخطة من دون معرفة الافتراضات المفصّلة التي صُمِّمَت على أساسها هذه المشروعات. لقد بدأ العمل على إنشاء مدينة أبو قير الجديدة بإشراف المؤسسة العسكرية في منطقة شرق الإسكندرية، التي ستُبنى بالكامل على جزيرة اصطناعية في البحر المتوسط، ويُقال إن هذه المدينة ستكون قادرة على الصمود أمام التحديات المناخية في المستقبل، لكن الصور التي انتشرت في وسائل الإعلام عن مدن مثل العلمين الجديدة لا تظهر أي مؤشّر على وجود حواجز لحماية المناطق الساحلية.84 وبالمثل، قد تكون عملية تركيب 69 كيلومترًا من نظام السدود المنخفضة التكلفة عبر شواطئ دلتا النيل من أجل إبطاء وتيرة تآكلها شكلًا من أشكال سوء التكيّف، لأن هذه السدود لا تمنع تسرّب المياه المالحة من تحت جدار السدّ نحو الأراضي المنخفضة وطبقات المياه الجوفية في المناطق الداخلية.85 ووفقًا لأحد التقديرات، من المتوقّع أن يرتفع منسوب مياه البحر بمقدار 6.4 أمتار إذا بلغ الاحتباس الحراري العالمي 3 درجات مئوية. على أقل تقدير، تتطلّب خطط تطوير الساحل الشمالي حكمًا تكاليف إضافية من أجل التحصين ضدّ المخاطر المستقبلية، ومنها توقُّع السيسي في العام 2022 بارتفاع مستوى سطح البحر إلى متر أو مترين خلال العقود الخمسة المقبلة.86

البنية التحتية الخاصة بالنقل

إن التحيّزات التي توجّه دفّة النهج الرسمي في مشروعات التوسّع الحضري والعمراني تؤثّر أيضًا إلى حدٍّ بعيد على الاستثمارات في البنية التحتية وتوزيعها الجغرافي. ويتجلّى ذلك بأوضح صوره في قطاع النقل المسؤول عن 40 في المئة من انبعاثات الكربون في مصر خلال العام 2021، ما أسهم في تصنيف مصر في المرتبة 27 عالميًا من حيث انبعاثات الكربون المرتبطة بالطاقة.87 يتألّف القسم الأكبر من البنية التحتية الخاصة بالنقل التي أُنشئت منذ العام 2013 من طرق سريعة وجسور وكُباري علوية مرتبطة بها، تتركّز حول المدن الجديدة، ولا سيما العاصمة الإدارية الجديدة والمدن الراقية التي تستهدف العملاء الميسورين.88 عمومًا وبحلول العام 2023، تمّت نسبة 98 في المئة من حركة النقل في البلاد عبر البرّ، ويُعتبر النقل البرّي "أغلى تكلفة نقل والأكثر تلويثًا للبيئة"، على حدّ تعبير رئيس الغرفة التجارية الأميركية طارق توفيق.89 من هذا المجموع، تمثّل البضائع المنقولة عبر الطرق ما يقدّر بنحو 94 في المئة من جميع عمليات نقل البضائع على المستوى الوطني. عمومًا، ازدادت انبعاثات قطاع النقل بنسبة 14.7 في المئة خلال النصف الأول من العام 2023، وسط توقّعات بأن التوسّع المستمر لشبكات الطرق سيؤدي إلى زيادة بنسبة 37 في المئة في انبعاثات الكربون بحلول العام 2030.90

كثيرًا ما تُصوَّر مشروعات الطرق القومية على أنها وسيلة مستدامة لتقليل انبعاثات الكربون، لكن النقل بالسكك الحديدية والنقل النهري، وهما أقل تكلفة وتلويثًا إلى حدٍّ كبير، لم يحظيا إلّا باستثمارات قليلة نسبيًا. ويُعزى ذلك، جزئيًا على الأقل، إلى ميل المؤسسة العسكرية القوي نحو بناء الطرق. شكّل الطريق السريع بين القاهرة والعين السخنة، الذي افتُتح في العام 2004، أول مشروع مهمّ نفّذته الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، ثم توّلت المؤسسة العسكرية إدارة الكثير من مشروعات الطرق الأخرى والبنية التحتية المرتبطة بها منذ العام 2013. وقد عزّز السيسي هذا التوجّه من خلال تصنيف 52 "طريقًا قوميًا" (طرق سريعة بين المدن) على أنها "مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية" بين العامَين 2016 و2023، وإخضاعها بالتالي لسيطرة وزارة الدفاع ومنحها امتيازًا تجاريًا حصريًا في جميع تلك المناطق.91

صحيحٌ أن تمويل مشروعات السكك الحديدية قد ازداد بشكل ملحوظ، ليسجّل 11 في المئة من ميزانية الأعمال الإنشائية المرتبطة بالنقل في العام 2022.92 لكن الحصة الأكبر، بأشواط، من هذه الأموال خُصِّصت لشبكة القطار الفائق السرعة التي يجري تنفيذها بتكلفة 23 مليار دولار، وتهدف إلى ربط العاصمة الإدارية الجديدة بثماني مدن راقية على سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط، وبالمركز الصناعي والسياحي في العين السخنة، حيث تمتلك المؤسسة العسكرية مصالح تجارية مهمة.93 وتلاها من حيث مخصّصات السكك الحديدية في العام 2022 مشروعٌ بتكلفة 4.5 مليارات دولار لبناء خط قطار جديد أُحادي السكة (مونوريل) لنقل الركاب المُتَّجهين من القاهرة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، ما يسلّط الضوء على التحيّز الذي يُبديه الرئيس والمؤسسة العسكرية للمشروعات العقارية الفاخرة.94

