المصدر: Getty

إنهاء التهميش اللاحق بشرق المغرب وسط تحديات تغيّر المناخ وضبط الحدود

ترزح منطقة شمال أفريقيا تحت وطأة التداعيات الناجمة عن تغيّر المناخ، ولا سيما ندرة المياه. وما لم تُتَّخذ إجراءات لمعالجة ذلك في القريب العاجل، فستواجه البلدات الحدودية الواقعة بين المغرب والجزائر أزمة وجودية حول قدرتها على البقاء والاستمرار.

 ياسمين زغلول
نشرت في ٢٩ أبريل ٢٠٢٥

ملخّص

أدّى إغلاق الحدود بين المغرب والجزائر إلى عرقلة أنشطة التهريب في الجهة الشرقية للمملكة. فقد سعت السلطات المغربية منذ ذلك الحين إلى تطوير البنية التحتية المحلية واستحداث فرص عمل بديلة هناك. ومع أن هذه المبادرات حافظت على الاستقرار في تلك المنطقة، لا تزال التحديات الناجمة عن تغيّر المناخ قائمة، ولا سيما ندرة المياه، ما يؤكّد على ضرورة أن يعمَد المغرب إلى دمج استراتيجيات التكيّف مع تغيّر المناخ بشكل أكبر في إطار خططه التنموية المحلية والإقليمية، وأن يحرص في الوقت نفسه على تبنّي النُظم الاجتماعية الاقتصادية المتوارثة جيلًا بعد جيل والحفاظ عليها في أوساط أبناء المجتمع المحلي.

محاور أساسية

  • اعتمد أبناء المجتمعات المحلية في الجهة الشرقية من المغرب، المتاخمة للحدود مع الجزائر والمُهمَلة منذ فترة طويلة، على التهريب من أجل تأمين سُبل العيش.
  • يُعزى السبب الأساسي للتشدّد في ضبط أمن الحدود منذ العام 1994، وخصوصًا في العام 2015، إلى المنافسات والتوترات الجيوسياسية بين الجزائر والمغرب، ما دفع المملكة إلى التركيز على التعاون مع دول أفريقية أخرى.
  • خلال السنوات القليلة الماضية، تأثّر المغرب بشكلٍ كبير بانخفاض معدّلات هطول الأمطار، وهذا المنحى تشهده بوضوح منطقة شمال أفريقيا ككل. ويطرح هذا الوضع تحدّيًا كبيرًا، نظرًا إلى الدور الحيوي الذي يؤدّيه القطاع الزراعي في تحقيق ازدهار الاقتصاد واستحداث فرص العمل.
  • ألحق تغيّر المناخ، ولا سيما ندرة المياه، أضرارًا كبيرة بالجهة الشرقية، التي تعاني أساسًا من مناخٍ جاف وشبه جاف، ما زاد من تعقيد استراتيجيات التكيّف التي طُبّقت عقب إغلاق الحدود.

خلاصات

  • أحدث التشدّد في ضبط أمن الحدود وإغلاقها في نهاية المطاف تحوّلًا في النسيج الاجتماعي الاقتصادي للجهة الشرقية من المغرب، وزاد مشاعر الاستياء. دفع هذا الوضع السلطات إلى تطوير البنية التحتية في المنطقة – أي شبكة النقل ومراكز الرعاية الصحية وإمدادات الكهرباء – وتوفير فرص عمل بديلة لسكان المناطق الحدودية من خلال المشاريع الصناعية والتعاونيات المجتمعية.
  • دفع غياب التعاون بين الجزائر والمغرب حول إدارة الموارد الرباط إلى إطلاق مبادرات ذات نطاق وطني، وإلى التنسيق أيضًا مع دول أفريقيا جنوب الصحراء لتعزيز الروابط الإقليمية. وتحظى هذه الجهود بدعم هيئاتٍ دولية ومنظمات غير حكومية.
  • اتّبع المغرب نهجًا استباقيًا لمعالجة تداعيات تغيّر المناخ والتخفيف من حدّته، بحيث وضع عددًا من الاستراتيجيات التي تركّز على قطاعات محدّدة، فضلًا عن خطط وطنية للتكيّف معه في قطاعات رئيسة مثل الزراعة، وإدارة المياه. يجب أن ترتكز خطط التنمية الجهوية والمحلية في المستقبل بشكل كامل على هذه الاستراتيجيات، مع مراعاة خصائص النُظم الاجتماعية والاقتصادية والإيكولوجية للجهة الشرقية.
  • يجب تعزيز عمل التعاونيات القائمة في الجهة الشرقية، التي اكتسبت زخمًا متزايدًا، من حيث هيكلها التنظيمي وبناء قدراتها. في غضون ذلك، يجب الاستفادة من المعارف المحلية المتوارثة أبًا عن جدّ، على غرار نظام "الخطّارة" للري وإدارة الموارد المائية، باعتبارها تقدّم حلولًا محلية مُبتكرة تستكمل المبادرات الواسعة النطاق مثل تحلية مياه البحر.

مقدّمة

على مدى السنوات الأخيرة، هدّد عاملان مختلفان للغاية النسيجَ الاجتماعي الاقتصادي للجهة الشرقية من المغرب، وهي منطقة ريفية وزراعية على الحدود مع الجزائر، جرى تهميشها لفترة طويلة. فمن جهة، حدّت الإجراءات الأمنية الحدودية الصارمة التي اتّخذها كلٌّ من المغرب والجزائر بشكلٍ كبير من أنشطة التهريب التي اعتمد عليها الكثير من المغاربة في الشرق لتأمين سُبل العيش. ومن جهة أخرى، أسفرت التداعيات الناجمة عن تغيّر المناخ، والتي تتزايد حدّتها باطّراد، عن ندرة المياه، وهي موردٌ لا غنى عنه للإنتاج الزراعي. لذا، خشيت السلطات المغربية من أن تتسبّب عسكرة الحدود والتقلّبات الناجمة عن تغيّر المناخ في هذه المنطقة النائية التي كانت مُهملة تاريخيًا ومُعرّضة لانعدام الاستقرار، بإشعال جذوة الاضطرابات الاجتماعية، وتسريع وتيرة الهجرة من الريف، وإلقاء أعباء هائلة على كاهل المدن التي يتدفّق إليها النازحون.

