بدأت الحكومة اللبنانية في آب/أغسطس 2025 تنفيذ واحدة من أكثر الخطوات حساسية – منذ انتهاء الحرب الأهلية في عام –1990 بتكليف الجيش اللبناني خطة عملية لجمع السلاح الفلسطيني من داخل المخيمات.
القرار الذي صدر عن مجلس الوزراء لم يبقَ مجرد إعلان سياسي، بل تُرجم مباشرة إلى تحركات ميدانية شملت بعض المخيمات في بيروت مثل برج البراجنة وشاتيلا، وامتدت إلى مخيمات طرابلس حيث باشر الجيش عمليات رصد وتنظيم لآليات التسليم، بالتنسيق مع الفصائل الفلسطينية ووسط متابعة أمنية دقيقة.
هذه الخطوة غير المسبوقة تعكس رغبة واضحة لدى الدولة في الانتقال من مرحلة الشعارات إلى مرحلة الأفعال، بعدما ظلّ مبدأ "حصر السلاح بيد الدولة" عالقاً بين الضغوط الداخلية والاشتباكات الإقليمية، فاختيار المخيمات كبداية جاء مدروساً، فهي تمثل "الحلقة الأقل كلفة" مقارنة بملفات أكثر تعقيداً كسلاح حزب الله، لكنها في الوقت نفسه تشكل اختباراً فعلياً لقدرة الدولة على فرض سلطتها ضمن بيئة متشابكة سياسياً وأمنياً واجتماعياً.
في بيروت، كان بدء التنفيذ رمزياً لكنه بالغ الدلالة، فقد شملت العملية اتصالات مباشرة مع ممثلين عن حركة فتح وفصائل أخرى مع طرح ترتيبات لجمع السلاح الفردي والمتوسط، مقابل وعود بتخفيف القيود الأمنية وتحسين الخدمات المعيشية.
أما في طرابلس، فقد اتخذت الإجراءات طابعاً أكثر حذراً، إذ ترتبط المخيمات هناك بخلفيات اجتماعية هشة ومجاورة مباشرة لأحياء لبنانية فقيرة، ما يرفع من حساسية أي احتكاك أمني، ورغم ذلك، أُدرجت المخيمات الشمالية ضمن الخطة باعتبارها اختباراً ضرورياً لإثبات قدرة الدولة على إدارة الملف في مناطق مختلفة ومتباينة التعقيد.
إن الجمع بين القرار السياسي الواضح والتحرك العسكري الميداني يضع لبنان اليوم أمام منعطف سيادي حقيقي، فهذه هي المرة الأولى التي تُرفق فيها الدولة شعارها بجدول زمني وخطة تنفيذية علنية، ما يعني أن المعركة لم تعد حول "المبدأ" بل حول "القدرة على التطبيق"، والتجربة الجارية في بيروت وطرابلس ستُقاس عليها باقي المراحل، سواء في صيدا حيث يبرز تعقيد مخيم عين الحلوة أو في البقاع والشمال حيث تتداخل العوامل الأمنية مع الحسابات السياسية الداخلية.
إن نجاح هذه الخطوة سيعتمد على قدرة الدولة على تجاوز العقبات الثلاث الأساسية:
أولاً، تأمين غطاء سياسي واضح وموحد يحمي الجيش من التراجع والتردد أمام الإشكالات الداخلية.
ثانياً، إدراج بُعد اجتماعي–خدماتي ملموس يجعل من تسليم السلاح مصلحة حقيقية لسكان المخيمات لا مجرد تنازل مجاني.
ثالثاً، تثبيت المظلّة الإقليمية والدولية الداعمة، وخصوصاً التزامات اللجنة الخماسية، بحيث تتحول من بيانات سياسية إلى أدوات عملية للضغط والتمويل والضمان على حاملي السلاح.
قرار آب/أغسطس 2025 ومعادلة التطبيق: تفويض للجيش البناني وحدود القوة حسب مايتطلبه الموقف:
ثبّتت جلستا 5 و7 آب/أغسطس 2025 مبدأ حصر السلاح، ومنحتا الجيش اللبناني تفويضاً واضحاً بوضع خطة تنفيذية تنتهي بنهاية هذا العام. القرار جاء تحت سقف توقعاتٍ دولية تربط الدعم المالي والعسكري بتقدّم ملموس في استعادة الدولة لأدوات السيادة، لكنه اصطدم فوراً باعتراضٍ علني من حزب الله الذي اعتبر الخطوة "خطيئة جسيمة" واستجابة لضغوط الخارج.