وستُستخدَم شبكة السكك الحديدية السريعة أيضًا لشحن البضائع وتسهيل التجارة العالمية، لكنها لن تخدم المراكز السكنية الرئيسة في البلاد، حيث تجري معظم الأنشطة الاقتصادية. وعلى الرغم من أن حركة شحن البضائع هي التي تجعل السكك الحديدية مجدية من الناحية الاقتصادية، لا تزال هذه الشبكة تركّز عمومًا على "نقل الركاب، بينما تشكّل حركة شحن البضائع حوالى 4 في المئة فقط من إجمالي الحركة، "بحسب تقريرٍ للبنك الدولي.95 يؤدّي غياب الاستثمار في حركة الشحن المحلّي إلى انخفاض ربحيّة السكك الحديدية، وإلى عدم الاستفادة من الأرباح التي يحقّقها الشحن لدعم الربط السككي غير المُربِح إنما المهمّ مع مناطق أقل نموًا، إضافةً إلى زيادة التكاليف التي يتكبّدها المنتجون والمستهلكون المحلّيون.96

على نحو مماثل، ومع أن الحكومة اتّخذت خطواتٍ لتطوير شبكة النقل النهري، لم تخصّص سوى 4 مليارات جنيه (130 مليون دولار) لمشروعات مرتبطة به في العام 2023، ما يُعدّ رقمًا صغيرًا مقارنةً مع استثمارات الدولة في شبكة الطرق.97 وبالقيم الحقيقية، كان هذا المبلغ أقلّ بكثير من ذاك الذي خُصِّص لتطوير الممرّات المائية الداخلية والموانئ النهرية في خطة الاستثمار الوطنية لفترة 2007-2011.98 وعلى الرغم من التصريحات التي توحي بعكس ذلك، ومع أن نقل البضائع عبر الممرّات المائية الداخلية أكثر كفاءةً من حيث استخدام الوقود وأكثر رفقًا بالبيئة، ما زال تركيز الحكومة الأساسي مُنصَبًّا على حركة نقل الركاب. فبحسب أرقام العام 2018 مثلًا، لم تبلغ حصة نقل البضائع في مصر عبر نهر النيل سوى 0.6 في المئة.99 في هذا الإطار، لفت تقريرٌ صادر عن البنك الدولي إلى أن "البارجة الواحدة على الممرّات المائية الداخلية تستطيع أن تحمل حوالى 1200 طن من البضائع، وهو ما يستلزم أن يحمله عددٌ من الحافلات يتراوح من 45 إلى 70 حافلة. ويمكن للبارجة أن تحمل طن بضائع لمسافة 550 كيلومترًا مُستخدِمةً خمسة ليترات من الوقود، وذلك في مقابل 100 كيلومتر لنقل نفس الحمولة بواسطة الحافلات. وتصدر الحافلات ما يقرب من نحو أربعة أضعاف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، كما أنّ لها أثرًا اجتماعيًا سلبيًا يبلغ 24.12 يورو لكل 1000 طن-كيلومتر، وذلك مقارنةً مع ما أقصاه 5 يورو لكل 1000 طن-كيلومتر للبارجات".100

إلى حين كتابة هذه السطور، تسيطر ثلاث شركاتٍ على النقل عبر الممرّات المائية الداخلية، وهي: شركة النيل الوطنية للنقل النهري المملوكة للمؤسسة العسكرية؛ والشركة الوطنية لإدارة الموانئ النهرية المملوكة للقطاع الخاص، التي اشترتها شركة القلعة القابضة من وزارة الدفاع في العام 2009، ما جعلها شركة النقل الخاصة الوحيدة التي تعمل على طول مجرى نهر النيل؛ وهيئة وادي النيل للملاحة النهرية، التي يرأسها ضابط متقاعد من القوات المسلحة، وتتنافس مع شركات أخرى من أجل كسب حصة من التجارة العابرة للحدود مع السودان.101

الطاقة

تؤدّي الطاقة دورًا أساسيًا في جميع المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية. صحيحٌ أنها لم تدخل القطاع كمُنتج أو موزّع لموارد الطاقة، إلّا أنها تدير محطة تتكوّن من أربعة مفاعلات نووية بتكلفة 30 مليار دولار، مُخصَّصة لتوليد الطاقة الكهربائية في مدينة الضبعة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يتمّ بناء شبكة من الطرق حولها ومدينة جديدة بالكامل.102 في الواقع، تمارس المؤسسة العسكرية تأثيرًا كبيرًا على أسواق الطاقة وإمداداتها من خلال أنشطتها الواسعة النطاق في مجالات البناء، والصناعة التحويلية، وتحلية المياه ومعالجتها، واستخراج المعادن. تقدّم المدن الجديدة، والمُجمَّعات الصناعية، ومحطات تحلية المياه، ومحطات إنتاج الهيدروجين الأخضر المُزمَع بناؤها، حلولًا أكثر فعاليةً لبعض حاجات البلاد، لكنها في الوقت نفسه تتنافس في ما بينها على الطاقة المتجدّدة والمياه والعقارات. وفي بعض الحالات، مثل مساعي تحلية مياه البحر باستخدام الطاقة الشمسية، تتّسم المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية بالكفاءة من حيث استخدام الطاقة، لكن في قطاعات أخرى مثل إنتاج الإسمنت والصلب (وبالتالي قطاع البناء)، لا تزال هذه المشروعات تعتمد على الوقود الأحفوري الشديد التلويث للبيئة. هذا وأشارت الباحثة المُتخصِّصة في الجغرافيا السياسية ناتالي كوك إلى أن للطاقة الشمسية مشاكلها أيضًا. فمشروعات الطاقة الشمسية على نطاق المرافق في البيئات القاحلة تتطلّب كميات كبيرة من المياه لتنظيف الألواح المُغَطّاة بالغبار، ما يزيد الضغط على الموارد المائية الشحيحة، كما تتطلّب مدّ خطوط نقل جديدة، وبناء طرق، واستبدال التكنولوجيا والمعدّات على نحو منتظم بسبب الأضرار التي تُلحِقها بها درجات الحرارة الشديدة الارتفاع.103

