المصدر: Getty
مقال

الدستور التوفيقي في تونس

تتحوّل مسودّة الدستور التونسي نصاً مليئاً بالتناقضات، مايعكس الانقسام السائد في المجتمع التونسي.

 ساره ميرش
نشرت في ٢١ يناير ٢٠١٤

النضال الذي تخوضه تونس من أجل الاتفاق على دستور يرضي الأكثرية المحافظة والمعارضة الليبرالية على السواء يفسح في المجال أمام التوصّل إلى توافق في عدد كبير من الجوانب الحسّاسة في الدستور الجديد. فقد قدّمت الحكومة بقيادة "النهضة" تنازلات في مطالب أساسية للمعارضة، مثل حماية حقوق المرأة وحرية التعبير والمعتقد الديني، وهي قيم أساسية بالنسبة إلى أبناء الطبقة الوسطى في المدن الذين يعتبرون أن الإسلاميين يهدّدون نمط حياتهم واقتناعاتهم. على الرغم من أن "النهضة" تتخوّف من أن يتحوّل الإسلام مجرد أكسسوار ثقافي (ومن عودة القمع الذي عانت منه سابقاً)، إلا أنها وافقت على تقديم تنازلات في هذه المسائل الأساسية. لكن هذه المساعي التوفيقية تجعل من الدستور الجديد نصاً مليئاً بالتناقضات يصفه خبراء القانون الدستوري بأنه يعاني من انفصام الشخصية.

يُظهر الفصل السادس من الدستور الجديد التناقضات الداخلية في النص. فبعدما أسفرت السجالات عن تعديل النص الذي كان قد حظي بالقبول في البداية، أصبحت صيغته الآن: "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات [...]". بعدما تلقّى نائب معارض تهديدات بالقتل لأن عضواً في الجناح المحافظ المتشدّد في حزب "النهضة" وصفه بأنه مرتدّ، طالبت الكتلة المسمّاة ديمقراطية في المجلس الوطني التأسيسي بإضافة تعديل إلى الفصل السادس لـ"تحجير (تجريم) التكفير والتحريض على العنف". لاتنسجم حماية المقدسات مع حرية المعتقد والضمير، كما أن حظر اتهام الآخرين بالتكفير يتعارض مع حرية التعبير (التي يكفلها الفصل 30)، بحسب أميرة يحياوي، رئيسة منظمة "البوصلة".

استحوذت مسائل تعريف الهوية التونسية، بما في ذلك دور الإسلام وحقوق المرأة، على الجزء الأكبر من المداولات حول الدستور داخل المجلس التأسيسي وفي الميدان العام على السواء. في محاولة للتوصّل إلى توافق حول دور الدين، تشير التوطئة إلى "تمسّك شعبنا بتعاليم الإسلام"، في حين يكرّر الفصل الأول الصيغة التي تشكّل جزءاً من الدستور التونسي منذ استقلال البلاد: "تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها". فيما يأتي الفصلان الأول والسادس على ذكر الدين، يتجنّبان إعطاءه مكانة محدّدة أو تعريفه بأنه مصدر التشريع.

لقد أفادت النساء التونسيات من القوانين الليبرالية نسبياً منذ الاستقلال، عندما أقرّ الرئيس الحبيب بورقيبة "قانون الأحوال الشخصية" (المعروف بـ"مجلة الأحوال الشخصية") في العام 1956، والذي منح النساء، من جملة أمور أخرى، حق التصويت والمبادرة إلى طلب الطلاق، فيما أبقي على قانون الميراث الإسلامي، إلا أن الدستور التونسي الجديد يذهب أبعد من ذلك. ينص الفصل 20 على أن المواطنين والمواطنات "متساوون في الحقوق والواجبات" وهو من المطالب الأساسية لعدد كبير من المنظمات الأهلية التي تخشى أن تعمد الحكومة التي يقودها الإسلاميون إلى تغيير قانون الأحوال الشخصية على الرغم من تطمينات "النهضة". وفي خطوة لقيت استحساناً من معظم النواب، أقرّ المجلس الوطني التأسيسي الفصل 45 الذي ينص على أن الدولة تضمن حماية حقوق المرأة وتدعم مكاسبها وتضمن تكافؤ الفرص، مايعني أن الدستور لن يمسّ بقانون الأحوال الشخصية. التغيير الأساسي الذي يمكن أن يُحدثه الفصل 45 هو بذل جهود متضافرة لتعزيز مشاركة النساء في السياسة، لاسيما السياسة المحلية. ينصّ الفصل 45 على الآتي: "الدولة تعمل على تحقيق التكافؤ بين الرجال والنساء في المجالس المنتخبة"، مايعني التكافؤ في اللوائح الانتخابية حتى في الانتخابات المحلية. بناءً عليه، يجب أن يكون المرشّح الثاني في كل لائحة انتخابية امرأة، الأمر الذي يمكن أن تترتّب عنه نتائج مهمّة لاسيما في المناطق الريفية حيث لاتزال النساء مهمّشات. يبدي عدد كبير من أعضاء المجلس التأسيسي ثقتهم بأنه من شأن ضمان تكافؤ الفرص وتعزيز دور المرأة في السياسة المحلية أن يساهما في المدى الطويل في تغيير أوضاع النساء لاسيما في الأرياف.

