أُعِدَّت هذه الورقة في إطار مشروع إعادة الإعمار الاقتصادي السوري 2013-2014 ، والذي سعى إلى المساعدة في رسم خريطة الديناميكيات الاجتماعية والسياسية والمؤسّسية التي سيتم إعدادها عندما تبدأ عملية إعادة الإعمار في مرحلة مابعد الصراع في سورية.
تحولت الأزمة السورية، بعد أربع سنوات على بدء الثورة قي آذار/مارس 2011، إلى صراع مفتوح بالكامل على احتمالات كثيرة. وقد تجاوز حدوده الداخلية ليصبح إقليمياً بامتياز، بل ودولياً في الكثير من عناصره.
طالت الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب والاقتتال والتشريد والتهجير والإفقار أكثر من 11.8 مليون سوري. وهم يعانون، بحسب تقارير دولية، من نقص شديد في الغذاء والمياه الصالحة للشرب والمأوى والتعليم.1 كما أدى تصاعد الصراع المسلح والاستخدام الكثيف للأسلحة الثقيلة من قبل القوات النظامية السورية ضد مواقع مدنية، إلى ارتفاع في أعداد اللاجئين إلى الدول المجاورة، ليصل إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخ المنطقة. فقد فاق عدد من ترك البلد خلال العام 2013 المليون وثمانمئة ألف سوري، توزّعوا بين لبنان والأردن وتركيا والعراق ومصر. ويشكّل هذا التدفّق الكبير إلى بلدان تعاني أساساً من ضائقة اقتصادية وتوتر اجتماعي كلبنان والأردن، مشكلةً حقيقية وخطيرة أدت إلى تغيير ديمغرافي فيها، مايُنذر بتحولات عميقة حكماً على الصعد السياسية والاجتماعية والصحية.
إن التراجع الحاد في تأمين الرعاية الصحية والأدوية للسوريين، أمر بالغ الأهمية سواء داخل سورية أو في البلدان المضيفة، وسيكون له آثار عميقة وبالغة الخطورة على مستقبل السوريين. كما أن غياب الاستراتيجيات الصحية والخطط الضرورية لمواجهة الأزمة الناجمة عن استطالة الصراع، سواء على الصعيد الإغاثي الآني أو على المديين المتوسط والبعيد الأمد، سيفاقم في المستقبل الوضع الصحي ويزيد من عبء المشكلات التي ستواجه الدولة المقبلة.
يعود سبب غياب النقاش العام في سورية والمنطقة حول الشأن الصحي، إلى مفهوم راسخ يرى في الصحة مجرد خدمات صحية وأدوية وتجهيزات، عوضاً عن شأن عام يتداخل فيه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، ويؤثر ويتأثر بمجمل الديناميكيات التي تطال المجتمعات في لحظات حراكها وتغييراتها الكبرى.
لقد أظهرت الأزمة الحالية أن الصحة كمفهوم، والجسم الصحي كأفراد ومؤسسات، كانا طرفاً وهدفاً في الصراع. فمنذ البداية، اعتُبر أن تقديم الخدمات الصحية والإسعافية للمحتجّين المصابين أثناء التظاهرات، يعادل في خطورته التظاهر في حد ذاته، إذ عوقب الأطباء والمؤسسات التي كانت تقوم بهذا العمل بقسوة.2 واسُتهدف العاملون الصحيون والأطباء بسبب تقديمهم المساعدة الطبية إلى المحتجّين في مرحلة التظاهرات، حيث اعتُقل الكثيرون منهم وتعرّض بعضهم إلى التعذيب حتى الموت. كما قامت بعض مجموعات المعارضة المسلّحة باختطاف أطباء، إما بهدف الحصول على فدية مالية أو بسبب مواقفهم المعارضة لسلوك هذه المجموعات، ما أدّى إلى خروج العديد من العاملين الصحيين خارج البلاد وبحثهم عن أماكن عمل أخرى.
وهكذا، تم الإقرار منذ البداية أن الصحة ليست حقاً للجميع وأنها، شأنها شأن أي حق عام يستحقه الإنسان بالمواطنة، هي للبعض فقط على حساب بعض آخر. كما أنها معرّضة إلى التقييد والمنع والسلب إلى درجة الإلغاء.
إن طرح قضية الصحة العامة والسياسات الصحية وخياراتها في المرحلة الانتقالية ومابعد الأزمة للنقاش العام، واعتبارها رأسمالاً اجتماعياً وجزءاً أساسياً من الحوارات التي يجب أن تدور حول مستقبل سورية، هو في حد ذاته تبنٍّ لهذا المفهوم الشامل للصحة، وربط هذه الأخيرة بمحدّداتها المتعدّدة والمتشابكة. كما أن حوارات الصحة في هذا المعنى، قد تكون مدخلاً آمناً وتوافقياً يمكن أن يتجاوز فيه وعبره السوريون حدة الخلافات التي لطالما وسمت المناحي الأخرى في نظرتهم إلى مستقبلهم.
في مفهوم السياسة الصحية
على الرغم من أن إعلان منظمة الصحة العالمية في نهاية سبعينيات القرن الفائت أن الصحة هي "المعافاة الكاملة البدنية والنفسية والاجتماعية، وليست فقط غياب المرض والعاهة"، وتبنيه من قبل صانعي القرار في القطاع الصحي في سورية، إلا أن هذا المفهوم، وإن تداولته المؤسسات الصحية الرسمية، بقي بعيداً عن متناول الناس. فقد بقي هذا التعريف محصوراً في أيدي مجموعة من التقنيين العاملين في حقل الصحة العامة، وهم قلة، وبعض صانعي القرار في القطاع الصحي، بسبب الضغوط المادية والمعنوية التي تمارسها المنظمات الدولية لتبني المفهوم الأوسع للصحة والعمل به. والنتيجة المتوقعة لهذه الحصرية غياب تغيير محسوس في أنماط التفكير حول الصحة، سواء في صفوف العامة أو الساسة أو المثقّفين. إن استمرار سيادة المفهوم المرضي للصحة وقوته ظاهران على مستويين أساسيين: الأول هو كيفية تنظيم النظم الصحية في سورية قبل الأزمة (كما في كثير من البلدان العربية على أي حال)، لتقدم خدمات علاج الأمراض بدلاً من تعزيز الصحة كمفهوم. والثاني هو غياب أي مساءلة من قبل المواطن، عن تبعات هذا الوضع.
وفقاً لمنظمة الصحة العالمية (2007)، تُعَدّ الأنظمة الصحية فعّالة إذا وفّرت خدمات صحية جيدة، وقوى عاملة صحية مدرّبة جيداً، ونظام معلومات صحياً فعّالاً، وعدالة في الحصول على الخدمات الصحية واللقاحات والتكنولوجيا الطبية، وتمويل كاف للصحة، إضافة إلى حوكمة رشيدة وقيادة متماسكة.
على أي حال، يجادل الباحثون في حقل الصحة العامة بأن هذا النمط من المقاربة، كما أوردته المنظمة الدولية، يركّز على الرعاية الصحية. إذ يرتبط النظام الصحي بطريقة تقديم الخدمات الصحية، ويتعامل مع مكونات نظام الرعاية الصحية، ويحدد فعاليته بفعالية الخدمات التي يقدمها. لكن مقاربة أخرى ترى أن الصحة تتعدى فكرة الخدمات الصحية إلى كل ما له تأثير على الصحة، من عوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية، حيث ترى وجوب تواجد "الصحة في كل السياسات"، أو بتعبير آخر "السياسات العامة الصحية"، وهي السياسات التي تهدف إلى تحسين الحالة الصحية لكل مواطن.
