المصدر: Getty

المنافذ الحدودية: التحالف غير المقدّس بين إيران والميليشيات العراقية

تحتّل المنافذ الحدودية حيّزًا بارزًا في استراتيجية إيران الرامية إلى ضمان سيطرتها على العراق. لكن على الرغم من رغبة الشعب العراقي في النأي بنفسه عن إيران، من المستبعد أن تُقدِم الحكومة العراقية في وقت قريب على تنفيذ إصلاحات متعلّقة بالمنافذ الحدودية.

 عقيل عباس
نشرت في ٧ يونيو ٢٠٢٣

مقدّمة

العلاقات بين العراق وإيران معقّدة وغير متكافئة، إذ تفرض إيران هيمنتهاعلى العراق. وقد ترسّخت هذه الهيمنة من خلال تطوّرات عدة مرتبطة بالنزاع الوجودي الذي خاضه العراق ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية منذ العام 2014 حتى العام 2017، وتخلّله سقوط الموصل في أيدي التنظيم الجهادي؛ وانهيار جزء كبير من الجيش العراقي؛ وبروز لاعبين خارج إطار الدولة، مثل المؤسسة الدينية في النجف وميليشيات "محور المقاومة"، في صورة منقذي الدولة في نظر الكثير من العراقيين.

تُعتبر المنافذ الحدودية التي تربط بين البلدَين خير دليل على أوجه اللامساواة في العلاقات العراقية الإيرانية. فالمنافذ الواقعة على الحدود الممتدة على طول 1,600 كيلومتر (994 ميلًا) تشغل حيّزًا بارزًا في الاستراتيجية التي تنتهجها إيران لفرض هيمنتهاعلى العراق. وتقتضي هذه الاستراتيجية وجود نظام سياسي موالٍ بنيويًا لإيران في العراق، تستطيع الجمهورية الإسلامية اختراقه على المستويات السياسية والمؤسسية كافة. وتتطلب هذه الاستراتيجية أيضًا تحويل العراق إلى سوق للسلع الإيرانية التي يتدفّق معظمها عن طريق المنافذ الحدودية بموجب شروط تفضيلية ممنوحة لإيران ووكلائها في العراق. وقد تسبّب صعود الوطنية العراقية – التي تُعرَّف على نحو متزايد بمعارضتها للهيمنة الإيرانية في العراق – بتحدّيالنهج الذي تتّبعه إيران في البلاد وعرقلته، لكن من دون القدرة على حرفه عن مساره.

العراق منفذٌ اقتصادي لإيران الرازحة تحت وطأة العقوبات

ثمة تسعة منافذ رسمية بين العراق وإيران. وقد اكتسبت أهمية متزايدة في العام 2012، حين دعا المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إلى تعزيز ما أسماه "اقتصاد المقاومة" الإيراني. وازدادت أهمية المنافذ أكثر فأكثر في مطلع العام 2014، حين حوّلت إيران فكرة اقتصاد المقاومة إلى سياسة حكومية. فقد سعت القيادة الإيرانية، في وجه العقوبات الاقتصادية الغربية المتزايدة، إلى إعطاء الأولوية لإنتاج سلع أساسية غير نفطية كي تشكّل مصدرًا للإيرادات في اقتصادها الذي تلقّت ركيزته الأساسية، أي الصادرات النفطية، ضربة قوية بسبب العقوبات الدولية. وهكذا، بدأت إيران بإنشاء شبكة واسعة من الشركات الصورية للاستحواذ بصورة غير قانونية على الدولارات الأميركية في العراق وتهريبها إلى إيران. وقد نجحت هذه السياسة الجديدة. ففي العام 2011، أي قبل دخول هذه السياسة حيّز التنفيذ، بلغت قيمة الصادرات الإيرانية من المنتجات غير النفطية 26.65 مليار دولار أميركي، وكانت حصّة العراق منها 4.61 مليارات دولار. وفي العام 2013، بلغت قيمة هذه الصادرات 28.36 مليار دولار، وكانت حصّة العراق 6 مليارات دولار. وفي العام 2021، وصل مجموع قيمة الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى 40.74 مليار دولار أميركي، وبلغت حصّة العراق منها 8.9 مليارات دولار.

