منذ الخامس عشر من أبريل/نيسان من العام 2023 وحتى تاريخ اليوم، يموت عشرات السودانيين بصورة شبه يومية، نتيجة للقتال الدائر بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، كما شردت الحرب الملايين من بين لاجئ ونازح، عدا أنها تسببت في انتهاكات وجرائم صارخة ضد المدنيين العزل ويعد بعضها جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.
طوال نحو ثلاثين شهراً، فشلت مساعي محلية واقليمية لإنهاء تلك الحرب التي وصلت إلى أكثر من 13 ولاية من جملة 18 ولاية الدولة السودانية الحالية، وتعددت أسباب ذلك الفشل في وقف الحرب ما بين مواقف متصلبة من الطرفين، والتدخلات الإقليمية والدولية، فيما لعب انتشار خطاب الكراهية هو الآخر دوراً بارزاً في استمرار الحرب وما يرافقها من انتهاكات مروعة عاني منها أغلبية الشعب السوداني.
وهنا يمكن القول إن خطاب الكراهية لم يكن مجرد انعكاس للعنف، بل أصبح أداة فاعلة في إنتاجه وتوسيعه، إذ حول الصراع السياسي والعسكري إلى صراع وجودي بين المكونات، ما جعل فرص التسوية أكثر صعوبة. كما أن انتشار هذا الخطاب ساهم في إضفاء طابع أخلاقي زائف على الجرائم، حيث بات القتل والاعتداء يُبرَّران على أساس الدفاع عن “الهوية” أو “الكرامة الجماعية”، ما رفع منسوب العنف إلى مستويات غير مسبوقة.
يسلط هذا المقال الضوء على خطاب الكراهية تعريفأ وجذوراً ومن خلال الوسائل والأدوات المستخدمة في مواجهته، وكيف غذى بشكل مباشر وغير مباشر حرب السودان الممتدة وأثره لا على الحرب وحدها إنما على وحدة الأراضي السودانية في المستقبل، ومن ثم يتناول أنسب الطرق لمكافحته واحتوائه ويقدم وصفة كاملة في هذا الخصوص.
عانى السودان، بعد استقلاله في العام 1956 عن الحكم البريطاني المصري 1898-1956 من عدد من الحروبات في جنوب وغربه وشرقه، وتسببت حرب الجنوب وحدها في مقتل مليونى شخص قبل انفصال الجنوب في العام 2011، فيما تسببت الحرب في دارفور غرب البلاد في مقتل 300 ألف شخص في الفترة من 2003 إلى 2019 طبقا لاحصاءات الامم المتحدة، وعلى غير ذلك فإن النزاعات القبلية قبل الحرب الحالية أدت إلى مقتل أكثر من 250 ألف شخص أما الحرب الحالية فقد تسببت حتى الآن في مقتل نحو 150 ألف شخص، وتشريد 15 مليون آخرين كما أدت إلى حدوث انتهاكات واسعة بما يشمل القتل خارج نطاق القانون والاحتجاز التعسفي واغتصاب النساء والفتيات والأطفال ونهب الممتلكات العامة والخاصة وتوقف مشاريع الإنتاج الزراعي والصناعي، وخرج نحو ١٩ مليون طفل من التعليم، ودمرت البنى التحتية، وأدت الحرب إلى انهيار العملة السودانية مقابل العملات الأخرى بأرقام لم تحدث في التاريخ.