وتهدف "السياسات العامة الصحية" إلى خلق مناخات داعمة لتمكين المواطنين من تقرير حياتهم الصحية بأنفسهم، كما تحمّل الحكومة مسؤولية النظر إلى الصحة، بوصفها حقاً يتجاوز الأفراد والجماعات إلى المجتمع بالكامل، وبالتالي، تأدية دورٍ يتمثل في توفير كل مامن شأنه أن يدعم فكرة الصحة في السياسات العامة.
وثَّقت البحوث خلال العقود الثلاثة الأخيرة أهمية العوامل الاجتماعية في تحديد الحالة الصحية والسلوك الصحي، وفي تقديم الرعاية الصحية، وبرهنت أن الوراثيات والعوامل البيولوجية الطبية وحدها غير كافية لتفسير الاختلافات في توزُّع المرض وفرص البقاء داخل البلدان وفي مابينها. وقد نشأ المنهج الفرعي للوبائيات الاجتماعية من برنامج بحثي، توسع إلى أبعد من الحدود التقليدية للوبائيات، ليتضمن مجموعة أوسع من محدّدات الصحة، مثل البيئة الاجتماعية.3 وقد عزز الاندماج مع مناهج العلوم الاجتماعية، مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، أسلوباً أكثر تكاملاً لتطوير سياسة وبرنامج صحيَّيْن. واعتُبرت العوامل الاجتماعية-الاقتصادية، متضمنةً الفقر ورأس المال الاجتماعي والموارد الاجتماعية، محدّدات مهمة حالياً في جدول أعمال الصحة العالمية.4
رأس المال الاجتماعي
حظي مفهوم رأس المال الاجتماعي باهتمام بالغ خلال العقدين الماضيين، سواء على المستوى النظري أم على المستوى التطبيقي. وقد زاد الاهتمام بهذا المفهوم وبطريقة قياسه في السنوات الأخيرة، وخاصة مع تبني الكثير من الحكومات والمؤسسات الدولية لهذا المفهوم، واختبار علاقته ببعض متغيرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المهمة، كالدخل، والصحة، والتعليم، والفقر، والبطالة، ومستويات الجريمة وغيرها.
وبحسب بورديو، فإن رأس المال الاجتماعي للفرد يتشكّل من مجموع ما لديه من علاقات اجتماعية قد يلجأ إليها لتحقيق هدف محدد.5 وتشكّل هذه رصيدًا يوفّر منافع ملموسة للأفراد الأكثر ارتباطاً بهذه الشبكات.
يمكن القول إن المؤسسات الدولية تميل في فهمها لرأس المال الاجتماعي إلى الجمع بين عدد من العناصر المتباينة التركيب والمضمون والدلالات، في محاولة لإبقاء خياراتها مفتوحة، تسهيلاً لإيجاد مؤشرات قياسية للمفهوم. ولعل التعريف الذي تبنته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) لرأس المال الاجتماعي هو الأقرب إلى مسعى جمع المكونات التي كاتت تتردّد في الأدبيات حول الموضوع في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فهي ترى أن رأس المال الاجتماعي يتكوّن من "الشبكات الاجتماعية والقيم والتفاهمات والمعايير المشتركة التي تسهّل التعاون داخل المجموعات وفي مابينها".6
الإشكالية هنا أن التعريف، وإن ركّز على الشبكات الاجتماعية (وما تحمله من دلالات على وضع الفرد الاجتماعي والطبقي والنوع الاجتماعي)، إلا أنه يختلط هنا مع أبعاد أخرى مختلفة الدلالات، كالقيم والمعايير والعمل المشترك، الأمر الذي يظهر، كما سيتّضح عند محاولة قياس رأس المال الاجتماعي في سورية، مدى صعوبة القياس والجمع بين قيم مختلفة وقراءة دلالاتها.
قضايا تطرحها مراجعة الأدبيات حول مفهوم "رأس المال الاجتماعي"
يُلمَس في الأدبيات المستجدّة حول مفهوم رأس المال الاجتماعي ميلٌ واضح إلى التعامل مع المجتمعات المعاصرة باعتبارها كيانات مستقلة بذاتها تماماً،لاتخضع أو تتفاعل مع الأوضاع الإقليمية والدولية، الاقتصادية منها والسياسية والتكنولوجية، ولا مع تحولاتها وتناقضاتها وماتنطوي عليه من علاقات سلطة وسيطرة، ومن تباين في الموارد والإمكانيات والقدرات (العسكرية والاقتصادية والبشرية). كما يُلحظ ميل إلى تجاهل واقع اللامساواة وعلاقات السلطة داخل المجتمع الواحد، بما في ذلك داخل الأسرة الواحدة (بما فيها علاقات النوع الاجتماعي) والمجتمع المحلي ومؤسسات المجتمع المدني، كما في العلاقة مع سوق العمل وداخل مؤسسات الدولة أو السلطة المركزية.
من شأن تجاهل السياق المجتمعي والإقليمي والدولي الذي يتم فيه دراسة رأس المال الاجتماعي، أن يقود إلى تغييب علاقات السلطة، والعوامل التي تُنتج اللامساواة وتعيد إنتاجها على المستويات المختلفة (الدولية والإقليمية والمجتمعية والمحلية)، وبالتالي تغييب العوامل الأبرز المولِّدة للفقر واللامساواة والتسلط، والمسؤولة عن هدر الموارد وتلويث البيئة، بل منع الاستثمار الأفضل لرؤوس الأموال بأنواعها المختلفة. كما تطرح مراجعة أدبيات رأس المال الاجتماعي عدداً من القضايا التي لامفر من البت فيها. وتتمحور القضية الأولى حول المرجعية الاجتماعية لرأس المال الاجتماعي: هل هي الفرد (كما في تعريف بورديو وآخرين)، أم المجتمع ككل، أم الأسرة، أم المجتمع المحلّي (كما في تعريف بوتنام والبنك الدولي وغيرهما)؟
السياسات الصحية في مرحلة ماقبل الأزمة
يُعتبر نظام الرعاية الصحية في سورية، في الفترة التي تلت تولّي الأسد الأب السلطة، نظاماً مختلطاً من القطاع العام والخاص، حيث تموّل الحكومة القطاع العام عبر مؤسسات متعدّدة على رأسها وزارة الصحة، مايتيح تقديم الخدمات المجانية في عموم مؤسسات وزارة الصحة. أما القطاع الخاص، فلايزال بمعظمه حتى الآن قطاعاً غير منظّم بشكل كبير، على الرغم من أن تحديد أسعار الخدمات وتنظيم المهنة يخضعان إلى مراقبة وزارة الصحة ونقابة الأطباء (التي بدورها تخضع إلى مكتب المهن الحرة في القيادة القطرية لحزب البعث). ويُعتبر تعدّد الجهات المسؤولة عن تقديم الخدمات الصحية، من دون وجود تنسيق فعال في مابينها (ويكاد يكون معدوماً في بعض الأحيان)، إحدى المشكلات البنيوية في النظام الصحي. فهناك إلى جانب المراكز التابعة لوزارة الصحة خدمات مشافي التعليم العالي، والخدمات العسكرية، والصحة المدرسية، وصحة البلديات، والخدمات التي يقدمها اتحاد العمال والمعلّمين والشرطة. ولايشكّل هذا الكمّ الكبير من المرجعيات الصحية غنى أو تسهيلاً للأفراد، بل أدى تراجع التنسيق وغياب سياسة صحية واحدة إلى عكس المطلوب.