واظب المسؤولون الإيرانيون بانتظام على الدعوة إلى توسيع "التبادل التجاري" مع العراق. ففي نيسان/أبريل 2019 مثلًا، دعا الرئيس الإيراني آنذاك حسن روحاني إلى "زيادة حجم التبادل التجاري"، بما يشمل منتجات الطاقة، كي يصل إلى 20 مليار دولار أميركي في السنة. وفي العام نفسه، قال وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، في تصريح له إن العراق هو "شريكنا التجاري الكبير". كانت هذه اللغة الدبلوماسية مضلِّلة لأنها صوّرت تدفّق السلع الإيرانية في اتجاه واحد نحو العراق وكأنه شكلٌ من أشكال المعاملة الاقتصادية المتكافئة القائمة على "التبادل" و"الشراكة". لكن واقع الحال هو أن العراق لا يبيع شيئًا يُذكر لإيران. باستثناءمنتجات الطاقة التي تمرّ عبر خطوط ومحطات نقل عالية الطاقة (لتصدير الكهرباء) وخطوط أنابيب (لتصدير الغاز المسال)، فإن كل ما يُصدَّر تقريبًا من إيران إلى العراق يمرّ عبر المنافذ الحدودية الرسمية. ثمة أيضًا منافذ غير رسمية تسيطر عليها بصورة عامة ميليشيات موالية لإيران وعصابات إجرامية، وتشهد حركة تهريب واسعة النطاق، ولا سيما للأسلحة والمخدرات.

علاوةً على ذلك، استغلّت إيران على نحو متزايد هشاشة الدولة العراقية. فالتهديد الإرهابي المتصاعد الذي تجسّد من خلال تنظيم الدولة الإسلامية دفع رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي إلى اتّخاذ قرار غير مدروس في العام 2014 قضى بدعوة الميليشيات إلى تشكيل جيش تطوّعي لمساعدة الجيش النظامي الذي ابتُلي بالفساد وغياب الكفاءة، فكان أداؤه ضعيفًا في ساحة المعركة. وقد دعمت إيران هذه الخطوة واستفادت منها. حتى الفتوى الشهيرة التي أصدرها آية الله العظمىالسيد علي السيستاني في العام 2014، وحثّ فيها العراقيين على الانضمام إلى الجهاد ضد تنظيم الدولة الإسلامية، جاءت نتيجةً لجهود إقناع وتأثير مارسها قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الذي توجّه إلى النجف واجتمع بالسيستاني فور سقوط الموصل، وأقنعه بإصدار هذه الفتوى.

ساعدت الميليشيات، التي سرعان ما اكتسبت طابعًا رسميًا تحت اسم وحدات الحشد الشعبي، على درء تهديد الدولة الإسلامية فيما مدّت نفوذها خلسةً إلى مناطق أخرى في البلاد التي أنهكها القتال ضد التنظيم الإرهابي القوي. على سبيل المثال، بدأت وحدات الحشد الشعبي بسط سيطرتها، ولو بصورة غير مباشرة، على المنافذ الخمسة مع إيران التي تقع خارج الإقليم الكردي الذي يتمتع بحكم ذاتي. وبين العامَين 2014 و2020، ولا سيما خلال تولّي حيدر العبادي ثم عادل عبد المهدي رئاسة الوزراء، ترسّخت سيطرة الميليشيات على المنافذ، وإن بصورة غير مباشرة، ودخلت سلع من إيران إلى العراق من دون التصريح عنها بحسب الأصول أو سداد الضرائب والرسوم اللازمة، ما تسبّب بخسائر مالية كبيرة للدولة العراقية.1 أما الموظفون الرسميون الذين يعملون عند هذه المنافذ، فقد توغّل الفساد تدريجيًا في صفوفهم وتعرّضوا للتهديدات من الميليشيات التي تتمتع بنفوذ هناك، على غرار كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، وحركة حزب الله النجباء، وحركة ثأر الله ومنظمة بدر.