لهذا التاريخ الدموي في السودان والتدمير الذاتي لكل شئ جملة من الأسباب منها عدم الاستقرار السياسي وتعدد الجيوش والحكم العسكري وهشاشة الاقتصاد، ليس بسبب عدم الموارد بل للفشل في إدارتها والفساد الممنهج في أجهزة الدولة وغيرها من أسباب، بيد أن العجز الأكبر في إدارة التنوع السياسي والاجتماعي والديني يعد بحسب كثيرين هو العامل الأهم لما وصلت إليه البلاد من راهن أمني وعسكري وسياسي وتمزق في النسيج الاجتماعي، وهنا برز خطاب الكراهية بصورة واضحة وجلية خلال السنوات الماضية وتضاعف أضعافا مضاعفة بعد اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
ومن المهم التمييز هنا بين خطاب الكراهية بوصفه أداة تحريض واستقطاب نفسي واجتماعي، وبين الجرائم الفعلية التي تُرتكب في سياق الحرب كالقتل والاغتصاب والنهب، فخطاب الكراهية يشكل البيئة الذهنية التي تبرر هذه الجرائم وتمهد لها، لكنه لا يُعدّ بحد ذاته جريمة مادية إلا حين يتحول إلى دعوة صريحة للعنف أو تبرير مباشر له. هذا التمييز ضروري لفهم آليات العدالة والمساءلة، إذ يمكن ملاحقة المحرّضين خطابياً عبر القوانين، بينما يُحاسب المنفذون على الجرائم الميدانية وفق القوانين الجنائية الدولية.
تعرف الأمم المتحدة خطاب الكراهية بأنه "أي نوع من التواصل الشفهي أو الكتابي أو السلوكي الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، وبعبارة أخرى، على أساس الدين أو الإنتماء الإثني أو الجنسية أو العرق أو اللون أو النسب أو النوع الاجتماعي أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية".
وطبقا لهذا التعريف فإن خطاب الكراهية ظل حاضراً ضمن الخطابات السياسية والإاجتماعية بشكل قوى ومؤثر وبات ذلك جلياً من خلال ألفاظ متواترة في الشارع العام بصورة يومية، ورؤية كل مجموعة سودانية للآخرى بأنها دخيلة وليست أصلية مع إدعاء من كثير من الأطراف بالنقاء العرقي والعلو الديني وما إلى ذلك من مزاعم، ووصول خطاب الكراهية على مر التاريخ السوداني إلى القيادات السياسية أنزله إلى القواعد الاجتماعية ما أدى إلى تفجر كثير من الصراعات القبلية وآخرها ما حدث في إقليم النيل الأزرق جنوب شرق البلاد حينما دارت معارك طاحنة بين العنج والهوسا راح ضحيتها الآلاف.
خلال الحرب الحالية بات جلياً سيطرة خطاب الكراهية من خلال اتهامات متبادلة بين القبائل والولايات والتهديد المتبادل كما سيطرت مفردات غاية في الإحتقار مثل (أولاد الضيوف، والفلنقايات، وأم كعوك وأولاد الفدادية وغيرها)1 وجميعها مفردات موغلة في المحلية وتعني التقليل من المجموعات القبلية والعرقية وحتى الجهوية.
في لقاء أجرى مع الصحفي السوداني ماهر أبو الجوخ2، يفكك فيه خطاب الكراهية وآثاره، ويقول إن هناك تلازم وترابط عضوي تكاملي بين خطاب الكراهية وانتهاكات الحروب باعتبار أن خطاب الكراهية هو المحفز لارتكاب الجرائم وشحذ الهمم وتعبئة النفوس، ويتكامل نسيج هذا الخطاب القائم على الكراهية عند مزجه بالأخبار الكاذبة والإشاعات والتى قد تلجأ لتضخيم وتحوير أحداث بغرض تعبئة النفوس بخطاب الكراهية وفى أحيان آخرى يختلق خطاب الكراهية لوقائع غير موجودة في الأساس أو ينقلها من أماكن آخرى مع تعديل المحتوي ليصبح متطابقاً مع تفاصيل المنطقة التي تشهد الصراع.