وتُعتبر وزارة الصحة المقدّم الأساسي للخدمة الصحية. وقد بلغ الإنفاق العام على الصحة في العام 2011 3.1 في المئة من الناتج القومي، متراجعاً عما كان عليه في العام 2000 والذي بلغ 3.4 في المئة. وهو متدنٍّ جدّاً وفقاً لمعيار منظمة الصحة العالمية، حيث تحتلّ سورية المرتبة 175 من أصل 194 دولة. كما يبلغ معدل الإنفاق الكلّي على صحة الفرد 190 دولاراً دولياً، مايضع سورية في المرتبة 144 من أصل 199 دولة. ولايساهم الإنفاق الحكومي على الصحة بأكثر من 48 في المئة من الإنفاق العام.7
وعلى الرغم من التحسن الملحوظ على مستوى القطر عامة في مؤشرات صحة الأطفال على سبيل المثال، إلا أن التفاوت بقي واضحاً وحادّاً على مستوى الأقاليم والمحافظات. فقد كان أعلى معدل للوفيات في العام 1993 في محافظة الرقة (43 وفاة لكل ألف ولادة حية)، وأدناه في محافظة طرطوس (38.5). واستمر التباين على حاله بين المحافظتين في العام 2008 (19.49 في الرقة و17.43 في محافظة طرطوس). كما أظهرت دراسة أسباب وفيات الأطفال للعام 2008 أن 25,4 في المئة من الوفيات حدثت في المناطق الحضرية، بينما بلغت الوفيات في الريف 74.6 في المئة. وهذا الأمر متوقّع، حيث تشكّل المناطق الريفية مناطق الخطر العالي لوفيات الأطفال.8
لم تؤدِّ زيادة أعداد العاملين المتسارعة وغير المتوازنة في القطاع الصحي إلى تحسّن ملموس في مستوى وانتشار الخدمات الطبية المقدَّمة للمواطن، بسبب عدم اقترانها بتفعيل حقيقي للإمكانات المتاحة، من مستشفيات ومراكز صحية وغيرها، وتوسّع وتطوير مدروس لوسائط تقديم الخدمات الصحية بما يتناسب مع أولويات الاحتياجات الصحية الحقيقية واقتصادياتها. إذ يلاحَظ عدم تجانس توزّع الكوادر الطبية بالنسبة إلى عدد السكان بين المحافظات المختلفة، ومعاناة في المحافظات النائية من قلة هذه الكوادر (طبيب لكل 1906 نسمة في الحسكة مقارنة بطبيب لكل 339 نسمة في مدينة دمشق). إضافة إلى عدم تجانس توزّع الكوادر التمريضية (ممرضة لكل 220 نسمة في اللاذقية، مقارنة بممرضة لكل 2000 نسمة في محافظة ريف دمشق). إن هذه الفروق الكبيرة ناجمة أساساً عن سوء توزيع الخدمات الطبية كمّاً ونوعاً (مستشفيات، مستوصفات، عيادات خاصة وغيرها)، مايتسبّب بنقص/غياب العناية الصحية في منطقة الإقامة، والحاجة إلى الانتقال إلى أماكن أخرى بعيدة للحصول على الحد المقبول من الخدمات الصحية لمن يتحمل أعباء ذلك المادية. كما أن غياب العناية الصحية في مكان ما يتسبّب بدوره بزيادة الهجرة من المناطق التي تعاني من نقص ملموس فيها.
إن عدم العدالة في توزيع الموارد الصحية أمر له تبعات صحية واقتصادية واجتماعية. إذ أثبتت الأبحاث وجود مرونة اقتصادية في الطلب على الخدمات الصحية، بمعنى أن الفقراء يتكيّفون مع ضائقتهم الاقتصادية والاجتماعية بتقليل استهلاك السلع والخدمات المرنة التي تحتلّ مرتبة متأخرة في سلم أولوياتهم، ويركزون إنفاقهم على السلع والخدمات غير المرنة كالغذاء. وقد يتسبّب ذلك بتدهور المؤشرات الصحية الخاصة بهذه الشرائح من المواطنين.
النظام الصحي في سورية
قامت البنية الأساسية للنظام الصحي السوري (كانعكاس للبنية السياسية-الاقتصادية) تاريخياً على ركيزتين كبيرتين هما القطاع العام والقطاع الخاص. وعلى الرغم من أن وزارة الصحة تُعتبر المرجع الأساسي للخدمة الصحية، وهي الإطار الرئيس الذي يحدد هيكل النظام الصحي، إلا أنه – وعلى الدوام - كان هناك إلى جانب المراكز التابعة لوزارة الصحة، جهات عامة أخرى تُعنى بالشأن الصحي، كخدمات مشافي التعليم العالي، والخدمات العسكرية، والصحة المدرسية، وصحة البلدية، والخدمات التي يقدمها الاتحاد العام لنقابات العمال ونقابة المعلمين والشرطة، إلخ. وكان ممكناً أن يشكّل هذا الكمّ المرجعي الكبير إطاراً مرناً لامركزياً لتقديم الخدمات الصحيّة، لكنه وبسبب تراجع التنسيق بين مؤسساته، وغياب سياسة صحية واحدة، أدى إلى عكس المطلوب، وهو التبعثر والتشتت ونقص الخدمات، وتدني جودتها في بعض الأحيان.
أما القطاع الخاص، فكما أسلفنا، لايزال بمعظمه قطاعاً غير منظم، على الرغم أن مساهمته في بنية النظام الصحي كبيرة، حيث يبلغ الإنفاق العام على الصحة 46.3 في المئة من الإنفاق الكلّي، في حين تشكّل نسبة 53.7 في المئة حصة إنفاق القطاع الخاص.9 لكنه، وفي الوقت الذي يقدّم فيه القطاع الصحي العام، بمختلف جهاته وأطرافه، شبكةً صحيّةً ضامنةً لصحة الفقراء والمحتاجين، في إطار وظائف الإنفاق العام للدولة من الموازنة، ويتميّز بشبكة كبيرة وممتدّة من مؤسسات البنية التحتية، فإن القطاع الخاص يعاني من مشكلات أساسية منها أنه مؤلَّف بمعظمه من بنيةٍ مبعثرةٍ غير مؤسّساتيةٍ، تشكّل فيها العيادات الشخصية الوحدة الرئيسة (كل طبيب تقريباً لديه عيادته الخاصة، حتى لو كان يعمل ضمن مشفى أو في مؤسسة للقطاع العام، الأمر الذي يؤثّر في سرعة و جودة الخدمات التي يقدمها في المؤسسات الطبية العامة). ويترتّب على هذا الوضع هدر في الاستثمارات، التي هي في حقيقتها استثمارات مفترضة في مجال التنمية البشرية. ويشكّل العبء المالي الذي يتحمّله المريض هنا نسبةً مهمةً من دخله إن كان من ذوي الدخل المحدود، أو مشكلةً إن كان ينتمي إلى الفئات الاجتماعية الضعيفة والمهمّشة.
