مقدّمة
عند التنقّل في أرجاء المدن السورية عَقِب الإطاحة ببشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، كما فعلتُ أنا في شهر شباط/فبراير من هذا العام، لا يسع المرء سوى أن يلمس مشاعر الحماس والأمل في أوساط السوريين في دمشق واللاذقية وحلب والسويداء وحمص. لكن هذه المشاعر تمتزج فيها مخاوف أمنية وقلقٌ من أن تحتكر السلطةَ هيئةُ تحرير الشام، الجماعة الإسلامية السنّية التي قادت تحالف فصائل المعارضة الذي أطاح بالأسد، بعد أن فرضت حكمًا سلطويًا على محافظة إدلب لمدّة سبع سنوات. ومنذ أن سيطرت الجماعة على سورية، عمَد قائدها أحمد الشرع إلى حلّ هيئة تحرر الشام رسميًا، وأصبحت سلطات صنع القرار تتركّز في يده، معتمدًا على دائرةٍ ضيّقة من الحلفاء المقربّين لمساعدته في حكم البلاد.
في غضون ذلك، تتصاعد حدّة التوتّرات الاجتماعية في أجزاء من سورية، وتتحيّن جهاتٌ مُعرقِلة الفرصة المناسبة لاستغلال مكامن الضعف في البلاد من أجل عرقلة العملية الانتقالية. وقد دفعت هجمات فلول النظام السابق في آذار/مارس على القوّات المتحالفة مع السلطات الجديدة إلى شنّ هذه الأخيرة حملة قتل انتقامية واسعة النطاق بحقّ مدنيين، معظمهم من الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد. وكشفت هذه الأحداث عن التظلّمات التي لا تزال قائمة والصعوبات التي تحول دون تجاوز إرث الحرب، ما قد يتسبّب بوقوع المزيد من أعمال العنف.
مع ذلك، تشكّل المرحلة الراهنة فرصةً فريدة أمام السوريين لإصلاح مجتمعٍ مزّقته سياسات الأسد الطائفية وقسّمته حربٌ دامت ثلاثة عشر عامًا، ولإرساء نظامٍ سياسيٍّ جديد يضمن المساواة بين السوريين وتمثيل جميع أطياف المجتمع ومراعاة تنوّعه، وبسط سيادة القانون. ويُعدّ مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في 25 شباط/فبراير 2025، والإعلان الدستوري الذي صدر في 13 آذار/مارس خطوتَين أوليتَين مهمّتَين، إنما غير كافيتَين، على مسار العملية الانتقالية. فمن أجل تحقيق السلام الدائم في سورية، وهو هدفٌ ينشده جميع السوريين تقريبًا، على سلطات المرحلة الانتقالية الإيفاء بوعودها المتعلقة بإشراك المكوّنات كافة في إدارة المرحلة الانتقالية، فضلًا عن تحقيق المساءلة والمحاسبة، والعدالة الانتقالية، والمصالحة الوطنية.
وفيما يركّز الكثير من التحليلات الدولية المتعلقة بسورية على تدخّل الدول الإقليمية في شؤون البلاد، ما يطرح لا شكّ تهديدًا لاستقرارها ووحدتها، تبنّيتُ في هذه المقالة نهجًا مختلفًا. فقد وضعت الديناميّات الداخلية في صُلب اهتماماتي، انطلاقًا من قناعتي أنها ستؤدّي دورًا مهمًّا في مسار سورية، وأن المواطنين السوريين قادرين على التأثير وراغبين كذلك في تشكيل مستقبل وطنهم. ففي نهاية المطاف، كلما ازداد السوريون تماسكًا وتوافقًا حول مسار بلادهم، قلّ احتمال أن ترسم الجهات الخارجية بنفسها مستقبل سورية.