من هنا نشأت معادلة التطبيق: كيف يمضي الجيش في تنفيذ التفويض ضمن بيئة سياسية لا تمنحه غطاءً صلباً، ومن دون إشعال مواجهة مباشرة مع قوةٍ داخليّة (حزب الله) تمسك بمفاصل أمنية وسياسية واقتصادية عميقة؟ الإجابة الطبيعية كانت: البدء من المخيمات، لا بوصفها "القضية الأسهل" كما يُستسهل القول، وإنما لأنها الحلقة التي تسمح باختبار الأدوات: تفاوض، لجان مشتركة، ترتيبات أمنية محدودة، ومكوّن اجتماعي مواكب يخفف كلفة الامتثال لتنفيذ تسليم السلاح.
لكن المسار، كما سيتضح، تعثّر سريعاً لأن الأداة الاجتماعية لم تُستكمل، ولأن وحدة القرار الفلسطيني لم تتوافر، ولأن الغطاء السياسي الداخلي بقي غير واضح الملامح.
المخيمات كمختبر أولي: جدولٌ تعثّر عند الانطلاق وغيابُ الخطة الاجتماعية المواكِبة:
وُضعت جدولة تبدأ من مخيمات بيروت الثلاثة (برج البراجنة، شاتيلا، مار الياس) ثم تمتد إلى البقاع والشمال، أما تقنياً، فقد صيغت مقاربة ثنائية وهي مسارٌ أمني–لوجستي لجمع السلاح وفق لوائح ومساحات محدّدة وتحت إشرافٍ مشترك، ومسارٌ اجتماعي–خدمي يربط التسليم بحوافز معيشية ملموسة في هيئة أعمال صيانة للبنى تحتية، تسهيل وسائل الحصول على العمل بشكل قانوني، تحسين الخدمات الصحية والتعليمية، ولوائح إدارية تخفف من الاحتكاك الأمنيّ–المدنيّ.
عند التنفيذ، ظهرت الثغرة الكبرى وهي غياب الخطة الاجتماعية المواكِبة عملياً، أو بدت عامة وغير ممولة بما يكفي، فتراجعت قابلية الامتثال لتسليم السلاح وازداد الشك داخل المخيمات فيما تنتويه السلطة، وبالتوازي، كشفت الأحداث إختلافاً داخل حركة فتح نفسها بين أجنحةٍ متنافسة على القرار والتمثيل السياسي والموارد، ما عطّل إنتاج "موقف موحّد" يمنح العملية غطاءً فلسطينياً داخلياً.
ووجد الجيش نفسه أمام تعقيد مركّب: تفويضٌ رسمي يطال السلاح في مسرحٍ لا يملك فيه سلطة مدنية داعمة ولا شبكة خدماتٍ قادرة على تحويل القرار إلى مصلحةٍ مباشرة لأهل المخيم، والنتيجة كانت تعثراً مبكراً و"تسعيراً" سياسياً–أمنياً مستمراً لكلفة كل خطوة، من غير قدرة على البدء الرمزي الذي كان سيؤسس لثقةٍ مطلوبة في المراحل اللاحقة.
تحديات الجيش اللبناني: قدراتٌ مضبوطة بغطاءٍ مبهم وخطرُ الاحتكاك بالمدنيين غير المحسوب:
لا يمكن تحميل المؤسسة العسكرية مهمةً سياسية–اجتماعية بأدواتٍ أمنية فقط، فالجيش يمتلك خبرة إدارة ممارسات دقيقة في مواضع التوتر داخل الدولة وخارجها، لكنه يفتقر إلى ثلاثة عناصر حاكمة في هذا الملف وهم قرار سياسي صريح وواضح يسمح بتحمّل تبعات المواجهات بين الجيش والمدنيين، توفير مصدر تمويل اجتماعي–خدمي يحوّل تسليم السلاح إلى منفعةٍ محسوسة لا إلى تنازلٍ مجاني للجيش، وقنوات وساطةٍ موثوقة داخل كل مخيم قادرة على تكليف من يقومون بضمان الانضباط.
