منذ انطلاق الانتفاضة ضد النظام في سورية، قبل نحو عامَين، لم تولَ الأهمّية اللازمة لدور القادة المحلّيين في المجتمعات المختلفة داخل البلاد. حالياً، يتألّف قادة المعارضة السياسية في معظمهم من سوريين يعيشون في الخارج أو أشخاص يدّعون أنهم يمثّلون مجتمعاتهم. وحتى الآن، ركّزت الجهود الآيلة إلى تشكيل هيئات مُعارِضة ذات صفة تمثيلية حقيقية، على تمثيل كل المجموعات الدينية والسياسية والاجتماعية. إلا أنّ مقاربة الأمور بحذر أكبر تقتضي مدّ اليد إلى القادة المحلّيين للمساعدة في الحفاظ على القانون والانضباط بعد سقوط النظام. وقد بدأت شخصيات محلّية مؤثِّرة في مجتمعاتها - سواء في المجموعات القبلية أو الإثنية أو الدينية أو في مجتمع التجار - تؤدّي دوراً يزداد أهمّية يوماً بعد يوم في تنظيم المجتمعات التي تنتمي إليها وتعبئتها استعداداً لمرحلة مابعد الانتفاضة. ومثال على ذلك محافظة دير الزور التي يطغى عليها الطابع القَبَلي في شرق سورية.
في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، استولى الثوّار في دير الزور على قاعدة حمدان الجوية، آخر معاقل نظام الأسد في منطقة البوكمال. ثم رصّ الثوّار في المنطقة صفوفهم وهاجموا قوّات النظام في منطقة الميادين. والآن يخضع الجزء الأكبر من المحافظة إلى سيطرتهم. وهم يعملون عن كثب مع القادة المحلّيين لإدارة المناطق هناك. وفي مطلع هذا الشهر، عقد سوريون من دير الزور مقيمون في الدوحة، اجتماعاً موسّعاً لمناقشة سبل تنسيق جهود الإغاثة في المحافظة - التي يموّلها مغتربون سوريون يعيشون في الخليج والأردن وتركيا - عن طريق أشخاص يمثّلون فعلاً المجتمعات التي ينتمون إليها. وكان الهدف تجنّب الخلافات التي غالباً ماتنجم عن المحسوبيات، وغياب التمثيل الصحيح، والخصومات القَبَلية.
وقد قُسِّمت المحافظة إلى أربع نقاط لتوزيع المساعدات: نقطتَين في مدينة دير الزور وريفها، ونقطة في الميادين، ورابعة في البوكمال. في البداية، لم يكن هناك تنسيق بين هذه المناطق، لكن عندما اشتدّت المعارك ضدّ النظام خلال الصيف، بدأ الثوّار على الأرض ينسّقون في مابينهم، وشعروا بالحاجة إلى توسيع هذا التعاون لينسحب على التمثيل السياسي. وقد أُنشِئَت هيكلية تمثيلية في الدوحة، لكن أعضاءها اتّفقوا على تأجيل انتخاب قائد لها من أجل تفادي الحساسيات المحلّية التي يمكن أن تنجم عن الخصومات القَبَلية والمناطقية. وقد نُصِح الأعضاء بالتواصل مع مجموعاتهم الاجتماعية الأصغر كي يؤمّنوا التمثيل المناسب لها. وأُنشِئت لجنة مستقلّة لمراقبة تسليم الموارد وتوزيعها، مع إعطاء الأولوية لعائلات ضحايا النزاع.
العُقيدات هي أكبر مجموعة قَبَلية في منطقة الجزيرة (التي تشكّل نحو 40 في المئة من البلاد وتضمّ محافظات دير الزور والحسكة والرقة)، إذ يزيد عدد أفرادها عن 1.5 مليون نسمة، وترتبط في شكل أساسي بالسعودية والكويت. توجّه عدد كبير من أبناء هذه المنطقة إلى الخليج، وأصبحوا مواطنين مجنَّسين في السعودية وقطر والبحرين والكويت، حتى أن بعضهم يشغل مناصب رفيعة في تلك البلدان. مع استمرار القمع الدموي في سورية، توطّدت أواصر الروابط القَبَلية. ومصدر الدعم الأساسي للثوّار في دير الزور هو من مواطنين خليجيين تجمعهم صلات بالقبائل السورية.
يقول حسين عبد اللطيف، العضور البارز في مجلس دير الزور في الدوحة الذي شهد تغيير جذري في الآونة الأخيرة: "لانتّخذ أي خطوة قبل التأكّد من أن كل المناطق ممثَّلة كما يجب. ينبغي أن يكون أعضاء المجلس ممثِّلين حقيقيين لمجتمعاتهم. نريد تجنّب التجربة السابقة عندما اختطف شخص واحد المجلس ونصّب نفسه ممثّلاً عن المحافظة بكاملها، إذ تسبّب ذلك بالكثير من الانقسام" .
بعد تفعيل التعاون والوساطة بين القادة المحلّيين، تحسّن كثيراً حكم المناطق التي يسيطر عليها الثوّار. لم تقع صدامات بين الفصائل المتناحرة المختلفة. فالمقاتلون يعملون معاً عن كثب في أجواء من الودّ والتعاون، وقد شكّلوا مجموعاتهم الخيرية الخاصة، كما يُمنَع العناصر من حمل السلاح في العلن تفادياً للاستفزازات. يُسيّر عددٌ من المقاتلين دوريّات لفرض الأمن، وغالباً مايستخدمون سيارات يتبرّع بها الناس. وقد احتفظ الثوّار بآليّات الإطفاء والإسعاف التي تركها النظام وراءه. يقول حسين عبد اللطيف إن أسعار المواد الغذائية والمحروقات تراجعت منذ تسلّم الثوّار إدارة المناطق، ولاسيما بفضل التبرّعات من الشبكات الداعمة لهم خارج البلاد وحظر الاحتكارات.