يضيف أبو الجوخ بقوله: بالنسبة لحرب السودان التي اندلعت في منتصف أبريل 2023، فقد شهدت استخداماً ممنهجاً لخطاب الكراهية والأخبار المضللة والكاذبة بشكل مكثف ضمن سياق التعبئة لصالح الحرب أو شيطنة للخصوم، ومن أبرز آثارها الدفع بالمدنيين لحمل السلاح والانخراط في القتال والتمركز في مناطق تواجد المدنيين وهو ما ترتب عليه نقل المواجهات العسكرية لأماكن تواجد المدنيين ونظراً لأن المدنيين أصبحوا بحكم حملهم للسلاح خارج تعريف "المدنيين" وباتوا عسكريين وهذا للأسف أصبح مبرراً، ليس لارتكاب انتهاكات تجاههم باعتبارهم باتوا محاربين، ولكن ترتب عليه مقتل المدنيين الآخرين وادخال الحرب لأماكن آمنة، مؤكداً أن هذه النتيجة تقع ضمن نتائج التعبئة بخطاب الكراهية وإحدى ثماره.
يؤكد أبو الجوخ أنه من المهم عند انتهاء حرب السودان في أي وقت قريب أو لاحق عدم إغفال تأثير مروجي خطاب الكراهية بتقديمهم للمحاكمات أسوةً بالتجربة الرواندية التي حاكمت الجهات الإعلامية التي تورطت في نشر خطاب الكراهية أسوةً بما حدث في المحكمة الخاصة بجرائم حرب رواندا بمحاكمة إذاعة التلال لتقديمها خطاباً للكراهية ترتب عليه إرتكاب جرائم حرب.
ويلاحظ من تحليل تصريحات الخبراء أن جذور خطاب الكراهية في السودان ليست آنية أو عفوية، بل متراكمة منذ عقود بسبب فشل الدولة في إدارة التنوع الإثني والثقافي، وتحول المؤسسات الرسمية نفسها في مراحل مختلفة إلى منابر للتمييز والتحريض، ما جعل الخطاب العدائي جزءاً من البنية السياسية والاجتماعية لا مجرد ظاهرة إعلامية عابرة.
من المهم المحاكمة على هذه الأفعال لإنصاف الضحايا، ما يجعل من المرتكبين عظة ويمنع تكرار هذه التجربة مجدداً ومستقبلاً ويعد فتحة للطريق صوب مستقبل مستقر بعدم إفلات ناشري خطاب الكراهية من العقاب، أما عدم تعرض الناشرين لخطاب الكراهية للعقاب ،رغم ارتكابهم مخالفات وتجاوزات كبيرة، أوقعت جرائم وأحدثت شرخاً في نسيج المجتمع السوداني وفتته بشكل غير مسبوق ولذلك لا مجال إلا بإلإحالة للمحاكم والمثول أمام القضاء لكل مروج محرض بخطاب الكراهية بعد إنتهاء هذه الحرب.
كما يُستشف من الوقائع أن تجاهل محاسبة مروّجي خطاب الكراهية يكرّس الإفلات من العقاب ويغذي دورة العنف من جديد، فالمساءلة ليست مطلباً انتقامياً بقدر ما هي خطوة تأسيسية نحو بناء وعي جمعي جديد يحترم التنوع ويجرّم التحريض على أساس الهوية.
ومن نفس الزاوية التي تناولها ماهر أبو الجوخ، يؤكد المحلل السياسي أحمد بابكر3 إن خطاب الكراهية يتجاوز التمييز والإزدراء والتحقير إلى ماهو أخطر وهو التحريض على العنف وإفناء الآخر، وهو الخطاب الذي نجده بكثافة ضمن ثقافة الحروب الأهلية كما حدث في حرب الإبادة في رواندا 1994 مشيراً إلى أنه وفي الحالة السودانية لعبت السلطة دورا محورياً في نشر خطاب الكراهية خاصهً من خلال نظام الإنقاذ، نظام الرئيس المعزول عمر البشير.