وقد استجابت السلطات، المحلية والمركزية على السواء، لهذَين التحديَين من خلال تكثيف حملتَين كانتا قيد التنفيذ بالفعل. انصبّ المجهود الأول على تطوير البنية التحتية في المنطقة وتوسيع نطاقها، فضلًا عن توفير الخدمات الأساسية لسكانها. وشمل ذلك مبادرات محدّدة لمكافحة ندرة المياه، مثل بناء السدود وإنشاء محطاتٍ لتحلية المياه، إضافةً إلى تشجيع المزارعين على الحدّ من إنتاج المحاصيل التي تتطلّب إمدادات كبيرة من المياه واستبدالها بأشجار الزيتون واللوز التي تحتاج إلى ريٍّ أقل. وتمثّلت الحملة الثانية في تيسير عمل التعاونيات المجتمعية وتوسيع نطاقه. ويُشار بذلك إلى الجمعيات التعاونية التي تسعى إلى تشجيع الزراعة على نطاق صغير وغيرها من الأنشطة الزراعية، غالبًا بإشراك النساء والشباب.

أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد شرعت الرباط في مساعٍ تهدف إلى توطيد علاقاتها مع دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، انطلاقًا من فكرة أن البلدان النامية تواجه تحديات مشتركة. وقد بدأت هذه الاستراتيجية بإحداث تأثيرات إيجابية في مناطق تعاني تاريخيًا من الحرمان، ومن ضمنها الجهة الشرقية والمناطق المحاذية للحدود. وعلى وجه الخصوص، بدأ التعاون اللامركزي يكتسب زخمًا، من خلال إطلاق خططٍ مختلفة لتحقيق التنمية المستدامة في شرق المغرب وفي الدول المجاورة. ويمكن توقّع المزيد من هذه المبادرات في المستقبل.

المناطق الحدودية الشرقية للمغرب مهمّشة اقتصاديًا

جرى ترسيم الحدود بين المغرب والجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي. وقد نال المغرب استقلاله عن فرنسا في العام 1956 وحصلت الجزائر على استقلالها في العام 1962. نشب بعد الاستقلال نزاعان بين الدولتَين - حرب الرمال في العام 1963 وصراع الصحراء الغربية في العام 1975 - وتلتهما توتّرات متنامية بلغت ذروتها بإغلاق المعابر الحدودية بين المغرب والجزائر في العام 1994. بغضّ النظر عن المعابر الحدودية، بقيت الحدود سهلة الاختراق، ما أتاح استمرار سكّان هذه المناطق في التفاعل مع بعضهم البعض، إذ تجمع بين الكثير منهم صلات قربى وعلاقات تجارية. لم يتغيّر هذا الوضع إلّا خلال العقد السابق، حين تسبّب تشييد جدارٍ عازلٍ وسياج على الحدود بفصل المغاربة الشرقيين عن الجزائريين الغربيين بشكلٍ كبير.

في العام 2013، عمَدت السلطات الجزائرية، في محاولة للحدّ من تهريب الوقود إلى المغرب، إلى حفر خندق على طول 170 كيلومترًا على الشريط الحدودي، يمتدّ الجزء الأكبر منه في إقليم تلمسان.1 وفي العام التالي، أقدمت الجزائر والمغرب على بناء سياجٍ وحفر خندق على طول أجزاء من الحدود.2 وفي العام 2015، شرعت الجزائر في توسيع الخندق الفاصل وتعميقه لجعل الانتقال عبر الحدود أصعب.3 وبعد ذلك بعام، أضافت السلطات المغربية أسلاكًا شائكة وأنظمة مراقبة إلكترونية وجدارًا مدعّمًا عند جزءٍ من الحدود، ووسّعت أيضًا السياج ليصل إلى بلدة فجيج، لمسافة أبعد على طول الحدود الدولية.4 وفي العام 2022، أعلنت الرباط أنها تعتزم إنشاء منطقة عسكرية مُغلقة على كامل الحدود الفاصلة بين المغرب والجزائر البالغ طولها 1559 كيلومترًا.5

نادرًا ما يتم توضيح الدوافع وراء اتّخاذ مثل هذه الخطوات بشكل كامل، لكن المسؤولين يعبّرون في الكثير من الأحيان عن مخاوف عامة تتعلّق بزعزعة استقرار البلاد، بما فيها التهديدات العابرة للحدود الوطنية مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية والتهريب.6 فعلى سبيل المثال، أشار سفير المغرب لدى الأمم المتحدة عمر هلال، خلال الحديث عن الإجراءات التي كانت تتّخذها بلاده على حدودها في العام 2016، إلى أن السلطات المغربية "تقدّم تضحيات كبيرة على مستوى الوسائل والموارد البشرية لمكافحة الشبكات الإجرامية لتهريب وترويج المخدرات بجميع أنواعها"، مضيفًا أن "الهدف يكمن أيضًا في تأمين مراقبة حدود وسواحل المملكة".7

كانت الإشارة إلى التهريب مهمّة على وجه الخصوص. فالاقتصادات غير الرسمية، ولا سيما في المناطق الحدودية، تشكّل في الكثير من الأحيان عاملًا مساهمًا في استقرار المناطق البعيدة جغرافيًا وماديًا عن الدولة المركزية واستثماراتها، والمُفتقرة إلى البنى التحتية. وينطبق هذا الوضع بشكلٍ كبير على المغرب. لقد قدّر تقريرٌ صدر في العام 2004 عن غرفة التجارة والصناعة والخدمات لجهة الشرق أن القطاع الاقتصادي غير الرسمي ساهم بما يعادل 590 مليون دولار في السنة تقريبًا. يحتلّ الوقود، الذي يصل معظمه من الجزائر حيث تدعمه الحكومة، حصة الأسد من السلع المهرّبة، وتصل كمياته إلى 527 ألف ليتر يوميًا.8 ونظرًا إلى أن معدّل البطالة في الجهة الشرقية لطالما كان مرتفعًا بشكل غير متكافئ – إذ بلغ 19.6 في المئة مقارنةً مع المعدّل الوطني البالغ 13 في المئة – ساعد التهريب على إعالة آلاف الأسر.9

تُعدّ الجهة الشرقية إحدى جهات المغرب الاثنتي عشرة بحسب التقسيم الرسمي، وهي تقع بعيدًا عن المراكز الاقتصادية الحضرية للبلاد، أي الدار البيضاء-سطات، وطنجة-تطوان-الحسيمة، والرباط-سلا-القنيطرة. وشكّلت هذه التجمعات معًا نسبة 58 في المئة من ثروة البلاد في العام 2019، مقارنةً مع الجهة الشرقية التي ساهمت بنسبة 5.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.10 وعلى ضوء هذه الفوارق وغيرها، إضافةً إلى البُعد الجغرافي، قبعت الجهة الشرقية لفترة طويلة على هامش الحياة الاقتصادية المغربية. وفاقم التشدّد في ضبط أمن الحدود بعد العام 1994 من تهميش هذه الجهة الطَرفية، وعلى وجه الخصوص مع تشييد الجدران والأسياج خلال العقد الماضي، الأمر الذي حدّ من التواصل عبر الحدود، بما في ذلك التهريب.