لقد أتاح كلٌّ من القتال ضد الدولة الإسلامية في سياق القلق الوجودي الضاغط الذي ساد في العراق - ولا سيما خلال الأشهر الأولى من النزاع حين امتنعت الولايات المتحدة عن دعم العراق إلى حين استبدال المالكي برئيس وزراء جديد - وتشكيل الحشد الشعبيلإيران اختراق الكثير من مؤسسات الدولة العراقية. كانت إيران، بالنسبة إلى عدد كبير من المواطنين الشيعة العاديين، حليفًا حقيقيًا للعراق فتح مستودعات أسلحته للعراقيين كي يتزوّدوا منها بكل ما يحتاجون من أجل محاربة الدولة الإسلامية. وساهم الخطاب المذهبي المعادي للشيعة على لسان التنظيم الإرهابي واستهدافه للشيعة في عمليات القتل التي نفّذها، في تعزيز الشعور بالتضامن الشيعي مع إيران في العراق. وانطبق ذلك بوجه خاص في الأشهر الأولى لتقدّم تنظيم الدولة الإسلامية، عندما وفّرت إيران الدعم للعراق، فيما رفضت الولايات المتحدة – التي لم تكن راضية عن المالكي – تقديم الدعم. وخلال فصول الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، التي استمرّت نحو أربع سنوات، بلغ النفوذ الإيراني ذروته في العراق.

ردود الفعل العراقية ضدّ الهيمنة الإيرانية

بدأ تراجع مشاعر التأييد لإيران في أعقاب إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق في العام 2017. ويُعزى ذلك بشكل كبير إلى تنامي الغضب الشعبي تجاه الطبقة السياسية الشيعية الفاسدة في البلاد. ففي العام 2018، أضرم متظاهرون غاضبون النار في القنصلية الإيرانية وأحرقوا مكاتب لأحزاب وميليشيات موالية لإيران في محافظة البصرة الجنوبية الغنية بالنفط، في سياق مظاهرات أوسع نطاقًا دامت أربعة أشهر واندلعت احتجاجًا على سوء الخدمات العامة، ولا سيما النقص في مياه الشرب. سُمّيت حركة الاحتجاج العفوية هذه في البصرة "انتفاضة المياه" وشكّلت منعطفًا مهّد الطريق أمام اندلاع حراك تشرين الاحتجاجي الأبرز الذي شمل مختلف أنحاء البلاد. انطلقت شرارة حراك تشرين، كما يدلّ اسمه، في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019 ودام ستة أشهر، وساهم في تعميق الفجوة التي تفصل بين المواطنين العراقيين العاديين وإيران، ولا سيما حين غرّد خامنئي ما مفاده أن هذه الاحتجاجات عبارة عن أعمال شغب تسبّبها الولايات المتحدة وإسرائيل، داعيًا قوات الأمن العراقية إلى قمعها بالقوة. وردّ المتظاهرون العراقيون من خلال شنّ هجمات على القنصليات الإيرانية وإحراقها في مدن عراقية عدة. وأدّى إقدام الميليشيات العراقية الموالية لإيران بتوجيه من سليماني على استهداف المتظاهرين لاحقًا إلى تأجيج المواقف المناهضة لطهران في أوساط عامة العراقيين.

نسخة اجتماعي متمايزة من الوطنية العراقية. وعلى خلاف النسخ السابقة من الوطنية العراقية التي شكّلتها الدولة وصاغتها، تُعتبر النسخة الراهنة عفوية الطابع، إذ وُلدت من رحم التجارب التي خاضها عامة العراقيين في مرحلة ما بعد العام 2003، وشارك فيها على نطاق واسع الشيعة، أي المكوّن الذي تدّعي الميليشيات الموالية لإيران أنها تمثّله. وحظيت هذه النسخة الوطنية بشعبية كبيرة في أوساط الشباب، الذين تُعتبر ميولهم أكثر ليبراليةً عمومًا. وتجلّى هذا التوجه الجديد من خلال خطوة كانت بمثابة كسرٍ للمحرّمات القائمة وتمثّلت في الانتقاد العلني للنظام الديني الإيراني الذي أُنحيت عليه اللائمة لدعمه الطبقة الحاكمة الممقوتة حاليًا في العراق، وحُمِّل مسؤولية المآسي الكثيرة التي يعانيها العراق. وصف مناصرو النسخة الوطنية العراقية الجديدة إيران بعبارات سلبية أتت متناقضة تمامًا في الكثير من الأحيان مع العبارات التي استخدمها المسؤولون العراقيون لوصف جارتهم خلال المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