كذلك، ساهمت حسابات السيسي المتعلّقة بالسياسة الخارجية أيضًا في التأثير على مشروعات الطاقة الوطنية من حينٍ إلى آخر. فالعقد الذي وقّعته مصر مع شركة سيمنز الألمانية لإنشاء محطة كهرباء تعمل بنظام الدورة المركّبة في العاصمة الإدارية الجديدة تزامن مع إبرامها صفقة ضخمة لشراء أسلحة من ألمانيا. ويُشار إلى أن مشروع المحطة الكهربائية هذا يسهم في مواصلة اعتماد مصر على الوقود الأحفوري خلال العقود المقبلة. وعلى الرغم من تسليط الضوء على تحوّل مصر إلى الغاز الطبيعي، الذي تمتلك منه احتياطيًا محليًّا كبيرًا، أشارت الخبيرة في الشؤون البيئية لمى الحتو إلى أن الغاز ليس بديلًا صديقًا للبيئة عن الفحم والنفط.104 هذا وقد يؤدي ارتفاع درجات الحرارة بشكلٍ متزايد إلى خفض كفاءة توليد الكهرباء من الغاز الطبيعي والألواح الشمسية وتوربينات الرياح، ما يؤكّد مرة أخرى على ضرورة إدراج المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية ضمن إطار وطني شامل يركّز على وضع الخطط اللازمة للتخفيف من حدّة تغيّر المناخ والتكيّف معه، ومراقبة الإجراءات المتّخذة، ومساءلة الأطراف المعنية في هذه العملية.105  

المياه وتحلية مياه البحر

تَفاقمت مخاطر نقص المياه في مصر بسبب بناء سدّ النهضة الإثيوبي الكبير. وعلى الرغم من أن سلطات الدولة وظّفت استثمارات طائلة للحفاظ على الموارد المائية المحلية، نفّذت في الوقت نفسه مشروعات تتسبّب باستفحال المشكلة. فالحاجة إلى المياه كبيرة. وتشير دراسة صادرة عن البنك الدولي إلى أن التوسّع الحضري والعمراني المتزايد يحفّز الطلب على المياه، ليس فقط لتلبية متطلّبات الأعداد المتزايدة من سكّان المدن الذين تقوم أنماط عيشهم واستهلاكهم وعاداتهم الغذائية على استهلاك كميات أكبر من المياه، إنما أيضًا لتلبية ما ينجم عن ذلك من زيادةٍ في الطلب على الموارد المائية في قطاعات الزراعة والصناعة وتوليد الطاقة وسائر الخدمات.106 علاوةً على ذلك، تُشير التقديرات إلى أن شبكة المياه الحالية تخسر نحو 50 في المئة من مياهها بسبب التسرّب، وهي كمية أعلى بكثير من النسبة المحدّدة بـ30 في المئة وفقًا للتقديرات الرسمية، والتي تعتبرها السلطات الحدّ المقبول لفاقد المياه.107 لكن الحلول التي يجري اتّباعها تؤكّد من جديد على التحيّز تجاه المستهلكين الميسورين وتزيد من مخاطر سوء التكيّف البيئي وتداعياتها المُتدحرجة.

يُشار إلى أن المشروعات العملاقة التي تحبّذها إدارة السيسي والمؤسسة العسكرية هي من النوع الذي يستهلك كميات كبيرة من المياه بوجهٍ خاص. ويطرح إيجاد الموارد المائية الضرورية للمدن الجديدة وتوصيلها تحدّيًا كبيرًا. ويُرفَع هذا التحدّي جزئيًّا من خلال بناء ست محطات ساحلية لتحلية المياه تعمل بالطاقة الشمسية، لتُضاف إلى المحطات القائمة وعددها 82. ولكن هذا الحل، على الرغم من أنه مفيد، ليس سحريًّا: فاستخدام الطاقة الشمسية يخفّف من البصمة الكربونية لهذه العملية ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة، ولكن تحلية المياه لها تبعات بيئية سلبية. فالمياه الشديدة الملوحة، وهي منتج ثانوي لعملية الترشيح الشديدة السمّية، تُلحق الضرر بالحياة البحرية ويمكن أن تزيد تملّح المياه في أعماق البحار قبالة السواحل إذا لم تتمّ إدارتها بشكل صحيح.108

كذلك، تسهم تحلية المياه بنسبة 2.1 في المئة فقط من إجمالي الموارد المائية غير التقليدية في البلاد، أو 0.44 في المئة من جميع الموارد المائية المتاحة، ما يوضح لماذا تُستخدَم بصورة أساسية لتوفير حاجات المدن الساحلية الراقية بدلًا من السكان على نطاق أوسع. هذا فضلًا عن أن مدينة الجلالة مثلًا، التي تقع على هضبة مرتفعة تطلّ على البحر الأحمر، تعوّل على رفع المياه المحلاّة لمسافة 700 متر، ما يُعدّ بحدّ ذاته عملية مُكلِفة وتستهلك كميات كبيرة من الطاقة. فمن خلال بناء مدن تعوّل بشكل كبير، إن لم يكن بالكامل، على المياه التي تُنتَج بواسطة تحلية المياه، بات الاعتماد على هذه التكنولوجيا، وبالتالي على المصادر التي تزوّدها بالطاقة، "وضعًا راسخًا يصعب تغييره"، بحسب تعبير الباحث البيئي أشرف الشيباني.109

