خلال الأعوام القليلة الماضية، تحوّلت المساحة الممتدة بين ليبيا وإيطاليا في البحر المتوسط، ممراً يزداد خطورة بصورة مطّردة مع استخدامه من طرف اللاجئين والمهاجرين لدوافع اقتصادية سعياً وراء حلم يائس بمستقبل أفضل – أو فقط أكثر أماناً – في أوروبا. قال أيوب قاسم، الناطق باسم سلاح البحرية الليبي: "كان العام الجاري الأسوأ على الإطلاق من ناحية أعداد المهاجرين، وكذلك عدد الأشخاص الذين قضوا نحبهم في البحر"، مضيفاً: "في الشهرَين الماضيين فقط، أنقذ خفر السواحل الليبي 2500 شخص". ووصف كيف تحوّلت الهجرة إلى "معيار ثقافي سائد" في عدد كبير من البلدان في أفريقيا جنوب الصحراء، وزعم أن مبادرة "عملية صوفيا" التي أطلقها الاتحاد الأوروبي لمكافحة تهريب الأشخاص، كانت لها في الواقع تداعيات معاكسة للتفويض الذي وُجِدت من أجله، وتسبّبت بزيادة أعداد المهاجرين، قائلاً: "تمنح هذه العملية شعوراً بالثقة للمهاجرين بأنهم عندما يصبحون في البحر، سوف يتم إنقاذهم والاعتناء بهم، الأمر الذي ساهم كما نرى في التشجيع على الهجرة".
معظم المهاجرين الذين يعبرون المتوسط باتجاه أوروبا، وأكثريتهم من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، يمرون، عن طريق مهرّبين في ليبيا، على متن مراكب شديدة الاكتظاظ وغالباً ماتكون غير صالحة للإبحار. تكون هذه المراكب مزوّدة عادةً بكمية من الوقود تكفيها فقط للوصول إلى المياه الدولية، كما أنها مجهّزة بهاتف يعمل بواسطة الأقمار الصناعية، فضلاً عن رقم الهاتف الخاص بخفر السواحل الإيطالي، وتُعطى تعليمات بإطلاق نداء استغاثة بعد بضع ساعات من الانطلاق في البحر، وتُقطَع وعود لركّابها بأنه سيتم إنقاذهم. أما المراكب الخالية من هذه التجهيزات فأملها الوحيد هو أن تعثر عليها بعثات جوية يصادف مرورها فوق المكان أو سفينة عابرة. عند التعرف على هذه المراكب، تُرسَل الإحداثيات إلى زوارق البحث والإنقاذ، لكن غالباً ماتنقضي ساعات قبل وصول زورق إنقاذ إلى المكان.
هذا فضلاً عن أن نطاق زوارق البحث والإنقاذ التابعة لمنظمات غير حكومية، وعددها 12، التي تتطوّع لتنفيذ مهام إنسانية في وسط المتوسط، لكنها محدودة القدرات. فهي لاتستطيع التحرك سوى في المياه الدولية، على بعد 12 ميلاً من الشواطئ الليبية – وعدد كبير من مراكب المهاجرين يفشل في قطع هذه المسافة. بعض الزوارق الصغيرة تجرفها المياه في الحال ولاتتمكن من الابتعاد كثيراً عن الشاطئ، وقد تحدثّت تقارير عدة عن أشخاص ينزلون على الشواطئ الليبية وقد خُيِّل إليهم، بعد ساعات عدّة أمضوها في البحر، أنهم وصلوا إلى أوروبا، فيكون مصيرهم القبض عليهم وإرسالهم إلى أحد مراكز الاعتقال الشديدة الاكتظاظ في ليبيا.
