فيما تستعدّ مصر إلى إجراء انتخاباتها الرئاسية في أيار/مايو المقبل، يطرح اعتمادها المتزايد على مجلس التعاون الخليجي تحدّياً متعاظماً على أي حكومة مصرية عتيدة. كانت معظم التعليقات مقلقة، إذ حذّرت من أن اتّكال مصر على المساعدات الطارئة من دول مجلس التعاون الخليجي، لاسيما السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت، يؤدّي إلى خسارتها استقلالية القرار. ويبدو أن هذه المساعدات مشروطة بتكثيف الحكومة المصرية حملتها لقمع الإخوان المسلمين، كما أنها تُقيّد قدرتها على اتّباع سياسة خارجية مستقلة. لكن، وعلى الرغم من أن خطوط الإنقاذ الاقتصادي التي تمدّها دول الخليج إلى مصر تأتي مصحوبة بأعباء سياسية، إلا أنها تحمل أيضاً فرصاً. فمصر في وضع جيّد الآن يخوّلها الانخراط من جديد، بشروط مؤاتية، مع مجموعة أكثر تنوّعاً من الدائنين الدوليين، على رأسها صندوق النقد الدولي.
عقب الانقلاب المدعوم من الجيش في تموز/يوليو الماضي، انتفت حاجة مصر إلى صندوق النقد الدولي. فقد تعهّدت السعودية والكويت والإمارات آنذاك بإرسال مساعدات اقتصادية قدرها 12 مليار دولار، ما أتاح إبعاد شبح الأزمة التي كانت تلوح في الأفق. فقد ساهمت هذه المساعدات في تثبيت احتياطي العملات الأجنبية بعدما تراجع إلى حد كبير، وخفّفت من وطأة اتّساع العجز في الحساب الجاري، وعزّزت لبعض الوقت التوازن الاجتماعي في البلاد عبر السماح للحكومة بتغطية الإعانات الأساسية. وإلى جانب مبلغ الـ12 مليار دولار، تعهّدت السعودية والإمارات في نهاية كانون الثاني/يناير الماضي بتقديم 5.8 مليارات دولار إضافية.
انطلاقاً من كل هذه التطورات، أصبحت مصر محط ثقة المستثمرين والأسواق المالية. فقد ارتفعت أسعار الأسهم المصرية بنسبة تفوق الـ40 في المئة في النصف الثاني من العام 2013، وبلغ الاحتياطي الأجنبي 17.4 مليار دولار في أواخر الشهر الماضي. فاقترب بذلك من تحقيق المستوى الأعلى له في مصر في الأعوام الثلاثة الأخيرة، أي منذ اندلاع الانتفاضة في العام 2011. بيد أن التأثير الاقتصادي الفعلي الذي مارسته المساعدات الخليجية على مصر كان متفاوتاً. فبالكاد تحسّنت قيمة الجنيه المصري، ولايزال التصخّم الذي يبلغ نحو 11 في المئة، قابلاً للتحكّم به، لكنه يبقى مصدر قلق. وعلى الرغم من برنامج التحفيز المحدود الذي أطلقته حكومة رئيس الوزراء السابق حازم الببلاوي، لاتزال نسبة البطالة في مصر تتراوح من 13 إلى 25 في المئة. واقع الحال هو أن المساعدات الخليجية لم تحدث أي تغيير جذري في مصر، كما أنها لم تقدّم الكثير باستثناء منح الحكومة متنفّساً هي في أمس الحاجة إليه.
علاوةً على ذلك، ليس مؤكداً على الإطلاق أن مجلس التعاون الخليجي سيستمر في إرسال المساعدات إلى مصر. فلكل دولة من دول المجلس التي تقدّمت للمساعدة بعد 30 حزيران/يونيو الماضي احتياجاتها الداخلية الملحّة التي تتطلّب توسيع النفقات الحكومية. ينطبق هذا في شكل خاص على السعودية التي سعت في العام 2011 إلى الحؤول دون وقوع احتجاجات شعبية في البلاد عبر توسيع قطاعها العام إلى حد كبير، وتطبيق سلسلة من الزيادات على الأجور، وتنفيذ مشاريع سكنية جديدة، وإطلاق مبادرات كبرى في قطاع البنى التحتية. إلى جانب هذه الزيادة في النفقات، لاتزال أسعار النفط العالمية ضعيفة. لذلك، بدأت الدول التي تُعتبَر مصدِّرة صافية للنفط باستنفاد فوائضها الآخذة في التناقص. يشكّل الانخفاض في أسعار الطاقة العالمية، عند استمراره لفترة طويلة، تهديداً إضافياً للوضع المالي للبلدان الأساسية في مجلس التعاون الخليجي. وفي ظل عدم تحقيق القطاع الخاص نمواً قوياً في المدى المنظور، قد يواجه الخليج نقصاً شديداً في الوظائف يصل إلى حدود المليون وظيفة بحلول العام 2016. تولّد هذه الوقائع كلّها ضغوطاً اقتصادية خطيرة، فضلاً عن ضغوط اجتماعية لاتزال عالقة من دون حل، الأمر الذي قد يدفع تلك الدول إلى وقف المساعدات أو تغيير الشروط التي توافق بموجبها على منح قروض إلى مصر.