نحو هويّةٍ مشتركةٍ
عند التفكير في المستقبل، يشعر السوريون بالتفاؤل والحماس من جهة، والقلق إزاء الأوضاع الأمنية والظروف الاقتصادية المتردّية من جهة أخرى. يتحدّث كثرٌ عن النهاية غير المتوقّعة للنظام الدكتاتوري على أنها "حلمٌ" تحقّق، ويمارسون حريتهم الجديدة في مناقشة القضايا السياسية ومسار المرحلة الانتقالية، وانتقاد القيادة الجديدة. في معرض حواراتي مع سوريين في مختلف أنحاء البلاد، لمستُ إجماعًا حول رغبتهم في إعادة بناء الدولة استنادًا إلى مفهوم المواطنة، الذي لا يفرّق على أساس الدين والعرق. وفي هذا الصدد، يتماشى الإعلان الدستوري، الذي يوفّر إطارًا قانونيًا للمرحلة الانتقالية ريثما يتمّ اعتماد دستور جديد، مع تطلّعات السوريين. فهو ينصّ على أن "المواطنين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب". لكن لا بدّ من الانتظار لرؤية ما إذا كان ذلك سيتحقّق في الواقع العملي.
تبدو الانقسامات القائمة بين السوريين واضحةً للعيان. فعلى سبيل المثال، يستخدم أولئك الذين ينظرون بعين الريبة إلى هيئة تحرير الشام عبارة "سقوط الأسد"، فيما يفضّل أولئك الذين يدعمون القيادة الجديدة عبارة "تحرير سورية". تنبع خطوط الصدع جزئيًا من حقيقة أن لكلّ منطقة تركيبتها السكانية المختلفة، وأن السوريين تأثّروا بالحرب بطرقٍ متباينة، بناءً على ما إذا كانوا يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام أو لسيطرة المعارضة، أو كلاجئين خارج البلاد. وتتنافس جهاتٌ كثيرة على المظلومية. فالسوريون الذين تعرّضوا للاضطهاد على يد النظام السابق يعتبرون أنهم تكبّدوا العبء الأكبر خلال الحرب. وعلى نحوٍ مماثل، يعتقد سكان إدلب أنهم يستحقون المكافآت في سورية الجديدة لأنهم تحمّلوا عمليات القصف والغارات الجوية التي نفّذها الجيش السوري وسلاحه الجوّي على مدى سنوات.
في غضون ذلك، يشدّد السوريون الذين بقوا في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام على أنهم عانوا جرّاء الممارسات القمعية التي انتهجتها الدولة والظروف المعيشية الصعبة الناجمة عن الانهيار الاقتصادي، ولم يكونوا بالضرورة قادرين على المغادرة. ويَعتبرون أن اللاجئين حصلوا على المزيد من الفرص وعادوا إلى سورية أكثر ثراءً. ويُعزى هذا التباين في وجهات النظر جزئيًا إلى نقص المعلومات المتوافرة وضعف التواصل بين السوريين الذين عاشوا تجارب مختلفة، ما يسلّط الضوء أيضًا على ضرورة فتح حوارٍ بينهم. إذًا، لا بدّ من صياغة سردية مشتركة لتقريب وجهات النظر المختلفة، وتجاوز الانقسامات، وتوحيد المجتمع، ذلك أن التوصّل إلى أرضية مشتركة بين السوريين شرطٌ أساسي كي يتمكّنوا من المضي قدمًا معًا.
في ضوء هذه المعطيات، أخبرني سوريون من خلفيات متنوّعة عن رفض النظر إلى مجتمعهم من منظور الأغلبية/الأقلية. فهم يعتبرون هذا المفهوم أداةً تقسيمية استخدمها الأسد للحفاظ على سيطرته، ويمتعضون من استخدام الجهات الأجنبية له، مُعرِبين عن خشيتهم من أن يؤدّي ذلك إلى تأجيج التوترات. هذا ويُعارض معظم السوريين الذين تحدّثتُ معهم اعتماد نظام المحاصصة الطائفية أو العرقية في مؤسسات دولتهم العتيدة، وقد أشار عددٌ كبير منهم إلى تجربة كلٍّ من لبنان والعراق كدليلٍ على أن مثل هذا النهج لضمان التمثيل يأتي حتمًا بنتائج عكسية.