في هذا السياق الأوسع، اعتُبرت حكومة مصطفى الكاظمي، التي تشكّلت في أيار/مايو 2020، محاولةً من الأحزاب الشيعية المهيمنة لتهدئة غضب الشارع. أدرك الكاظمي أنه يفتقر إلى الدعم الحقيقي من هذه الأحزاب، لذا أطلق سلسلةً من الإجراءات الإصلاحية سعيًا منه لبناء قاعدة نفوذ مستقلة له وكسب تأييد مناصري حراك تشرين. وتمثّل أحد هذه الإجراءات في إعادة بسط سيطرة الدولة على المنافذ الحدودية. فقد أمر الكاظمي بنشر قوات الرد السريع، إحدى قوات النخبة العراقية التي درّبتها الولايات المتحدة، عند المنافذ الحدودية مع إيران، ما وضع حدًّا لسيطرة الميليشيات غير المباشرة عليها. وبانت النتائج الإيجابية بصورة فورية تقريبًا، إذ كشفت هيئة المنافذ الحدودية، وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن جميع المنافذ، أن إيراداتها التي بلغت حوالى 95 مليون دولار خلال شهر آب/أغسطس 2020 شكّلت ضعف المبلغ المحصَّل خلال الشهر نفسه من العام 2019.2

وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أصدر علي علاوي، وزير المالية في حكومة الكاظمي، مرسومًا نصّ على "إلغاء جميع الإعفاءات والاستثناءات الجمركية والضريبية الممنوحة للدول والمؤسسات الحكومية". يُشار إلى أن هذا المرسوم لم يواجه معارضة من الجهات الموالية لإيران، التي أدركت على ما يبدو أن الركود الاقتصادي الذي يعاني منه العراق يقلّص هامش التصرّف المتاح أمامها. وتسبّبت هذه الإجراءات التي اتّخذها علاوي بهبوط حاد في حجم التبادلات التجارية من إيران إلى العراق لأسابيع عدة، إلا أنها سُرعان ما عاودت الارتفاع في وقت لاحق مستفيدةً من مجموعة مختلفة من الإعفاءات التي لم تستطع الحكومة إلغاءها.3

علاوةً على ذلك، عمد الكاظمي إلى إلغاء الإعفاءات من الضرائب والرسوم الممنوحة لشركات القطاع الخاص. يمنح قانون الاستثمار العراقي للعام 2006 المستثمرين إعفاءات من الضرائب والرسوم لمدة تصل إلى 15 عامًا للمشاريع التي تحصل على موافقة الهيئة الوطنية للاستثمار، وهي الجهاز التنظيمي الحكومي الذي يتعامل مع المشاريع الاستثمارية المحلية والأجنبية. يهدف هذا القانون إلى تشجيع الاستثمار، لكنه أصبح بسبب الفساد وسوء إنفاذه أداةً في أيدي إيران، والميليشيات الموالية لها، والأحزاب العراقية الحاكمة، وغيرها، للتهرّب من الضرائب والتربّح غير المشروع. على مرّ السنوات، وقّعت الحكومة العراقية عقودًا لتنفيذ آلاف المشاريع مع شركات تُغطي قطاعات مختلفة مثل الصحة، والتعليم، والبنى التحتية، والخدمات الأساسية، والزراعة، إلا أن الكثير من هذه المشاريع لم يرَ النور.

وخلال زيارة أجراها الكاظمي إلى الهيئة الوطنية للاستثمار في نيسان/أبريل 2021، أصدر توجيهات بإلغاء جميع الإجازات للمشاريع الاستثمارية المتلكّئة التي تتراوح نسبة إنجازها بين 0 و35 في المئة، وبلغ عدد المشاريع الملغاة 1,128 مشروعًا. الجدير بالذكر أن ما من سجل رسمي يكشف الفارق المالي المحتمل الذي أحدثه هذا الإجراء، لكن الكثير من المقاولين المسؤولين عن تنفيذ المشاريع المُلغاة كانوا يجنون الأرباح من خلال استيراد موادّ البناء المُعفاة من الضرائب من إيران، ولا سيما الحديد والإسمنت، ثم بيعها في السوق العراقية، فتكبّدوا الكثير من الخسائر.4 لكن خلال العام 2022، كشفت وزارة التخطيط أن المشاريع المتلكّئة بلغت حوالى 1,452 مشروعًا بكلفة وصلت إلى 17 مليار دولار أميركي تقريبًا.

