في 12 أيار/مايو، اندلع إطلاق نار احتفالي مكثّف في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، بعدما أعلن تنظيم الدولة الإسلامية "استشهاد" اثنين من مقاتليه، وكلاهما شابّان من المخيم، في العراق. وغالب الظن أنهما لن يكونا الأخيرَين. على الرغم من أن القوى الحاكمة في المخيم – منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الموالية للنظام السوري التي تشغّل مؤسساتها السياسية وأجهزتها الأمنية الخاصة – شدّدت مراراً وتكراراً على أن المخيمات في لبنان لن تتأثّر بالاضطرابات الإقليمية، إلا أن الأزمة السورية تحدث خللاً في موازين القوى وتثير الغضب والإحباط داخل مخيم عين الحلوة.
في شباط/فبراير ومارس/آذار، أوردت الصحف اللبنانية في خبرَين منفصلَين أن مجموعات من الشبّان نجحت في التسلل خلسةً من عين الحلوة للالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية في الرقة. على الرغم من أن عددهم لم يتجاوز الثلاثين على الأرجح، إلا أنه يبدو أن هذه التقارير أضفت مصداقية على الشائعات بأن تنظيم الدولة الإسلامية الذي ليس له حضور رسمي في لبنان، شكّل خليّة في المخيم الأكبر للاجئين الفلسطينيين في البلاد. كما أن السلطات الأميركية صنّفت أسامة الشهابي المقيم في عين الحلوة، إرهابياً عالمياً على صلة بجبهة النصرة.
على الرغم من أنه من الصعب تقديم إثباتات عن وجود روابط رسمية بين هؤلاء الأشخاص الذين ينصّبون أنفسهم "أمراء" محليين مع زمرهم العسكرية الصغيرة والمجزّأة في معظم الأحيان من جهة، والمجموعات الجهادية الأكبر في سورية من جهة ثانية، إلا أن الأجواء السائدة في المنطقة تشكّل حافزاً لهم من دون أدنى شك. يتباهى الشهابي ومعاصروه بحوارهم مع "القيادة الجهادية في سورية"1، في حين أن مناوشاتهم المسلّحة المتكررة مع أجنحة فتح العسكرية أصبحت أكثر جرأة منذ نزوع الانتفاضة السورية نحو الجهادية. في آب/أغسطس 2015، تحدثت تقارير عن هروب ثلاثة آلاف شخص من مخيم عين الحلوة عند وقوع صدامات بين حركة فتح والإسلاميين المتشدّدين في شوارع المخيم لمدة ستة أيام تقريباً.
يخشى سكّان عين الحلوة أن تجرّ هذه الاشتباكات المتكرّرة المخيم إلى مواجهة مسلّحة مع الجيش اللبناني. إنه سيناريو مألوف جداً بالنسبة إلى الفلسطينيين في لبنان: في العام 2007، دُمِّر مخيم نهر البارد في شمال لبنان بالكامل في معركة بين الجيش وتنظيم فتح الإسلام الجهادي. تفادياً لتكرار مثل هذه الأحداث، تحوّل الأفرقاء الفلسطينيون نحو بعض الميليشيات الجهادية الأقدم عهداً في مخيم عين الحلوة للاستعانة بها.
من هذه المجموعات تنظيم عصبة الأنصار السلفي الجهادي، وهو واحدٌ من عدد كبير من الميليشيات الإسلامية المحلية التي برزت في المخيم خلال السنوات التي أعقبت الحرب الأهلية اللبنانية. ذاع صيت التنظيم دولياً عبر شنّه حروب عصابات عنيفة ضد حركة فتح، وإرسال مقاتلين إلى العراق للقتال ضد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة من 2005 إلى 2011. 2 بيد أن المراقبة الشديدة من السلطات والمواجهات المسلحة المستمرة مع منظمة التحرير الفلسطينية تركت وقعها على قيادة التنظيم. في مطلع القرن الحادي والعشرين، اعتمدت عصبة الأنصار مقاربة أكثر براغماتية تجاه "العدو القريب": ففي سبيل تجنّب الدخول في مواجهة مع الجيش اللبناني، سلّم التنظيم في مرحلة معينة جهادياً مطلوباً من السلطات كان يقوم بإخفائه. وقد دفعت هذه الخطوة ببعض العناصر الأكثر تشدّداً إلى الانشقاق عن التنظيم والالتحاق بالميليشيات السلفية المنافسة، مثل جند الشام ولاحقاً فتح الإسلام.
وعندما عجزت عصبة الأنصار عن الحفاظ على سمعتها التي جعلت منها المجموعة الجهادية السلفية الأبرز في لبنان، وبعد جولات من المفاوضات المكثّفة مع ممثّلين عن حركة حماس والجيش اللبناني، تخلّى التنظيم تدريجاً عن سلوكه العنفي واستبدل خطابه الناري بمقاربة أكثر شعبوية. وقد أثار الناطق باسم عصبة الأنصار، أبو شريف عقل، ضجة كبيرة حين أعلن في العام 2008 أن الشريعة تحظر العنف ضد الدولة اللبنانية، مناشداً الإسلاميين في المخيم تحويل أنظارهم نحو فلسطين.