من دون هذه العناصر، يصبح أي ضغط أمني مجازفةً غير محسوبة، خصوصاً في بيئةٍ مكتظة فقيرة متشابكة المصالح يكون فيها أي احتكاك بين الجيش والمدنيين قابلاً للتحول إلى اشتباكٍ واسع كما برهنت جولات مخيم عين الحلوة عام 2023.
التحدّي هنا ليس في القدرة العسكرية للجيش، بل في "هندسة الامتثال في عملية تسليم السلاح"، والسؤال المطروح هو كيف تُبنى قاعدة موافقةٍ داخلية بين المدنيين على خطواتٍ صغيرة متتابعة تخلق سلوكاً جديداً من دون أن تُشعِل ردود فعل عدوانية من قبل الفصائل المدنية المضادّة.
ويُعتبر مخيم عين الحلوة في صيدا الأكثر تعقيداً بين المخيمات الفلسطينية في لبنان، لكونه يحتضن أكبر تجمع للفصائل والتنظيمات، بما فيها مجموعات ذات توجهات متطرفة مثل "جند الشام" و"عصبة الأنصار" وبقايا شبكات مرتبطة بتنظيم القاعدة، ،عليه فإن هذا التنوع االملتهب والمعقد يخلق بيئة أمنية هشة حيث تتكرر الاشتباكات الداخلية بين الفصائل المختلفة ويتعذر ضبط المخيم بقرار موحّد، ما يجعل التحدي الأساسي يكمن في غياب قيادة فلسطينية مركزية قادرة على فرض الانضباط مقابل حضور خلايا صغيرة مسلحة تستفيد من الاكتظاظ السكاني والجغرافيا الضيقة للمخيم لتأمين ملاذات آمنة، إضافة إلى ذلك يُنظر إلى عين الحلوة كـ"خاصرة رخوة" يمكن أن تستغلها أطراف إقليمية أو متطرفة لإشعال مواجهات تهدد الاستقرار اللبناني وتضعف أي خطة رسمية لحصر السلاح.
حماس بين "الإنتظار الحذر" ومسببات رفع الضغط الإقليمي:
يستحيل نجاح أيّ ترتيب من دون توافق فلسطيني داخلي، فتفاوتُ الآراء داخل فتح لم يكن مجدياً، بل عنصراً للتعطيل يتمثل في تياراتٌ تُزايد في التشدّد لأسبابٍ داخلية، وأخرى تُفكّر بمنطق "الممكن" وتبحث عن أثمانٍ سياسية–إدارية مقبولة مقابل المشاركة في عملية تسليم السلاح.
هذا الانقسام أضعف قدرة الحكومة الرسمية على خلق غطاءٍ موحّد، وفتح الباب أمام فصائل أصغر لتكبير أحجامها بفيتو موضعي أو تعطيلٍ إداري، أمّا حماس، فاعتمدت وضعية "الانتظار الحذر" لا الانخراط الكامل الذي يمنح المسار شرعية مجانية، ولا التصعيد الذي يقطع الجسور.
في آذار 2025، أصدر المجلس الأعلى للدفاع في لبنان تحذيراً مباشراً إلى حركة "حماس" يحذّرها من استخدام الأراضي اللبنانية كمنصة لشنّ هجمات صاروخية ضد إسرائيل، وذلك عقب سلسلة عمليات إطلاق من جنوب لبنان تبنّتها مجموعات مرتبطة بها، هذا التحذير جاء في سياق ضغوط دولية وإقليمية على الدولة اللبنانية للالتزام بقرار حصر السلاح بيد المؤسسات الرسمية، ولمنع انزلاق لبنان في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل.
خلفية القرار تعود إلى تنامي نشاط "حماس" العسكري–الأمني في المخيمات الفلسطينية وامتدادها إلى الجنوب اللبناني بالتوازي مع خشية داخلية لبنانية من أن يؤدي ذلك إلى استدراج البلاد إلى حرب لا يملك قرارها، وإلى مزيد من التعقيد في ملف سلاح الفصائل غير الشرعية.
لكن لحماس خصوصية لبنانية، وخصوصية موقعها أنّ قيادتها تتحرك بين قطر وتركيا، ما يجعلها قابلة للتأثر بمسارٍ إقليميّ يدفع إلى تثبيت الاستقرار اللبنانيّ ويدعم خيارات الدولة في الحصر التدريجي للسلاح.