ويُعتبر توزيع المساهمات المالية مؤشراً أساسياً من مؤشرات أداء النظم الصحية التي اعتمدتها منظمة الصحة العالمية للمرة الأولى في تقريرها للعام 2000، والذي يسمى أيضاً مؤشر الإنصاف، ويعني توزيع المخاطر التي تواجهها الأسرة بسبب تكلفة النظام الصحي، وفقاً للقدرة على الدفع وليس وفقاً للتعرّض إلى خطر الإصابة بالمرض. ولايُعتبَر النظام الصحي عادلاً إذا ماتعرّض الفرد (أو الأسرة) إلى تحمّل نفقات كبيرة غير متوقعة يجب أن تُدفع مباشرة عند الاستفادة من الخدمات، أو حين يدفع الناس الأقل قدرة على الإسهام مبالغ تفوق مايدفعه ميسورو الحال (وذلك بسبب تحميل الجميع نفقات الإنفاق الحكومي على الصحة، واعتباطية الاستفادة من خدماته). وتحتلّ سورية وفقاً لهذا المؤشر في التقرير المذكور، المرتبة 142 عالمياً والـ16 عربياً بعد كل الدول العربية باستثناء السودان وموريتانيا.
المجتمع المدني والصحة
ارتبطت مشاركة المجتمع المدني عبر تشكيلاته المختلفة بالصحة منذ فترة مبكرة في تاريخ سورية الحديثة. فقد عرفت البلاد جمعية نقطة الحليب التي تأسست في العام 1922 (صُنِّفت ذات نفع في العام 1946 وأُشهرَت في العام 1959). كانت الغاية عند إنشائها تقديم الحليب المعقّم للأطفال الفقراء من عمر الولادة وحتى عمر 4 سنوات. لكن الجمعية - التي استمرت حتى الآن - طوّرت أهدافها وأصبحت تُعنى بتأمين المساعدات التي يحتاج إليها الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة.
ومع أنه قد مضى أكثر من تسعين عاماً على تأسيس هذه الجمعية، إلا أن سورية لم تعرف مشاركة كافية للمجتمع المدني تتناسب وهذه السنين الطويلة.
واعتباراً من العام 2000، ومع مجيئ بشار الأسد إلى السلطة وظهور لجان إحياء المجتمع المدني، التي طالبت بدورٍ متزايد من الفاعلية المدنية، إن على الصعيد السياسي أو على الصعيد الاجتماعي، إضافة إلى المناخ العالمي الذي بدأ يضغط لدور أكبر للمجتمع المدني داخل سورية، تلقّفت النخب الحاكمة هذا الأمر وبدأت بخلق الشبكات الاجتماعية التي ينشط فيها أشخاص من أصحاب النفوذ السياسي والمالي وخاصة المقربين بشكل كبير من الحلقة الضيقة للحكم. وبالتالي، ظهر مايمكن تسميته تشكيلات اجتماعية موازية لجهاز الدولة، عملت من ناحية على تخفيف نفوذ نخب نظام ماقبل العام 2000، إضافة إلى امتصاص المطالبة بدور فاعل للمجتمع المدني الذي يمكن أن تقوده (أو قادته فعلاً) بعض النخب الثقافية/السياسية، التي رأت في الأمر فرصة لمشاركة سياسية أكبر واختراقاً لجدار أصم بدا عصياً على ذلك منذ أواخر السبعينيات. ومن هنا نشأت مشاريع ذات ادعاء تنموي قادتها ورعتها عقيلة رئيس الجمهورية أسماء الأسد منذ العام 2001، كمشروع "فردوس" للتنمية الريفية، ومشروع "شباب" لتزويد الداخلين إلى سوق العمل بطرائق رجال الأعمال، ومشروع "روافد" للثقافة، و" مسار" للتعليم غير التقليدي. وفي العام 2007، تشكّلت الأمانة السورية للتنمية، التي تضم كل هذا المشاريع، إضافة إلى مشاريع جديدة؛ وبدت وكأنها منصة لاحتواء المجتمع المدني في سورية برعاية مباشرة من السلطة، مايعني مزيداً من الضبط والسيطرة.
وكان الاهتمام الذي أولته أسماء الأسد هو محور العمل المدني (الأهلي) في العقد الأول من القرن الحالي، بحيث شكّل رغبة كبيرة – ضمنية أحياناً ومعلنة أحياناً أخرى- لكل العاملين في الجمعيات الأهلية في أن تكون هي المشرف الأول أو الرئيس الفخري أو الداعم المباشر أو الراعي الأساسي لهذا العمل أو لهذه الجمعية. وهو ماعبّرت عنه الرؤية الأساسية للأمانة السورية للتنمية،10 التي عللت ترؤس أسماء الأسد مجلس إدارة الأمانة بأنه كان "لضمان تحقيق أهداف التنمية الاجتماعية بما يتماشى مع الرؤية الوطنية للتغيير والتنمية الاجتماعيين".11
لقد تشتت دور تنظيمات المجتمع المدني العاملة في مجال الصحة في سورية قبل الثورة بين العمل الخيري الذي لايمكن أن يسدّ عجز الدولة عن تقديم الرعاية الكافية لكل مواطنيها، وبين العمل الإيديولوجي الذي يهدف إلى ادعاء مشاركة ما لمجتمع مدني. ويوظَّف هذا الادعاء إما لخدمة مصالح أفراد وجماعات، أو يُستخدَم لذرّ رماد في عيون مَن يطالبون بتواجدٍ أكبر لمجتمع في صياغة قرار صحتهم.
الصحة والسياسة الصحية في فترة الأزمة
مع استمرار الوضع العسكري والأمني الحالي، قد يؤدّي تعرّض النظام الصحي السوري إلى تغيرات بنيوية حادة، في نهاية المآل، إلى انهياره تماماً. ولم يَعُد النظام الحالي يلبّي الخدمات المُناطة به إلا في حدودها الدنيا، وهذا ما أدّى الى استبداله بنموذج غير واضح يعتمد في بعض المناطق الخاضعة إلى سيطرة النظام، على خدمات القطاع الخاص المتبقّي (والذي يلبّي عادة الخدمات العلاجية وليس الوقائية)؛ كما يعتمد على المساعدات الإقليمية والدولية والجمعيات المتباينة الاهتمامات والخبرات، ومايعنيه ذلك من تضارب في الأجندات وعدم ثبات واستمرار الخدمة في المستقبل. وتشكّل شبكات المشافي الميدانية والمراكز الصحية التابعة لمنظمات دولية، النموذج المقابل في المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة.