وجاء اندلاع الأزمة في سورية ليسلّط الضوء أكثر فأكثر على الانقسامات في صفوف المتشدّدين الإسلاميين في المخيم. تشكّل عصبة الأنصار، إلى جانب حركة المجاهد الإسلامي وجماعة أنصار الله، شريحةً من المجموعات الجهادية الأقدم عهداً في المخيم، والتي بنت علاقات مع السلطات الفلسطينية واللبنانية على السواء. تماشياً مع هذه السياسة، استمرّت هذه المجموعات أيضاً في الحفاظ على الحياد في الحرب السورية. واقع الحال هو أن عصبة الأنصار سعت منذ العام 2013، في إطار محاولتها بناء علاقات مع جميع الأفرقاء في الطيف السياسي اللبناني، إلى تعزيز روابطها الديبلوماسية مع حركة أمل وحزب الله الشيعيَّين، وكلاهما حليفان للنظام السوري.
منذ تموز/يوليو 2014، أدّت المجموعات الجهادية الثلاث المذكورة آنفاً دوراً أساسياً أيضاً في إطار القوة الأمنية الفلسطينية المشتركة الجديدة في عين الحلوة. يرتكز المشروع الذي يضم 17 فصيلاً مسلّحاً بدءاً من الشيوعيين وصولاً إلى الإسلاميين، على اتفاق ضمني بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش اللبناني ينص على وجوب أن يتولّى الأفرقاء الداخليون وليس قوات مسلّحة خارجية معالجة المشكلات الأمنية في المخيم، وذلك عملاً بالعِبَر المستمدّة من تجربة نهر البارد. انطلاقاً من الإدراك بأنه من شأن تدخّل الجيش اللبناني أن يدفع بالمخيم نحو الحرب، أدّت عصبة الأنصار وحلفاؤها بوتيرة متزايدة دور الوسطاء النافذين، وحاولوا غالباً تسوية الخلافات مع المتشددين السلفيين الأقل قابلية للتوقع التابعين لجبهة النصرة أو الدولة الإسلامية.
يقول أبو إياد رامز مصطفى، مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة في لبنان: "نترك مسؤولية [التفاوض] في عهدة القوى الإسلامية المعتدلة. نعوّل على هذه [المجموعات] لإيصال الفكرة بأن العنف والتهديدات ستؤدّي إلى تدمير المخيم. يتكلم الإسلاميون لغة مشتركة. يصغون بعضهم إلى بعض"3.
بالفعل، أسفر هذا النوع من التفاوض عن تحقيق نتائج إيجابية، آخرها في 13 آذار/مارس الماضي، عندما أعلن قادة حركة فتح وأتباع أسامة الشهابي، في حدثٍ حظي بدعاية واسعة، عن توقيع الأفرقاء اتفاق سلام في أعقاب اشتباكات آب/أغسطس. لكن في حين أن مباحثات المصالحة والضغوط التي تمارسها المجموعات الإسلامية الأكثر خبرة قد تساهم في تخفيف منسوب التشنّج في المخيم، تعاني التنظيمات المتشددة الأصغر حجماً من الانقسامات الداخلية والضعف البنيوي الشديد ما يجعلها هشّةً أمام عملية إنهاء التطرف وعرضةً للزوال، ويجعل من الصعب التوصل إلى حلول دائمة معها. كما أن هذه الحوارات لن تتمكّن من إحداث تغيير يُذكَر في السياق السياسي-الاجتماعي الأوسع في مخيم عين الحلوة.
بعد اندلاع أعمال العنف في حي اليرموك الذي يقطنه الفلسطينيون في دمشق في العام 2012، استقبل مخيم عين الحلوة ما لا يقل عن 11000 نازح فلسطيني ومواطن سوري، مع العلم بأن المخيم يضم أصلاً 65000 نسمة في أقل من كيلومتر مربع4. فضلاً عن تسبُّب الوافدين الجدد بإلقاء مزيد من الأعباء على موازنات وإمكانات وكالات الإغاثة التي تسعى جاهدة لتقديم الخدمات الأساسية إلى سكان المخيم، على الأرجح أن موجات اللاجئين الأخيرة شكّلت أيضاً، بحسب العمال الاجتماعيين المحليين، مصدراً إضافياً لتجنيد الأشخاص في الميليشيات السرّية5. شبكات التطرف في عين الحلوة متخصصة في التواصل مع الشباب المحرومين والغاضبين الذين لا يثق معظمهم بالسلطات التقليدية في المخيم ولا بحظوظهم في بناء مستقبل في الدولة المضيفة – لا سيما وأن الفلسطينيين في لبنان لا يستطيعون حيازة الجنسية أو التملّك، ويصعب عليهم الحصول على عمل قانوني. واللاجئون الجدد الذين لا ينتمون إلى شبكات اجتماعية أو لا يملكون المال للحصول على تأشيرات سفر، هم الأكثر عرضةً للانجذاب نحو التنظيمات المتشدّدة. لهذه الأسباب، حتى لو جرى التوصل إلى سلام بين الأفرقاء في عين الحلوة بوساطةٍ من الجهاديين، ليس أكيداً أن ذلك يمكن أن يؤدّي إلى بسط الاستقرار في المخيم في المدى الطويل.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
إرلينغ سوغ طالب دكتوراه في قسم دراسات الثقافات واللغات المشرقية في جامعة أوسلو، يعمل حالياً على التشدّد الإسلامي والحوكمة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
1. مقابلة مع أسامة الشهابي في عين الحلوة، 24 شباط/فبراير 2016.
2. يعترض أعضاء عصبة الأنصار على التقويم الأميركي ويقولون إنهم كانوا في العراق من 2003 إلى 2005.
3. مقابلة مع أبو إياد رامز مصطفى في مقر الجبهة في بيروت، 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2016.
4. هذه المعلومات مستقاة من مقر الأونروا في بيروت.
5. مقابلات مع عدد من المنظمات غير الحكومية التي تتمركز داخل مخيم عين الحلوة وعلى مقربة منه.