وخطاب الكراهية، وإن كان سبباً في استمرار الحرب، يختلف عن الجرائم الميدانية في طبيعته وأدواته؛ فهو يخلق "الشرعية النفسية" للقتل والعنف دون أن يباشرها، مما يجعل مكافحته أكثر تعقيداً لأنه يتغلغل في الوعي الجمعي عبر اللغة والإعلام والثقافة، لذلك فإن أي عملية سلام مستقبلية لن تنجح ما لم تشمل معالجة خطاب الكراهية كمقدمة رمزية للجرائم الواقعية.
فخطاب الكراهية في زمن الإنقاذ لم يكن خطاباً فردياً أو يخص مجموعة إاجتماعية معينة بل كان خطاباً سلطوياً مؤسسياً يشغل أغلب خطاب الدولة بحكم أنها منذ أن اغتصبت السلطة في 1989، انغمست في الحروب للدرجة التي لا نستطيع أن نميز لهذا النظام أي خطاب آخر غير خطاب الحرب وتبعاته، ويضيف بابكر "عموما الحروب الأهلية في طبيعتها تستند في قدرتها على الاستمرارية في تغذيتها لخطاب الكراهية والذي يقوم على التمييز وتحقير الآخر، فلقد خبرنا سابقاًً هذا الخطاب في حرب الجنوب والتي اعتمدت في استمرارها في عهد الإنقاذ على خطاب التمييز الديني والثقافي والعنصري ،حيث استعرت الحرب أكثر تحت دعاوي الجهاد ضد الكفر والكفار وكذلك بأن هؤلاء لا يشبهوننا ولا أدري لماذا كان يجب عليهم أن يشبهوننا وهل وجودهم في وطنهم يحتاج أن يشبه وجود الآخرين.
وهنا يطرح بابكر السؤال المحوري: ما هي الصفات المعيارية التي تشكل النموذج والمثال بحيث يتشبه بها الآخرون وماهي الجماعة الاجتماعية التي تمثل هذا النموذج المعياري؟
فخطاب الكراهية الذي غذى استمرار الحرب وتسبب في موت أكثر من مليوني مواطن سوداني وحرق قرى وممارسات ضد الإنسانية وفصل جنوب السودانن وتم استخدامه كرافعة للحشد والتعبئة في حرب دارفور، أنتج خطاب هوياتي عنصري مضاد يستند على التحريض ضد ما يعرف بالشمال والشريط النيلي وارتكبت بسبب هذا الخطاب جرائم يندى لها الجبين.
ثم كان الأمر أكثر وضوحا ودموية بعد حرب 15 أبريل والتي استخدم فيها الطرفين أقصى ما يمكن من خطاب للكراهية والتمييز للتحشيد والتعبئة لاستمرار الحرب وارتكاب مجازر تصل لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
يؤكد بابكر أنهم لمسوا خطابات مثل عرب الشتات وأولاد الضيف وخطابات تنزع الهوية السودانية من بعض المجموعات، وكذلك ما اصطلح عليه بقانون الوجوه الغريبة وهو ليس قانوناً، ولكنه عُرف أصبح أعلى من القانون.
وفي الجانب الآخر انتشر خطاب ضد الشماليين وما يعرف بالشريط النيلي، وخلاصة هذا الأمر أن ما نشاهده من فظائع في هذه الحرب من قتل على الهوية وتصفية الأسرى وقطع الرؤوس ليس إلا نتاج لخطاب الكراهية وهو خطاب يستخدم عناصر تجييش غير سياسية، والكارثة، حسب تقدير بابكر، أن هذا الخطاب قد حفر حفرة عميقة في بنية الوعي الاجتماعي وأصبح من أهم المستهدفات بالمعالجة بعد إيقاف هذه الحرب اللعينة على حد ما يصفها.