2021، وافق الكاظمي على الخطة التي وضعتها هيئة المنافذ الحدودية الرامية إلى تطبيق الأتمتة الإلكترونية في المنافذ الحدودية – التي لا تزال تستخدم الموازين الميكانيكية وتجري المعاملات يدويًا وتتبع نظام السداد النقدي المباشر وليس الإلكتروني - "لتحقيق الأهداف المرجوة في ضبط المخالفات وتعظيم الإيرادات الحكومية".

لكن مشروع أتمتة المنافذ لم يتحقّق على الإطلاق. علاوةً على ذلك، توغّل الفساد تدريجيًا في صفوف وحدات الجيش النظامي التي حلّت مكان قوات الرد السريع على المنافذ الحدودية، من خلال أساليب الترهيب والترغيب.

يمكن القول إن كل هذه الإخفاقات نجمت عن التعطيل المشترك الذي قاده تحالف قوي يضم جهات تستفيد من ترك المنافذ الحدودية من دون رقابة وتنظيم فاعَلين. هذا التحالف، الذي يتألّف من قوى موالية لإيران ومكاتب اقتصادية تابعة للأحزاب الحاكمة والتجار النافذين، شكّل عالمًا غامضًا يبدو هدفه الظاهري ضمان الحماية القانونية للمصلحة العامة، لكن هدفه الحقيقي هو عرقلة أي إصلاحات جادّة، ولا سيما إذا كانت تهدّد المصالح الشخصية والفئوية الراسخة. وتفنّن هذا التحالف، بهدف قتل المشاريع المفيدة (التي تشكّل بالتالي تهديدًا له)، في نصب ما يمكن تسميته الفخاخ البيروقراطية القاتلة. فما يحدث هو ما إن توقّع إحدى الهيئات الحكومية المعنية عقدًا ما حتى يتعرّض للتشكيك والمراجعة من هيئة حكومية أخرى بذريعة أنه ينطوي على مخالفات متصوَّرة ما، ويجري تكرار هذا السيناريو إلى أن يتم فعليًا قتل المشروع.

قدرة الميليشيات على الاستمرار

خاضت حكومة الكاظمي، على الرغم من فشلها في نهاية المطاف في تنفيذ إصلاحات متعلّقة بالمنافذ الحدودية، مواجهة مطوّلة مع الميليشيات على خلفية استعراضاتها العلنية لقوّتها، وتحدّيها للحكومة بخصوص وجود القوات الأميركية، واستهدافها للناشطين، وفسادها. ساعد هذا في تشكيل انطباع عام في البلد أن الميليشيات مدينة بالفضل لإيران، ما جرّدها أكثر فأكثر من شرعيّتها في نظر العراقيين العاديين. وفي مرحلة ما بعد الحراك التشريني في العراق، حيث كان الرأي العام متلهّفًا لتلمّس إجراءات تؤول إلى تفكيك الميليشيات لا بل معاقبتها على الجرائم التي ارتكبتها بحق المتظاهرين السلميين، أدّى تحدّي الميليشيات السافر للحكومة، بما في ذلك التهديد المهين بقطع أذنَي رئيس الوزراء "كالماعز"، إلى تنامي الاستياء الشعبي منها على نطاق واسع. لم تعمد أي حكومة سابقة إلى الوقوف في وجه الميليشيات، فكان ردّ هذه الأخيرة معبِّرًا عن حقيقتها.

في نهاية المطاف، سقطت في عهد الكاظمي الواجهة القانونية والرسمية وكذلك التفاهم الضمني بين الدولة والميليشيات بإبقاء خلافاتهما بعيدًا عن أعين الرأي العام. كذلك، تأثّرت صورة الميليشيات سلبًا بخسارتها الغطاء الديني حين أعلنت قوات حشد العتبات شبه العسكرية عن انسحابها من وحدات الحشد الشعبي في مطلع كانون الأول/ديسمبر 2020 بسبب الخلافات السياسية والإدارية. يُشار إلى أن قوات حشد العتبات تابعة للسيستاني، وليس لإيران.