أما فيما يخص البعد السياسي للاعتماد المصري على مجلس التعاون الخليجي فمن جهة، سرعان ما ابتعدت الحكومة الجديدة في القاهرة، بعد 3 تموز/يوليو الماضي، وبصورة مفاجئة، عن سياسة الدعم الذي كان الإخوان المسلمون يقدّمونه إلى الثوار السوريين. ثم تبدّلت السياسة المصرية من جديد بعدما نالت الحكومة الدفعة الأولى من المساعدات الخليجية، فاصطفّت الحكومة المدعومة من العسكر بهدوء إلى جانب القيادة السعودية في معارضتها لنظام الأسد. ومن جهة أخرى، لم تكن الروابط بين مجلس التعاون الخليجي، وتحديداً بين السعودية ومصر، يوماً علاقةً زبائنية سلسة. لذلك، يبقى أن نرى إذا كانت حكومة بقيادة السيسي ستحافظ أم لا على التزامها بالأولويات السعودية والخليجية بعد الانتخابات في مصر.
لكن، مادامت مصر تُفيد من السخاء الخليجي، فإن ظرفها الحالي هو الأكثر استراتيجية منذ مطلع العام 2011 لإعادة الانخراط مع دائنين دوليين آخرين، بدءاً بصندوق النقد الدولي. على الرغم من الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان والقمع المستمر للمجتمع المدني، تعكس إجراءات صندوق النقد الدولي، مع العلم بأنه ليس مؤسسة سياسية في العلن، متطلّبات الدول الأعضاء الأساسية وصانعي السياسات الاقتصادية المسؤولين عن إغاثة المدينين السياديين. يبدو أن الصندوق، عبر حفاظه على "التزامه القوي" تجاه مصر، تبنّى الخطاب الذي يتحدّث عن "إرساء الديمقراطية"، ويتوقّع عودة الاستقرار في البلاد بعد الانتخابات الرئاسية.
في هذا الإطار، يمكن التوقّف أيضاً عند سابقة تاريخية في التعاطي مع مصر بغض النظر عن مناخها السياسي. فقد تعامل الصندوق مع مبارك مكافأةً للدعم المصري لقوات الائتلاف خلال حرب الخليج الأولى، مع العلم بأنه لم يكن لحكومته آنذاك سجلٌ جيد في حقوق الإنسان والحكم المدني والشفافية. واليوم، الأسباب الجيوسياسية التي تستدعي الانخراط من جديد مع مصر عميقةٌ بالدرجة نفسها. فعلى الرغم من الانتقادات العلنية، يحتاج الأفرقاء الغربيون، لاسيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى حد كبير إلى مصر لمواصلة الضغط على الجماعات الإسلامية المسلّحة في سيناء. كما يريدونها أن تستمر في تأدية دور الطرف العازل في مواجهة التدهور الواسع في الاستقرار الذي تشهده المنطقة من جرّاء النزاع المطوّل في سورية. ويريد الأفرقاء الغربيون أيضاً أن يحولوا دون سعي مصر إلى الحصول على المساندة من جهات منافِسة، على غرار روسيا التي وقّعت مؤخراً اتفاق تسليح معها، مايُعزّز التكهّنات بأن القاهرة تبتعد عن واشنطن.
