من شأن رقمنة البيانات الاجتماعية الارتقاء بكفاءة منظومة الاستهداف في ضوء إرهاصات العمل بالسجل الاجتماعي الموحد بالمغرب، لكن الخلفيات السياسات المُتحكِّمة في تصميمها تجعلها مطيَّة لشرعنة الهاجس التقشفي في تقليص الميزانيات الاجتماعية، وفي تضييق القاعدة المستفيدة من شبكات الأمان الاجتماعي.
أصبحت شبكات الأمان الاجتماعي بالمغرب تستند تدريجيا منذ 2021 على منهجية استهداف مُرقمنة لتحديد مستحقي برامج الحماية والمساعدة، ففي ضوء المعالجة المعلوماتية للبيانات المُجمَّعة بالسجل الاجتماعي الموحد يتم إصدار قرارات الشمول أو الاستبعاد في حق الأسر الراغبة في الاستفادة من التحويلات الاجتماعية المباشرة ومن خدمات التأمين الصحي المجاني. كما تواترت جهود توظيف تكنولوجيا المعلومات في تدبير البيانات الاجتماعية بما يجعلها تخدم الرهانات السياسية والاقتصادية للحكومة والجهات الداعمة.
في ضوء ذلك، يبرز السؤال المركزي التالي: ماهي مكاسب ومخاطر رقمنة منظومة الاستهداف الاجتماعي في ضوء الحصيلة المرحلية للعمل بالسجل الاجتماعي الموحد في إعادة تصميم شبكات الأمان الاجتماعي بالمغرب؟
لمعالجة هذه الإشكالية سننطلق من المرجعيات والتقارير الوطنية والدولية لاستقصاء السياقات والرهانات المؤسِّسة للتدبير الرقمي لمنظومة الاستهداف الاجتماعي، مع إبراز تمفصلات ذلك بالديناميكيات السياسية لإعادة هيكلة الفعل الاجتماعي للدولة، وكذا اقتراح المداخل الممكنة للحد من الطابع الإقصائي ل"الخوارزميات الاجتماعية".
الهندسة المعلوماتية للبيانات الاجتماعية بالمغرب: الدواعي والدوافع
ظهرت أولى محاولات توظيف تكنولوجيا المعلومات في تخزين وتحليل البيانات الاجتماعية منذ تعميم نظام المساعدة الطبية للفقراء (RAMED) في 20121، حيث شكلت المنصة الإلكترونية لهذا النظام مُنطلَقا لحصر القاعدة المستهدفة لعدة برامج اجتماعية، كبرنامج "تيسير " لمحاربة الهدر المدرسي، وبرنامج دعم الأرامل الفقيرات. كما ساعدت على استهداف المؤهلين للاستفادة من صندوق دعم المتضررين من جائحة كورونا في سنة 2020. لكن اختلالات عمليات التدقيق والمعالجة كرَّست استفادة ميسورين مقابل إقصاء العديد من عديمي الدخل. الأمر الذي حتَّم إعادة تصميم منظومة الاستهداف وِفق هندسة معلوماتية تراعي متطلبات الإنصاف والاستحقاق.
في هذا السياق، شكلت التقنيات الرقمية دعامة أساسية لإسناد المسار الجديد للسياسات الاجتماعية، تماشيا مع التحول الجوهري في تحديد المُستهدَفين بالبرامج الاجتماعية، من استهداف شامل (Universal Targeting) إلى استهداف إحصائي (Statistical Targeting) يقتصر على الفئات الأشد فقرا. لإسناد هذا التحول، انطلقت مساعي تطوير نظام معلوماتي مُوحَّد لتجميع ومعالجة كافة المعطيات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، في أفق إرساء قاعدة بيانات مركزية لحصر المشمولين بدعم الدولة. وقد لعبت المؤسسات المالية الدولية دورا حاسما في تدعيم هذا التوجه، بترويج تجارب دولية "مُثلى" كالنظام الهندي للهوية البيومترية (Aadhaar)، وبتقديم الدعم التقني والمالي لرقمنة منظومة الاستهداف بما يجعلها أكثر تساوقا مع رهانات تكريس دولة الحد الأدنى (the minimal state). وهكذا، ففي إطار مبادرة تحديد الهوية من أجل التنمية،2 حصل المغرب في 2017 على قرض بقيمة 100 مليون دولار لتمويل مشروع نظم الاستهداف وتحديد الهوية من أجل الحماية الاجتماعية، وما تلا ذلك من سلسلة قروض لتدعيم الحوكمة الرقمية للبرامج الاجتماعية.