التزام الدوحة بمخرجات "اللجنة الخماسية" الداعمة للبنان يمنح بيروت فرصة بلورة "مقايضة عقلانية" مع الحركة عن طريق انخراطٌ منظّم في ترتيبات المخيمات مقابل ضماناتٍ أمنية–حقوقية وفتحِ مسارب معيشية تمسّ جمهورها مباشرة، وعليه فمن دون إدراج حماس في المعادلة كطرفٍ يجب تحييده أو إدماجه، ستظل قضية تسليم السلاح مفتوحةً على مفاجآتٍ تعرقل أيَّ تقدّمٍ أو نجاح.
هل سلاح المخيمات الفلسطينية يختلف جذرياً عن سلاح حزب الله؟
تقوم الحاجة إلى المقارنة لا لتقليل شأن الوضع الفلسطيني في لبنان، بل لإبراز اختلاف البنية والحساسية، فجغرافيّاً، المخيمات مناطق محصورة ذات كثافةٍ سكانية عالية، ولكنها غير ممتدة على كامل الجغرافيا اللبنانية، ما يتيح حوكمةً أمنية–مدنية دقيقة إذا توافرت أدواتها.
هويّاتياً، لا يتغذّى السلاح الفلسطيني من الطوائف اللبنانية، بل من اللاجئين الوطنيين الفلسطينيين، الأمر الذي يجعل كلفة نزعِ هذا السلاح أقلّ احتمالاً لإشعال اصطفافٍ أهلي شامل، أما سياسياً، فالفصائل متعددة المرجعيات ومتناثرة المصالح، ما يولّد قابليةً للتفاهمات الصغيرة ولو بعد عناء.
من جانب آخر، يتموضع سلاح حزب الله في قلب هويةٍ مذهبية–سياسية لبنانية واسعة، وله امتدادٌ إقليميّ مباشر وشرعية قتالية راسخة في سرديته الخاصة، كما أنه ممسكٌ بشبكات نفوذٍ اقتصادية–خدمية تتجاوز فكرة السلاح إلى نمط إدارةِ مناطق وسياسات حاكمة.
لذلك، فإنّ النجاح في المخيمات ليس دليلاً على النجاح في نزع سلاح حزب الله، لكن هذا النجاح في نزع سلاح المخيمات يصنع سابقة يمكن القياس عليها و يبرهن فيها أنّ الدولة قادرة على وضع أسلوب تدريجيّ من استعادة الأدوات الأمنية والقانونية من دون صدامٍ شامل مع الحزب، ويمنح الدولة ورقةً تفاوضية في أيّ تسويةٍ أوسع تُقايض بين حدود الدولة والضمانات والمدن، و هنا يكمن سبب توجّس الحزب من "تحويل اختبار نزع سلاح المخيمات إلى قاعدة قياس"، ومسعاه السياسي إلى تفريغه من دلالته التأسيسية عبر التشكيك في التوقيت والجدوى وربطه بمقاصد خارجية.
مسارات التنفيذ الممكنة:
يمكن تصور ثلاث مسارات واقعية، ليست متناقضة ويمكن أن تتداخل زمنياً:
- مسار "التدرّج المتراكم": البدء بخطواتٍ صغيرة ظاهرة في مخيمات بيروت، مع ربط كل خطوة بحافزٍ اجتماعي قابل للتكرار في مكان آخر، ثم الانتقال إلى البقاع والشمال. نجاح هذا المسار يفترض تنسيق أمني – قضائي، وقنوات وساطةٍ محلية تُوزّع التكليفات وتحتوي الحوادث الناجمة عن عملية تسليم السلاح.
- مسار "الصفقة المُحكمة": تفاهمٌ سياسي–أمنيّ أشمل برعايةٍ إقليمية يُدخل حماس وفتح والفصائل الرئيسة في إطارِ التزامٍ محدّد مقابل حزم خدماتية وضمانات أمنية موسّعة، وهذا يحتاج إلى إنجاز مباشر لالتزاماتِ اللجنة الخماسية وإلى إدارةٍ دقيقة للتوازنات اللبنانية.