نتيجة الأعمال العسكرية والعنف المتصاعد واستهداف المدن والبلدات، لجأ أكثر من 3.8 ملايين سوري إلى دول الجوار.12 كما نزح داخل الأراضي السورية أكثر من 7.6 ملايين شخص بحثاً عن ملاذ آمن. وقد بلغ عدد ضحايا الاقتتال وقصف المناطق السكنية أكثر من 200000. وتقدّر المنظمات الدولية عدد الجرحى بحوالى المليون، فيما لاتوجد تقديرات دقيقة لأعداد الجرحى الذين أُصيبوا بعجز دائم وبتر أطراف، وإن كان من المتوقّع أن يكون الرقم كبيراً. هذا وقد أُصيبَت البنية التحتية الصحية بأضرار بالغة. فحوالى 60% من المشافي أصبحت خارج الخدمة أو تعرّضت إلى أضرار جسيمة. هذا الأمر أدّى إلى زيادة الأعباء بشكل كبير على المشافي الباقية؛ فعلى سبيل المثال تستقبل إحدى المستشفيات العامة مريضاً إسعافياً كل 32 ثانية، كما تحوّلت العديد من المشافي إلى أماكن لإيواء النازحين. لقد أدّى نقص الوقود الشديد وانقطاعات الكهرباء المستمرة إلى توقف العديد من المراكز الصحية عن الخدمة. كذلك تضرّرت منظومة الإسعاف بشكل كبير إما بسبب نقص الوقود أو بسبب استهدافها من قبل القوات العسكرية، أو بسبب اختطاف السائقين أو الآليات، حيث بلغت نسبة سيارات الإسعاف المتضررة أكثر من 92%، وخرج 52% منها من الخدمة.13 وتعكس نسبة المشافي العامة التي تضررت قياساً إلى عدد المشافي الكلّي بحسب المحافظات، طبيعة الصراع الدائر؛ فهي صفر في المئة في السويداء والقنيطرة وطرطوس، في حين ترتفع إلى 88 في المئة في ريف دمشق. كما تناقص عدد أطباء الغوطة الشرقية في دمشق من 1000 طبيب قبل الحرب، إلى أقل من 30 طبيب في كانون الأول/ديسمبر2013. 14
ومع فقدان النظام سيطرته شيئاً فشيئاً على بعض مناطق البلاد، أصبحت المشافي الخاصة والميدانية أهدافاً عسكرية من قبل النظام، وكثيراً ماجرى استهدافها بالقصف، أو قتل وجرح مَن فيها من مرضى وطاقم طبي عبر اقتحامها. والمشافي الميدانية التي حلّت في البداية بديلاً للمشافي النظامية في المناطق خارج سيطرة النظام، لم تكن أكثر من شقة سكنية أو (كاراج) أو قبو في بناء مهجور، أو في أحسن الأحوال خيمة منصوبة في مكان شبه آمن. وكثيراً ماكانت أدوات العمل الجراحي غير متوفرة ويُستعاض عنها بوسائل غير اعتيادية، كما حدث مرة عند استخدام (صاروخ الجلخ – المستخدم في تقطيع الحجر) لفتح نافذة في جمجمة مصاب بنزف دماغي نتيجة قذيفة، وذلك لتخفيف الضغط على الجمجمة. 15
وعلى الرغم من الدور الكبير الذي قامت به هذه المشافي في تقديم الإسعافات الأساسية، بل وفي أحايين كثيرة عمليات معقّدة، إلا أنه لم يكن بالإمكان التعويل عليها كثيراً لجهة الاستمرارية أو لجهة تقديم الخدمات التي تحتاج إلى عناية طبية عالية.
أدّى استهداف العاملين الصحيين والأطباء، سواء بسبب تقديمهم المساعدة الطبية للمحتجّين في مرحلة التظاهرات أو بسبب الاختطاف المتعمّد بهدف الحصول على الفدية المالية أو الضغط المعنوي، أو بسبب التقييد عن العمل نتيجة عدم إمكانية الوصول إلى المراكز الصحية والعيادات، إلى خروج العديد من العاملين الصحيين من البلاد والبحث عن أماكن عمل أخرى.
ووفقاً لمنظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان"، فإن 398 عاملاً في المجال الطبي قُتِلوا، منهم 149 طبيباً، و82 ممرضاً، و80 فنياً، و40 صيدلانياً.16 كما يشير مركز انتهاكات حقوق الانسان أن هناك قرابة الـ3000 معتقل من العاملين في المجال الطبي تم اعتقالهم، منهم 600 طبيب و11 مسعفاً عاملاً في الهلال الأحمر. ويشير التقرير إلى أن 13 شخصاً منهم قضوا تحت التعذيب، بينما لايمكن معرفة مصير الكثيرين ولاظروف اعتقالهم.
ووفقاً لتقرير منظمة "أطباء بلا حدود"، فإن الأطباء "أصبحوا يُصنَّفون باعتبارهم "أعداء للدولة" بسبب علاجهم المصابين في الصراع، وإن الجانبين يستخدمان المستشفيات كجزء من استراتيجية الحرب. وفيما تستهدف الغارات الجوية للقوات الحكومية منشآت طبية، بدأ مسلحو المعارضة تصنيف منشآتهم على أنها "مستشفيات الجيش السوري الحر"، وهو مايزيد من مخاطر التعرّض إلى هجمات. وقد أدّى هذا الاستهداف إلى نقص حاد في القوى العاملة الصحية، وخاصة من ذوي الاختصاص. وشمل النقص أيضاً الكوادر التمريضية والفنية التي كانت في معظمها من أصول ريفية، والتي لم تَعُد تستطيع الوصول إلى أماكن تقديم الخدمة، أو أنها نزحت باتجاه أصولها المناطقية بحثاً عن ملاذ آمن وخوفاً من التهديد.
من ناحية أخرى، فإن الهجرة الشديدة التي أصابت الكوادر الطبية والصحية المُدرَّبة والمُؤهَّلة، ستجعل البلد تحت ضغط غياب قيادات صحية قادرة على تنفيذ أي برنامج مستقبلي، وتجعله خاضعاً إلى تصورات المنظمات غير الحكومية وبرامج المنظمات الدولية التي لاتراعي دائماً المصالح الوطنية.
تعرّضت كثير من المؤشرات الصحية التي كانت مجال تباهي النظام الصحي، إلى تغيرات حادة، وقد تكون في بعض الحالات غير قابلة للإصلاح في المستقبل المنظور. فعلى سبيل المثال، تراجعت التغطية باللقاحات في برنامج التلقيح الوطني إلى 46% في الجرعة الثالثة، بعد أن بلغت في أواخر العام 2009 حوالى 95%، ماينذر باحتمال عودة الكثير من أمراض الطفولة، وهو ماتجلّى بعودة شلل الأطفال، حيث سُجِّلَت أكثر من 25 حالة توزّعت جميعها في المناطق خارج سيطرة الحكومة، أو جائحات الحصبة والتهاب الكبد.
كما أُصيبَت البنية التحتية للصرف الصحي وشبكة المياه العامة بأضرار كبيرة، وخاصة في المناطق الريفية من إدلب وحلب والرقة ودير الزور وريف دمشق. وتراجعت حصة الفرد من المياه من 75 ليتراً إلى أقل من 25 ليتراً في اليوم. لقد أدّت العقوبات الاقتصادية، وانخفاض سعر الليرة السورية، وعدم توفّر القطع الأجنبي، ونقص الوقود، إلى توقّف معظم الصناعات الدوائية التي كانت تؤمّن أكثر من 90% من احتياج السوق المحلية. كما أن مخزون الحكومة من الأدوية المستوردة، والذي كان يحتوي على احتياجات البلاد في الربع الأول من العام 2013، قد تعرّض إلى التدمير.
من ناحية أخرى، فإن معالجة الأمراض المزمنة كالسكري من النمط الثاني، والأمراض القلبية، والسرطان، والأمراض التنفسية الانسدادية، لم تَعُد متوفّرة في الأماكن التي هي خارج سيطرة النظام، كما أنها تعاني من نقص شديد في أماكن سيطرة النظام. وتشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 200 ألف سوري فقدوا حياتهم نتيجة للأمراض المزمنة، كالأمراض القلبية والسكري والربو، خلال السنوات الثلاث الماضية.17
وعلى الرغم من تدفّق المساعدات الإنسانية، لاتزال أقل بكثير من الاحتياجات المتنامية، ولاسيما في ظل غيابٍ حادٍّ للتنسيق بين الجهات الدولية والمحلية. كما أن غياب نظامٍ للمعلومات يمكّن من تحديد الأولويات وتوزّع الخدمات الصحية الحالية ونوعية مقدّمي الخدمة وعددهم، يؤثر بشكل كبير على وصول هذه المساعدات بشكل فعّال إلى المحتاجين إليها.