هذا فضلًا عن أن تحلية مياه البحر ليست خيارًا مُجديًا لأكثرية المدن الجديدة الواقعة في المناطق الداخلية. ويشمل ذلك، على وجه الخصوص، العاصمة الإدارية الجديدة التي تديرها المؤسسة العسكرية، ما يُظهر بوضوح انحياز إدارة السيسي للعملاء الميسورين، ويكشف كذلك عن قيمها وطموحها على الصعيد الاجتماعي. وتعوّل العاصمة الإدارية الجديدة، بالكامل، على تحويل المياه من مدن أخرى، ومع ذلك فهي تتباهى بأنها تضمّ "نهرًا أخضر" اصطناعيًّا و"حديقة عامة تزيد مساحتها عن ضعف مساحة حديقة سنترال بارك في نيويورك".110 بالمثل، بلغت تكلفة محطة معالجة المياه العملاقة الجديدة التي يتمّ بناؤها حصرًا للعاصمة الإدارية الجديدة 40 مليار جنيه، وتقترب هذه التكلفة من إجمالي حجم استثمارات قطاع مياه الشرب والصرف الصحي في مصر خلال العام المالي 2022-2023.111 

تعتمد المدن الجديدة الأخرى على رفع المياه الجوفية – من عمق 100 متر أو أكثر – أو على نقل المياه من بحيرة ناصر أو نهر النيل في قنوات وترع أُنشئت خصّيصًا لهذا الغرض، وتمتدّ مجتمعةً على طول مئات الكيلومترات عبر تضاريس مختلفة. وهذا يزيد من فاقد المياه عن طريق التبخّر ويستلزم مزيدًا من عمليات رفع المياه التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة. وتُستخدَم أساليب مماثلة في ريّ المشروعات الضخمة لاستصلاح الأراضي الصحراوية التي تقوم بها المؤسسة العسكرية منذ العام 2014 في محافظة الوادي الجديد (توشكى وشرق العوينات)، والصحراء الغربية، والدلتا الجديدة. وبحسب وزير الموارد المائية والريّ هاني سويلم، من الضروري حفر آبار بأعماق كبيرة قد تصل إلى حوالى كيلومتر واحد.112 يمكن لتحلية المياه الجوفية الأقلّ ملوحةً أن تلبّي بعض هذه الاحتياجات على الأقل، ولكن هذه الوسيلة لا تزال غير مستغلّة بالكامل وغير متطورة.113

تكشف الحلول التي تحبّذها المؤسسة العسكرية عن شوائب إضافية. فقد أدّى تبطين الترع مثلًا إلى تقليل التسرّب، ولكنه تسبّب أيضًا بانخفاض منسوب المياه في الأحواض الجوفية وزيادة ملوحة التربة، فتدهورت التربة وتراجعت وفرة الثروة الحيوانية والنباتية غير الزراعية. ومن الشوائب الأخرى للترع زيادة التبخّر الذي يتفاقم مع ارتفاع متوسط درجات الحرارة. ويُضاعِف من هذه التبعات ارتفاع معدّلات النتح التبخّري، ما قد يزيد من الطلب على الريّ المائي بنسبة 7 إلى 13 في المئة للمحاصيل الشتوية والصيفية على التوالي.114 وقد تكون لتحويل مياه النيل لاستخدامها في مشروعات الزراعة الصحراوية التي تديرها المؤسسة العسكرية تداعيات بيئية سلبية في الدلتا، فضلًا عن حرمان صغار المزارعين ومزارعي الكفاف من المياه غير المالحة.

والأهم من ذلك، فإن استخراج المياه الجوفية، الذي تعتمد عليه بشكلٍ كبير مشروعات استصلاح الأراضي وزراعتها بإدارة المؤسسة العسكرية، يتجاوز معدّلات إعادة تغذية أحواض المياه الجوفية التي استُنفدت. وقد لحَظت دراسة تستخدم بيانات مُستقاة من التقديرات المُستندة إلى الأقمار الصناعية عن نضوب المياه الجوفية في مصر حتى العام 2021، أن "جميع أحواض المياه الجوفية تشهد معدّل فاقد كبيرًا في مخزونها".115 وبحسب هذه الدراسة أيضًا، "يجري ضخّ المياه الجوفية، من دون قيود لتقنين ذلك... من أجل توفير الجزء الأكبر من المياه اللازمة لريّ المساحات المزروعة حديثًا في الأراضي القاحلة". ولكنها لفتت إلى أن الإدارة المستدامة للموارد المائية تصطدم بـ"عدم كفاية الشبكات الأرضية لرصد التغيرات [في نُظم المياه الجوفية]، وحتى التقارير عن الضخ تُعتبَر حسّاسة أو سرّية".116 واستكمل الباحث في علم الاجتماع الريفي صقر النور هذا الاستنتاج قائلًا إن ما من دراسات جدوى أُجريت لهذه المشروعات الزراعية، ناهيك عن أن الحيّز المتاح للمناقشة قبل تنفيذ المشروعات قد أُغلق.117