- مسار "التجميد المموّه": إبقاء الملف مفتوحاً بلا خطواتٍ نوعية، والاكتفاء بتدابير موضعية لخفض التوتر، وهو مسارٌ يستهلك القرار ويُضعف مصداقية الدولة ولا يوفر ورقة تفاوضٍ في الملفات الأكبر.
المفاضلة بين المسارات لن تُحسم بنصّ، بل بقدرة الدولة على خلق تلازمٍ بين الأمن والامتثال الاجتماعي لتسليم السلاح، وبمدى استعداد الفاعلين الإقليميين لتحويل التزاماتهم السياسية إلى أدواتٍ تنفيذية ملموسة.
تدلّ التجربة الميدانية الأولى أنّ القرار موجود ولكن أدوات تحويله إلى نتائجٍ ما زالت ناقصة.
يحتاج المسار إلى ثلاثية متلازمة:
- قرارٌ سياسي واضح يضبط "تعدّد القرارات" داخل المؤسسات اللبنانية ويمنح الجيش غطاءً صريحاً لتحمّل تكاليف الفشل في التنفيذ.
- تصميمٌ تنفيذيّ محكم يربط كل خطوةٍ أمنية بحزمةٍ اجتماعية ممولة سلفاً، فتتحوّل عملية تسليم السلاح إلى منفعةٍ لا إلى خسارةٍ صافية من وجهة نظر سكان المخيمات.
- مظلّة ضماناتٍ إقليمية تُترجِم التزامات اللجنة الخماسية في قنواتٍ مباشرة مع الفصائل، ولا سيما حماس، بما يخفض احتمالات الفشل.
على هذا الأساس فقط يمكن أن يُنتِج إختبار تسليم السلاح "سابقة معيارية" تُقاس عليها ملفاتٌ أخرى من دون الوقوع في وهم النقل اليسير بين بيئاتٍ المخيمات المختلفة جذرياً.
حلول ومقاربات:
إنّ التحدي المطروح في آب/أغسطس 2025 لا يكمن فقط في كيفية جمع السلاح الفلسطيني داخل المخيمات، بل فيما إذا كان هذه التجربة (تسليم السلاح) قادرة على أن تتحوّل إلى سياسة سيادية عامة تمهّد لمعالجة ملفات أعقد كملف سلاح حزب الله أو السلاح غير الشرعي في الداخل اللبناني، ولكي لا تبقى الخطوة في حدود التجربة، فإن الإجابة العملية على هذا السؤال تمرّ عبر مسار مركّب يتكوّن من ثلاث دوائر مترابطة:
1. الدائرة الوطنية – صناعة قرار سيادي واضح:
- على الدولة اللبنانية أن تُثبت أنّ قرارها ليس ظرفياً ولا استجابة لضغوط خارجية، بل جزء من مشروع سيادي متكامل.
- المطلوب هو توحيد الموقف بين الرئاسات الثلاث (حزب الله، حماس، فتح) والكتل السياسية المؤثرة، بحيث لا يبقى الجيش مكشوفاً في الميدان من دون غطاء سياسي صريح.
- هذه الوحدة السياسية ينبغي أن تنعكس في خطاب رسمي موحد يشرح للبنانيين وللفلسطينيين على السواء أنّ الهدف ليس الاستهداف أو النيل من قضية اللاجئين، بل تنظيم السلاح تحت سلطة الدولة اللبنانية بما يحمي الاستقرار فيها ويُعيد الاعتبار لمؤسساتها.
2. الدائرة الاجتماعية–الخدمية – تحويل الأمن إلى مصلحة ملموسة:
لا يمكن لأي خطة أمنية أن تنجح في بيئة فقيرة مكتظة مثل المخيمات إذا لم ترافقها خطة خدماتية، وهنا تبرز الحاجة إلى برنامج تمويلي واضح ومُعلن يُدار بشفافية عبر مؤسسات الدولة وبالتنسيق مع وكالة الأونروا والمانحين بحيث يربط كل مرحلة من مراحل ضبط السلاح بتحسين خدمات الصحة والتعليم والبنى التحتية وتسهيل فرص العمل، والهدف هو أن يشعر سكان المخيم أنّ الامتثال لقرارات الدولة يعود عليهم بمنفعة ملموسة، لا بخسارةٍ أمنية أو معيشية.
