شهدت تونس على مدى الأعوام الأربعة عشرة الماضية تحوّلات سياسية ضخمة، بما فيها عملية الانتقال الديمقراطي التي أعقبت الربيع العربي في العامَين 2010-2011، والانهيار الديمقراطي بعد استيلاء الرئيس قيس سعيّد على السلطة في العام 2021، والمنحى الفوضوي الذي بدأ مؤخّرًا ورسّخ العودة إلى الحكم السلطوي. ولكن أزمة المناخ حظيت بقدرٍ أقلّ من الاهتمام، مع أنها تُفاقِم المسار السياسي المضطرب في البلاد. فمنذ العام 2017، تشهد تونس تداعيات متعاظمة ناجمة عن تغيّر المناخ، بما في ذلك جفافٌ شديد، وتراجع حادّ في منسوب مياه الأنهار العابرة للحدود التي تتدفّق من الجزائر إلى تونس، وانخفاض شديد في احتياطيّات المياه في سدود البلاد. أسفرت هذه العوامل عن اختلال الأمن المائي والغذائي، مُتسبّبةً بتدهور كبير في الزراعة وتربية الماشية، ولا سيما في المناطق المتاخمة للجزائر.
لكن التحديات المناخية ليست وحدها المسؤولة عن اشتداد الأزمة في البلاد، بل إن إخفاقات سعيّد في الحكم فاقمت مكامن الضعف المزمنة في تونس، فساهمت في نقص الموادّ الغذائية، والتضخّم، وتصاعد وتيرة تهريب الماشية والمنتجات الغذائية إلى الجزائر ومنها. وعلى وجه الخصوص، زادت الإجراءات التنظيمية غير الفعّالة التي اتّخذتها السلطات التبعيةَ الغذائية، فيما حرمت القيود المالية تونس من الوسائل التي تتيح لها التكيّف مع تغيّر المناخ، ودعم قطاعها الزراعي المتدهور، والحفاظ على سيادتها. والواقع أن افتقار البلاد إلى الأمن الغذائي يتسبّب بتعاظم الاختلال في ميزان القوى بين تونس والجزائر، إذ ازداد النفوذ الجيوسياسي لهذه الأخيرة على جارتها الأضعف والأكثر تبعيةً. فما كان من تونس إلّا أن اصطفّت بشكلٍ وثيق إلى جانب الجزائر بعد أن عمّقت هذه التبعية تهميشَها على المستويَين الإقليمي والعالمي.
تغيّر المناخ والتهريب من تونس إلى الجزائر
شهدت تونس منذ العام 2017 سنوات من الجفاف الحادّ نتيجة تراجع معدّلات هطول الأمطار، والانخفاض الحادّ في احتياطيات المياه في السدود، من 50 في المئة في العام 2019 إلى 23 في المئة في العام 2024. زادت أزمة المناخ هذه، التي اتّسمت بفترات جفاف طويلة، الصعوبات التي اعترضت مربّي الماشية في مناطق البلاد الداخلية. وتخلّى آلاف المزارعين ومربّي الماشية تدريجيًا عن القطاع بسبب الخسائر الكبيرة التي تكبّدوها نتيجة ارتفاع أسعار الأعلاف، وأسعار بيع الحليب غير الملائمة التي تفرضها الحكومة.
وتفاقمت أزمة قطاع تربية الماشية على مرّ السنين، ما أدّى إلى تصاعد الحركات الاحتجاجية، إذ احتجّ مربّو الماشية مرارًا وتكرارًا على التفاوت المتنامي بين تكلفة إنتاج الحليب الآخذة في الارتفاع وسعر بيع الحليب المنخفض الذي تفرضه السلطات لحماية قدرة المستهلكين الشرائية، غالبًا على حساب سُبُل عيش سكان الأرياف. وبلغت الأزمة ذروتها في العام 2022، بعد أن رفعت شركات إنتاج الأعلاف الأسعار. ناهيك عن ذلك، تسبّبت الحرب في أوكرانيا بارتفاع تكلفة فول الصويا والذرة، ما أسفر عن زيادة حادّة في أسعار أعلاف الماشية. فقد ارتفع سعر طنّ العلف إلى 300 دينار (100 دولار)، بينما ارتفع سعر الكيس البالغ وزنه 50 كيلوغرامًا من 48 دينارًا (16 دولارًا) إلى 79 دينارًا (27 دولارًا)، الأمر الذي أثار احتجاجات واسعة النطاق في أرجاء تونس كافّة.