يشار إلى أن التكافؤ بين المرشّحين طُبِّق في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في العام 2011، والذي يضم 65 امرأة من أصل 217 عضواً، معظمهن من حزب "النهضة". على الرغم من التوصّل إلى إجماع بين الكتل البرلمانية قبل التصويت على الفصل 45، لم يتقيّد جميع النواب الإسلاميين بالإجماع وصوّت بعضهم ضد الفصل المذكور، في حين اتّخذ آخرون على غرار محرزية العبيدي من "النهضة" التي تتولّى منصب نائبة رئيس المجلس التأسيسي، موقفاً واضحاً مؤيّداً لتعزيز الحرية والمساواة، وصوّتوا مراراً وتكراراً مع النوّاب المعارضين.

على الرغم من التطمينات الواردة في الفصلَين 40 و45 والتي تؤمّن ضمانات لحقوق المرأة في الدستور التونسي الجديد، تعتبر مجموعات الدفاع عن حقوق المرأة أنه لايزال هناك عمل كثير يجب إنجازه. فهي تخشى أن يُستخدَم الفصل 7 الذي يعرّف الأسرة بأنها "الخلية الأساسية للمجتمع" في مرحلة لاحقة لفرض قيود على حقوق المرأة؛ فقد يؤدّي ذلك مثلاً إلى تقييد حق المرأة في الطلاق بهدف حماية الأسرة. وتعتبر هذه المجموعات أيضاً أنه يمكن استخدام الفصل 21 الذي ينص على أن "الحق في الحياة مقدّس" لحظر الإجهاض الذي يجيزه القانون حالياً في مراحل الحمل الأولى. غالب الظن أن مجموعات حقوق المرأة قد تستخدم الفصلَين 20 و45 للدفع نحو مراجعة قانون الميراث الذي يستند حالياً إلى الشريعة الإسلامية.

بغية إقرار الدستور، يصوّت النواب حالياً على كل فصل على حدة وعلى أكثر من 250 تعديلاً. بعد الموافقة على كل واحد من فصول مسودة الدستور، سوف يصوّت النواب على الدستور كاملاً. ويحتاج إقراره إلى غالبية الثلثَين، أما في حال عدم بلوغ الأكثرية المطلوبة في المجلس التأسيسي، فسوف يحال الدستور على الاستفتاء الشعبي.

من المسائل السجالية الأخرى الخلاف حول تعيين القضاة، وهي مسألة رئيسة عطّلت عمل المجلس التأسيسي طيلة ثلاثة أيام، قبل التوصل إلى توافق في نهاية الأسبوع الماضي. ينص الفصل 103 على أن الرئيس يُعيّن القضاة بناءً على توصية من المجلس الأعلى للقضاء. لكن المشكلة تمثّلت في الفصل 109 الذي يُحدّد آلية تشكيل المجلس الأعلى للقضاء. فقد نصّت الصيغة الأصلية التي رُفِضَت، على تعيين غالبية أعضاء المجلس من قبل مؤسسة حكومية - لكن أكثرية النواب اعتبرت أن هذا الإجراء يتنافى مع الديمقراطية. أما الإجماع الذي تبنّاه المجلس التأسيسي في نهاية المطاف فينصّ على انتخاب غالبية أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وتسمية عدد قليل منهم عن طريق التعيين.

يقوم النواب حالياً بإعادة التصويت على الفصول التي لم يجرِ إقرارها في البداية لكنها أساسية للدستور الجديد، مثل القرار 64 الذي من شأنه أن ينص على الحد الأدنى المطلوب من الأصوات لإقرار القوانين في البرلمان المقبل، أو الفصل 73 الذي ينصّ على شروط محدّدة مثل عمر الرئيس ودينه. من شأن تفسير ليبرالي لآليات عمل النواب داخل البرلمان أن يُتيح لهم تعديل بعض الفصول التي رُفِضت في السابق، وإعادة التصويت عليها.

في حين يثني المراقبون الغربيون على نص الدستور الحالي واصفين إياه بأنه الدستور الأفضل والأكثر حداثة في العالم العربي، يقول تونسيون كثر إنهم لايريدون أن يكون لديهم الدستور الأحدث في المنطقة، بل يفضّلون دستوراً جيداً ومتماسكاً. يعكس النص في صيغته الحالية الخصومات التي تطبع المجتمع التونسي نفسه، بالمقارنة مع دستور 1959 الذي أقِرّ بعد الاستقلال وكان أقرب إلى رؤية النخبة للمجتمع منه إلى الواقع الاجتماعي. يسلّط النص الجديد الضوء أيضاً على التناقضات في تونس. سوف يقع على عاتق المحكمة الدستورية، التي سيتم إنشاؤها لأول مرة في تاريخ البلاد، أن تجد تفسيراً مترابطاً لنحو 150 فصلاً في النص بمايضمن للتونسيين مستقبلاً ديمقراطياً.

ساره ميرش صحافية مستقلة تقيم في تونس.

يمكن الاطلاع على مسودة الدستور التونسي باللغتين العربية والفرنسية.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

* تصحيح: ذكرت النسخة السابقة خاطئاً أن الأكثرية في الحكومة هي "الأكثرية الليبرالية المحافظة".

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.