يتّفق مع هذا الرأي أحمد الشرع، رئيس البلاد في المرحلة الانتقالية، الذي عاش في العراق خلال السنوات الأولى بعد الإطاحة بصدّام حسين، ورأى العواقب الوخيمة الناجمة عن نظام تقاسم السلطة على أساس طائفي الذي وضعته الولايات المتحدة وأفراد من الجالية العراقية هناك، وفقًا لمحادثة أجريتها مع أحد المقربّين من الشرع في دمشق في شباط/فبراير. في غضون ذلك، ومع أن قوات سورية الديمقراطية التي يغلب عليها الطابع الكردي وتسيطر على شمال شرق سورية، لا تؤيّد نظام المحاصصة، فهي دعت إلى تبنّي نموذج حكم لامركزي يتيح لها التحكّم بالقرارات المتعلّقة بالقضايا المحلية ويمنحها قدرًا كبيرًا من الحكم الذاتي. لكنّ غالبيةً من السوريين يرفضون اللامركزية ويعتبرونها تهديدًا لوحدة البلاد.
ومع أن المرحلة الانتقالية تتيح للسوريين فرصة الاتفاق على المبادئ والقيم التي تقوم عليها المواطنة، لم تُناقَش هذه المسألة تحديدًا خلال الحوار الوطني الذي اختُتم مؤخرًا. بل ركّز الحوار على المؤسسات العتيدة، والدستور الجديد، والاقتصاد، والعدالة الانتقالية، والحريّات الفردية، ودور المجتمع المدني. لكن من الضروري أن تتناول المناقشات المُقبلة تفاصيل ما تنطوي عليه المواطَنة من حقوق وواجبات، فضلًا عن المسألة الأوسع المتمثّلة في كيفية إعادة توحيد الشعب السوري، ولا سيما في ظلّ استمرار التوتّرات الطائفية في أجزاء من البلاد.
خطر التوتّرات الطائفية
في الأشهر التي أعقبت سقوط الأسد، داهمت قوات الأمن التابعة للسلطات الجديدة منازل عناصر سابقين في الجيش وأجهزة المخابرات، وموالين للنظام، وأجرت حملات اعتقالٍ كثيرة في المناطق الوسطى والساحلية. وقد أقرّت قيادة المرحلة الانتقالية بوقوع تجاوزات فردية خلال هذه العملية. والأسوأ من ذلك أن عشرات عمليات الخطف والقتل وقعت في مدينة حمص وريفها، وفي محافظة حماة. من الصعب تحديد هوية الجناة إذ لا يرتدي جميع أفراد قوات الأمن زيًّا رسميًا واضحًا، ما يعني أنهم يستطيعون بسهولة التهرّب من المحاسبة على أفعالهم، وأن المجرمين قد ينتحلون صفة أفراد من وحدات أمنية. ووفقًا لمسؤول أجنبي مقيم في دمشق تحدّثتُ معه في شباط/ فبراير، تحرّكت السلطات الجديدة لاستبدال الضبّاط المُشتَبه في ارتكابهم انتهاكات، إلا أن قوات الأمن تعمل فوق طاقتها، وثمّة حاجة إليها لتنفيذ مهامّ كثيرة.
أظهرت المجزرة التي ارتُكِبَت في المنطقة الساحلية في أوائل آذار/مارس الضرورة الملحّة إلى إعادة بناء التماسك الاجتماعي. فالديناميات التي أدّت إلى انفجار العنف هذا كانت تختمر في محافظتَي حمص وحماة المجاورتَين على مدى أشهر، حيث تعرّضت قرى سنّية عدّة، في تلك المناطق المختلطة دينيًا، لمجازر على يد الميليشيات الموالية للنظام في العامَين 2012-2013. ولذا، سعى بعض سكان هذه القرى كما أُفيد إلى الأخذ بالثأر، وشاركوا في عمليات القتل الأخيرة. ردًّا على أعمال العنف هذه، تعهّد الشرع بمعاقبة الجناة، فعيّن لجنةً لتقصّي الحقائق مُكلَّفة بالتحقيق في الانتهاكات. لكنه لم يعترف بمسؤولية قوات الأمن، لا بل إن وزارة الدفاع السورية عيّنت سيف الدين بولاد، قائد إحدى الفرق المسلحة المُتّهَمة بالمشاركة في المجازر، في منصبٍ مسؤولٍ في الجيش السوري الجديد. ولا تزال أعمال العنف الانتقامية مستمرّة، وإن كان ذلك بمعدّل أقلّ بكثير من قبل.