حتى عند العثور على هذه المراكب، فإن عملية إنقاذ أعداد كبيرة من الأشخاص من مركب غير صالح للإبحار، غير قابلة للتوقع ومحفوفة بالمخاطر، وتُنفَّذ هذه العمليات أحياناً في الليل، مايزيد من نسبة الخطر. وعمليات الإنقاذ من زوارق الصيد الخشبية دونها تحدّيات هائلة على وجه التحديد، ليس أقلّها أنها أكثر عرضة للانقلاب، بسبب سوء الأحوال الجوية أو السلوك غير القابل للتوقع الذي قد يلجأ إليه الركّاب المصابون بالهلع، كما جاء على لسان فيري شيبرز، منسّق المشاريع في منظمة أطباء بلا حدود، في حديث معه على متن زورق "إم في أكواريوس" للبحث والإنقاذ الذي تشغّله SOS Mediterranee بالاشتراك مع منظمة أطباء بلا حدود. قال شيبرز: "علينا أن نتوخى الحذر كثيراً عند إقترابنا في المرة الأولى من المراكب الخشبية لأنه إذا اندفع جميع الركّاب نحو جهة واحدة، ثمة خطر كبير بأن ينقلب المركب"، مضيفاً: "عمليات الإنقاذ هذه فيها كثير من التوتر، لأن هناك عوامل لايمكننا السيطرة عليها. ويجب أن نتصرف بسرعة، لأنه مع كل دقيقة تمر، يزداد خطر فقدان التوازن وانقلاب المركب".
تتركز مهام المنقذون المتطوعيون على متن "أكواريوس"، في شكل عام، على المراكب المطاطية التي تقل نحو 140 شخصاً، لكن في حالة القوارب الخشبية، يصل عدد الركاب أحياناً إلى 700 يُنقَلون جميعهم بواسطة المركبَين الصغيرين التابعين لزورق البحث والإنقاذ، في عمليات يمكن أن تستغرق ساعات عدة. قال ماكس أورلاندو أفيس، نائب منسق عمليات البحث والإنقاذ وقبطان مركب الإنقاذ: "عملية الإنقاذ الأسوأ والأكثر صعوبة التي قمنا بها مؤخراً كانت لقارب خشبي على متنه 726 شخصاً، ولايستطيع زورق الإنقاذ التابع لنا سوى نقل حوالي 20 شخصاً في كل مرة". أضاف: "كان هناك 300 شخص على سطح المركب، ومئات الأشخاص تحت السطح، لكن بعدما وزّعنا سترات النجاة، استغرقنا وقتاً طويلاً كي نتمكّن من إخراج شخصَين فقط من المركب بأمان، وفي مرحلة معيّنة، انتابني قلق شديد ورحت أفكّر في نفسي، إذا استغرقنا كل هذا الوقت لإنقاذ شخصَين، فكيف عسانا إكمال العملية؟" لكنه لفت إلى أن عملية الإنقاذ نجحت بفضل العمل الجماعي الرائع والمساعدة من زورق آخر في مرحلة لاحقة من العملية، وبعد ست ساعات، كان جميع الركاب قد أصبحوا بأمان على متن "أكواريوس".
وصل عدد الوفيات المعلومة على هذا الطريق إلى 4220 خلال هذا العام فقط، مايعني أن المراكب التي يتم إنقاذها محظوظة. فأعداد غير معروفة من المراكب تختفي من دون أن تترك أي أثر في مساحة المتوسط الشاسعة. واقع الحال هو أن الزيادة في أعداد المهاجرين والوفيات على هذا الطريق سببها في شكل أساسي وهم الأمان الذي أوحت به "عملية صوفيا"، إنما أيضاً الوضع الأمني المتردّي في ليبيا، الذي يشجّع مزيداً من المهاجرين الاقتصاديين على متابعة طريقهم باتجاه أوروبا بدلاً من البحث عن عمل في ليبيا. في الأعوام السابقة، كان المهرّبون في ليبيا يحصرون عادةً حركة نقل المهاجرين بأشهر الصيف التي تتميّز بالمناخ الدافئ وهدوء البحر، لكن هذا العام، ونظراً إلى الطلب الشديد على العبور إلى أوروبا، لايزال مئات الأشخاص يوضَعون، وقد بلغنا فصل الخريف، على متن مراكب غير صالحة للإبحار في الأيام التي تكون فيها حالة البحر مؤاتية. تتوقّع فرق الإنقاذ والبحث أن تستمر هذه النزعة طوال فصل الشتاء، مايعرّض مزيداً من الأشخاص للخطر. وقد ذكرت المنظمة الدولية للهجرة أن شهر تشرين الأول/أكتوبر 2016 سجّل رقماً قياسياً جديداً في أعداد الواصلين إلى إيطاليا – والتي بلغت 27388 شخصاً بالمقارنة مع 8915 مهاجراً في الشهر نفسه من العام 2015.