يجب النظر إلى استخراج المياه لأغراض المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية انطلاقًا من هذه الخلفية. فاستخدام المياه الجوفية المتجدّدة من خزانَي وادي النيل ومنطقة الدلتا اقترب بالفعل من حدّ الاستخراج الآمن البالغ 7.5 مليارات متر مكعب سنويًّا بحلول العام 2017.118 يتيح نظام طبقات الحجر الرملي النوبي الضخم في الصحراء الغربية وصعيد مصر (وأجزاء من شبه جزيرة سيناء)، وهو خزان غير متجدّد، استخراج من 2.5 إلى 3 مليارات متر مكعب سنويًّا كحدّ سحبٍ آمن وفعّال من حيث التكلفة.119 وقُدِّر معدّل استخدام خزان الحجر الرملي النوبي بـ1.65 مليار متر مكعب في السنة في العام 2016، بينما بلغ إجمالي الكمية المُستخرَجة من طبقات المياه الجوفية غير المتجدّدة في جميع أنحاء البلاد 2.1 مليار متر مكعب سنويًّا بحلول نهاية العقد المنصرم.120 وبحلول ذلك الوقت، كانت المؤسسة العسكرية تستخرج على الأرجح ما لا يقل عن 1.12 مليار متر مكعب لزراعة مساحة قدرها 190 ألف فدان في مشروع شرق العوينات وحده.121 إضافةً إلى ذلك، بنت المؤسسة العسكرية قدرات تخوّلها رفع 4.12 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية سنويًّا لمشروع جديد في محافظة الوادي الجديد، علمًا بأنه لم يبدأ تشغيله بعد. كذلك، تعتزم المؤسسة العسكرية إطلاق مشروع على مساحة 600 ألف فدان في واحة الكفرة على الحدود مع ليبيا، بالاعتماد أيضًا على الخزّان الجوفي.122 ويُعتقَد أن خزان الحجر الرملي النوبي يتيح "حيّزًا كبيرًا للتنمية الريفية"، ولكن نظرًا إلى التوسّع السريع لأنشطة المؤسسة العسكرية التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، قد يجري الآن تجاوز الحدود الآمنة للاستخراج بوتيرة متكرّرة.

يُحدِق خطرٌ أكثر إلحاحًا بخزّان المغرة الجوفي، الذي ظلّ غير مستغَلٍّ تقريبًا حتى العام 2008. ففي البداية، كان من المفترض أن يستمدّ مشروع استصلاح أراضي الصحراء الغربية بإدارة المؤسسة العسكرية، الذي أظهرت التقارير على نحو متفاوت أنه يستهدف 1.5 مليون أو 2.2 مليونَي فدّان في المحصّلة، 88.5 في المئة من مياهه من أحواض المياه الجوفية و11.5 في المئة من نهر النيل.123 ووفقًا لوزير الموارد المائية والريّ حسام مغازي في العام 2016، يمكن استخدام المياه الجوفية بأمان لتوفير مياه الريّ للمرحلتَين الأولى والثانية من المشروع، لما مجموعه 950 ألف فدّان، لمدة 100 عام أو أكثر. وبحسب التقديرات التي وردت في البحث الذي استند إليه الوزير، يحتاج الموقع الواحد إلى 380 مليون متر مكعب لريّ 100 ألف فدان، ما يشير إلى أن إجمالي كمية السحب سيبلغ 3.61 مليارات متر مكعب للمرحلتَين.124 هذا التقييم المتفائل تُناقضه البيانات المُستقاة من الدراسة المُستندة إلى الأقمار الصناعية المذكورة آنفًا، والتي أشارت إلى الاستخدام الجائر للمياه الجوفية في الصحراء الغربية وقدَّرت أن سحب المياه المكثّف من خزان المغرة "يهدّد استدامة الأنشطة الجارية في مجال الأعمال الزراعية"، في حين أن النضوب في شبه جزيرة سيناء "تَسبَّب بارتفاع المياه الجوفية المالحة العميقة إلى السطح في الآبار الواقعة قرب الساحل".125

تعتمد استمرارية هذه المشروعات في الأجل الطويل اعتمادًا كاملًا على إرساء التوازن بين معدّلات الاستخراج وقدرة طبقات المياه الجوفية على إعادة التعبئة بالمياه، وإذا لم يتحقّق ذلك، فسوف تعاني مصر في نهاية المطاف من فجوات قد تكون كارثية في إمدادات الأغذية والمياه على السواء. ولكن، كما قال الباحثان محمد الميلم وعمرو حمزاوي، تهيمن في مشروعات الاستصلاح الكبيرة الزراعة التجارية الواسعة النطاق التي "تستنزف بسرعة أكبر موارد [مصر] المائية الثمينة... وتستهلك المياه الجوفية على نحو جائر، وتجفّف طبقاتها الجوفية بوتيرة أسرع من قدرة هذه الطبقات على إعادة التعبئة".126 وهذا واضحٌ في دلتا النيل، حيث يخضع صغار المزارعين لقيود حكومية على زراعة الأرز، حتى مع نمو زراعة البرتقال التي تمارسها شركات كبرى. يُشار إلى أن زراعة الأرز تحتاج إلى كميات أقلّ من المياه ويُعتقد أنها تسهم في تبطيء التملّح وتسبّب إجهادًا أقلّ للتربة مقارنةً مع زراعة البرتقال، ولكن تُحبَّذ زراعة البرتقال لأنها مُوجَّهة بصورة أساسية نحو التصدير.127

تلوح في الأفق تهديداتٌ إضافية. فالأراضي المستصلحة هي في معظمها متوسطة أو منخفضة الجودة، ولذلك فإن "تخضير الصحراء" يعتمد على الاستخدام المكثّف للأسمدة الكيميائية – التي تصنّعها المؤسسة العسكرية أيضًا – للتعويض عن انخفاض خصوبة التربة.128 من المنطقي الاعتماد على المياه الجوفية نظرًا إلى الطلب الحالي على مياه النيل ووجودها على مسافة بعيدة من مشروعات استصلاح الأراضي الصحراوية، ولكن ذلك يزيد من أهمية استخدام الأسمدة لأن المياه الجوفية تحتوي على كميات أقل من المغذّيات.129 ولذلك، حتى مع ادّعاء المسؤولين العسكريين ارتفاعَ معدّلات الإنتاجية، فإن الاعتماد على الأسمدة الكيميائية وإعادة الاستخدام المتزايدة لمياه الصرف الزراعية التي تحتوي بحدّ ذاتها على كميات كبيرة من الأسمدة يسبّبان مخاطر لأحواض المياه الجوفية ويهدّدان سلامة المحاصيل وغلالها بسبب تراكم الأملاح والتلوّث السام. هذا فضلًا عن أن معدّلات الإنتاجية في ما يُسمّى بالأرض "القديمة" (أي تلك غير الناتجة من استصلاح الأراضي الصحراوية) لا تزال، مع ذلك، تسجّل مستويات أعلى: فعلى سبيل المثال، أُنتِجت 3 أطنان مترية من القمح للفدان الواحد في المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية، بينما بلغت الغلال 4.05 أطنان للفدان الواحد في الأراضي غير المُستصلَحة في دمياط في الدلتا و4.5 أطنان في قنا في صعيد مصر خلال نيسان/أبريل 2024.130