من أجل إعداد الهندسة المعلوماتية للشباك الموحد للبيانات الاجتماعية، انخرطت وزارة الداخلية منذ 2018 في مسار تشاركي مع البنك الدولي ومع المعهد الدولي لتكنولوجيا المعلومات (IIITB) لتسفر الحصيلة عن تهيئة البيئة الرقمية لمنظومة الاستهداف في إطار منصتين مترابطتين:
- السجل الوطني للسكان (RNP): بنك رقمي مركزي لتسجيل المعطيات الديموغرافية اعتمادا على قزحية العين كتِقنية حيوية (Biometric) لتأمينها وضبطها، مع مد كل شخص مُسجَّل بمُعرَّف رقمي مدني واجتماعي (IDCS) يُشكل مفتاحا للربط بين قواعد البيانات التابعة للإدارات العمومية والمحلية التي تشرف على برامج الدعم الاجتماعي.
- السجل الاجتماعي الموحد (RSU): شباك إلكتروني شامل لحصر المستفيدين من البرامج الاجتماعية، فبناء على المعالجة الخوارزمية للبيانات السوسيواقتصادية يجرى التحديد الآلي لعتبة الاستفادة من التحويلات المُستهدفة (9,74)؛ حيث يتم استبعاد كل من تجاوز هذا المؤشر من قوائم المشمولين بالدعم الاجتماعي المباشر. نفس الأمر بالنسبة لمؤشر الاستفادة من منظومة التغذية الصحية الذي يتعين أن يتراوح بين 9.32 و9.74؛ وإلا فإن رب الأسرة مطالب بتسديد الواجبات الشهرية للاشتراك بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS)، والتي تتفاوت مبالغها بحسب درجة ارتفاع المؤشر.
من خلال تتبع المرجعيات والخطابات الرسمية المؤطِّرة لِنزع الطابع المادي عن البيانات الاجتماعية، تبرُز عدة رهانات سياسية بعضها مُعلن وبعضها الآخر مُضمَر؛ حيث تدَّعي الحكومة أن رقمنة قواعد المعطيات الاجتماعية ضرورة ملحة لضمان نجاعة برامج الحماية الاجتماعية في ظل الفوضى التي اعترت منظومة الاستهداف طيلة المراحل السابقة. لكن، من المنظور السياسي، تشكل رقمنة هذه المنظومة منفذا "تقنويا" لشرعنة النزعة النيوليبرالية في تأطير الدور الاجتماعي للدولة بما يُرضي المؤسسات المالية الدولية، التي تضغط باستمرار لحصر شبكات الأمان الاجتماعي في تدخلات محدودة ومنخفضة التكلفة، مع تقليص عدد المستهدفين إلى الحد الأدنى مقابل ترك غالبية المواطنين تحت رحمة السوق.
دور الحلول الرقمية في تعزيز كفاءة منظومة الاستهداف الاجتماعي
عرف الوعاء المعلوماتي لشبكة الأمان الاجتماعي بالمغرب توسعا ملحوظا في ظل الرقمنة المتزايدة للقاعدة الديموغرافية المستهدفة منذ نوفمبر من العام 2021 تاريخ الشروع في إرساء الدعائم المعلوماتية لمنظومة الاستهداف، حيث تنامت بشكل تدريجي أعداد المسجلين بالسجل الوطني للسكان لِتُناهز حاليا 22 مليون شخص، فيما قارب عدد المسجلين بالسجل الاجتماعي الموحد 19 مليون شخص ينتمون إلى حوالي 5.2 مليون أسرة.
شكَّل هذا "الوعاء المعلوماتي" مُنطلَقا لإعمال المعالجة الرقمية للبيانات الاجتماعية في الحصر الآلي للمستفيدين من الدعم الاجتماعي المباشر، الذين بلغ عددهم -بحسب آخر المعطيات الرسمية – 12 مليون شخص، فيما تجاوز عدد المستفيدين من التغطية الصحية التضامنية 10 مليون مستفيد. كما ساعدت الحلول الرقمية على تسريع عمليات المساءلة و"الفلترة" في الاتجاهين؛ بإدماج فئات مُستبعَدة بعد تحيين مؤشرات احتساب عتبة الأهلية (eligibility threshold) نتاج تحسن أوضاعها السوسيو اقتصادية. وفي المقابل، يتم حذف فئات مُدرجة بقوائم السجل الاجتماعي الموحد استنادا على نتائج التحليل المعلوماتي لاختبارات الدخل (Proxy Means Tests).