وفي ظلّ هذه الإجراءات، تزامن هذا التشدّد في ضبط أمن الحدود مع تنامي مشاعر الاستياء في أوساط سكان أقاليم عدّة في الجهة الشرقية من المغرب. ففي العام 2017، أدّى مقتل مهرّبٍ رميًا بالرصاص أثناء عبوره الحدود المُغلقة إلى احتجاجات عارمة في شوارع مسقط رأسه بني درار، حيث أقفل السكان الغاضبون الطرقات وألحقوا الضرر بالممتلكات والسيارات.11 وبين العام 2016 ومنتصف العام 2017، اندلعت احتجاجات في منطقة الريف، في إطار ما عُرف بالحراك، وهو حركة احتجاجية انتشرت على مستوى البلاد، وطالت إقليم جرادة في العام 2018.12 وعلى الرغم من أن الاحتجاجات في جرادة والريف اندلعت في السياقات التاريخية والمحلية الخاصة بكلّ منهما، إلّا أنها تمحورت حول ثلاثة مطالب رئيسة هي: تحسين الظروف الاجتماعية الاقتصادية؛ وتأمين البنى التحتية الأساسية؛ وتعزيز التوظيف ولا سيما الشباب. وقد سلّط هذا الضوء على التظلّمات المشتركة التي يعاني منها سكان الأقاليم الشرقية في المغرب.

علاوةً على ذلك، أربكت هذه الأحداث الحكومة ودفعتها إلى تكريس جهود إضافية من أجل التخفيف من محنة الشرق. وفي محاولةٍ للحفاظ على الاستقرار في هذا الجزء المضطرب على نحو متزايد من البلاد، لجأت الرباط، وكذلك السلطات الجهوية، إلى تكثيف جهودها في تطبيق استراتيجية كانت انطلقت في العام 2003، وبدأ تنفيذها بصورة أكثر انضباطًا عقب الآثار السلبية التي خلّفها تشديد القبضة الأمنية على الحدود بين العامَين 2013 و2016. وشملت هذه الاستراتيجية توفير الخدمات الأساسية، وفتح المدارس ومراكز الرعاية الصحية، وتأمين فرص عملٍ بديلةٍ للسكان المحليين، ورفع قدرات البنية التحتية في المنطقة. إضافةً إلى ذلك، تم ربط المزيد من المناطق الحدودية بالشبكة الوطنية للكهرباء، ناهيك عن توفير القدرة على الوصول إلى المياه الصالحة للشرب وخدمات الصرف الصحي.13 وفي جرادة، أعلنت الحكومة، عقب احتجاجات 2017-2018، عن إطلاق 108 مشاريع في مجالات المياه والكهرباء والتعليم للفترة ما بين 2018 و2023، وبتكلفةٍ إجمالية بلغت 50 مليون دولار أميركي تقريبًا.14

أما عملية تأمين فرص عملٍ بديلةٍ فمالت إلى اتّباع شكلَين. تمثّل الأول في مساعدة السكان المحليين على تأسيس مؤسسات صغيرة أو إحياء مؤسساتهم القديمة، والثاني في بناء مراكز تجمّع البنية التحتية، على غرار القطب التكنولوجي والقطب الفلاحي، من أجل تمكين دمج الشركات المعنية. (يشمل القطب التكنولوجي مجالَي التكنولوجيا والصناعة، في حين يضمّ القطب الفلاحي الأنشطة الزراعية).15 بموازاة ذلك، ارتكزت الخطط الرامية إلى إرساء الاستقرار الاقتصادي في الجهة الشرقية في الكثير من الأحيان على استغلال طاقتها في مجال البنية التحتية. وتبقى المشاريع الضخمة، كمجمع ميناء الناظور غرب المتوسط، وهو ميناء شحن بحري قيد الإنشاء في شمال شرق المغرب، ضروريةً لدمج هذه المنطقة بسائر البلاد، وجذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز التوظيف.16

وعلى الرغم من أن سكان المناطق الحدودية استفادوا من تأثير إيجابي غير متوقّع للاحتجاجات في جرادة والريف، بحيث دفعوا الحكومة إلى إطلاق مشاريع تنموية في الجهة الشرقية ككل، بدا واضحًا أن مناطقها الريفية تتطلّب اهتمامًا خاصًا. وعُزي سبب ذلك إلى ظاهرة غير مرتبطة بالتشدّد في ضبط أمن الحدود، ألا وهي: تغيّر المناخ. لا شكّ في أن الأراضي المغربية كلّها تتأثّر على نحو متزايد بتداعيات تغيّر مناخ كوكب الأرض، مع حصول اضطرابات نتيجة ارتفاع منسوب مياه البحر على طول الساحل الشمالي وعدم انتظام هطول الأمطار في شرق البلاد وجنوبها. لكن المشكلة في مناطق الشرق الريفية أكثر حدّة، حيث يكسب معظم السكان رزقهم من زراعة الكفاف. ويكمن الخطر في أنّ التشدّد في ضبط أمن الحدود وتغيُّر المناخ سيؤديان مجتمعَين إلى إحداث تحوّل دائم في الجهة، لكن نحو الأسوأ.

مواجهة تداعيات تغيّر المناخ في المغرب

يتمثّل التحدّي المناخي الأبرز الذي يواجه المغرب في عدم كفاية هطول الأمطار، ويؤدي إلى ندرة المياه ويُحدث تأثير دومينو من شأنه أن يقلب جميع أشكال النشاط الزراعي رأسًا على عقب، ومع مرور الوقت يهدّد نسيج الحياة الاجتماعية. لا شكّ أن ندرة المياه ليست ظاهرة جديدة. ففي ثمانينيات القرن الماضي، كان هطول الأمطار في شرق المغرب محدودًا للغاية لدرجة دفعت المكتب الجهوي للتنمية الفلاحية، وهو الهيئة الحكومية المسؤولة عن تنمية القطاع الزراعي وتوفير التدريب المهني للمزارعين، إلى إعلان حالة الجفاف. مع ذلك، قد تكون المشكلة تتفاقم.17 ففي العام 2023، أعلنت المديرية العامة للأرصاد الجوية عن انخفاض معدّل هطول الأمطار بنسبة 48 في المئة، ما جعله العام الأكثر جفافًا في ثمانية عقود.18 وخلال الصيف التالي، أفادت وسائل إعلام وطنية عن تراجع خطير في منسوب مياه السدود المغربية.19 وقد عانى سكان البلاد – بما فيها المدن الرئيسة كالدار البيضاء وطنجة – من انقطاع المياه والإغلاق المتكرر للحمامات العامة.20