الأكثر مدعاةً للقلق هو التأثير الذي تخلّفه هذه الممارسات على سلامة التربة في الأجل الطويل. فالأسمدة الكيميائية تُتيح للنبات امتصاص المغذّيات بسرعة، ما يؤدّي إلى تسريع النمو والإنتاج، بيد أن الإفراط في الاعتماد عليها يعيق الميكروبات مثل البكتيريا التكافلية المُثبِّتة للنيتروجين التي تُطلق مغذّيات أساسية وتُجدّد التربة.131 وهذا يندرج في إطار مشكلة أوسع نطاقًا، إذ إن انخفاض الترسّبات الطبيعية، وتزايد ملوحة التربة وتلوّث المياه، وارتفاع درجات الحرارة كلّها عوامل تدفع بالمزارعين إلى اللجوء إلى مبيدات الآفات والأسمدة والموادّ الكيميائية الرامية إلى تقليل الملوحة، بهدف الحفاظ على مستويات الإنتاج، لكن هذه الموادّ تزيد من تدهور التربة وتتسرّب إلى البحيرات الداخلية المُستخدَمة في تربية الأحياء المائية. وبحسب التقديرات التي وردت في تقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ في العام 2019، بلغت التكاليف السنوية لتدهور جودة التربة (بما في ذلك تآكل الساحل بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر) نحو 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.132 ونتيجةً لذلك، "من غير المُرجَّح أن يكون استصلاح الأراضي قادرًا على عكس اتّجاه التصحّر وتدهور الأراضي على المدى الطويل" في مصر.133

وتبعًا لذلك، فإن المشروعات العملاقة من النوع الذي تديره المؤسسة العسكرية تتسبّب عادةً بتعميق المشاكل بدلًا من التوصّل إلى حلول لها. هذا فضلًا عن أنها لا تعالج التلوّث الحالي للموارد المائية. واعتبر تقييمٌ أُجري لنظام خزّان النيل الجوفي في العام 2016 أنه يعاني من مستويات مرتفعة من التلوّث بسبب التصريف الزراعي والصناعي. وشمل ذلك وجود بكتيريا الإشريكية القولونية (E. coli) ومبيدات الفوسفور والكربامات العضوية في الأعماق الضحلة، ومبيدات الكلورين العضوي (التي تتّسم بثباتها لفترة طويلة) في المياه الأكثر عمقًا، والنترات والمركّبات المُسرطِنة والمسبِّبة للطفرات، والموادّ السامّة العصبية التي لا تتأثّر بالعمليات الشائعة لمعالجة المياه. وتُهدّد هذه الأشكال من التلوّث إمدادات مياه الشفة، والسمّية النباتية والمائية، والزراعة ومصائد الأسماك، والتراكم البيولوجي والتحوّل البيولوجي.134

من المتوقّع أن تتّسع الفجوة الغذائية في مصر، ولكن البلاد واقعة في مأزق. وفي هذا الصدد، يُتوقَّع أن يتسبَّب شحّ المياه والإجهاد الحراري الناجم عن تغيّر المناخ بانخفاض غلال القمح والأرز والذرة والحمضيات وغيرها من المحاصيل بنسبة 10 إلى 20 في المئة بحلول ستينيات القرن الحادي والعشرين فضلًا عن تراجع معدّلات نمو الماشية والدواجن، ما يقوّض المكاسب التي تحقّقت في الإنتاجية على مرّ عقدَين سابقَين من الزمن.135 وعلى الرغم من أن زيادة الاكتفاء الذاتي من الأغذية وتوفير العملة الصعبة (من خلال خفض الحاجة إلى الواردات) أمرٌ مرغوب فيه، فإن إنتاج المحاصيل مثل القمح أو مصادر البروتين مثل الدواجن والأسماك التي تتطلّب كمياتٍ كبيرة من المياه يزيد من العبء على الموارد الحالية.136 ومع ذلك، تفشل المقاربات الراهنة في معالجة التداعيات. لا تزال الملاحظة التي أبدتها الخبيرة في الاقتصاد السياسي جيني سويرز عن السياسة المائية المصرية في العام 2011 صحيحة، فقد اعتبرت أن "التصوّر بأن من الممكن التحكّم بالإمداد وجعل الاستخدامات القائمة أكثر كفاءةً من خلال حفظ المياه والتكنولوجيات الجديدة، أتاح لصنّاع السياسات أن يستمروا في تغاضيهم عن عمليات استصلاح الأراضي على نطاق واسع، وفي تمسّكهم بها".137