أثّرت التظاهرات بصورة كبيرة على المناطق الشمالية الغربية على الحدود مع الجزائر، حيث قطع المزارعون الطرق بمواشيهم، وخيّموا خارج مصانع الإنتاج على مدى ليالٍ للمطالبة برفع سعر الحليب. وهدّد بعض المزارعين ومربّي الماشية حتى بتخصيص محصولهم النباتي بالكامل لتغذية الأبقار الحلوب، وذلك للتسبّب بانخفاض كمية الحبوب المتوافرة في السوق. وركّزت مطالبهم على التراجع عن زيادات أسعار الأعلاف، ورفع سعر الحليب الذي اعتبروه منخفضًا جدًّا. ونظرًا إلى أن تكاليف الأعلاف تشكّل 70-80 في المئة من نفقات الإنتاج، كافح مربّو الماشية من أجل البقاء: فبينما كانت تكلفة إنتاج الليتر الواحد من الحليب 1.80 دينار (0.63 دولار)، حُدّد سعر البيع بـ1.35 دينار فقط (0.42 دولار). واستجابةً لهذه الاحتجاجات، أعلنت وزارة التجارة إلغاء زيادة أسعار الأعلاف، إلا أن شركات إنتاج الأعلاف تلاعبت بمعايير الجودة، وفقًا لمربّي الماشية، للتعويض عن خسائرها بعد إلغاء زيادة الأسعار. فأثّر ذلك سلبًا على صحة قطعان الماشية ومستويات الإنتاج، ما زاد من تدهور ظروف عمل مربّي الماشية ومعيشتهم.
في كانون الثاني/يناير 2024، أعلن سعيّد، الذي كان اتّهم مرارًا مصنّعي الأعلاف بالمضاربة، عن إنشاء الديوان الوطني للأعلاف، مانحًا الدولة احتكار إنتاج الأعلاف واستيرادها. لكن هذا الإجراء لم يسهم في حلّ مشاكل قطاع المواشي، ولم يكن له تأثيرٌ يُذكَر. وهكذا، استمرّ نقص الأعلاف، دافِعًا المزيد من مربّي الماشية إلى بيع مواشيهم والتخلّي عن هذا النشاط، الأمر الذي فاقم اختلال الأمن الغذائي في البلاد. والواقع أن تراجع قطاع الزراعة يُعَدّ جزءًا من توجّه انحداري طويل الأمد تشهده تونس منذ عقدَين من الزمن، حيث انخفضت نسبة القوى العاملة في الزراعة من 17 إلى 12 في المئة بين العامَين 2012 و2023.