يتألف نموذج النظام الصحي بحسب والت وغيلسون من مثلث يحتلّ رؤوسه الثلاث السياق Context (الذي يجري ضمنه النظام الصحي)، والمحتوى Content (الذي يتضمّنه النظام الصحي)، والعملية Process (التي يتم وفقها). أما داخل هذا المثلث فيكمن الفاعلون الأساسيون Actors لصنع هذا النظام وتطبيقه، وهم عادة الأفراد والمجموعات والمؤسسات.
عند مقارنة هذا النموذج بما يحدث داخل النظام الصحي حالياً في سورية، نجد أن السياق الذي يجري ضمنه النظام الصحي هو سياق حرب وتفتّت للبنى السياسية وانهيار اقتصادي، مايعني أن المحتوى والعملية برمّتهما تعرّضا إلى تشويه شديد، وتم استبدال الفاعلين الأساسين، الذين غالباً مايتألفون في السياق الطبيعي من إدارات وطنية مع تعاون دولي، تم استبدالهم بمنظمات عالمية ومحلية متعددة ومشتّتة ومُرتَهَنة إلى التمويل الدولي، حيث يلعب مصدر التمويل أو الجهة المُموِّلة، وطبيعة الأجندة السياسية لهذه الجهة أو المصدر، دوراً أساسياً في طريقة توجيه التمويل وإنفاقه.
خلاصة القول إن النظام الصحي في سورية في مرحلة الأزمة الحالية لم يَعُد نظاماً.
يتوفّر القليل من الدراسات حول دور وأهمية الشبكات الاجتماعية والمجتمع المدني في تسريع عملية الاستقرار والتعافي في مرحلة مابعد النزاع. ويمكن أن يكون الترابط الاجتماعي بمثابة آلية ضامنة تسمح للضحايا بالإفادة من الشبكات الداعمة المُعَدّة سلفاً، واستعمالها كدليل وموجِّه لوجستي. علاوة على ذلك، فإن هناك من أدلة كافية على أن المجتمعات الأكثر اندماجاً والأكثر فاعلية سياسياً، قادرةٌ على أن تقدّم بشكل افضل قائمة احتياجاتها، وأن تنتزع مواردها من السلطات القائمة.
لقد أظهرت بعض الدراسات أهمية "تجانس" هذه التشكيلات الناشئة، من حيث العمر أو العرق أو الجندر، في تقوية فاعليتها. وهو مابدا مثلاً في الحالة السورية في ظهور تنسيقيات الأطباء الموزّعة بحسب المحافظات (تنسيقية أطباء دمشق، وتنسيقية أطباء حلب، ومركز الإسعاف الداخلي والخارجي في كفر نبل، إلخ).
كما أبرزت الأدبيات القليلة المتوفرة ضرورة وجود قنوات تواصُل مع خارج المجموعة المعنيّة، تسمح بتلقّي المعلومات ونشرها. وهو ماتجلّى في ظهور العشرات من التشكيلات خارج سورية، التي تلعب دوراً كبيراً من خلال الدعم التي تقدّمه في الحالات المستعصية والصعبة أو في مرحلة الاستقرار النسبي. فعلى سبيل المثال، شُكِّل "اتحاد المنظمات الطبية الإغاثية السورية" بعد أشهر قليلة على بدء الثورة في العام 2011. وهو مؤلّف من 14 منظمة وجمعية، ويُعرِّف نفسه بأنه "منظمة طبية إنسانية مستقلة غير حكومية، تأسّست بعد اندلاع الثورة السورية، وتعمل على توفير الرعاية الطبية والمساعدات الإنسانية لكل المصابين والمحتاجين في سورية".18 وإضافة إلى نشاط هذا الاتحاد في العمل الاغاثي وتقديم الخدمات الطبية داخل سورية، كان الدور الأبرز في إنشاء مركزَين لتأهيل الكوادر الطبية وتدريبها بهدف التخفيف من هجرة الأطباء خارج البلد، ورفع مستوى الخدمة المُقدَّمة ونوعيتها.
لقد لعبت هذه الشبكة الطبية دوراً بارزاً في بعض الحالات الصعبة، بالتزامن مع غياب أي دور للمؤسسة الصحية الرسمية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. فحتى منتصف آذار/مارس 2014، سقط حوالى 5000-6000 من البراميل المتفجرة في أنحاء مختلفةٍ من البلاد، أدّت إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين؛19 عدد كبير من القتلى كانوا من النساء والأطفال. وللأسف، لاتوجد تحديثات لهذه الأرقام التي ازدادت مرة أخرى في الفترة الواقعة بين أيلول/سبتمبر 2014 ونهاية العام. كان لوجود هذه الشبكة أهمية كبيرة من خلال توفير الخدمة العلاجية السريعة، حيث أُجريَ الكثير من العمليات الجراحية من قبل الأطباء المؤهلين محلياً، وبالتواصل عبر الإنترنت لتلقّي التوجيه من الأطباء المنتشرين في أنحاء مختلفة من العالم. وقد سبق ذلك أيضاً ماحدث أثناء الهجوم بالسلاح الكيمياوي على منطقة الغوطة الشرقية، والدور الفاعل الذي قام به الأطاء المحليين في الغوطة بالتعوان مع هذه الشبكات للتخفيف من النتائج الكارثية للغازات السامة.
خيارات السياسة الصحية في المرحلة الانتقالية وعلى المدى البعيد
توجد حالياً أربع مناطق داخل سورية متمايزة إلى حد ما (أو إلى حد كبير):
- مناطق يسيطر عليها النظام (مدينة دمشق والسويداء والشريط الساحلي)
- مناطق تسيطر عليها المعارضة
- مناطق المجموعات الإسلامية المتطرفة (تنظيم الدولة الإسلامية)
- منطقة كردية في أقصى الشمال الشرقي وبعض مناطق الشمال
في حين لاتزال البنية التحتية للقطاع الصحي في المنطقة (1) متماسكةً إلى حد كبير (عدد المشافي المتضررة، والقوى العاملة الصحية، والخدمات الصحية، وعلى رأسها حملات التلقيح للأطفال مثلاً)، فإن المناطق (2 و3) تعرّضت إلى درجات متفاوتة من الضرر، بلغت أقصاها في مناطق مهملة في الأصل، كدير الزور والرقة وريف حلب. أما في المنطقة الكردية، ومع وجود شكل من الحكم الذاتي وقربها من منطقة كردستان العراق، فيمكنها الاعتماد إلى حد ما على شكل من أشكال التواصل مع المجتمع الكردي في كردستان العراق لتأمين بعض الخدمات. هذا ولاتزال الحكومة السورية تموّل بعض الخدمات الصحية وتقدّمها (رواتب الموظفين، ومواد طبية، وبعض التجهيزات بوجود حركة الطيران من مطارَي دمشق واللاذقية إلى مطار القامشلي).
يشكّل هذا الوضع تحدياً كبيراً للتفكير في السياسيات الصحية الممكن تبنّيها، ولاسيما أن الكثير من التصورات والدراسات الحالية تتجنّب الخوض في مسألة التقسيم هذه، إما لعدم وضوحها بعد أو لصعوبة بناء سياسات على أرضية لاتزال متحركة، أو (وهذا ثالثاً) لبُعد عاطفي يتشبّث بقوةٍ بفكرة رفضها.