أما العامل الآخر الذي ساهم في تراجع الميليشيات والأحزاب السياسية الشيعية الموالية لإيران، فتمثّل في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021. بدايةً، وعلى النقيض من الأداء القوي الذي أظهرته الميليشيات في انتخابات 2018 غداة هزيمة الدولة الإسلامية، كان أداؤها سيئًا جدًّا في هذه الانتخابات، ما كشف عن حجم الرفض الشعبي لها. فلم يعد يُنظَر إليها بأنها "أبطال التحرير"، بل بأنها مجموعات شبيهة بالمافيا تحاول التنمّر على الآخرين، بما في ذلك الدولة، لدفعهم إلى خدمة مصالحها الفئوية. فقد خسرت الميليشيات في الانتخابات ولم تتمكّن من تغيير النتائج، على الرغم من المخاوف التي سادت على نطاق واسع من أن اختراقها العميق للدولة قد يمكّنها من تنفيذ ذلك.

تدهورت مكانة الميليشيات أكثر فأكثر خلال الصراع على السلطة الذي أعقب المصادقة على نتائج الانتخابات في كانون الأول/ديسمبر 2021. طوال فترة الصراع الذي استمرّ تسعة أشهر، ألحق الإطار التنسيقي، وهو تجمّع من الأحزاب والميليشيات الشيعية الموالية لإيران، الضرر بنفسه من خلال توجيه قوته النارية ضد عراقيين آخرين، ولا سيما الفصائل السياسية الكردية والسنّية والشيعية التي لم تكن تابعة لإيران. وبغية ثني الفصائل السنّية والكردية عن تشكيل تحالف مع التيار الصدري، وهو فصيل شيعي مناهض لإيران، أقدم الإطار التنسيقي على قصف إربيل، حيث يقع مقرّ حكومة إقليم كردستان في شمال العراق الذي تقطنه أكثرية كردية ويتمتع بحكم ذاتي، وعلى إلقاء قنابل يدوية على المكاتب التابعة لحزبَين سنيَّين في بغداد، حتى إنه لوّح بخطر نشوب حرب أهلية. وتمكّن الإطار التنسيقي، من خلال تفكيك تحالف الصدريين الناشئ مع الأحزاب السنّية والكردية، من منع تشكيل حكومة أكثرية، ما كان من شأنه أن يحيله إلى صفوف المعارضة. بدلًا من ذلك، أراد الإطار التنسيقي تشكيل حكومة وحدة وطنية يتمتّع بحصّة فيها.

لكن الإطار التنسيقي لم يستطع فرض إرادته على الآخرين، على الرغم من لجوئه إلى هذه التكتيكات التخويفية. فإفشال محاولات تشكيل حكومة أكثرية جاء نتيجة الجهود المتضافرة التي بذلتها مجموعة من القوى شملت الإطار التنسيقي؛ والقضاء العراقي الذي أصدر قرارًا اعتبر بموجبه أن انتخاب الرئيس، الذي يعيّن بنفسه رئيس مجلس الوزراء، يتطلّب نصاب الثلثَين في مجلس النواب؛ وإيران نفسها.

وأتت الضربة التي ألحقت الضرر الأكبر بالسمعة المتدهورة أصلًا للميليشيات بعد تشكيل الحكومة. فقد بدت الميليشيات انتهازية حين أحجمت عن السعي خلف هدفها المُعلن وغير المتبدّل على ما يُفترَض، والمتمثّل في إرغام القوات الأميركية على الخروج من العراق – علمًا بأنها عمدت إلى شيطنة الكاظمي لأنه لم يعمل على تحقيق هذا الهدف. وسرعان ما بدأت هذه الميليشيات، بوصفها مكوّنًا نافذًا في الائتلاف البرلماني الحاكم، تبدي موقفًا مُتفهمًا لتعاملات حكومة محمد شياع السوداني الواسعة مع الولايات المتحدة، بما في ذلك اجتماعاته المتعدّدة مع السفيرة الأميركية في العراق. وقد رأى عراقيون كثر في هذا الموقف المتبدّل مؤشّرًا على الرياء الأخلاقي لهذه الميليشيات، ولم يروا فيه براغماتية مبرَّرة.