لكن الجفاف ليس العامل الوحيد وراء هذه الأزمة. فقد أدّت مشاريع بناء السدود التي نفّذتها الجزائر على طول الأنهار العابرة للحدود مع تونس، إلى جانب زيادة استهلاك المياه، إلى انخفاضٍ كبيرٍ في منسوب المياه في مجاري الأنهار، ما أدّى إلى تراجع المحاصيل، وتفاقُم الصعوبات المالية التي عانى منها المزارعون في المناطق الغربية من تونس. والواقع أن الجزائر تنفّذ، منذ العام 2017، سياسةً تنموية طموحة تستند إلى بناء السدود على طول الأنهار المشتركة مع تونس، لتوسيع كلٍّ من شبكات الريّ والبنية التحتية لتخزين المياه مثل البحيرات الاصطناعية. وبين العامَين 2017 و2019، زادت الجزائر عدد سدودها بوتيرة متسارعة، من 65 إلى 81 سدًّا، ساعيةً إلى بناء 139 سدًّا بحلول العام 2030. وهكذا، لبّت الجزائر حاجاتها من الريّ في المناطق الشرقية بشكل فعّال، من خلال تقليل كمية المياه المتدفّقة في مجاري الأنهار. ولكن في الوقت نفسه، تسبّب بناء الجزائر السدودَ على نهر وادي ملّاق وأنهار مشتركة أخرى بتقليل الأراضي المرويّة في تونس. هذا وشهد نهر وادي مجردة، الذي يُعَدّ أهمّ نهر عابر للحدود في تونس، انخفاضًا كبيرًا في منسوبه عقب بناء سدٍّ في الجزائر. يزوّد هذا النهر أكثر من نصف سكان البلاد بالمياه، ويشكّل شريانًا حيويًا، إذ يعيش 13.4 في المئة من إجمالي سكان تونس في حوضه (انظر الخريطة).

إضافةً إلى بناء السدود، كثّفت الجزائر أيضًا استغلالها لحوض المياه الجوفية المشترك مع كلٍّ من تونس وليبيا. يحتوي هذا الحوض على كميات من المياه تتراوح بين 40 و50 ألف مليار متر مكعّب، تستغلّ الجزائر 70 في المئة منها. تقبّل النظام التونسي هذا الوضع في البداية كأمرٍ واقع نظرًا إلى ضعفه السياسي، وحوّل تركيزه إلى إدارة ندرة المياه. وقد شملت الاستراتيجية الأساسية التي اتّبعها تقليص الاستهلاك، وقطع إمدادات المياه كلما وصلت الاحتياطيات إلى مستويات حرجة، إلا أن حدّة ندرة المياه وتصاعد التنافس الجزائري المغربي أتاحا مؤخّرًا الفرصة لتسليط الضوء على قضية المياه الجوفية. ففي نيسان/أبريل 2024، أفضت قمّة مغاربية ضمّت الجزائر وليبيا وتونس (مع استبعاد المغرب بشكل ملحوظ) إلى اتفاق لإعادة تفعيل آلية تشاور وزاري حول إدارة موارد المياه الجوفية المشتركة. ولكن بما أن الاتفاق لم يتضمّن أيّ تعهّدات مُلزِمة، من المتوقّع أن تستمرّ قضية المياه في الهيمنة على أجندة المغرب العربي، لا بل قد تتسبّب حتى باندلاع نزاعات. تشير التوقّعات إلى أن متوسّط درجات الحرارة في تونس سيرتفع بمقدار 2.1-2.4 درجة مئوية بحلول العام 2050، و4.2-5.2 درجات مئوية بحلول العام 2100. ومن شأن هذا الارتفاع في درجات الحرارة أن يؤثّر تأثيرًا حادًّا على معدّلات هطول الأمطار، التي يُتوقَّع أن تنخفض بنسبة 1-15 في المئة بحلول العام 2050، و18-27 في المئة بحلول العام 2100. من الضرورة بمكان إذًا اتخاذ تدابير عاجلة للتكيّف مع المناخ من أجل تخفيف حدّة هذه التداعيات، وحماية الموارد المائية في المنطقة.
فضلًا عن ذلك، أرغمت أزمة المياه آلاف مربّي الماشية في المناطق الحدودية على بيع أراضيهم ومواشيهم، الأمر الذي كثّف تهريب الماشية إلى الجزائر. امتدّ هذا النشاط غير القانوني إلى ولايتَي باجة وبنزرت، بعد أن تركّز في البداية في ولايات الكاف وجندوبة وسليانة والقصرين التونسية. وبين العامَين 2015 و2022، انخفضت أعداد قطعان الماشية في تونس من 671 ألف رأس إلى 388 ألفًا، في حين سُجّل أشدّ انخفاض بين العامَين 2019 و2020، حيث فُقِد 184500 رأس من الماشية. هذا وتسبّب الانخفاض الحادّ في أعداد الأبقار الحلوب بنقص الحليب، وخسائر كبيرة في عائدات مربّي الماشية.