وقد وضعت الرباط خططًا عدّة للتخفيف من حدّة تغيّر المناخ. ولم تمر جهودها مرور الكرام. فعلى سبيل المثال، احتلّ المغرب المركز التاسع في مؤشر الأداء المناخي، وهي أداة رصد موحدة مستقلة تستخدمها منظمة "جيرمان ووتش" (Germanwatch) الألمانية غير الحكومية لتقييم أداء الدول في مجال التخفيف من حدّة تداعيات تغيّر المناخ.21 أما في ما يتعلّق بندرة المياه على وجه الخصوص، فلا بدّ من تسليط الضوء على مبادرتَين. سعى مخطط المغرب الأخضر بين العامَين 2005 و2019 إلى تعزيز تنافسية القطاع الزراعي في المناطق الهشّة من خلال تحفيز المزارعين على زراعة المحاصيل المقاومة للجفاف، واعتماد عمليات تناوب المحاصيل، واستخدام تقنيات الريّ التي تستهلك كميات أقل من المياه.22 وتستكمل "استراتيجية الجيل الأخضر"، التي أُطلقت في العام 2020 ويُفترض أن تستمر حتى العام 2030، أهداف المخطط في تعزيز تنافسية القطاع الزراعي، مع التركيز على التنمية البشرية من خلال تعزيز الإنتاج الزراعي المحلي وتنويع فرص العمل في القطاع الزراعي.23

ويتمثّل المشروع الآخر ذو الصلة الذي نفّذته الحكومة في تنشيط التعاونيات الزراعية وغيرها بغية تحفيز التنمية الاقتصادية. ويكتسي هذا الأمر أهمية خاصة في الشرق، حيث تهيمن الأنشطة الزراعية. وعلى الرغم من أن الجهة الشرقية هي ثالث أكثر المناطق تأثُّرًا بندرة المياه في البلاد، إلّا أنها تعاني جراء ذلك بشكل متفاوت بسبب اعتمادها على القطاع الزراعي ومناخها المصنّف بين الجاف وشبه الجاف. لقد تأسست التعاونيات لأول مرة في العام 1937 حين كان المغرب لا يزال محمية فرنسية، واستمرت في العمل منذ ذلك الحين.24 لكن في العام 2005، عمدت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهي هيئة حكومية تهدف إلى الحدّ من الفقر، إلى توسيع نطاق التعاونيات وإمكانية الوصول إليها. وركّزت على الزراعة والحرف اليدوية والتجارة، واستهدفت في الغالب النساء والشباب. وحصدت جهودها النجاح على الفور نوعًا ما، بحيث ارتفع عدد التعاونيات من 4895 تعاونية في العام 2005 إلى 60 ألف تعاونية في العام 2023.25

محنة ندرة المياه

يمكن لمس الأثر الرئيس لنقص المياه في المغرب في قطاع الزراعة، الذي يشكّل حوالى 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، و23 في المئة من صادراتها.26 فقد شكّل قطاع الزراعة، منذ العام 2019، مصدرًا لـ69 في المئة من فرص العمل في الأرياف، و39 في المئة من فرص العمل في البلاد، في حين وصل عدد العاملين في قطاع الأعمال التجارية الزراعية وحده إلى 140 ألف عاملٍ تقريبًا.27 وفي الأقاليم الستّة والعمالتَين التي تتألّف منها الجهة الشرقية ذات الطابع الزراعي الكبير، يعمل ما يزيد قليلًا عن 23 في المئة من السكان في قطاع الزراعة منذ العام 2021.28 وقد فاقمت ندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة في هذه المنطقة أوضاع السكان المحليين الذين يعانون أصلًا بسبب إغلاق الحدود. وتضمّ المنطقة إلى جانب المزارع القليلة الكبيرة والمتوسطة الحجم، التي تُنتج الحمضيات لتصديرها إلى الأسواق الأوروبية، مزارع عائليةً صغيرةً تُنتج الحبوب والبقوليات. هذه المزارع هي الأكثر تأثّرًا بتغيّر المناخ، نظرًا إلى استراتيجيات التكيّف المحدودة، ناهيك عن أن افتقارها إلى الاستقرار المالي، وضعف اندماجها في المؤسسات والأسواق الرسمية، يحدّان من فرص أصحابها في امتلاك الأراضي رسميًا، والاستحصال على القروض المصرفية، وعلى التراخيص اللازمة لحفر آبار المياه.29

يشكّل الجزء الشمالي من الجهة الشرقية منطقةً مهمّةً للزراعات المرويّة وتربية الماشية. وقد تضرّرت تربية الماشية بشدّة في هذه المنطقة نتيجة تغيّر المناخ، حيث تسبّبت موجات الجفاف وجائحة كوفيد-19 إلى حدّ كبير، بين العامَين 2020-2021، بارتفاع أسعار أعلاف الماشية بنسبةٍ تراوحت بين 30 و40 في المئة.30 نتيجة ذلك، كافح المزارعون للحفاظ على ماشيتهم، وقد دفع اليأس الكثير منهم إلى بيع حيواناتهم للمسالخ، والبحث عن عمل بديل. يُرجَّح أيضًا أن يكون مزيج الجفاف والجائحة قد أحدث تقلّبات في أسعار الحليب ومشتقّاته في البلاد خلال تلك الفترة. ولذا، أُطلِق في العام 2023 مشروعٌ في فجيج لحماية الماشية من خلال توزيع الأعلاف.31

بدءًا من العام 2010، ووفقًا لمخطط المغرب الأخضر، شجّعت السلطات الجهوية والمحلية المزارعين على زراعة أشجار الزيتون واللوز التي تتطلّب ريًّا أقلّ، بدلًا من الاعتماد على المحاصيل التي تحتاج إلى المياه. ودعمًا لهذا التغيير، قدّمت السلطات دوراتٍ تدريبيةً في مجال الزراعة المستدامة والممارسات الزراعية المستدامة. حقّقت هذه الجهود بعض النجاح، حيث أصبحت زراعة اللوز في الجهة الشرقية تشكّل 33 في المئة من الأراضي الزراعية، مقارنةً مع 28 في المئة في العام 2008.32 كذلك ساهمت الجهة الشرقية بنسبة 15 في المئة من إنتاج اللوز الوطني في العام 2018، ما جعلها تحتل المرتبة الثانية في إنتاج اللوز على مستوى البلاد.33 مع ذلك، لا يزال إنتاج اللوز السنوي ينخفض عن المتوسّط المُتوقَّع، والبالغ كيلوغرامَين لكلّ شجرة، بسبب الظروف المائية والمناخية للمنطقة.34