على أي حال، تفترض هذه الدراسة سيناريو لايقوم على التقسيم، وعلى أن هناك فرصة ماقد تتحقّق لابقاء البلاد ضمن وحدة سياسية وديمغرافية تسمح ببناء سياسات على مستوى كامل الأراضي السورية. لكن هذا لايمنع أن تقوم دراسات لاحقة تأخذ في الاعتبار سيناريوهات مختلفة ومسارات أكثر تعقيداً لاتزال مرشّحة للحدوث.
وبحسب الكثير من التجارب السابقة، لايمكن أن تكون جهود إعادة بناء الدولة (أي دولة) ناجحة، إلا إذا تم إيلاء اهتمام كاف لصحة السكان. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون الجهود المبذولة لتحسين الصحة أداةً أساسيةً لالتقاط النوايا الحسنة للسكان. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فقد أظهرت بعض الكتابات السوسيولوجية أن الصحة يمكن أن تكون مدخلاً حقيقياً إلى التغيير في ظروف احتلال أو نزاع. فعلى سبيل المثال، أوجد الإهمال الإسرائيلي للصحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وتركيز المؤسسات الفلسطينية على توفير الخدمات الصحية في المدن، خللاً كبيراً في التوازن بين المناطق المدنية والريفية. دفع التفاوت هذا، مقروناً بالحاجة الملحة إلى البقاء ومقاومة الاحتلال، العاملين في مجال الصحة إلى إنشاء "حركة العمل الاجتماعي الفلسطيني". وقد حشدت المبادرة دعماً من قطاعات مختلفة من المجتمع، بتشجيع المشاركة المجتمعية من خلال العمل التطوعي، واللجان الصحية، وتطوّرت إلى حركة حقيقية على مستوى القاعدة. ساعدت هذه الحركة على تجاوز مشكلات النجاح، وأدخلت مفاهيم وطرقاً جديدة في توفير الرعاية الصحية، مبنيّة على العدالة ومشاركة المجتمع والتعاون المشترك بين القطاعات، وساعدت على بناء شبكة رعاية صحية أولية (برغوثي وجقمان 1990). ثم توسّع العمل إلى أبعد من العيادة، ليشمل تدريب وتمكين عمال صحة المجتمع – وأغلبهم من الإناث - والأنشطة المشتركة مع المنظمات الزراعية والنساء والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة.
وقد توصّلت دراسة مقارَنة لإعادة بناء النظام الصحي بعد النزاع – شملت سبع دول هي ألمانيا واليابان بعد الحرب الكونية الثانية، والصومال وهايتي وكوسوفو في تسعينيات القرن الماضي، وأفغانستان والعراق بعيد العام 2011 –إلى ضرورة تقسيم الإطار الزمني إلى خمسة أقسام أو مراحل: مرحلة ماقبل النزاع؛ ومرحلة النزاع؛ والمرحلة التي تلت انتهاء الأعمال المسلحة مباشرة؛ ومرحلة إعادة البناء؛ ومرحلة التعزيز الاجتماعي consolidation.
من الدروس المستخلصة من الدراسة السابقة أن التجارب الناجحة، كانت تلك التي رأت أن للصحة تأثيراً مهماً كعامل مستقل في بناء الأمة، كما أن إعادة بناء نظام صحي ناجح يجب أن يشتمل على ربط الصحة بالمحدّدات والقطاعات الأخرى في المجتمع كالحوكمة، والتعليم والاقتصاد المستقر، والأمن. من ناحية أخرى، ترتبط عوامل النجاح والفشل في إعادة بناء النظام الصحي بتوقيت بدء عملية إعادة البناء ودرجة الاستعداد لها، حيث تبيّن أن التفكير والتنفيذ لبعض خطوات يجب أن يبدآ في فترة مبكرة من النزاع من دون الحاجة إلى انتظار توقّف العمليات العسكرية.
عند استمرار الصراع لفترات طويلة كما في المثال السوري، فإن الحدود الفاصلة بين مرحلة الأزمة والمرحلة الانتقالية، خاصة في المجالات التي تتعلّق بالصحة، تلتبس عادة ولايمكن رسمها بشكل واضح. وغالباً ماتهدف السياسة الصحية المُرتجاة في هذه المرحلة إلى تحقيق غايتَين هما: 1) تخفيض المراضة والوفيات، و2) الدفع باتجاه عودة المؤشرات الصحية إلى المستوى المقبول. ويجب الانتباه عند التخطيط للمرحلة الانتقالية إلى ربطها بالمرحلة بعيدة المدى، بحيث يمكن الانتقال بسلاسة من مرحلة الأزمة إلى مرحلة إعادة البناء ومن ثم إلى مرحلة الاندماج والاستدامة. ولابد من النظر أحياناً نظرة إيجابية، واعتبار أن المطلوب ليس فقط إصلاح ماخرّبته الأزمة في النظام الصحي السابق، بل أيضاً توفير فرصة لإعادة تشكيل النظام الصحي بما يتناسب مع احتياجات السكان وطموحاتهم.
وعلى أي حال، فإن التخطيط للسياسة الصحية في المرحلة الانتقالية يجب أن يراعي أن يكون لكل الناس مدخلاً إلى الخدمات الصحية التي تحدّد ألوياتها، بحيث تهدف إلى تخفيض المراضة والوفيات؛ وأن يتم التنسيق بين مختلف الجهات العاملة على الصحة، سواء الدولية منها أم المحلية، وذلك للحصول على أفضل الخدمات الممكنة للناس؛ وأن تصمّم الخدمات بحيث تراعي مبادىء الرعاية الصحية الأولية.
في المرحلة الانتقالية يجب العمل على مايلي:
- يجب أن تُبنى فلسفة العمل الصحي على فكرة الرعاية الصحية الأولية ذات الركيزة الاجتماعية، حيث يمكن أن تبدأ الكثير من الخدمات الصحية (وخاصة الوقائية منها) في المنزل والمدرسة قبل الوصول إلى المركز الصحي.
- يجب الاستفادة القصوى من البنية التحتية المتوفّرة سابقاً من مراكز صحية ومشافي (الخاص منها أم العام)، والتركيز على استعمالها بفاعلية للخدمة الصحية والاجتماعية لا لأغراض أخرى.
- العمل على تشكيل هيئات صحية في كل المناطق التي أصبحت خارج سيطرة النظام. تعمل هذه الهيئات على تقدير احتياجات المنطقة التي تعمل فيها من الناحية الصحية وفق منهجية علمية وبأدوات مُسنَدة بالدليل، مستعينةً بالخبرات المتوفّرة المحلية والدولية.
- تعمل هذه الهيئات على التنسيق مع كل المنظمات المحلية والدولية العاملة في المنطقة لتجنّب ازدواجية العمل ورفع الفاعلية.
- كما تعمل المنظمات الدولية على تنسيق الجهود بين هذه المناطق والمناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، لإحداث نوع من التوازن في الخدمات، وبالتالي لتخفيف الفوارق في المؤشرات الصحية بين مختلف المناطق.
- التركيز على وجود نظام معلومات صحي وفق المعايير العلمية الدولية، يراعي شروط استدامته وقابليته للتحديث.
- يجب أن تعمل الهيئة الصحية في المنطقة بالتنسيق مع باقي الفاعليات المدنية والخدمية للحصول على تكامل خدمي. فالتنسيق مع البلديات والمدارس والفاعليات الاقتصادية، على سبيل المثال لا الحصر، ضروري جداً من أجل إدماج المكوّنات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية في العملية الصحية.
- تشكيل هيئات صحية على مستوى المحافظة (إن أمكن) تضمّ ممثلين عن هيئات المناطق، وتستعيد الخطوات السابقة نفسها.