وقد استغلّت شبكات تهريب الماشية تراجع قطاع الزراعة التونسي، وازدياد الطلب على الماشية في المناطق الحدودية الجزائرية. إذًا، يشتري الوسطاء الماشية، ثم يرتّبون نقلها، ويهرّبونها إلى الجزائر بشكل غير قانوني، مستفيدين من علاقاتهم مع حرس الحدود الفاسدين. أسفر هذا التهريب عن نقل جزءٍ من الثروة الحيوانية إلى خارج تونس، ما فاقم أزمة الغذاء فيها. ويتجلّى هذا التفاوت أيضًا في تزايد عدد مزارعي المناطق الحدودية التونسيين الذين أصبحوا عمّالًا موسميين في الجزائر، يعملون خلال مواسم الحصاد للتعويض عن خسائر الدخل الناجمة عن الجفاف ونقص المياه في تونس.
اختلال الأمن الغذائي والاعتماد المتزايد على الجزائر
منذ انهيار عملية الانتقال الديمقراطي في العام 2021، واجهت تونس مأزقًا ماليًا، بحيث باتت معزولةً أكثر فأكثر تحت قيادة سعيّد، بعد عقدٍ من الدعم المالي والحصول السهل على التمويل الخارجي. فموقف سعيّد المناهض للغرب ورفضه برنامج صندوق النقد الدولي زادا خطر الانهيار المالي، في ظلّ تراجع التمويل الخارجي لتونس من دون خطة بديلة واضحة. فقد اضطّرت البلاد فعليًا إلى اتخاذ إجراءات تقشّفية، بما فيها خفض الواردات، حتى من الموادّ الغذائية الأساسية، وخنق الاستثمار، خصوصًا في قطاع الزراعة ومجال التكيّف مع تغيّر المناخ. ونتيجة عزلة نظام سعيّد الشعبوي وصعوبة ضمان بقائه، أصبح يعتمد على الدعم المالي من الجزائر المجاورة، مُتغاضيًا أيضًا عن توسُّع أنشطة التهريب على طول الحدود التونسية الجزائرية، الأمر الذي يزيد اعتماد تونس على جارتها للحصول على الموادّ الغذائية، ويمنح الجزائر نفوذًا سياسيًا أكبر. والواقع أن اعتماد المناطق الحدودية المهمّشة على سلاسل الإمداد الغذائي غير الشرعية، والتبعات المُزعزعة للاستقرار التي قد تترتّب عن تعطيل السلطات الجزائرية هذه الشبكات، قد يصبحان أداةً يمكن أن تستخدمها الجزائر للضغط على تونس.
لقد أثبتت سياسات تونس الاقتصادية عدم كفاءتها، وأضرّت بوجهٍ خاص بقطاع الزراعة والأمن الغذائي. فقد بقي معدّل النمو في البلاد راكدًا منذ العام 2020، ثم سجّلت تونس في العام 2023 ثاني أدنى معدّل نمو اقتصادي لها منذ عقد، عند 0.4 في المئة فقط. ولم يكن النمو أقلّ من ذلك سوى في العام 2020، السنة الأولى من تفشّي وباء كوفيد-19. انعكس هذا الأداء الاقتصادي الضعيف على قطاع الزراعة، إذ انخفضت حصة الزراعة والغابات والصيد البحري من الناتج المحلي الإجمالي، من 10.8 في المئة في العام 2022، إلى 9.5 في المئة في العام 2023.