أخبرني السكان المحليون في مدينة حمص أن قوات الأمن تطلب أحيانًا معرفة الانتماء الطائفي للأشخاص (وهو غير مذكور على وثائق الهوية السورية) عند التحقّق من هوياتهم على نقاط التفتيش. وفي شباط/فبراير، نظّمت مجموعة محلية للسلام مسيرةً في مختلف أحياء المدينة، كان من المقرّر أن تتمّ بمشاركة سنّة وعلويين ومسيحيين، للمطالبة بمحاسبة مرتكبي الجرائم خلال عهد النظام السابق. لكن المجموعة اضطرّت إلى إلغاء المسيرة في اللحظة الأخيرة لأن بعض السكان المحليين، ومعظمهم من السنّة، هدّدوا في رسائل على مواقع التواصل الاجتماعي باستخدام العنف لتعطيل المسيرة، التي اعتقدوا أنها ستطالب بمنح الحصانة من الملاحقة القضائية لمرتكبي الجرائم خلال عهد النظام السابق. فضلًا عن ذلك، انتشرت بعد رحيل الأسد، سواء في المحادثات الخاصة أو على مواقع التواصل الاجتماعي، فكرة أن العلويين غير مرحّب بهم في حمص، ما دفع بعض العائلات العلوية إلى مغادرة المدينة، فيما تسارعت وتيرة النزوح بعد عمليات القتل التي شهدتها المناطق الساحلية. وقد حذّرني السكان المحليون من أن التوتّرات قد تتحوّل بسهولة إلى اشتباكات مباشرة، كما حصل في الساحل، ما لم تُتّخذ إجراءاتٌ لتهدئتها على وجه السرعة.
في موازاة ذلك، أدّت بعض القرارات الأولى التي اتّخذتها السلطات الانتقالية إلى تأجيج مشاعر انعدام الثقة في أوساط العلويين في حمص وحماة واللاذقية وطرطوس. وكان أحد القرارات الأولى التي اتّخذتها القيادة الجديدة تسريح الآلاف من عناصر الأمن والموظّفين الحكوميين، إما بهدف تقييم تورّطهم في جرائم النظام السابق، وإما لاعتبارهم موظّفين "وهميين" (أي يتقاضون رواتب من دون الحضور إلى العمل). أجّج هذا القرار جذوة الانقسام بين السوريين، وأثار التساؤلات في المناطق الساحلية والمختلطة، التي استمدّ منها جيش النظام وشرطته الكثير من العناصر المنتمين إلى الطائفة العلوية. وقد يكون الرجال الذين أصبحوا مؤخّرًا عاطلين عن العمل قابلين للتجنيد من الجهات التي تسعى إلى عرقلة العملية الانتقالية ومعارضة السلطات الجديدة، ولا سيما عقب المجازر المُرتكَبة في الساحل السوري. ويزداد هذا الخطر نظرًا إلى عدم انضمام الرجال المُسرَّحين إلى الجيش الجديد. فعلى الرغم من غياب أي سببٍ يمنعهم نظريًا من التسجيل في مراكز التجنيد، أدّى فقدان الثقة الشديد بين السنّة والعلويين إلى التحاق عددٍ ضئيلٍ نسبيًا من العلويين بالجيش الجديد.
نحو عملية انتقالية قائمة على إشراك الجميع والسعي إلى تحقيق العدالة
إن ما تحتاج إليه سورية هو مسارٌ شامل لتحقيق العدالة الانتقالية، ينبغي أن يتضمّن ملاحقةً جنائيةً لمرتكبي الجرائم في ظلّ النظام السابق، وآليةً لكشف الحقيقة وإرساء المصالحة، وتقديم التعويضات للضحايا. ومن الضروري بالقدر نفسه أيضًا الحرص على إشراك العلويين والطوائف الأخرى كافّة في عملية إعادة بناء سورية سياسيًا واقتصاديًا. وبالتوازي مع الجهود المبذولة لتحقيق العدالة، يجب أن يضمن المسار مشاركة السوريين في كل خطوة سياسية من خطوات العملية الانتقالية، لتلبية تطلّعاتهم وتعزيز الاستقرار على المدى الأطول.