إلى جانب الزراعة الرعوية، اعتمد سكان فجيج تاريخيًا على زراعة التمور لكسب رزقهم. وباستخدام نظام الريّ تحت الأرض المعروف باسم "الخطّارات"، والذي يعود تاريخه إلى قرون، وَجَّه سكان فجيج المياه الجوفية إلى السطح قبل توزيعها عبر شبكة من القنوات إلى الأحواض لتجميعها. هذا وكانت حقوق المياه تستند إلى العرف والحاجة. بيد أن هذه الأساليب لم ترقَ في السنوات الأخيرة إلى المستوى المطلوب للتغلّب على مشكلة ندرة المياه المتفاقمة، فكانت النتيجة أن انخفض إنتاج التمور.35 كان ذلك مثيرًا للقلق لا لأن التمور تُعَدّ جزءًا لا يتجزّأ من اقتصاد فجيج فحسب، بل أيضًا لأن مزارعي التمور في العرجة، وهي بلدة حدودية أخرى في الجهة الشرقية، غادروا أراضيهم بناءً على أوامر الجيش الجزائري في العام 2021 عقب التوتّرات مع المغرب، وتشديد البلدَين إجراءاتهما الأمنية في مناطقهما الحدودية.36 وهكذا، نتيجة تراجع زراعة التمور في فجيج بسبب تغيّر المناخ، وفي العرجة بسبب التشدّد في ضبط أمن الحدود، أصبح إنتاج المغرب من هذه المحاصيل مهدّدًا ككلّ.

وهكذا، سعيًا إلى تحسين إمدادات المياه، شُيّد سدّان في فجيج، الأول في العام 2012، والثاني في العام 2016.37 ثم أعلنت وزارة الفلاحة في العام 2023 أن السدَّين سيجري ربطهما بشبكة إمدادات المياه، ما سيفيد أكثر من 1360 مزارعًا في فجيج.38 هذا ووقّع مجلس جهة الشرق، في نيسان/أبريل 2024، اتفاقيةً لبناء ثماني محطّات لتحلية المياه القليلة الملوحة في أقاليم الدريوش، وفجيج، وجرسيف، وجرادة، والناظور، فضلًا عن ربط ثلاث محطّات لتحلية مياه البحر بشبكتَي المياه والكهرباء في إقليمَي الناظور وبركان.39 وخُصّصَت لهذه المشاريع ميزانيةٌ قدرها 10 ملايين دولار تقريبًا، تندرج ضمن برنامج طارئ لبناء وحداتٍ لتحلية المياه على المستوى الوطني.

شكّلت تلك المشاريع مسعًى وطنيًا، فتحلية المياه أمرٌ حيويٌّ لتعزيز الأمن المائي في شتّى أرجاء المملكة. وبمناسبة الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب في تشرين الأول/أكتوبر 2024، وُقّعَت مذكّرة تفاهم مع شركة فيوليا الفرنسية لتطوير محطّة لتحلية مياه البحر، تُزوّد المناطق المتضرّرة من الجفاف بمياه الشرب. ومن المتوقّع أن تكون المحطّة الأكبر في أفريقيا، وثاني أكبر محطّة في العالم، ويُفترَض أن تلبّي احتياجات 9.3 ملايين مواطن من المياه.40

تسلّط هذه التدابير كلّها الضوء على الجهود المبذولة، سواء على المستوى الجهوي أم المحلي، للتصدّي لخطر ندرة المياه، ولا سيما آثارها على سبل العيش في المناطق الريفية في المغرب. والواقع أن تعزيز الممارسات الزراعية المستدامة بوصفها جزءًا من برامج وطنية مثل مخطط المغرب الأخضر، إلى جانب بناء السدود ومحطّات تحلية المياه، خطوةٌ أساسيةٌ للحفاظ على استمرار الزراعة، وبالتالي المجتمعات التي تعتمد عليها من أجل البقاء. وتُستكمَل هذه التدابير على نحو متزايد بعمل التعاونيات الزراعية وغيرها.

إحياء التعاونيات في شرق المغرب

التعاونيات في المغرب هي مؤسسات صغيرة تُعنى بالمساعدة المجتمعية المتبادلة ولها تاريخ طويل، لكنها اكتسبت مؤخّرًا أهميةً إضافية. فالدور التاريخي الذي اضطّلعت به في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك الشرق، وقصص النجاح الأخيرة التي حقّقتها التعاونيات التي أُنشِئَت إثر التدابير التيسيرية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية في العام 2005، يدلّان على أن التعاونيات حظيت باستحسان الجهات الرسمية. فقد اعتبرتها السلطات الجهوية، وكذلك الحكومة المركزية في الرباط، آلياتٍ موثوقةً لمعالجة البطالة الناجمة عن إغلاق الحدود، الذي أدّى إلى تعطيل شبكات التهريب، وللحدّ من الضرر الناجم عن تغيّر المناخ، الذي كان يؤثّر على المحاصيل الزراعية. وبعد إصدار قانونٍ في العام 2014، سرَّعَ إجراءات الترخيص للتعاونيات وتشغيلها، أُنشِئَت حوالى 750 تعاونية، معظمها زراعي بطبيعته، في المنطقة الحدودية الشرقية بين العامَين 2016 و2019.41 وعند النظر إلى المبادرات التي أُطلِقَت لمعالجة مخاطر إغلاق الحدود وآثار تغيّر المناخ في الجهة الشرقية، نجد أن غالبية المبادرات التي أثبتت أنها مدرّة للدخل كانت عبارةً عن تعاونيات.

وقد أثبتت التعاونيات فعاليتها بصورة خاصة في المناطق التي حافظت على أشكالٍ محليةٍ أخرى من التضامن الاجتماعي الاقتصادي. فأشكال التنظيم المحلية، حيثما كانت قائمةً أصلًا، سهّلت استيعاب التعاونيات في النسيج الاجتماعي الاقتصادي. وتندرج أشكال التنظيم المحلية والأصلية ضمن مفهوم المشاركة، وهي عقد شراكةٍ بين طرفَين أو أكثر لتمويل مبادرة أو مشروع، تُقسَّم بموجبه الأرباح بين الأطراف المعنية. والواقع أن الممارسات الاجتماعية تعطي الأولوية للتضامن باعتباره وسيلةً للتمكين الاقتصادي في جميع أنحاء البلاد، ومن بين هذه الممارسات الرئيسة "التويزة" و"الجماعة".