في الوقت نفسه، عانى المزارعون من ارتفاعٍ حادٍّ في تكاليف موادّ أساسية للإنتاج الزراعي (مثل الذرة وفول الصويا والشعير والعلف). وتفاقم هذا الوضع نتيجة تقييد واردات الأعلاف والبذور والحبوب التي تحتكر الدولة استيرادها، ناهيك عن تحديد الدولة سقف أسعار المنتجات، وصعوبة حصول المزارعين على القروض المصرفية، ما دفع كثرًا منهم إلى التوقف عن الاستثمار في القطاع الزراعي. وتُثبت الأرقام هذا المنحى: فبين العامَين 2019 و2024، تراجع حجم الاستثمارات بنسبة 30 في المئة، وتضاءل عدد العاملين في القطاع الزراعي بنسبة 46 في المئة، وانخفضت القروض المخصّصة للمزارعين بنسبة 28 في المئة. علاوةً على ذلك، تقلّصت مساحة الأراضي الزراعية التي كان من الممكن استخدامها في استثمارات جديدة بنسبة 44 في المئة (انظر الشكل 1).
أفرزت الأزمة الزراعية المتفاقمة، الناجمة عن هذا الوضع، ثلاث نتائج رئيسة. تتمثّل النتيجة الأولى في الارتفاع الحادّ في معدّلات تضخّم أسعار الموادّ الغذائية. فقد تضاعفت أسعار الموادّ الغذائية منذ العام 2021، من 5.3 في المئة في المتوسط بين العامَين 2015 و2019 إلى 10.5 في المئة في المتوسط بين 2021 و2024. وتفاقمت هذه الزيادة بفعل النقص المتكرّر في الأسواق التونسية لبعض الموادّ الغذائية الأساسية مثل القهوة، والأرز، وزيت الطهي، والسكر. وفيما يهدف خطاب سعيّد الشعبوي الذي دعا فيه إلى "التعويل على الذات" إلى الحفاظ على استقرار الأسعار، أدّت القيود المفروضة على الواردات واحتكار الدولة من جديد للأعلاف والمنتجات الزراعية الأخرى إلى تأثير معاكس، أي إلى مستويات تضخّم أعلى. إذًا، ارتفع معدّل تضخّم أسعار الموادّ الغذائية، وازداد إنفاق الأُسر على الموادّ الغذائية من 29 في المئة في العام 2015 إلى 30 في المئة و35 في المئة خلال العامَين 2021 و2024 على التوالي.
أما النتيجة الرئيسة الثانية فهي الاعتماد المتزايد على الواردات الغذائية، ولا سيما القمح، نتيجة تراجع الإنتاج المحلي. ففي العام 2024، لبّت واردات القمح 81.8 في المئة من حاجات تونس، مع العلم بأن هذه النسبة كانت أعلى من ذلك حتى في العام 2023، إذ بلغت 89.6 في المئة (انظر الشكل 2). ولا يُعزى الانخفاض الطفيف في النسبة المسجّلة في العام 2024 إلى تحسّن الإنتاج المحلي، بل إلى النقص الحادّ في توافر الموادّ الغذائية في الأسواق بسبب تقييد الواردات، ما أدّى إلى تشكُّل طوابير طويلة أمام المخابز وعدم انتظام عملية توزيع الخبز في بعض الأحيان. ويُسلّط هذا الاعتماد المُفرط على الواردات الضوء على تدهور الإنتاج المحلي مقارنةً مع الفترة الممتدّة بين العامَين 2015 و2019، حين كانت واردات القمح تغطّي نحو 70 في المئة فقط من حاجات تونس.
والنتيجة الثالثة هي ارتفاع حجم الواردات الغذائية المتدفّقة بصورة غير قانونية من الجزائر. فقد أدّى تدهور الإنتاج الغذائي المحلي إلى ارتفاعٍ هائل في وتيرة تهريب الموادّ الغذائية عبر الحدود التونسية الجزائرية، الأمر الذي قوّض بشكل إضافي الأمن الغذائي في البلاد.