وعلى صعيده، يري الخبير القانوني يونس همد محمد صالح4، أن خطاب الكراهية يعتبر محفزاً للحروب البينية بين المكونات حيث تقوم نظرية شد الأطراف التي اتبعتها بريطانيا ونجحت في تطبيقها إسرائيل على إثارة خطاب الكراهية الذي يحرض على العنصرية واحتقار الآخر واستفزازه والتقليل من شانه، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، ويلفت الانتباه إلى عدم إمكانية الفرز بين الحروب وخطاب الكراهية كسبب محفز للحروب الأهلية في أقاليم السودان المختلفة سواء كان غربه أو شرقه أو جنوبه، ولقد كان انفصال جنوب السودان نتيجة حتمية لخطاب الكراهية والاحتقار، ويضيف صالح أن الفشل الذريع في إدارة تنوع السودان كان نتيجة تفشي خطاب الكراهية والذي فرضت حتمية انفصال الجنوب قبل ظهور نتائج الاستفتاء على تقرير مصير السودان حيث أوغرت الصدور وكان اختيار الشعب الجنوبي للانفصال غير وارد في أدبيات الحركة الشعبية، إلا ان لخطاب الكراهية الدور الأكبر في مطالبة شعبه بالانفصال بعد أن كانت وحدة شطري السودان لا يختلفان حول وحدة السودان، ويتهم صالح سياسات النظام البائد بتأجيج خطاب الكراهية مما أوجد قناعة راسخة أن ذلك النظام هو المتسبب في تشظي و دمار النسيج الاجتماعي.
ويؤكد صالح أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً بارزاً في تفشي خطاب الكراهية من خلال أشخاص يبثون موادا مباشرة معززة بالصور المرئية والمتحركة ما أفسد العلاقات البينية في المجتمع، ونبه الى أن مبدأ الولاء الوطني أمر غير قابل للمساس وعلية استغل دعاة الكرا هية هذا المبدأ لإثارة الدعاية لكره الآخر باعتبار الآخر ضعيف الوطنية أو معدوماً منها، لذا فإن التشكيك في مبدأ الولاء أصبح أحد آليات إثارة خطاب الكراهية.
ويؤكد الخبير القانوني أن الممارسة والدعوة إلى خطاب الكراهية جريمة جنائية ولقد فطنت الجهات المسؤولة في الولايات المتحدة للآثار المدمرة التي تترتب عليه لذا اعتبرته جريمة تستوجب العقوبة، وعليه سنت التشريعات القانونية لهذه الجريمة إلا أن جريمة الكراهية لا توجد في دساتير الدول العربية والإسلامية ما فتح المجال أمام كل من ينزع إلى خطاب الكراهية ليبث ما يريد.
ويذهب صالح إلى القول أن الواعيين بالقانون فكروا في خطورة خطاب الكراهية ووضعت له الموجهات التالية:
- رفع مستوى الوعي العام المجتمعي بالآثار الضارة لخطاب الكراهية.
- مقاومة خطاب الكراهية بجميع الوسائل السلمية ومعاقبة دعاته مهما كان مركزهم.
- عدم إفلات الذين يدعون إلى خطاب الكراهية برصد أقوالهم وأفعالهم ومحاسبتهم عليها.
- سن التشريعات الرادعة لكل من يأتي بأفعال خطاب الكراهية بجميع اشكاله.
- حظر الأنشطة الدعائية المروجة لخطاب الكراهية.
- الدعوة الى إحترام التنوع العرقي والثقافي.
تؤكد الخبيرة الاجتماعية أسماء محمد جمعة5 أن خطاب الكراهية سلوك مكتسب يتأثر بعوامل نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية ودينية، مشيرةً الى أنه يزيد أو يقل بدور الدولة في بناء مجتمع صالح مزدهر، ونبهت إلى أن ما تقوم به الدولة من تضليل وغسيل أدمغة يسبب غياب الوعي والظلم والفقر.
في ذات السياق تقول المحامية نون إبراهيم كشكوش6 أن القانون الذي يحظر خطاب الكراهية غائب في السودان، حيث لا يوجد قانون واضح يجرم خطاب الكراهية بشكل مباشر مما يصعب اتخاذ الإجراءات القانونية ضد مرتكبيه.