لولا جهود القادة المحلّيين، لما أمكَنَ بلوغ هذه الدرجة من التنسيق والانسجام، فقد أدّوا دوراً بنّاءً في الحفاظ على الانضباط منذ اندلاع الانتفاضة. عندما اندلعت الاحتجاجات المناهضة للنظام في آذار/مارس 2012، نشأت احتكاكات بين القبائل حول طريقة التعاطي مع الأحداث والمستجدّات. اصطف بعض قادة القبائل إلى جانب النظام، وعمدوا إلى تسليح رجالهم، لكن أمكَنَ لاحقاً تفادي الصدامات بفضل الوساطة التي قام بها شيوخ قبائل أخرى. لايزال هناك وجهاء يدعمون النظام، لكنهم يعيشون بسلام ولاسيما بفضل الدور الذي يؤدّيه قادة القبائل الذين يرفضون النزاعات الأهلية والتشنّجات بين المجموعات المختلفة. فالقادة المحلّيون ملتزمون بنشر الاستقرار في مناطقهم. يقول عبد اللطيف: "تتسلّم القبائل زمام الأمور على الأرض الآن [في غياب المؤسّسات الحكومية] للعمل على حلّ المشاكل والحفاظ على الانسجام الاجتماعي. صحيح أن الجيش السوري الحر والناشطين يقودون المعارك ضد النظام، لكنهم يتبعون عموماً القواعد التي تضعها قبائلهم".
المجتمعات المحلّية في سورية قوية في الإجمال. وخلافاً للمعتقد، الجزء الأكبر من المجتمع السوري قَبَلي. وتتركّز القبائل في شكل خاص في منطقة الجزيرة، وفي الأرياف حول مدن مثل درعا وحمص وحلب، وبدرجة أقل في حماه ودمشق وحتى في معقل الدروز في السويدية. وفي المناطق الأخرى، تعيش أقلّيات دينية وإثنية في مجتمعات داخل السويدية والحسكة وحلب واللاذقية وطرطوس. حتى في مناطق التماس الطائفي حول حمص وحماه وطرطوس، حيث تقع القرى السنّية بمحاذاة القرى العلوية، اضطلع القادة المحليون بدور بنّاء في احتواء العنف في بداية الانتفاضة قبل أن يزيد النظام وميليشياته من حدّة القمع. في حين أن تنظيم المجتمعات الدينية والإثنية يختلف عن تنظيم المجتمعات القبلية، لايزال أعضاؤها يدينون بالولاء للقادة المحليين. لهؤلاء القادة نفوذ على جماعاتهم تماماً كما يمارس زعماء القبائل تأثيراً على قبائلهم. وقد استغلّ نظام الأسد تاريخياً هذه الديناميكيات لفرض سيطرته على هذه المجتمعات.
بقي القادة المحليون حتى الآن بعيدين عن الأضواء في معارضتهم للنظام، خوفاً من تعرّض المجموعات التي ينتمون إليها إلى الانتقام العشوائي. ففي دير الزور، لايزال بعض شيوخ القبائل يرفضون المجاهرة علناً بمعارضتهم للنظام. فهم يعتبرون أن هذا الإعلان لن يُفيد بشيء، كما أن النظام لايزال يمدّ المنطقة بالتيار الكهربائي والمحروقات. لكن عندما يسقط هذا الأخير، لاشك في أن هؤلاء القادة سينخرطون في السياسة بشكل فعال، وهم بدأوا يتنظّمون استعداداً لهذا السيناريو. خلال الاجتماع في الدوحة، كان هناك إجماع بين الحضور بأن المعارضة السياسية الحالية أهملت محافظة دير الزور على صعيدَي الاهتمام الإعلامي وأعمال الإغاثة. وقد جرى تشكيل فريق للتواصل مع الائتلاف الوطني المعارِض الذي أُنشئ حديثاً من أجل الحصول على الموارد، وكذلك مع المجالس السورية المحلية الموجودة في البلدان الأخرى.
التمثيل الحقيقي أساسي لإضفاء المصداقية والشرعية على المعارضة، وبالتالي لتثبيت دعائم الاستقرار في سورية بعد الانتفاضة. لقد انضم العديد من القادة الذين تجمعهم روابط قوية بالسوريين الموجودين داخل البلاد، إلى الائتلاف الوطني، ومنهم رئيسه معاذ الخطيب، الأمر الذي يساهم في الحدّ قليلاً من الاحتكار السابق الذي كانت تمارسه مجموعات ذات تمثيل ضئيل في المجتمع السوري، على المجلس الوطني. لكن لابد من القيام بخطوات إضافية. فعلى المعارضة السورية، والفاعلين في المجتمع المدني، والأسرة الدولية أن يمدّوا أيديهم إلى هؤلاء القادة المحلّيين، ليس بالضرورة من أجل ضمان التمثيل السياسي، بل بهدف تأمين الاستقرار بعد سقوط النظام.
حسن حسن كاتب في صحيفة "ذي ناشونال The National" الصادرة في الإمارات، يتحدّر من منطقة قَبَلية في شرق سوريا، وفي رصيده الكثير من الكتابات عن موضوع القبائل.
*تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.