شهدت عمليات تهريب الموادّ الغذائية من الجزائر زيادةً ملحوظة منذ العام 2021. فآلاف التونسيين القاطنين في المناطق الحدودية، مثل قفصة وجندوبة والقصرين والكاف، يتنقّلون مرّات عدّة في الأسبوع ذهابًا وإيّابًا من تونس إلى الجزائر لشراء زيت الطهي، والحليب المجفّف، والقهوة، والدقيق، والسكر، والأجبان وغيرها من الموادّ الغذائية الأساسية. ومنذ ذلك الحين، اتّسع نطاق الطلب على هذه السلع، فبات عددٌ متزايدٌ من سكّان المناطق الداخلية التونسية، وحتى العاصمة، يعبرون الحدود إلى الجزائر، إمّا بسياراتهم الخاصة أو في إطار رحلات منظّمة. وقد عمدت وكالات أسفار تونسية إلى تنظيم هذه الرحلات التجارية، التي تدوم عادةً حوالى ثلاثة أيام، وتنقل آلاف التونسيين إلى الجزائر أسبوعيًا لشراء الموادّ الغذائية والسلع الاستهلاكية. وتُقلّ الحافلات المتسوّقين، ومعظمهم من النساء، للتبضّع في المناطق الحدودية الجزائرية، ولا سيما في مدن عنابة وقسنطينة وسطيف وسوق أهراس.
يستفيد المستهلكون التونسيون من الفارق الكبير في الأسعار بين البلدَين، إذ تدعم الحكومة الجزائرية أسعار الموادّ الغذائية الأساسية. على سبيل المثال، يبلغ سعر عبوة زيت الطهي بسعة 5 ليترات ما يعادل 8 دنانير (2.50 دولار) في الجزائر، مقارنةً مع 15 دينارًا (4.70 دولارات) في تونس. يُضاف إلى ذلك أن طلب التونسيين ازداد بشكلٍ كبير، ما دفع كثرًا إلى فتح متاجر ومحلّات صغيرة في البلدات الحدودية الجزائرية من أجل تلبية حاجات الزبائن التونسيين الجدد. تُعرَض البضائع الجزائرية وتُباع على نطاق واسع في الأسواق الأسبوعية في البلدات الحدودية التونسية، ما يشير إلى تسارع وتيرة التكامل الحدودي بين شرق الجزائر وغرب تونس.
لقد اتّبعت السلطات التونسية نهجًا متباينًا لتنظيم أنشطة التهريب. فقد تساهلت، من جهة، مع الاستيراد غير النظامي للمعدّات والأجهزة الإلكترونية وغيرها من السلع غير المدعومة، لقاء الحصول على رشاوى. وعمَدت، من جهة أخرى، إلى تقييد واردات الموادّ الغذائية الأساسية المدعومة، بحيث حدّدت حصول كلّ فرد على كميات ضئيلة فقط. ويدفع هذا التقييد المستهلكين والتجّار التونسيين إلى تنفيذ رحلات متكرّرة ذهابًا وإيابًا لشراء هذه المنتجات، ويزيد في الوقت نفسه اعتماد تونس على الجزائر.
يمنح هذا النهج التنظيمي السلطات الجزائرية ورقةً يمكنها استخدامها للضغط على النظام التونسي، الذي يناشد في الكثير من الأحيان، عبر القنوات الإعلامية الرسمية، الجزائرَ بإبداء التضامن والتساهل مع التجارة غير المشروعة خلال الأزمات. يعتمد التساهل مع أنشطة التهريب هذه على مدى حسن العلاقات بين البلدَين. فعند تصاعد حدّة التوتّرات الدبلوماسية بينهما - على غرار ما حصل بعد هروب الناشطة الجزائرية المعارِضة أميرة بوراوي من الجزائر إلى فرنسا عبر تونس في كانون الثاني/يناير 2023 – تكثّف السلطات الجزائرية على ما يبدو عمليات مصادرة الموادّ الغذائية واعتقال التجّار وفرض عقوبات قاسية. بتعبيرٍ آخر، يصبح تهريب التونسيين للسلع أداةً تستخدمها السلطات الجزائرية للضغط على نظيرتها التونسية. وهكذا، تستغلّ الجزائر أزمة اختلال الأمن الغذائي المتفاقمة في تونس واعتماد السكان على الموادّ الغذائية المُستوردة بشكل غير قانوني، من أجل زيادة قدرتها على التأثير في النظام التونسي وحثّه على دعم أولوياتها ومواقفها. هذا ويشتدّ اعتماد التونسيين على تهريب السلع الجزائرية في المناطق الفقيرة الواقعة في غرب تونس بوجهٍ خاص، إذ بلغت نسبة الفقر 37 في المئة في العام 2021 في إقليم الوسط الغربي (ما يساوي ضعف المعدّل الوطني). في هذه المناطق، يعطي نظام سعيّد الأولوية إلى الحفاظ على الاستقرار وتفادي اندلاع احتجاجات أو اضطرابات اجتماعية.