قال أماني تيكليهايمانوت، وهو إريتري سلك طريق الهجرة نفسها قبل 15 عاماً، ويعمل حالياً وسيطاً ثقافياً ومترجماً متعدد اللغات في منظمة أطباء بلا حدود: "كان المهرّبون أكثر إنسانية بقليل من قبل، ولم يكونوا أنانيين إلى هذه الدرجة. كانوا شديدي الحذر بالنسبة إلى الأحوال الجوية، وكانوا يتوقفون عن العمل بعد شهر أيلول/سبتمبر". أضاف: "كان المركب الخشبي الذي صعدت على متنه، يضم 190 شخصاً، أما الآن فالمركب نفسه ينقل أكثر من 500 شخص – يحشرون الأشخاص في القوارب وكأنهم دجاج". وفي حالة قوارب المطاطية التي غالباً مايفضّلها المهرّبون في ليبيا على سواها من المراكب، يُحشَر 150 رجلاً وامرأة وطفلاً في قوارب لاتتسع لأكثر من 12 شخصاً كحد أقصى. بحسب العاملين على متن زوارق البحث والإنقاذ، يُظهر المهرّبون لامبالاة وتهوراً – أو أنهم لايفقهون شيئاً من وقائع الرحلة البحرية، وخير دليل على ذلك إقدامهم على تحميل المراكب أعداداً من الركاب تفوق طاقتها بأشواط مضاعَفة، وتأمين كمية محدودة من الوقود والماء، وبيع سترات نجاة عديمة الجدوى مقابل كلفة إضافية، وطمأنة الأشخاص إلى أنه سيتم إنقاذهم بعد ساعات قليلة من انطلاقهم في البحر.
ويحشرون أيضاً النساء والأطفال في مناطق مسمّاة "آمنة" في القارب – في وسط القوارب المطاطية، وتحت السطح في القوارب الخشبية – لكنها في الواقع المناطق الأشد خطورة. يشرح شيبرز: "الوسط هو عادةً الجزء الأشد خطورة في المركب، لأنه إذا كانت هناك أمواج قوية، غالباً ماتتحطم القاعدة الخشبية، فيغرق المركب على شكل V". في هذا السيناريو، يصبح بعض الركاب الموجودون في وسط القارب تحت الماء، فيما يدوس الركاب الآخرون، عن غير قصد منهم، على رؤوسهم التي يستخدمونها بمثابة ركائز يقفزون عليها في محاولتهم الهروب من الوسط حيث تصدّع المركب باتجاه الأطراف.