بالموازاة، تظافرت عمليات الربط المعلوماتي بين مختلف قواعد المعطيات الاجتماعية، كالسجل الفلاحي الخاص بتوثيق الأشخاص الذين يزاولون أنشطة زراعية، والسجل الوطني للصناعة التقليدية الذي يضم ما يزيد عن نصف مليون حِرفي؛ فورود شخص بأحد هذه السجلات الفرعية يجعله مُستبعَدا من النطاق التضامني لشبكات الأمان الاجتماعي وفقا لخوارزميات السجل الاجتماعي الموحد. ولذلك، فكل تشطيب على رب أسرة من أحد هذه السجلات يجعله وأسرته مُدرَجين ضمن لائحة المرشحين للاستفادة من برامج الرعاية والحماية بحكم انخفاض المؤشر الاقتصادي والاجتماعي للأسرة.
إضافة إلى ذلك، تَعِد الرقمنة بالارتقاء بحكامة الحماية الاجتماعية، بتقديم مؤشرات كمية حول أعداد الأسر المستفيدة وحجم الاستفادة وانعكاسات التدابير الحكومية على الوضع المعيشي للساكنة المستهدفة. كما تُمكِّن من إرساء لوحة قيادة إلكترونية لمنظومة الضمان الاجتماعي، من حيث البيانات ذات الصلة بمعالجة طلبات التحمل المُسبق وخدمات الاستشفاء والتطبيب، مع التوجه نحو نزع الصفة المادية عن مساطر الرعاية الصحية عبر الورقة الطبية الإلكترونية، واعتماد المعالجة الإلكترونية لشكايات وطعون المستبعدين من أنظمة الحماية الاجتماعية.
من شأن تكثيف هذه التدابير أن يسهم في عقلنة منظومة الاستهداف، وخاصة فيما يتعلق بالتحكم في التكاليف التشغيلية للبرامج الاجتماعية، حيث شكلت مركزة البيانات الاجتماعية مرتكزا لدمج أكثر من 100 برنامج اجتماعي في أقطاب محددة على نحو مكن من توفير 15 مليار درهم، إضافة إلى الحد من حالات تعدد استفادة نفس الأشخاص والأسر من البرامج الاجتماعية، وكذا توحيد سلة الخدمات الاجتماعية بين الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، فضلا عن الأثر المباشر للبرمجيات في التصدي لمحاولات الاحتيال والإدلاء ببيانات غير حقيقية لتبرير استفادة غير مُستحَقَّة.
في هذا السياق، تُفاخر الحكومة والمؤسسات الدولية المُموِّلة لمشاريع تحسين كفاءة الاستهداف بأن استخدام التكنولوجيا الرقمية قد ساعد من الناحية العملية في حصول الفئات الأشد ضعفا على فرص أفضل للولوج إلى خدمات الحماية الاجتماعية مقارنة بالمراحل السابقة. ومن شأن ترصيد هذا الاتجاه أن يُضاعِف من إسهام المعالجة الإلكترونية للبيانات الاجتماعية في التقليص من التفاوتات الاجتماعية.
ارتدادات المعالجة الخوارزمية على الحق في الحماية الاجتماعية
في مقابل الآفاق الموعودة، تكتنف الرقمنة على إشكالات عديدة قد تبدو في ظاهرها تقنية لكنها تنطوي -في العمق- على ارتدادات سياسية على نطاق الحق في الحماية الاجتماعية، على رأسها إشكالية العدالة الرقمية؛ فضعف صبيب الإنترنت بالمناطق النائية يُقلِّص من حظوظ ولوج قطاعات واسعة من السكان إلى الخدمات الاجتماعية المرقمنة، ناهيك عن المعيقات التقنية أمام عجز الفئات الأشد فقرا عن الوصول إلى منصات برامج الحماية والمساعدة بسبب محدودية تملّك أدوات ومهارات استخدام الحلول الإلكترونية. يُضاف إلى ذلك، الحاجز المالي في ظل ارتفاع تكلفة خدمات الوكالات الخاصة المكلفة باستقبال وتتبع طلبات الاستفادة من خدمات شبكة الأمان الاجتماعية بكيفية إلكترونية.