يجب أن تكون الملاحقة الجنائية في صُلب الأولويات، لضمان محاسبة مرتكبي الجرائم خلال ثلاثة عشر عامًا من الحرب. وينبغي أن تشمل العدالة الانتقالية أيضًا كشف الحقيقة وإرساء المصالحة، من خلال إقامة جلسات حوار على المستوى المحلي. فمن شأن ذلك أن يتيح الكشف الكامل عن الانتهاكات المُرتكَبة أثناء الحرب، وتبادل التجارب الشخصية. وقد أعرب بعض الضحايا عن حاجتهم إلى اعتراف الطوائف الأخرى بمعاناتهم خلال الحرب. ولذا، من الضروري لهؤلاء الضحايا، الذين ينتمي معظمهم إلى الطائفة السنّية، أن يتوصّلوا إلى إحساس بالتصالح مع الماضي، ليتمكّنوا من المضيّ قدمًا.
فضلًا عن ذلك، يجب ألا يتعرّض العلويون الذين لم يتورّطوا في جرائم النظام السابق للتمييز. وبما أن المناطق العلوية بقيت غير متطوّرة خلال عهد الأسد، وهو ما ضمَن اعتماد الطائفة على النظام، ليست المناطق الخاضعة سابقًا لسيطرة الثوّار وحدها التي تحتاج إلى الدعم الاقتصادي. كذلك ينبغي أن يحظى العلويون بفرص العمل نفسها التي يحظى بها المواطنون الآخرون، بما في ذلك في القطاعَين العام والأمني. وفي موازاة ذلك، يجب محاسبة أفراد قوات الأمن التابعة للقيادة الانتقالية على الانتهاكات التي ارتكبوها منذ تولّي هذه الأخيرة السلطة.
كان الحوار الوطني، الذي عقدت خلاله القيادة الجديدة مشاورات عامة في القصر الرئاسي في دمشق حول قضايا سياسية واجتماعية أساسية مع مئات السوريين من شتّى أرجاء البلاد، سابقةً في سورية من دون شكّ. فقد شكّل هذا الحوار تقدّمًا لم يكن ممكنًا تصوّره قبل بضعة أشهر. لكن التحضيرات المتسرّعة، والطريقة الغامضة التي اختير بها المشاركون فيه، والتمثيل غير الكامل لمختلف مكوّنات الشعب السوري، ومدّته القصيرة، كلّها عوامل حدّت من تأثيره. غالبًا ما انتقد المواطنون السوريون الذين تحدّثتُ معهم، والذين يرغبون بشدّة في المشاركة في صنع القرار ورسم مستقبل بلادهم، غياب كلٍّ من الشفافية والتفاصيل في العملية الانتقالية، وإطارها الزمني القصير، وهما أمران قيّدا مشاركتهم. والواقع أن غياب المشاركة ينطوي على خطر تراجع دعم السوريين لكلٍّ من القيادة الجديدة والمؤسسات الجديدة، ما من شأنه أن يجعل العملية الانتقالية الهشّة محفوفة بالمخاطر أكثر.
وقد انتقد الكثير من السوريين الذين تحدّثتُ معهم أيضًا الحكومة الانتقالية الحالية بوصفها حكومةً من "لون واحد"، في إشارة إلى تركيبتها الإسلامية السنّية المؤلّفة من هيئة تحرير الشام. وأفصح لي بعضهم عن اعتقادهم بأن من الصعب على حكومة كهذه أن تلبّي تطلعّات جميع مكوّنات سورية واحتياجاتها، ولا يعنون بذلك المجموعات الطائفية والإثنية منها فقط، بل أيضًا النساء والشباب والمجتمع المدني. وقال بعض الناشطين إن الثورة التي بدأت في العام 2011 لم تكتمل بعد، وإنهم يعتقدون أن الكأس لا تزال نصف ممتلئة. في المقابل، أعرب آخرون عن قلقهم إزاء خطر قيام دكتاتورية جديدة محلّ الدكتاتورية السابقة، بسبب النهج السياسي غير الليبرالي الذي اتّبعته هيئة تحرير الشام أثناء حكمها إدلب، ونظرًا إلى أن الشرع انتقى أشخاصًا من الدائرة المقرّبة إليه لتولّي مناصب قيادية أساسية منذ استلامه السلطة في البلاد. فعلى سبيل المثال، عيّن الشرع أسعد الشيباني، أقرب مساعديه والمدير السابق لإدارة الشؤون السياسية في إدلب، وزيرًا للخارجية. كذلك عيّن مرهف أبو قصرة وزيرًا للدفاع، وهو أحد القياديين البارزين سابقًا في هيئة تحرير الشام الذي قاد عملية فصائل المعارضة التي أطاحت بالأسد. واختار الشرع أيضًا شقيقه ماهر الشرع لتولّي منصب مهمّ هو منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية.