وشددت كشكوش على أهمية إنشاء نيابة ومحاكم متخصصة تتعامل مع خطاب الكراهية بشكل يرفع مستوى التحقيق والمساءلة ولا يتعارض مع مبادئ الدستور وحقوق الإنسان، وذلك لضمان المساواة بين جميع المواطنين والقضاء على كافة اشكال التمييز على أساس العرق أو الدين أو العرف.
ويؤكد معاذ عز الدين7، وهو ناشط محارب لخطاب الكراهية، أن الدراسات تشير إلى أن الإبادة الجماعية لا تقع فجأة بل تبدأ بخطوات متدرجة تبدأ من رسم الصورة النمطية السلبية ضد جماعة معينة يليها تجريدها من إنسانيتها عبر الخطاب الإعلامي والسياسي ثم إضفاء شرعية على إقصائها أو تهميشها وعندما تتكرر تلك الرسائل في بيئة مشحونة تتحول إلي دعوات مفتوحة للعنف المفروض، ما يفتح الباب أمام ممارسات قد تصل الي التصفية الجسدية.
الخاتمة
على أن الحرب قضت علي الأخضر واليابس في السودان وتفاقم الأوضاع الإنسانية والصحية نذر بكارثة كبري، إلا أن الوضع لابد من أن يعود كما كان في السابق بدلا من التشظي والانقسام الذي حدث نتيجة غياب وضعف مؤسسات الدولة والمجتمع، والتي كان من المفترض أن تلعب دوراً في ضبط الخطاب وجاء هذا الإنقسام أيضاً نتيجة انعدام المحاسبة والردع القانوني لمن يروجون لخطاب الكراهية وكذلك ضعف الأحزاب و النقابات التي تساعد فى تأطير الناس سياسياً وفكرياً علي أسس ديمقراطية وسلمية، كما أن غياب التنمية المتوزانة خلق شعور بالإقصاء لدي فئات معينة مما غذي مشاعر الكراهية وهو ما هدد السلم الاجتماعي والتماسك الوطني.
تأتي معالجة خطاب الكراهية من خلال تفعيل مؤسسات الدولة وخاصة العدلية والتعليمية وإصلاح النظام السياسي وتقوية الأحزاب و النقابات وضبط وسائل التواصل وتشجيع الخطاب التآلفي.
إن التصدي لخطاب الكراهية في السودان يتطلب إرادة حقيقية وتعاوناً بين مؤسسات الدولة والإعلام والمجتمع وبناء خطاب إعلامي مسؤول يقدم الحقيقة دون تحريض وأن يصبح الحوار بديلا للكراهية والسلام ثقافة لا شعار.
وتتطلب معالجة خطاب الكراهية في السودان رؤية شاملة تتجاوز الحلول الأمنية أو التشريعية إلى معالجة الجذور الإجتماعية والسياسية التي تغذّي هذا الخطاب، فالكراهية لا تنشأ من فراغ، بل من تهميشٍ مزمن، وصراعاتٍ هوياتية، وضعفٍ في إدارة التنوع، لذلك تبدأ المعالجة من تعزيز قيم المواطنة المتساوية والإعتراف بالتعدد الثقافي والعرقي كقوةٍ لا كتهديد.
كما يبرز دور الإعلام في كبح إنتشار الخطاب المتطرّف عبر إلتزامه بالمعايير المهنية في التغطية، وتجنّب التوصيفات التي تزرع الإنقسام أو تُحرّض على الآخر، ولا تقل أهمية عن ذلك جهود المجتمع المدني في نشر ثقافة الحوار والتسامح، ومراقبة منصات التواصل التي أصبحت مسرحًا رئيسيًا لنشر الكراهية.
ولكي تنجح هذه الجهود، يجب أن تدعمها الدولة بسياسات تربوية وإعلامية طويلة المدى تُرسّخ لغة الإحترام وتُعلي من قيمة التنوّع، فالمعركة ضد خطاب الكراهية ليست معركة كلمات، بل معركة وعي وبناء وطن يسع الجميع.