بهذا الصدد، تُطرح معضلة الفعالية؛ فالعيوب التقنية التي تكتنف طريقة تصميم وعمل المنصات الإلكترونية للبرامج الاجتماعية، تجعلها تعرف انقطاعات متتالية وما ينجم عن ذلك من تراكم الطلبات وتباطؤ وتيرة معالجتها. تنضاف إلى ذلك تأثيرات ضعف كفاءة الأنظمة المعلوماتية في توثيق وتحليل المعطيات السوسيواقتصادية من استبعاد غير مُنصِف لقاعدة عريضة من الفئات المستحِقَّة، ناهيك عن الطابع اللاإنساني للمؤشر الاجتماعي الذي "لا يَعرِف الفقراء" باعتماد "خط فقر متطرف" في رسم الحد الأدنى لاستحقاق الدعم.
في هذا السياق، تُثار صدقية البيانات الاجتماعية المجمَّعة بالسجل الاجتماعي الموحد، ومدى تعبيرها عن حقيقة الوضع السوسيواقتصادي للأسر المستفيدة والمرشَّحة للاستفادة من البرامج الاجتماعية، خاصة في ظل محدودية انكشاف الحياة المالية، كتدني معدل "التبنيك" (Bancarization) لدى الفئات الهشة، وصعوبات التتبع الإلكتروني للبيانات الاجتماعية للعاملين بالاقتصاد غير الرسمي الذي يضم أكثر من 60% من مجموع القوى العاملة بالبلاد.
من جهة أخرى، تستند خوارزميات السجل الاجتماعي الموحد على عناصر غير مُنتِجة تفضي بكيفية أوتوماتيكية إلى استبعاد عشرات الآلاف من الأسر من التحويلات المستهدفة بحسب مصادر المعارضة، كالتوفر على أراضي زراعية غير مُستغَلَّة، أو الحصول على أجهزة بسيطة كامتلاك دراجة نارية، أو امتهان حرفة بسيطة بالكاد تسد لقمة عيش الأسرة. ناهيك عن التَّبسيط المُبالغ فيه للوضع المعيشي للناس، وهكذا فاقتناء قنينة غاز كبيرة أو شحن الهاتف برصيد لا يتجاوز دولارين أو تجاوز الفاتورة الشهرية للكهرباء ل 10 دولارات قد يجعل الأسرة محرومة من الدعم الاجتماعي المباشر بسبب تجاوز المؤشر الاجتماعي لعتبة 9,74.
نفس الأمر ينطبق على منظومة التأمين الاجتماعي في ظل اختلالات الفرز الإلكتروني (Electronic sorting) بين المستفيدين بشكل مجاني من التغطية الصحية وبين المُلزَمين بأداء واجبات الاشتراك بحكم تجاوزهم لعتبة 9,32، حيث تشير معطيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي إلى أن 92% من الأشخاص غير الأجراء الملزمين بأداء أقساط الاشتراك تتراوح مؤشرهم الاجتماعي بين 9,32 و 9,51، مما يعني أنهم ينتمون من الناحية الفعلية للفئات الهشة ولكن المعالجة الرقمية -التي لا ترحم- تأبى إلا أن تزيحهم من آلية التضامن إلى آلية الاشتراك بتوجيه من المستوى السياسي.
وإذا كان التدبير الإلكتروني للبرامج الاجتماعية يساعِد على عقلنة تدبيرها فإنه يَحتمِل في المقابل تأثيرا مباشرا على حقوق المستهدَفين، على اعتبار أن الهندسة المعلوماتية لمنظومة الاستهداف مُصمَّمة بكيفية تقاطعية تقود بشكل آلي إما إلى تحقيق الاستفادة الكاملة أو إلى تكريس الإقصاء التام من حزمة برامج المساعدة والحماية. وهكذا، فحرمان شخص من الضمان الاجتماعي بسبب ارتفاع المؤشر العددي ينجم عنه استبعاده من نظام التحويلات النقدية المباشرة، ومن باقي أشكال الدعم الاجتماعي، كالمنح المخصصة للتلاميذ والطلبة، وكذا المساعدات الغذائية التي تقدمها مؤسسة محمد الخامس للتضامن. وعلى سبيل المثال فحصول فلاح بسيط على تخفيض في سعر بعض المواد والأدوات الفلاحية يجعله مُستبعدا رفقة أسرته من برامج المساعدة الاجتماعية.