يُعدّ تنامي تهريب الموادّ الغذائية بصورة غير مشروعة من الجزائر حصيلةً إضافية للتدهور الاقتصادي والمناخي الذي تشهده تونس. فهو يسلّط الضوء على اعتمادها المتزايد على الجزائر، ليس فقط في مجال الطاقة، بل أيضًا في مجال الإمدادات الغذائية. ونظرًا إلى عزلة تونس الراهنة، باتت تعتمد بشكلٍ شبه حصري على الدعم المالي من الجزائر، وذلك على شكل قروض وودائع في البنك المركزي التونسي، وصلت قيمتها إلى 650 مليون دولار في الفترة الممتدّة بين 2020 و2022. واستفادت تونس أيضًا من إمدادات الغاز الجزائري بأسعار تفضيلية، بالتوازي مع تسهيلات في الدفع.
لكن هذا الدعم كبّد تونس ثمنًا باهظًا على الصعيدَين المحلي والإقليمي. على المستوى المحلي، تسهم هذه التبعية في توطيد أركان العودة إلى الحكم السلطوي التي بدأت باستيلاء سعيّد على السلطة في العام 2021. وقد سمح الدعم الجزائري لنظام سعيّد بتقويض العملية الديمقراطية. فالجزائر لم ترحّب قطّ بالديمقراطية في البلدان المجاورة، إذ تعتبرها تهديدًا لنظامها، وخصوصًا في أعقاب الحراك الاحتجاجي الذي شهدته الجزائر ودعا إلى صون الحريات السياسية وتحقيق الانتقال الديمقراطي. لذا، أصبح ضمان إنهاء التجربة الديمقراطية في تونس والسعي إلى الحؤول دون تكرارها أولويةً للجزائر.
أمّا على المستوى الإقليمي، فقد دفعت هذه التبعية تونس إلى الاصطفاف بجانب الجزائر في صراعها مع المغرب. تاريخيًا، حافظت تونس على موقف حيادي بين البلدَين المتنافسَين، لكن هذا الموقف لم يعد ممكنًا بعد اعتمادها على الجزائر لتلبية حاجاتها المالية والغذائية وتوفير مصادر الطاقة. وحدثت نقطة التحوّل في أيلول/سبتمبر 2022، حين استقبل سعيّد رسميًا قادةً من جبهة البوليساريو في تونس العاصمة، مُظهرًا انحياز تونس للموقف الجزائري في صراع الصحراء الغربية. وبما أن جبهة البوليساريو، التي تحظى بدعم الجزائر، تطالب باستقلال الصحراء الغربية عن المغرب، تسبّبت خطوة سعيّد هذه بأزمة دبلوماسية بين تونس والرباط، أقدمت على إثرها الدولتان على استدعاء سفيرَيهما. ونظرًا إلى الحياد الذي كانت تتبنّاه تونس حيال هذه القضية وحفاظها على توازن علاقاتها الإقليمية مع كلٍّ من الجزائر والمغرب، تمكّنت في السابق من خفض منسوب التوتّر بين هذَين الخصمَين. ففي أواخر الثمانينيات، أدّت تونس دورًا في تعزيز التقارب بين الجزائر والمغرب، بلغ ذروته من خلال إنشاء اتحاد المغرب العربي في العام 1989. ومنذ ذلك الحين، كان جميع الأمناء العامّين للاتحاد من الدبلوماسيين التونسيين. أمّا اليوم فلم يعد باستطاعة تونس على الأرجح الاضطلاع بدور الوساطة في المغرب العربي، نظرًا إلى تصاعد التوتّرات في المنطقة - ولا سيما بعد توقيع المغرب على الاتفاقيات الإبراهيمية في العام 2020 - واصطفاف تونس إلى جانب الجزائر منذ استيلاء سعيّد على السلطة في العام 2021. وتسهم عوامل أخرى أيضًا بمفاقمة هذا الفراغ الدبلوماسي، مثل الانقسامات الداخلية في ليبيا، وحرص موريتانيا على تجنّب الانخراط والحفاظ على مسافة واحدة من كلٍّ من الجزائر والمغرب.