هذه هي التجربة التي عاشها أميغا، 30 عاماً، من توغو، فقد حُشِر داخل قارب مطاطي نحو أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حيث يروي: "كانت الأمواج عاتية، كان القارب يهتز صعوداً وهبوطاً، وبدأت المياه بالتسرّب إليه. ثم رأينا قارب الإنقاذ، وفجأةً وقف عدد كبير من الأشخاص في مركبنا وبدأوا يلوّحون بأيديهم". انهار قعر المركب الخشبي الذي تشرّب مياه البحر، ووجد أميغا وركّاب آخرون كانوا في وسط القارب أنفسهم تحت الأمواج. وقد تحدّث عن المحنة الرهيبة التي عاشها عندما بدأ الركّاب في القارب الذي غمرت المياه نصفه، يتدافعون ويدوسون عليه قبل أن يتمكّن من الصعود نحو السطح والإمساك بسترة نجاه رماها فريق الإنقاذ في البحر. أضاف: "أشكر الله لأنني تمكّنت من النجاة. هناك آخرون لم ينجوا، ومنهم صديقي الذي قضى نحبه مع زوجته وولدَيه. بعد التجربة التي عشتها، بتُّ أدرك أن الناس يموتون كالذباب في البحر".
أرانا أميغا، الذي تحدّثنا معه على متن "أكواريوس" حيث أصبح بأمان، الضمادات التي تغطّي ساقَيه من الورك حتى الكاحل بعدما أصيب بحروق بالغة بسبب مزيج فتّاك من النفط المتسرّب ومياه البحر في قعر المركب. يقول شيبرز إن هذا النوع من الإصابات شائع: "يسافرون مع عبوات من البنزين، وغالباً ماتكون مفتوحة. وعندما يكون البحر هائجاً، يتسرّب البنزين ويمتزج مع المياه المالحة، فيتسبّب بحروق بالغة في البشرة – هذه الإصابات شائعة جداً، لاسيما لدى النساء والأطفال الذين يكونون في وسط القارب".
فيما يزداد العاملون على الجبهة الأمامية لأزمة اللاجئين إحباطاً بسبب عجزهم عن مكافحة ظاهرة تهريب الأشخاص أو إدارة عمليات الإنقاذ كما يجب، يقولون إنه ثمة حاجة إلى الاستثمار، ليس في عمليات الإنقاذ في البحر بل من خلال استراتيجيات استثمارية طويلة الأمد في البلدان الأم للمهاجرين والمهرّبين على السواء. يصف المتطوّعون الذين يعملون على متن زوارق البحث والإنقاذ، عملهم بأنه أشبه بـ"ضمادة إسعافات أولية" أخفقت في معالجة الأسباب الجذرية خلف الهجرة الجماعية. قال ماثيوس منج، منسّق البحث والإنقاذ في SOS Mediterranee أثناء مساعدته 521 مهاجراً على النزول من "أكواريوس" في إيطاليا بعد إنقاذهم: "الحل الوحيد في المدى الطويل هو تحسين الأوضاع في البلدان التي ينتمي إليها هؤلاء الأشخاص".
في ليبيا، طالب قاسم بدعم دولي عاجل، وأقرّ بأن حجم المشكلة أكبر من قدرة خفر السواحل ودائرة مكافحة الهجرة غير الشرعية على معالجتها، مضيفاً: "يجب استنباط استراتيجيات جديدة. واقع الحال هو أن المهاجرين لن يتوقفوا عن القدوم إلى ليبيا، لذلك نحتاج إلى الدعم لضبط الحدود الجنوبية وإنشاء منظومة لمعاقبة المهرّبين". بحسب المهربين ومسؤولي الهجرة في البلاد، بعد العام 2011 انهارت الأنظمة الأمنية المعنية بمكافحة التهريب – التي أنشأها الزعيم الليبي السابق معمر القذافي – ماأتاح للمهربين العمل في ظل إفلات تام من العقاب في الأعوام الخمسة الماضية. يقول قاسم: "تشكّل التنمية المحلية أساساً لوقف صناعة التهريب في ليبيا. يجب الاستثمار في مناطق التهريب الأساسية بهدف استحداث فرص مختلفة وآفاق وظيفية للمهرّبين، لكننا نحتاج إلى الدعم الملائم على الأرض لنتمكّن من تحقيق ذلك".
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
طوم وستكوت صحافية وكاتبة بريطانية مقيمة في ليبيا.