هذا ما يؤكّده مشروع استصلاح أراضي الصحراء الغربية. فهو يعتمد بشدّة على مياه النيل، التي تصل منها الآن نسبة 10 في المئة فقط إلى البحر المتوسط، ما يقلّل من تدفّق الرواسب التي تغذّي الدلتا وتساعد على التصدّي لتداعيات ارتفاع منسوب مياه البحر.138 وتزيد مشروعاتٌ أخرى تديرها المؤسسة العسكرية مثل المزارع السمكية من كمّيات المياه التي تُسحَب من مصادر المياه العذبة، فيما تولّد نفايات سائلة ملوِّثة يجب معالجتها. وهذا يشير إلى نقصٍ جوهري في الفهم البيئي (والمائي) لدى المدراء العسكريين لقطاعات مثل تربية الأحياء المائية التي تتأثّر على نحوٍ خاص بارتفاع درجات الحرارة الذي يزيد التبخّر وملوحة المياه ويخفض معدّل بقاء أنواعٍ كثيرة من الأسماك.139 علاوةً على ذلك، تكشف هذه المشروعات عن تحيُّزٍ مزدوج: تفرض الحكومة قيودًا على قيام المزارعين في القطاع الخاص بزراعة الأرز الذي يستهلك كميات كبيرة من المياه بينما تُطلَق يد المؤسسة العسكرية في توليد المياه وتحويلها إلى مزارعها الصحراوية حيث تُزرَع محاصيل مُخصَّصة للتصدير تستهلك كمياتٍ كبيرة من المياه؛ وتطرد الشركات العسكرية المجتمعات المحلية وصيادي الأسماك لتنفيذ مشروعاتها الخاصة في الاستزراع السمكي والتنقيب عن المعادن.

تشجّع الاندفاعة الطاغية لزيادة الإيرادات على زراعة المحاصيل النقدية المخصّصة للتصدير، على الرغم من الخطاب الرسمي عن سدّ الفجوة الغذائية المحلية. وهذا يمثّل فعليًّا تصديرًا صافيًا غير مباشر للمياه، يتعاظم بفعل تأجير الأراضي المُستصلَحة لشركات زراعية مملوكة للخليج تزرع البرسيم لاستخدامه علفًا للحيوانات في الخليج.140 ووفقًا للمشروع البحثي المصري المعنيّ بتقديم مقترحات للسياسات العامة والمُعنوَن "حلول للسياسات البديلة"، اشترت شركات سعودية وإماراتية أو استأجرت 450 ألف فدان للزراعة، ما يشكّل 5 في المئة من إجمالي الأراضي المزروعة في مصر.141 وعلى حدّ تعبير الميلم وحمزاوي، فإن الزراعة التجارية الواسعة النطاق في مشروعات استصلاح الأراضي "تستنفد الموارد المائية الثمينة بسرعة أكبر، ذلك أن التربة أقل خصوبة إلى حدٍّ كبير من التربة في 'الأرض القديمة'".142

الصناعة التحويلية واستخراج المعادن

ينتج قطاع الصناعات الكيميائية والتعدينية والمعدنية نسبة 12.5 في المئة من إجمالي الانبعاثات المُسبِّبة للاحتباس الحراري في مصر. في الواقع، تُنتج عشرات الشركات العسكرية سلعًا مُصنَّعة تلبّي مجموعة واسعة من الاستخدامات المدنية، إلّا أن حصتها الإجمالية في القطاع الصناعي الوطني صغيرة في معظم الحالات. لكن الأمر لم يعد كذلك في قطاعات الإسمنت والصلب والموادّ الكيميائية الوسيطة والثروة المعدنية التي تُعدّ جميعها قطاعات مُلوِّثة للغاية. فنظرًا إلى تولّي المؤسسة العسكرية إدارة مشروعات إنشائية عملاقة، أصبحت أكبر منتجٍ ومشترٍ للإسمنت، إذ تُسهم الآن بربع الطاقة الإنتاجية الإجمالية للقطاع، ومنتجًا رئيسًا للصلب، إذ تُسهم بحوالى 16 في المئة من إجمالي إنتاج هذا القطاع. وتواصل المصانع العسكرية في هذَين القطاعَين اللذَين يستهلكان طاقة كثيفة استخدامَ الأفران التي تعمل بالفحم.

وفي العام 2019، افتتحت المؤسسة العسكرية مجمّعًا صناعيًا ضخمًا للموادّ الكيميائية الوسيطة والأسمدة في العين السخنة، تفوق طاقته الإنتاجية كافة المنتجين الآخرين في مصر. وكما هو الحال مع الإسمنت والصلب، يمكن أن تعتمد المؤسسة العسكرية على سوقٍ مضمونة في مشروعات استصلاح الأراضي التي تديرها، مع تأثير غير مباشر يتمثّل في التحفيز بشكلٍ أكبر على استخدام الأسمدة الكيميائية في الزراعة. أخيرًا وليس آخرًا، تضطلع المؤسسة العسكرية بمكانة مهيمنة في إنتاج الرخام والغرانيت والمعادن الثقيلة والأملاح المعدنية، وتتولّى مراقبة الأنشطة الإنتاجية في جميع المناجم والمحاجر في مختلف أنحاء البلاد وفرض ضرائب عليها. وهي تُمسك أيضًا بعملية إعطاء تراخيص التنقيب عن الذهب، الذي تنتج عن معالجته مخلّفاتٌ شديدة السمّية، ناهيك عن أنها أطلقت نشاطها الخاص للتنقيب عن الذهب.143

وكما هو الحال في مشروعات الأشغال العامة التي تديرها المؤسسة العسكرية، فالبيانات المالية والبيئية المتعلّقة بأنشطتها في قطاعات الصناعة التحويلية واستخراج المعادن محجوبة بالكامل. لكن البيانات الوطنية تشير إلى المخاطر المُحدِقة. فقد أشارت دراسة عن تلوّث المياه الجوفية في العام 2016 إلى أن مياه الصرف الصناعي غير المُعالَجة ما زالت تُلقى بشكلٍ روتيني إما مباشرةً في نهر النيل في كلٍّ من القاهرة والإسكندرية، اللتَين يتركّز فيهما الجزء الأكبر من إجمالي الصناعات في مصر، أو في البحيرات والترع.144 كذلك، تُعدّ مصر الدولة الأولى المُلوِّثة لمياه البحر الأبيض المتوسط بالنفايات البلاستيكية، ومن المتوقّع أن تُضاعف كمية المخلّفات البلاستيكية التي تولّدها بحلول العام 2025 لتصل إلى نحو 500 ألف طن.145 لا يمكن قياس مدى إسهام الأنشطة التي تديرها المؤسسة العسكرية في مياه الصرف الصناعي أو النفايات البلاستيكية البحرية، لكن الأكيد أنها منخرطة في الكثير من القطاعات المعروفة بأنها مصادر هذه المخلّفات، بما في ذلك صناعات الورق، والحديد، والموادّ الكيميائية، والبلاستيك، والأدوية، والزيوت، والصناعات الغذائية.146