السبيل لخروج تونس من الحلقة المُفرغة
تونس عالقةٌ في حلقة مُفرغة. وثمّة عوامل تزيد من حدّة أزمتها المالية، مثل تدهور علاقاتها مع المؤسسات المالية الدولية، ونقص الدعم المالي من الدول الخليجية أو الأوروبية، وعجزها عن دخول الأسواق المالية الدولية. وتؤدّي هذه المشاكل إلى مفاقمة تداعيات الصدمات المناخية واختلال الأمن الغذائي. وقد أسفرت السياسات الانعزالية التي ينتهجها النظام الشعبوي عن تعرّض قطاعَي تربية الماشية والزراعة إلى خسائر متزايدة. يُشار أيضًا إلى أن اعتماد تونس على الجزائر لتأمين الموادّ الغذائية عزّز الأوراق التي بإمكان الحكومة الجزائرية استخدامها للضغط على جارتها الأضعف.
من أجل الخروج من هذه الدوّامة، يتعيّن على تونس إعطاء الأولوية إلى مكافحة تغيّر المناخ من خلال تنفيذ استراتيجية تكيّف شاملة لمواجهة تحدّيات الأمن الغذائي. ونظرًا إلى أن هذا المجهود سيتطلّب تمويلًا ضخمًا، من الضروري أن تتخلّى البلاد عن موقفها الانعزالي وتكثّف مساعي الحصول على الدعم المالي الخارجي. ولتعزيز قدرة تونس على الصمود في وجه التدهور المناخي، لا بدّ من اتّخاذ تدابير من شأنها تهيئة البنية التحتية في البلاد، وتحضير المزارعين، والمؤسسات، والمجتمع ككل لمواجهة الجفاف والظواهر المناخية الأخرى. كذلك، لا بدّ من ضمان توفير الحماية الاجتماعية لسكان المناطق الريفية، مثلًا من خلال وضع برامج للتحويلات النقدية المتعلقة بالمناخ، من شأنها مساعدة الأُسر الفقيرة على تغطية تكاليف الموادّ الغذائية المتزايدة والتكيّف مع تراجع المحاصيل. وينبغي على تونس أن تسعى أيضًا إلى إبرام اتفاقٍ رسمي مع الجزائر لوضع آليةٍ لإدارة الموارد المائية المشتركة، تركّز بشكلٍ خاص على تنظيم تدفّق الأنهار العابرة للحدود والمياه الجوفية. وختامًا، على تونس وقف اعتمادها على التجارة غير النظامية عبر الحدود مع الجزائر والسعي بدلًا من ذلك إلى إبرام اتفاقياتٍ تجارية رسمية. فمن شأن إنشاء مناطق تجارة حرّة أو إبرام اتفاقية تجارة حرّة أوسع نطاقًا أن يُسهما في تسهيل دخول الشركات التونسية الأسواقَ الجزائرية، وتعزيز التكامل الاقتصادي، والمساعدة في إعادة بعض التوازن إلى العلاقة الثنائية بينهما.
يودّ المؤلّف أن يتوجّه بالشكر إلى كلٍّ من هاشمي علية لجهوده في جمع البيانات، وإيمان حمدي لمساهمتها في البحث الميداني في المناطق الحدودية التونسية الجزائرية.