تأسيسا على ما سبق، لا تخفى الرهانات السياسية في المعالجة الرقمية للبيانات الاجتماعية، فعدم اكتمالها أو تحديثها أو تصحيحها يقود حتما نحو تقليص أعداد المستهدفين، كما أن عدم تفعيل دور الوكالة الوطنية للسجلات المنوط بها التحقَّق من المعلومات المُدلى بها يخدم رهان التلاعب السياسي ب "الداتا الاجتماعية"؛ لغايات مالية بترسيخ المنظور التقشفي في تمويل برامج الحماية والمساعدة، ناهيك عن احتمالات "تسييس" (Politicization) المُؤشِّر الاجتماعي الذي من المُحتمل أن يتم تقليصه بشكل أوتوماتيكي في السياقات الانتخابية لربح قواعد انتخابية جديدة، وهو ما يُهدِّد بتكريس حالة من الزبونية السياسية (Political clientelism) في تدبير شبكات الأمان الاجتماعي.
آفاق رقمنة البيانات الاجتماعية بالمغرب بين الشمول والاستبعاد
للحد من الارتدادات السلبية لرقمنة منظومة الاستهداف على الحق في الحماية الاجتماعية، يتعين اعتماد منظور شمولي يسعف في توسيع دائرة المستفيدين من شبكات الأمان الاجتماعي، وفي لَجْم النزعة التقشفية في تمويل البرامج الاجتماعية، من خلال استلهام بعض الممارسات الفُضلى على الصعيد العالمي:
- إحاطة خوارزميات الاستهداف بضمانات حقوقية لتفادي "الإقصاء المُمنهج" في حق العديد من الفئات المستحقة، من خلال تدقيق المتغيرات السوسيواقتصادية المُحدِّدة لمعادلة احتساب الاستحقاق حتى لا تُصبِح عديمة الفائدة، كما وقع في تجربة بنغلاديش التي رعاها البنك الدولي، حيث أدى تراجع الدعم التقني للسجل الموحد إلى جعل معطياته متجاوزة وماسة بمصداقية منظومة الاستهداف. في ضوء ذلك، يتعين مراجعة الصيغة الحسابية التي صمَّمتها المندوبية السامية للتخطيط3 لِجعلها أكثر إدماجا للفئات الفقيرة.
- تعزيز مصداقية البيانات الاجتماعية، عبر تدعيم الضمانات المعلوماتية لحماية المعطيات الشخصية المضمَّنة بقواعد المعطيات الاجتماعية، وذلك للحيلولة دون استعمال البيانات المدنية والمالية للأفراد والأُسر في الإضرار بحقوقهم ومصالحهم كما هو الحال بالهند جراء الاختراقات المستمرة التي يتعرض لها النظام الموحد للتعريف.
- أنسنة التدبير الرقمي للبيانات الاجتماعية بُغية جعله منفذا للتمكين للحقوق بدل توظيفه سياسيا كأداة للاستبعاد المُمَنهج، وهو ما يفرض الانطلاق من المقاربة الحقوقية عند رقمنة قواعد معطيات شبكات الأمان الاجتماعي لِكَبح النزوع السياسي نحو تبسيط حياة الناس، باعتماد معايير أكثر مرونة لشمول أكبر عدد ممكن من المواطنين، على غرار التجربة الجنوب إفريقية التي تنطلق -في تصميم الحلول الإلكترونية المُحدِّدة للفئات المستهدفة- من الضمانات الدستورية المؤطرة لمبادئ العدالة والكرامة، مع الارتكاز على الاستحقاق الفردي بدل الأسري لكونه أكثر صدقية في اختبار الوضع المعيشي.
- الوعي بالتَّبِعات السوسيواقتصادية للرقمنة، وخاصة فيما يتعلق بتغذية الأنشطة غير المُهيكَلة، فتخوف قطاع واسع من العاملين بالأنشطة غير المنظمَّة من عدم الاستفادة من البرامج الاجتماعية جراء انكشاف معطياتهم المالية يدفعهم نحو مُقاومة محاولات إدماجها بالاقتصاد الرسمي. لذلك يتعين استثمار الدروس المستفادة من بعض التجارب كما حصل في مصر، حيث انتعش الاقتصاد غير المهيكَل بعد الشروع في الرقمنة الشاملة للبيانات الاجتماعية في إطار برنامج تكافل وكرامة (TKP).