- لابد من الاستعانة بوسائل التواصل الحديثة من أجل التشخيص والمعالجة، وربط المراكز التي تقدّم الخدمة الصحية على مستوى المنطقة إما بالمراكز الأكثر تطوّراً الموجودة داخل سورية أو بتلك الموجودة في الخارج.
- تطوير أرضية للحوار بين مختلف الفاعلين الأساسيين لتقييم وضع الصحة العامة والاحتياجات على المدى القصير والمتوسط والبعيد.
- تطوير شبكة تضمّ باحثين وممارسيين في حقل الصحة العامة، وبعض المعنيين داخل سورية وخارجها ، تساعد على تطوير خيارات صحية مُسنَدة بالدليل حول مستقبل الصحة في سورية.
- تعمل هذه الشبكة على وضع خيارات حول السياسات الصحية المقبلة، مُعتمِدةً على تحليل الوضع الحالي والسابق، والاحتياجات الآنية، والآفاق المستقبلية الممكنة، وآخذةً في الاعتبار المتغيرات السياسية والاجتماعية.
- تحديد الأولويات الصحية بالاعتماد على تطوير نظام معلومات مرن ومتماسك، وإعادة النظر في الاولويات كلما اقتضت الحاجة.
- الاهتمام بنشر التقارير بشكل دوري ومستمر، ووضعها في متناول الباحثين والجمهور.
يشكّل تطوير آلية لتقييم الاحتياجات وفق مقاربة شاملة في المرحلة الانتقالية، ضرورةً أساسيةً لبناء نظام صحي لاحق فعّال. ويجب أن تضمّ هذه المقاربة القطاع الصحي، والحالة الاجتماعية الاقتصادية، والمحدّدات المتعددة للصحة، والسياسات والاستراتيجيات العامة. ويجب أن يتم أيضاً تقييم قدرة النظام الصحي ووظيفته، إضافة إلى النقاط التالية:
- الاختلاطات والإعاقات الدائمة لجرحى الأحداث.
- الوفيات الناجمة عن الأمراض المزمنة التي حصلت بسبب غياب المعالجة المناسبة أو التأخّر في الوصول إلى الخدمة الصحية.
- الجائحات الناجمة عن إصحاح المياه السيئ أو تلوث الطعام، وكذلك أمراض سوء التغذية، والأمراض الناجمة عن الإصحاح البيئي وتراكم الفضلات.
- أمراض الطفولة الناجمة عن تدهور برامج التلقيح الوطني.
- وضع المجموعات السكانية الأكثر عرضةً من غيرها إلى التأثر بتدهور النظام الصحي، ككبار السن والأطفال والنساء الحوامل والمصابين باضطرابات نفسية.
- الرضوض النفسية والاضطرابات العقلية، خاصىة عند الأطفال، الناجمة عن الصراع وانعدام الأمن والانقطاع عن التعليم.
- العنف ضد النساء، وخاصة المتضررات من حوادث الاغتصاب والحمل غير المرغوب.
خاتمة
في العام 2013، صنّف البنك الدولي 35 دولة في العالم بأنها دول هشة، أي أنها تتميّز "بضعف قدرتها المركزية أو ضعف شرعيتها تاركةً مواطنيها عرضة إلى الكثير من المخاطر". ثماني من هذه الدول الخمس والثلاثين كانت من منطقة شرق المتوسط، وهي أفغانستان، والصومال، والعراق، واليمن، وغزة، والضفة الغربية، وليبيا، والسودان، وسورية.
يحتاج الوضع القائم في سورية الآن الى استجابة متعدّدة ومعقّدة، تأخذ في الاعتبار كل السيناريوهات المقبلة المحتملة، مايعني أن يأخذ التخطيط للسياسات الصحية المستويات المختلفة والمراحل المتوقّعة للصراع الحالي، وهو يشمل الاستجابة الآنية للاحتياجات بقدر التخطيط على المستوى المتوسط والبعيد. وبينما تركّز معظم دراسات السياسات على البُعدَين الأمني والسياسي للفترة المقبلة، فإن هناك القليل مما يُخطَّط له على مستوى صحة السكان.
وكما في تجارب البلاد التي خاضت حروباً أهليةً وصراعات داخليةً أو اقليمية، كتجارب العراق وأفغانستان والبلقان، فإن الاستعداد للمرحلة المقبلة يجب أن يبدأ قبل انتهاء الصراع. ومصطلح "المرحلة الانتقالية" بالنسبة إلى قضايا الصحة العامة يعني "الآن"، أي أن يبدأ الاستعداد للمرحلة الانتقالية ومابعدها من لحظة إدراك ضرورة البدء بها، وهي غالباً ماتكون لحظة ما داخل الصراع نفسه.
تتضمّن المشاكل الآنية للصحة العامة المطروحة في المسألة السورية قضايا من مثل: زيادة عدد القتلى نتيجة الصراع، وارتفاع عدد الجرحى والإصابات البليغة التي غالباً ماتنجم عنها إعاقة وعجز جزئي أو دائم، ومشاكل المهجرين والنازحين، وأضرار البنية التحتية الأساسية (المياه الصالحة للشرب، والأدوية، والمرافق الصحية، إلخ).
أما على المدى المتوسط والبعيد، فيجب البدء بالتفكير في عملية إعادة بناء المرافق الصحية، وتعويض الفاقد من الكوادر الفنية والقوى العاملة الصحية، وتأهيل المصابين، وتقديم الدعم النفسي لمئات الآلاف من الضحايا وأُسَرِهم. وفوق هذا كلّه يجب التخطيط لبناء نموذج للرعاية الصحية وتقديم الخدمات بشكل يأخذ في الاعتبار كل المتغيرات الحاصلة ويتجاوزها.
هوامش
2 http://www.hrw.org/sites/default/files/reports/syria0413webwcover_1_0.pdf
3 Kawachi, I. and L.F. Berkman (2000), “Social Cohesion, Social Capital, and Health,” in L.F. Berkman and I. Kawachi (eds.), Social Epidemiology, Oxford University Press, New York.
4 Closing the Gap in a Generation, Commission on Social Determinants of Health FINAL REPORT. World Health Organization, 2008.
5 .Bourdieu, Pierre, (1977). Outline of a Theory of Practice. Cambridge: Cambridge University Press
6 OECD. (2001). The Well-Being of Nations: The Role of Human and Social Capital. Centre for Educational Research and Innovation. Paris: Organization for Economic Co-operation and Development.
7 إستراتيجية بحوث القطاع الصحي (2011-2020)، رئاسة مجلس الوزراء، الهيئة العليا للبحث العلمي، دمشق، سورية.
8 المصدر السابق
9 http://data.worldbank.org/indicator/SH.XPD.PUBL
10 http://www.msv-sy.com/vb/showthread.php?t=182
11المصدر السابق.
12 http://data.unhcr.org/syrianrefugees/regional.php
13 https://s3.amazonaws.com/PHR_other/Syria%27s-Medical-Community-Under-Assault-January-2014.pdf
14 المصدر السابق.
15 https://www.facebook.com/pages/مشفى-الخالدية-الميداني-الصفحة-الرسمية/275078412626151
16 المصدر السابق.
17 http://uk.reuters.com/article/2014/03/09/uk-syria-crisis-healthcare-idUKBREA280TW20140309
18 http://www.uossm.org/index.php/about-us
18 http://www.channel4.com/news/syria-anniversary-barrel-bombs-war-crime-war-russia-ukraine