على الرغم من هذا الاستياء الشعبي، ومن أن ميل النخبة الحاكمة بعد العام 2003 إلى الريعية والكلبتوقراطية (النهب المنظّم للموارد العامة) تسبّب بإفقار المجتمع وتبديد آمال معظم العراقيين بتحقيق التقدّم الاجتماعي والاقتصادي، من غير المرجّح أن تنخرط الحكومة الحالية في إصلاح جدّي طالما أن إيران تخضع للعقوبات الأميركية، وفي ظل غياب الضغوط القوية من الشارع. وليس مفاجئًا أن هذا الموقف المناوئ للإصلاح ينطبق على مسألة المنافذ الحدودية. علاوةً على ذلك، وفي السياق الأوسع للأمور، ليس الفساد في المنافذ الحدودية كافيًا وحده لتعبئة المحتجّين ودفعهم إلى التحرّك، لأنه ليس واقعًا يوميًا يختبره الأشخاص عن كثب – خلافًا للفساد المستشري في قطاعات الصحة والكهرباء والتعليم مثلًا. فالعراقيون العاديون لا يتنبّهون للمنافذ الحدودية في حياتهم اليومية، لذا ستستمر إيران والميليشيات في بسط سيطرة كبيرة عليها في المستقبل المنظور.

خاتمة

يُعتبر تخلّي الرأي العام عن المفاهيم السابقة للإصلاح القطاعي التطوّر الأبرز في الثقافة السياسية العراقية خلال الأعوام الخمسة الماضية. فالمواطنون العاديون لن يأتمنوا بعد الآن الحكومة على معالجة مشاكل مثل التعليم أو الصحة أو الزراعة بصورة تدريجية ومجزّأة. فَفقدان الشعب ثقته بالطبقة السياسية الحاكمة دفعه إلى الإصرار على الإصلاح السياسي الشامل أولًا، من خلال تعديل عملية صنع القرار عند أعلى مستويات الدولة عبر إخضاع الطبقة السياسية الحاكمة للمساءلة والمحاسبة. وتبعًا لذلك، يجب أن يشكّل إصلاح المنافذ الحدودية جزءًا من رزمة أكبر للإصلاح السياسي تنجم عن ضغوط شعبية واسعة. فالجهاز النظامي للدولة العراقية لا يستطيع أن ينفّذ، من تلقاء ذاته، إصلاح المنافذ الحدودية. وحده رئيس وزراءٍ يتمتع بالإرادة القوية والتأييد الشعبي ويمارس السيطرة الكاملة على السلطة التنفيذية ويحظى بالدعم من كتلة برلمانية نافذة يمكنه الإقدام على هذه الخطوة – وعبر ذلك - تجاوُز الفخ البيروقراطي القاتل وتنفيذ مشاريع مفيدة. لكن يبقى السؤال مطروحًا حول ما إذا سيحظى العراق قريبًا برئيس وزراء يستوفي هذه المواصفات.

تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK Aid التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.

هوامش

1 قال مسؤولون عاملون في المنفذ الحدودي للمؤلِّف إن اسم السلعة قد يتغيّر و/أو وزنها المقدّر قد يُخفَّض بشكل ملحوظ بحسب كل حالة. وفي أحيان أخرى، عادةً خلال الليل، تمرّ السلع من دون إجراء أي تفتيش. تواصل شخصي بين المؤلّف ومسؤولين عاملين فيأحد المنافذ الحدودية، آذار/مارس 2023.

2 لم يتضمّن البيان أرقامًا مفصّلة حول كل دولة، لكن من المنطقي الافتراض أن الجزء الأكبر من الارتفاع في الإيرادات تأتّى من المنافذ الحدودية بين العراق وإيران.

3 تواصل شخصي بين المؤلّف ومسؤولين حكوميين، شباط/فبراير 2023.

4 تواصل شخصي بين المؤلّف ومسؤول رفيع المستوى من الهيئة الوطنية للاستثمار، شباط/فبراير 2023.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.