لا يخفى أن الحكومة الانتقالية، التي تمّ الإعلان عنها في 29 آذار/مارس، تُظهِر بوادر مشجّعة باعتبارها تمثّل مختلف مكوّنات الشعب السوري، إذ تضمّ بين وزرائها علويًا ومسيحيًا وكرديًا ودرزيًا. ويُشار أيضًا إلى أن أحد عشر وزيرًا من وزرائها هم من المجتمع المدني، فيما شغل خمسة وزراء مناصب حكومية رفيعة في عهد الأسد قبل اندلاع الثورة. ولكن بما أن الشرع قد خصّ معاونيه المقرّبين بأهمّ المناصب في الحكومة، لا بدّ من الانتظار لنرى مدى النفوذ الذي سيتمتّع به الوزراء الآخرون. ولتجاوز الانطباع بأن السلطات الانتقالية تقوم بمهامّ شكلية لا أكثر، ينبغي عليها أن تعقد مشاورات على المستوى المحلي، لأن ذلك سيمنح المزيد من المواطنين فرصة المساهمة في النقاشات حول مستقبل سورية. فمن الأهمية بمكان الحرص على تمثيل جميع السوريين في العملية السياسية وتعزيز مشاركتهم في بناء مستقبل بلادهم.
خاتمة
يسعى السوريون، الذين يذوقون طعم الحرية للمرة الأولى، إلى الابتعاد عن مجتمع مُفكَّك، وإعادة بناء وطنهم على أساس مفهومٍ مشتركٍ للمواطنة، إلا أن هذا المسار محفوفٌ بالتحدّيات. لذا، لا بدّ من اتّباع مسار شامل لتحقيق العدالة الانتقالية، ينطوي على كشف الحقيقة وإرساء المصالحة، بما يتيح للسوريين تجاوز حقبة الحرب ودكتاتورية الأسد، ويسهم في تخفيف حدّة التوتّرات الطائفية. وفي موازاة ذلك، يجب أن تؤول الحرية السياسية إلى مسار انتقالي تكون للسوريين الكلمة الفصل فيه، ويضمن إشراك جميع مكوّنات المجتمع السوري بتنوّعها.
ولكي يتكلّل هذا المسعى بالنجاح، لا بدّ أن تدعمه الدول الأجنبية، إذ يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التأثير إيجابًا على العملية الانتقالية من خلال الرفع الكامل للعقوبات القطاعية التي فرضاها على القطاعات الاقتصادية في سورية ردًّا على قمع نظام الأسد الاحتجاجات. فالاقتصاد السوري لا يمكن أن يتعافى طالما بقيت هذه العقوبات سارية. والواقع أن غياب التحسّن الاقتصادي سيؤدّي على الأرجح إلى عرقلة العملية الانتقالية، بصرف النظر عن القرارات السياسية المُتّخَذة. كذلك ينبغي أن يمتنع كلٌّ من دول الخليج، وجيران سورية المباشرين، وإيران، عن التدخّل في عملية إنشاء نظام سياسي جديد، وعن دعم الجهات المُعرقِلة المُحتمَل. وبدلًا من السعي وراء مصالح ضيّقة وقصيرة الأمد، ينبغي أن تبذل هذه الأطراف جهودها من أجل تحقيق الاستقرار في سورية الجديدة، لما فيه صالح بلدانها وخير الشعب السوري.