- شمول الرقمنة لكافة عمليات تدبير البرامج الاجتماعية بدل اقتصارها على تحليل البيانات، على غرار بعض دول الجنوب العالمي الرائدة في هذا المجال مثل إندونيسيا وكينيا، بتعميم أداء التحويلات المستهدفة عبر الهواتف المحمولة، وبتقديم القسائم الإلكترونية للمستفيدين من برامج الرعاية، كما يتعين تسريع الرقمنة الكاملة لمساطر أداء واسترجاع مصاريف العلاج بالنسبة للفئات المشمولة بالتأمين الصحي التضامني.
خاتمة
تُظهر الحصيلة الأولية أن رقمنة منظومة الاستهداف تساعد على إعمال منطق الاستحقاق في هندسة البرامج الاجتماعية، في اتجاه تطويق "الريع الاجتماعي" (Social rent) الذي طالما كرس استفادة فئات غير مُستحِقَّة، مع دعم جهود توحيد المحفظة المالية للسياسات الاجتماعية بما يساعد على التنسيق بين مختلف المتدخلين وتعظيم فعالية واستدامة برامج الدعم والحماية. لكن في المقابل تُهدِّد المعالجة الخوارزمية بتكريس استهداف ضيق (targeted schemes) يستبعد قطاعات واسعة من الأسر الفقيرة من خدمات التغطية الصحية والتحويلات المستهدفة جراء أخطاء تقنية في تجميع وتحليل المعطيات السوسيواقتصادية، إضافة إلى التوظيف السياسي للتكنولوجيا الرقمية في ترسيخ الخلفية التقشفية عند هندسة الصيغ الحسابية لتحديد قوائم المستفيدين على نحو يَقُود إلى تحجيم أعداد المشمولين، ناهيك عن تأثير الفجوة الرقمية على الولوج العادل إلى شبكات الأمان الاجتماعي.
في ضوء ذلك، يتعين تأطير رقمنة البيانات الاجتماعية بضمانات حقوقية تكفل صدقيتها ووظيفيتها، باعتماد صيغ حسابية مُنصِفة تراعي متطلبات العيش الكريم بدل الارتهان للحسابات الماكرواقتصادية ولتوصيات الجهات المانحة، مع التحيِين المستمر للمعطيات السوسيواقتصادية للأسر المستهدَفة. كما يتعيَّن تطويق المعالجة الآلية للبيانات والمؤشرات الاجتماعية بمعالجة بشرية "مرِنة" تنتصر للمتضررين من الإقصاء الخوارزمي. إضافة إلى مصاحبة الشمول الاجتماعي بشمول رقمي يكفل للمستهدفين ولوجا منصفا ومُيسَّرا إلى الخدمات الاجتماعية المُرقمنة، ويسمح للدولة بإرساء لوحة قيادة إلكترونية لِتتبع البرامج الاجتماعية في ضوء معايير العدالة والفعالية والاستدامة.
هوامش
1نظام للمساعدة الطبية الأساسية المُوجَّهة للفئات الفقيرة غير قائم على الاشتراك، انطلق بشكل تجريبي في 2008 وتم تعميمه في 2012، قبل أن يتم إدماج منخرطيه البالغ عددهم 11 مليون شخص ضمن نظام التأمين الأساسي الإجباري عن المرض في 2021.
2انطلقت المبادرة في سنة 2017 بقيادة البنك الدولي لمساعدة 35 دولة على تصميم سجلات اجتماعية إلكترونية تمكن من التحقق من هويات الأشخاص ومن اختبار أهلية الاستفادة من البرامج الاجتماعية.
3نظام تنقيط صمَّمته المندوبية السامية للتخطيط بتعاون مع البنك الدولي، يتم في ضوئه احتساب المؤشر الاقتصادي والاجتماعي للأسر على أساس تجميع وتحليل ما يزيد عن 100 متغير ديموغرافي وجغرافي واقتصادي واجتماعي، كوسط الإقامة وطبيعة السكن وقيمة الدخل والاستهلاك والتجهيزات المنزلية...