ضرورة إدراج المؤسسة العسكرية في إطار بيئي وطني

تواجه مصر مخاطر بيئية مُقلقة، لذا بات هامش الخطأ أمامها ضئيلًا جدًّا، ولا سيما أن التكاليف التي قد تنجم عن المماطلة في اعتماد التدابير الضرورية للتخفيف من حدّة تغيّر المناخ والتكيّف معه ستكون باهظة بما لا يُحتَمل. فلم يعد ممكنًا تبرير عدم الإفصاح عن المعلومات البيئية المتعلقة بالسلع والخدمات العامة التي تديرها أو تُنتجها راهنًا الهيئات العسكرية. وهذا مهمٌّ بوجه خاص نظرًا إلى الحجم الهائل للأنشطة التي تنخرط فيها المؤسسة العسكرية في المجال المدني، بغضّ النظر عمّا إذا بقيت القوات المسلحة مسؤولة عن توفير هذه السلع والخدمات أم تمّ نقل المسؤولية إلى جهاتٍ مدنية. علاوةً على ذلك، وبما أن المؤسسة العسكرية منخرطة بشكل متزايد في وضع أهداف استراتيجية وإدارة استثمارات الدولة، تؤدّي تفضيلاتها وكذلك تحيّزها دورًا أكبر من أي وقتٍ مضى في تعزيز، أو عرقلة، قدرة مصر على التخفيف من حدّة تداعيات تغيّر المناخ والتكيّف معها. وما لم يتمّ تصحيح المسار الراهن، فإن الأنشطة التي تتولّاها المؤسسة العسكرية راهنًا سعيًا إلى تحسين النمو الاقتصادي الكلّي وتحقيق الربح المالي على المدى القصير، قد تؤدّي إلى تقويض قدرة النظام البيئي المصري على التصدّي للتهديدات المستقبلية.

إن تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والأمن الغذائي على المدى الطويل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاستجابة الفعّالة للمتطلّبات البيئية وتغيّر المناخ. تواجه مصر مهمّة صعبة للغاية. ولكي تنجح في النهوض بهذه التحديات، عليها بلورة استجابة متّسقة بدلًا من معالجة كل مسألة بشكلٍ منفصل. ومن أجل ضمان ألّا تُفاقم المؤسسة العسكرية المخاطر البيئية، لا بدّ من إدراج المشروعات والأنشطة الإنتاجية التي تديرها في المجال المدني بالكامل ضمن إطارٍ وطني متكامل يركّز على وضع الخطط اللازمة للتخفيف من حدّة تغيّر المناخ والتكيّف معه، ومراقبة الإجراءات المتّخذة، ومساءلة الأطراف المعنية. يجب أيضًا إجراء عملية مراجعة لتقييم التداعيات البيئية الناجمة عن الأنشطة العسكرية في المجال المدني، ومراقبة إنفاذ المؤسسة العسكرية لامتثالِ شركائها التجاريين والمتعاقدين معها من الباطن وأصحاب التراخيص للّوائح والنُظم البيئية. إن تعهّد الحكومة في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 بإخضاع الكيانات العسكرية النشطة اقتصاديًا لنفس معايير الشفافية المالية والتزامات الإبلاغ التي يُفترَض أن تخضع لها جميع المؤسسات والهيئات الاقتصادية الأخرى المملوكة للدولة، يشكّل سابقةً تسهّل إدراج الممارسات البيئية لهذه الكيانات العسكرية ضمن الإطار نفسه الذي ينطبق على نظيراتها المدنية.147

قد تلجأ السلطات العسكرية والمدنية المصرية في مقاربتها تجاه الاستثمارات المُموَّلة من الحكومة إلى الاقتداء بالتقرير الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ في العام 2022، الذي اعترف "بالتفاعل القائم بين المناخ، والأنظمة البيئية والتنوّع البيولوجي، والمجتمعات البشرية"، وبالتالي يأخذ تقييمه "لتداعيات تغيّر المناخ ومخاطره، والحاجة إلى التكيّف معه... في الحسبان الاتّجاهات العالمية غير المناخية التي تتكشّف، على غرار فقدان التنوّع البيولوجي، والاستهلاك غير المستدام للموارد الطبيعية، وتدهور أحوال الأراضي والنظام البيئي، والتوسع الحضري والعمراني المتسارع، والتغيّرات الديموغرافية، وانعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وتفشّي وباء كوفيد-19".148 فمواصلة اتّباع النهج المعتاد يفرض على مصر البقاء في علاقة قائمة على المعادلة الصفرية، بين الاستراتيجيات الراهنة الرامية إلى تحقيق النمو الاقتصادي من جهة، والحاجات الطويلة الأمد المتمثّلة في حماية البيئة وتعزيز القدرة على التكيّف في وجه الاضطرابات المناخية الكبرى من جهة أخرى. لذلك، يتعيّن على السلطات الوطنية والهيئات الحكومية في مصر، ولا سيّما المؤسسة العسكرية، على أقلّ تقدير، الحيلولة دون انزلاق الأوضاع أكثر إلى ما لا تُحمَد عقباه.

هوامش

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.