و"التويزة"، وهي كلمة أمازيغية تعني التعاون، عادةٌ اجتماعيةٌ تُمارَس في المجتمعات الريفية في الغالب. فعلى سبيل المثال، حينما يواجه المزارع العاجز عن العمل عقبات كالمرض، يمكنه الاعتماد على المجتمع لتنظيم "تويزة"، بحيث يتولّى المزارعون الآخرون زراعة أرضه وحصادها بشكل جماعي.42 وتنطبق "التويزة" أيضًا على أنشطة أخرى، مثل حفر الآبار، وبناء أنظمة المياه والطرق الخاصة، ويستفيد منها الأفراد ذوو الموارد المالية المحدودة الذين لا يستطيعون تحمّل تكاليف استخدام العمّال. أما "الجماعة"، فهي مجلسٌ لقادة القبائل أو القرى يهدف إلى الحفاظ على العلاقات الاجتماعية وإنتاج الموارد. وتتولّى "الجماعة" حلّ النزاعات وإدارة المصالح المشتركة، وحتى حشد الأشخاص والموارد لمشاريع التنمية الاجتماعية.43

والواقع أن قانونًا جديدًا أتاح إحياء التعاونيات في الجهة الشرقية بحافزٍ من إغلاق الحدود وتغيّر المناخ. ففي العام 2014، صدر القانون رقم 112.12 الذي قضى بتبسيط المتطلّبات ومعايير الأهلية لإنشاء التعاونيات،44 وهو ما ساهم في انتشارها. وبحلول العام 2020، بلغ عدد التعاونيات في الجهة الشرقية 5517 تعاونية، ووصل عدد العاملين فيها إلى 79,602.45 ووفقًا لمكتب تنمية التعاون، الذي يشجّع عمل التعاونيات ويتابعه، شكّلت الزراعة 65 في المئة من التعاونيات على المستوى الوطني في العام 2022.46 وهذا يشمل في الشرق مثلًا إنتاج إكليل الجبل، والعسل، واللوز، وزيت الزيتون، فضلًا عن تربية الماشية. وتندرج معظم التعاونيات ضمن نطاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.

أما تمويل التعاونيات في المنطقة، فيأتي من الوكالات الدولية، مثل وكالة التنمية البلجيكية "إينابيل" (Enabel)، والوكالة الفرنسية للتنمية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (عبر برنامج التنمية المحلية المندمجة للجهة الشرقية، المعروف أيضًا باسم DéLIO).47 وتُوزَّع الأموال وفقًا لمناخ كل منطقة وتضاريسها. فمنطقة جرادة، على سبيل المثال، تلقّت حوالى 590 ألف دولار لتمويل إنتاج العسل واللوز، فيما خُصّص مبلغ 300 ألف دولار لمشاريع تربية الماشية وإنتاج اللحوم في بركان.48

وفي الآونة الأخيرة، انخرطت المبادرات التي تديرها الدولة، مثل برنامجَي "مرافقة" و"انطلاقة"، في إدارة التعاونيات وتمويلها. وبرنامج "انطلاقة" هو برنامج تمويلي لروّاد الأعمال والشركات الناشئة، يقدّم أسعار فائدةٍ منخفضة. أما برنامج "مرافقة"، فيركّز بشكل محدّد على التعاونيات، وقد أُعلِن عنه في العام 2010، وأُطلِق رسميًا في العام 2014. سعى البرنامج، الذي تبلغ ميزانيته نحو 8 ملايين دولار، إلى تعزيز قدرة التعاونيات في مجالات الإدارة، والحوكمة، والوصول إلى السوق.49 وكان البرنامج جزءًا من استراتيجيةٍ حكوميةٍ أوسع نطاقًا هدفها زيادة مساهمة القطاع الاجتماعي والتضامني في الناتج المحلي الإجمالي. ويبدو أن هذه الاستراتيجية نجحت، إذ ارتفعت المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي من 1.6 في المئة في العام 2010، إلى 3.9 في المئة في العام 2020.50

وتُشجَّع النساء والشباب بصورة خاصة على المشاركة في هذه المبادرات،51 حيث أعلنت مثلًا وزارة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني مع مكتب تنمية التعاون في العام 2021، عن إطلاق جائزة "لالة المتعاونة". تكرّم هذه الجائزة الوطنية المبادرات الأكثر ابتكارًا لتطوير مشاريع التعاونيات النسائية، وتشكّل جزءًا من التزامٍ طويل الأمد بإبراز مساهمة المرأة في هذا القطاع.52 يُذكَر أن النساء في الجهة الشرقية شكّلن 39 في المئة من مجمل أعضاء التعاونيات في العام 2019.53

لكن على الرغم من النجاح الذي حقّقته السلطات المحلية والجهوية، تتكرّر الاحتجاجات الصغيرة في شتّى أرجاء المنطقة. ففي العرجة، على سبيل المثال، كانت مطالبةٌ في العام 2021 بتقديم تعويضات للمزارعين الذين فقدوا أراضيهم عندما طردهم الجنود الجزائريون من المنطقة. بعث هذا الاحتجاج برسالةٍ قويةٍ إلى السلطات المحلية والدولة عمومًا مفادها بأن المناطق الحدودية ليست بيادق تُستخدَم في التنافس بين الدول.54 وقد شاركت النساء بشكل ناشط في المسيرات وحملات المقاطعة، في ظلّ المزاعم حول خصخصة موارد المياه في المنطقة في العام 2023.55 وفي مدينة وجدة، نظّم الفرع المحلي للجبهة الاجتماعية، وهو حركة تَجمَع الأحزاب اليسارية والنقابات العمّالية، اعتصامًا للاحتجاج على الارتفاع الحادّ لأسعار الوقود.56

في نهاية المطاف، وإن كانت التظلّمات لا تزال تتصاعد في المناطق الحدودية، خصوصًا بشأن التهميش الاقتصادي، برزت التعاونيات بوصفها جهاتٍ أساسيةً لتوفير فرص عملٍ بديلةٍ للمجتمعات التي لطالما اعتمدت على الحدود من أجل البقاء والاستمرار. وتتمتّع التعاونيات أيضًا بمكانة سياسية بارزة، إذ إنها تعمل على تلطيف العلاقة بين الدولة ومواطنيها التي غالبًا ما كانت متوتّرة تاريخيًا، مُساهِمةً بذلك في تقليل فرص تفاقم الاحتكاك وتحوّله إلى مواجهة. فقد ساعد ذلك، على مدى العقد الماضي، في الحفاظ على الاستقرار والحدّ من هجرة سكان المناطق الحدودية إلى المراكز الحضرية. لقد تحوّلت التعاونيات إذًا من أدواتٍ للحفاظ على الاستقرار إلى بديلٍ عن الهجرة الريفية، وهو بديلٌ يتّخذ شكل مسعى راسخ بقوة في النسيج الاقتصادي للمنطقة.