3. الدائرة الإقليمية – تثبيت المظلّة العربية والدولية:
لبنان عاجز بمفرده عن إدارة ملف بهذا الحجم، ولذلك لا بد من ربط المسار بمخرجات اللجنة الخماسية (قطر، السعودية، مصر، الولايات المتحدة، وفرنسا). هذه المظلّة يمكن أن تتحوّل من مجرد بيانات دعم إلى أدوات تنفيذية عبر صفقات مرحلية تُدخل الفصائل الأساسية، ولا سيما "فتح" و"حماس"، في ترتيبات أمنية واضحة مقابل ضمانات سياسية واقتصادية.
من شأن هذا الانخراط أن يحوّل الضغط الخارجي إلى فرصة أي إلى مقايضة عقلانية بين ضبط السلاح في المخيمات وبين توفير استقرار مالي–اقتصادي للبنان، وهو ما يشكّل حافزاً إضافياً للسلطة اللبنانية للاستمرار في مسارها الإصلاحي.
من اختبار تسليم السلاح إلى قاعدة يمكن القياس عليها في ملفات آخرى:
إنّ نجاح لبنان في تطبيق هذه المعادلة على السلاح الفلسطيني، ولو ببطء وتدرج، سيؤسس لسابقة قياسية أي برهان عملي على أنّ الدولة قادرة على استعادة صلاحياتها دون انزلاق إلى حرب أهلية أو مواجهة مفتوحة، وصحيح أنّ الفارق بين سلاح المخيمات وسلاح حزب الله كبير من حيث البنية والشرعية والدعم الإقليمي، لكن التجربة الفلسطينية تمنح الدولة اللبنانية ورقة سياسية ثمينة وهي أنها قادرة على الجمع بين الأمن والامتثال الاجتماعي والسياسة الإقليمية، وهذه الورقة يمكن أن تُستخدم لاحقاً في أي تسوية لبنانية–إقليمية أوسع، بحيث تتحوّل "سياسة الحصر" من شعار إلى عملية متدرجة يمكن التعميم عليها.
الخلاصة العملية:
وبناءً على ما سبق، لا يجب أن تُختزل تجربة أيلول/سبتمبر 2025 إلى اختبارٍ محدود النتائج، بل إلى بداية مسار سيادي طويل النفس يقوم على ثلاثية القرار السياسي الواضح، المقاربة الاجتماعية، والمظلّة الإقليمية الداعمة. عندها فقط يمكن القول إنّ السلاح الفلسطيني لم يكن مجرد ملف ظرفي، بل محطة تأسيسية على طريق بناء سياسة سيادية قابلة للتعميم في لبنان.
فالجهود المبذولة اليوم داخل المخيمات الفلسطينية يتجاوز بعدها الجهود الأمنية المباشرة، لتتحول إلى رهان استراتيجي على قدرة الدولة اللبنانية على استعادة زمام المبادرة، فكل بندقية تُسلَّم، وكل اتفاق يُبرَم، وكل خطوة ينجح الجيش في تنفيذها، تمثل لبنة إضافية في مسار طويل يرمي إلى تثبيت الاستقرار الداخلي، وهذا الاستقرار لا يقتصر على المخيمات وحدها، بل يشمل المشهد اللبناني بأسره، حيث تتشابك ملفات السلاح غير الشرعي، والتوازنات الطائفية، وضغوط الخارج.
إن نجاح الدولة في تحويل هذا الاختبار إلى سياسة دائمة يعني أنها لم تعد رهينة ردود الفعل، بل باتت قادرة على صياغة مقاربة شاملة تربط بين الأمن والسياسة والاقتصاد، وعندها يمكن أن يُنظر إلى خطوة جمع السلاح الفلسطيني لا كمعالجة جزئية لملف تاريخي، بل كبداية فعلية لمسار يُعيد الاعتبار للمؤسسات، ويكرّس الدولة كمرجعية وحيدة في إدارة السلاح والقرار.
بهذا المعنى، فإن ما يجري اليوم في بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع، ليس مجرد عملية أمنية تقنية، بل جزء من مشروع سياسي–وطني أكبر تسعى الحكومة اللبنانية من خلاله إلى إعادة تأسيس الاستقرار على قاعدة متينة، تُخرج البلاد من حلقة الأزمات المتكررة وتمنحها فرصة حقيقية للانتقال نحو مرحلة جديدة من السيادة الفعلية والاستقرار الدائم.