بإمكان مصر أن تستخدم هذه الظروف السياسية لانتزاع شروط أكثر مؤاتاة من صندوق النقد الدولي. مما لاشك فيه أن التزام الصندوق بالتقشّف أصبح الآن أكثر ليونة من أي وقت مضى، وتحديداً من العام 1991 عندما عرض الصندوق على مصر اتفاقاً للحصول على قرض قدره 372 مليون دولار وفرض عليها شروطاً تقشّفية قاسية جداً. إبان الأزمة الأخيرة في منطقة اليورو، يبدو أن موقف صندوق النقد الدولي من التقشّف قد تطوّر. ينتقد قادة الصندوق التقشّف في بعض اقتصادات الاتحاد الأوروبي، لاسيما في المملكة المتحدة، ويتفهّمون الحساسية الشديدة لمسألة الإعانات الحكومية في مصر، مايعني أن هذه الأخيرة قد تتمكّن من الحصول على قرض من الصندوق من دون اتخاذ تدابير فورية لإجراء تخفيضات حادّة في الدعم الحكومي، مع مايترتّب عنها من ضغوط إضافية على المناخ السياسي الداخلي.
في الوقت الراهن، ليس واضحاً إذا كانت حكومةٌ بقيادة السيسي ستقبل بشروط صندوق النقد الدولي الجديدة. لقد أكّد المعلقون الغربيون، من جهتهم، في تصريحات غير موثَّقة في معظمها، أن عبد الفتاح السياسي يفضّل تعزيز دور الجيش في الاقتصاد والعودة إلى سياسات التأميم التي اتّبعها عبد الناصر في الخمسينيات، الأمر الذي يعني صرف النظر عن التعامل مع صندوق النقد الدولي وسواه من الدائنين الغربيين. لكن تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن توسيع صلاحيات الجيش لايتعارض مع استمرار النمو في القطاع الخاص، بتحفيز من صندوق النقد الدولي والعكس، وخير دليل على ذلك الدور الذي أدّاه الصندوق في مصر في التسعينيات. فقد أتاحت إصلاحات السوق التي نُفِّذت بعد توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في مطلع التسعينيات، للجيش اختراق القطاع الخاص بطرق لم تكن ممكنة في السابق، لاسيما عبر التملّك المباشر لبعض الشركات، والسيطرة على المقاعد في المجالس الاستشارية، وإملاء العقود الحكومية.
تقدّم المصادر المصرية والعربية صورة أكثر تعقيداً عن سجل الحكومة الاقتصادي في بداية عهدها، بما في ذلك الجهود الهادفة إلى تشجيع عودة الاستثمارات الخارجية المباشرة. لقد عملت الحكومة مع شركات آسيوية ريادية على غرار "سامسونغ"، التي افتتحت مصنعها الأول في الشرق الأوسط في بني سويف في أيلول/سبتمبر الماضي، وتدير أنشطة واسعة النطاق في القطاع المالي تشمل عدداً من عروض الاكتتاب العام التي يُتوقَّع أن تكون كبيرة الحجم، في البورصة المصرية خلال الأشهر المقبلة. على الرغم من استقالة الببلاوي، لايزال هناك تكنوقراط معروفون في الحكومة يدركون أهمية الحصول على قروض دولية جيدة لتعزيز النمو في القطاع الخاص، ومنهم ابراهيم محلب ونبيل فهمي وهشام زازو. إنهم في موقع جيّد يخوّلهم إقناع السيسي بالتعامل مع صندوق النقد الدولي، لاسيما إذا كان يرغب في إعادة تأكيد النفوذ المصري في المنطقة، مايتطلّب التخلص من الاعتماد الاقتصادي الشديد على مجلس التعاون الخليجي.
نظراً إلى نقاط الضعف التي تقع في أساس التعويل المستمر على مجلس التعاون الخليجي، والمقاربة التي اعتمدتها الحكومة في بداية عهدها لاستقطاب الاستثمارات الخارجية المباشرة، من الأجدى بالسيسي أن يجسّ النبض عبر تجديد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. حتى إذا فشلت المباحثات، من شأن الحوار أن يبثّ مناخاً من الثقة، وأن يعزّز، سواء كان ذلك نحو الأفضل أم الأسوأ، مصداقية النظام الجديد على المستوى الدولي. إذا كانت القيادة العسكرية الحالية تملك فعلاً طموحات ناصرية، لايمكنها أن تظل بيدقاً في يد الخليج إلى أجل غير مسمّى، كما أنها تحتاج إلى مسار واضح نحو تحقيق التعافي الاقتصادي. من شأن صندوق النقد الدولي أن يؤمّن مثل هذا المسار.
ماكس ريبمان حائز على منحة غايتس وطالب دكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط الحديث في كلية بمبروك في كامبريدج.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.