الحاجة إلى التعاون الإقليمي وحدوده

غالبًا ما تنادي المنظمات الدولية بإقامة تعاونٍ عبر الحدود من أجل التصدّي لتغيّر المناخ في المناطق الحدودية. والسبب في ذلك يعود إلى أن السكان على الجانبَين المباشرَين لحدودٍ دوليةٍ ما، مهما كانت هذه الحدود راسخة، غالبًا ما يتشاركون في الثقافة واللغة، إضافةً إلى احتياجات اجتماعية واقتصادية محدّدة، ولا سيما عندما يكونون بعيدين عن المراكز الاقتصادية للبلاد. والواقع أن التشرذم الإقليمي بين بلدان المغرب العربي يعيق قدرة هذه البلدان على التعاون، وهو أمرٌ ينطبق بشكل خاص على المغرب والجزائر، نظرًا إلى التنافس بينهما. فعلى سبيل المثال، أدّى فشل البلدَين في تنسيق استخدام حوض بونعيم-تافنة المائي المشترك إلى الإفراط في استغلاله وتلويثه من الجانبَين. ومع ذلك، سعى المغرب، من خلال تعزيز الروابط مع البلدان الأفريقية الأبعد، إلى الاستفادة من البدائل بما يتماشى مع ما يسمّيه التعاون بين بلدان الجنوب.57

على المستوى الإقليمي، حظيت المبادرات الخاصة بالمشاريع العابرة للحدود بالتأييد، متّخذةً في أغلب الأحيان شكل تعاونياتٍ وخططٍ للتنمية المستدامة. ففي العام 2022، عقد منتدى جهات أفريقيا اجتماعه الأول في السعيدية، شرقي المغرب، حيث سلّط المسؤولون الحكوميون من الكاميرون، وجنوب أفريقيا، وكينيا، ونيجيريا، الضوءَ على دور مناطق محدّدة بوصفها أقطابًا للتنمية المستدامة في القارة.58 وركّز المنتدى على تحديد دور الجهات الفاعلة الإقليمية، وأنظمة الحوكمة اللامركزية، في مواجهة التحدّيات الناجمة عن تغيّر المناخ، وتعزيز التعاون بين بلدان الجنوب، ووضع خارطة طريقٍ لتحقيق الأهداف المتوخّاة في خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة للعام 2030، وخطط أجندة الاتحاد الأفريقي للعام 2063، التي تدعو إلى تحقيق النموّ الاقتصادي الشامل والمستدام، فضلًا عن القضاء على الفقر، ومكافحة تغيّر المناخ. وقد تُوّج هذا الاجتماع الأول بتوقيع اتفاقية السعيدية، التي حدّدت أهمية المناطق المختلفة، ودعت الحكومات الوطنية والشركاء العالميين إلى مدّها بالمساعدة المالية اللازمة.59

وفي إطار شراكة مع جهات فاعلة محلية وإقليمية، أطلقت المنظمة البلجيكية غير الحكومية "إيكو كومونيكاسيون" (Echos Communication)، التي تُعنى بتحسين أحوال الأُسَر المحرومة، مبادرتَين مع منطقة كاولاك الحدودية السنغالية. كانت المبادرة الأولى عبارةً عن مراكز للتدريب الإقليمي تُعَدّ الأولى من نوعها في القارة.60 ويرمي التدريب الإقليمي، الذي يروّج له أنصاره على أنه نهجٌ مبتكرٌ للتعاون اللامركزي، إلى توطيد الروابط بين شاغلي المناصب المُنتخَبين عبر الدول لمعالجة التحدّيات المشتركة بشكل أفضل. ويوفّر هذا التدريب مهاراتٍ خاصةً بقطاعات محدّدة، وقد قُدّم في كاولاك للتعاونيات العاملة في الإنتاج الزراعي، وتلك المنخرطة في إنتاج الملح الحرفي، كما اتّخذ شكل برنامج تكميلي لتحقيق المساواة بين الجنسَين.61 كذلك أُطلِقَت مشاريع مماثلة مع منطقتَي ناوا في ساحل العاج، وبوكل دو موهون في بوركينا فاسو. فقد وقّعت ناوا والجهة الشرقية في المغرب اتفاقًا في العام 2018 لتعزيز التعاون الثنائي في مجالات التنمية المحلية، والتدريب الإقليمي، والمساواة بين الجنسَين، وغيرها.62 وقد سهّلت هذه الشراكة مذّاك الحين تبادل الطلاب، والتعاونيات، والمدرّبين الإقليميين. كما نُظّمَت أنشطةٌ مماثلةٌ مع بوكل دو موهون، ركّزت على تحقيق المساواة بين الجنسَين في التعاونيات، وتعزيز بناء القدرات في المجتمع المدني المحلي. يُذكَر أن المشاريع في كلّ من ناوا وبوكل دو موهون نُفّذَت بدعم من منظمة "إيكو كومونيكاسيون".

تعكس هذه الخطوات السياسة الخارجية التي يتّبعها المغرب منذ العام 2011، تحديدًا في مجال التعاون بين بلدان الجنوب.63 وقد سعت الاستراتيجية إلى تعميق التكامل والتعاون مع عددٍ من دول أفريقيا جنوب الصحراء، خصوصًا عبر استثمار المملكة في القطاع المصرفي، والبنية التحتية، والاتصالات، والزراعة. وفي العام 2021، بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة للمغرب أكثر من 800 مليون دولار، ما جعله ثاني أكبر مستثمر أفريقي في القارة، والأكبر في غرب أفريقيا.64 وتشمل المؤسسات التي تقوم بهذه الاستثمارات بنك أفريقيا (أكبر مصارف المغرب)، وشركة اتصالات المغرب، وشركة الضحى العقارية، وشركة "كوبر فارما" للأدوية.65 وفي العام 2017، وبعد غيابٍ دام أكثر من ثلاثة عقود، انضمّ المغرب مجدّدًا إلى الاتحاد الأفريقي.66

مع ذلك، لم يجرِ بعد دمج مخاطر تغيّر المناخ واستراتيجيات التكيّف معه على نحو شامل في التخطيط التنموي الإقليمي. والواقع أن النهج القطاعي المحدّد، وإن كانت يُفضَّل تقليديًا نظرًا إلى فعاليته المتصوّرة، كان متطرّفًا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، حُصِرَت الاستراتيجيات الأوّلية (بما فيها تلك الخاصة بمخطط المغرب الأخضر) الهادفة إلى تعزيز التنمية المستدامة ومعالجة الأثر السلبي لتغيّر المناخ، في خطط عملٍ أحادية الموضوع تُركّز على الزراعة أو المياه أو الطاقة. فضلًا عن ذلك، اقتصرت تقارير عدّة على تحليل النُظم البيئية المحلية للغاية،67 مثل الغابات والواحات والمناطق الساحلية. انطوى ذلك كلّه على خطر إعاقة المقاربات التعاونية، خاصةً عبر السياقات المحلية والإقليمية المختلفة.

ولكن ثمّة دلائل على أن نهجًا جديدًا بدأ يُطبَّق، حيث أطلق المغرب، في العام 2022، خطة التكيّف الوطنية 2022-2030، التي تربط بين جميع الخطط القطاعية الموضوعة قبلها، وتزوّد المؤسسات المعنيّة بخارطة طريق وطنية.68 وتقرّ الخطة أيضًا بضرورة وضع خطةٍ منفصلةٍ للمدن تعالج تحدّيات تغيّر المناخ في ما يتعلّق بالتوسّع الحضري، بما في ذلك السكن والنقل. كذلك صدرت مؤخّرًا في العام 2018 نسخةٌ من خطة التنمية الجهوية لجهة الشرق، التي تحدّد، إقرارًا منها بمخاطر تغيّر المناخ وخصوصية المنطقة، عددًا من المجالات التي تتطلّب تحسينًا، بما فيها الإدارة المتكاملة للموارد المائية، والحفاظ على التراث البيئي، وتعزيز الاقتصاد الدائري الأخضر.69 وتقيّم الخطة أيضًا قدرة الجهة الشرقية على تطبيق المبادرات التي سبق أن دخلت حيّز التنفيذ، مثل المخطّط الوطني للمناخ، تطبيقًا فعّالًا أكثر، وتكييفها عند الضرورة. وعلى وجه الخصوص، تأخذ الخطة في الاعتبار في تحليلها الترابطَ بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

ثمّة حاجة إلى المزيد من هذا النهج، إذ إن دمج استراتيجيات التكيّف المرتبطة بالمناخ أكثر في التخطيط الإقليمي من شأنه أن يعزّز التوافق بين الاستراتيجيات الوطنية والمقاربات القطاعية. ويتيح هذا التكامل تحديد الحلول المُبتكرة المنطلقة من القاعدة وتنفيذها، بهدف التصدّي لتغيّر المناخ وأثره على المناطق الحدودية، مع وضع نقاطٍ مرجعيةٍ واضحةٍ للسياسات على المستويات الجهوية والإقليمية والبلدية. ولا ينبغي الاستهانة بدور التعاونيات في هذا المجال، لأنها يمكن أن تشكّل عوامل استقرارٍ في مجتمعات هشّة، وأن تصبح جهاتٍ أساسيةً مُساهِمةً في التنمية الإقليمية. إن تقويتها على صعيد الهيكلية والقدرات من شأنه أن يتيح للمغرب مساراتٍ لمعالجة التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن تغيّر المناخ، ولا سيما في القطاع الزراعي وإدارة المياه. وفي هذا السياق، إن الاستفادة من المعارف المحلية المتوارثة، كنظام "الخطّارات"، في المناطق القاحلة مثل فجيج، يمكن أن تكمّل السياسات الكلّية، بما في ذلك مشاريع تحلية المياه.

خاتمة

أتى الدعم الملحّ لسكّان المناطق الحدودية الشرقية المهمّشة في وقته. فلولا الجهود الحثيثة التي بذلتها السلطات لزيادة دور التعاونيات الزراعية وتوسيع نطاقها، ولولا تكثيف مساعيها الرامية إلى مكافحة ندرة المياه، لواجه سكان شرق البلاد صعوبةً أكبر في تحمّل عواقب كلٍّ من تغيّر المناخ وتشديد القبضة الأمنية على الحدود. لكن هذا لا يعني أن التهديد قد انحسر، إذ لا يزال الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في شرق المغرب هشًّا وعرضةً للاهتزازات والاضطرابات. ويمكن القول إن العامل الأهمّ في هذا الصدد هو تغيّر المناخ وتداعياته السلبية التي يُتوقَّع أن تبقى ظاهرة دائمة في حياتنا. فمع أن إلغاء الإجراءات الأمنية الحدودية أمرٌ مستبعدٌ في المستقبل القريب، نظرًا إلى غياب أي مؤشّرات على تهدئة التوترات القائمة بين المغرب والجزائر، من الوارد تخفيف هذه الضوابط في مرحلةٍ ما في المستقبل. لكن من المتعارف عليه عمومًا أن عكسَ مسار التداعيات الناجمة عن تغيّر المناخ بالكامل أمرٌ مستحيل، وأن ما يمكن فعله، في أفضل الأحوال، هو وقف التدهور المستمرّ للأوضاع المناخية على كوكب الأرض عند هذا الحدّ. فالمناطق التي تعاني بشدّة من تداعيات هذه الظاهرة ستتطلّب تخصيص تدفّقٍ ثابتٍ ومستدامٍ من موارد الدولة كي تحافظ على إنتاجيتها الزراعية - ناهيك عن تحقيق الربح - أو حتى كي تبقى صالحة للعيش في نهاية المطاف. وهذه هي الحال في شرق المغرب. لذا، غالب الظن أن مساعي تحقيق الاستقرار الاجتماعي الاقتصادي للمناطق الحدودية الشرقية في المغرب، سواء من خلال المبادرات التنموية المحلية أو المشاريع القائمة على التنسيق مع الدول الأفريقية الأخرى التي تواجه تحديات مماثلة، ستتّخذ شكل سباقٍ مستمرّ في وجه التهديدات التي يطرحها تغيّر المناخ.


تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK International Development التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.

هوامش

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.