وتشمل تلك الجهود التغطية الحساسة للمناظارات، ومراقبة المحتوى الذى الذي يحرض على خطاب الكراهية أو يكرس الإنقسام كما ينبغي سن تشريعات واضحة تجرم التحريض العرقي والجهوي وتلزم المنابر العامة بالمسؤولية في ما تنشره ويجب الاستثمار في التعليم ونشر ثقافة السلام من خلال مناهج تربوية تعزز قيم التنوع والمواطنة وتكسر الصور النمطية التي تغذي خطاب الكراهية بين المكونات الآخرين.
إن المصالحة الوطنية الشاملة تظل الإطار الأكبر لأي معالجة ناجحة لأنها تعيد ترميم الثقة بين المكونات الإجتماعية والسياسية و تمنح المواطنين شعوراً بالإنتماء المشترك إلي وطن واحد لاتقسمه الجهوية ولاتعرفه الإنتماءات الضيقة.
إن محاربة خطاب الكراهية ليست مهمة أخلاقية فحسب، بل ضرورة وطنية لبقاء السودان موحداً وآمناً فالكلمة التي تشعل الحرب يمكن أن تكون ذاتها بذرة سلام والإعلام الذي ينقل الكراهية قادر أيضاً علي نشر الأمل إن التزم بمسؤوليته.
وعليه، فإن مواجهة خطاب الكراهية لا يمكن أن تقتصر على سنّ القوانين أو مراقبة وسائل الإعلام، بل تستدعي إصلاحاً ثقافياً شاملاً يعيد تعريف مفهوم “الآخر” في الوعي السوداني، فالكراهية ليست مجرد خطاب، بل بنية فكرية ناتجة عن الإقصاء والتهميش، ولن تزول إلا بإرساء عقد اجتماعي جديد قائم على المواطنة والمساواة، وإعادة الاعتبار لقيمة الإنسان بوصفه إنساناً قبل أي انتماء آخر.
هوامش
1أولاد الضيوف: يُقال عادة عن الأشخاص أو الجماعات الوافدة من مناطق أو قبائل أخرى داخل السودان أو من دول مجاورة. تُستخدم أحيانًا لتقليل انتمائهم للمكان أو التشكيك في "سودانيتهم"، بمعنى أنهم "ليسوا من أهل البلد الأصليين".
الفلنقايات: كلمة ذات أصل مرتبط بقبائل غرب إفريقيا (الفلّاني/الفلان)، وتُستخدم أحيانًا كمصطلح ازدرائي لوصف أشخاص من أصول غربية إفريقية أو ذوي ملامح تختلف عن المجموعات العربية في السودان.
أم كعوك: تُستخدم هذه الكلمة كمسبة عنصرية ضد النساء ذوات البشرة الداكنة جدًا أو الشعر الكثيف والمجعد. تحمل إيحاءً بالازدراء الجمالي، وتعكس النظرة العنصرية المرتبطة بمعايير الجمال الفوقية ذات الأصل الاستعماري أو الطبقي.
أولاد الفدادية: يقال عن الأشخاص ذوي الأصول المختلطة (بين عرب وأفارقة) أو الذين ينتمون إلى مجموعات مهمشة اجتماعيًا. وغالبًا ما يُقصد بها الإيحاء بعدم "صفاء الأصل"، وهو تعبير يحمل طابعًا عنصريًا واضحًا.
2تمت المقابلة مع الصحفي السوداني ماهر أبو الجوخ وهو صحفي يمتلك خبرة مباشرة في رصد خطاب الكراهية في الإعلام السوداني ويقدم حلولاً لمعالجته، وأجريت المقابلة يوم الأربعاء الموافق 3 سبتمبر 2025، الساعة 2:54 صباحاً بالقاهرة.
3تمت المقابلة مع المحلل السياسي أحمد بابكر وهو طبيب أسنان ومحلل للمعلومات الدقيقة، وأجريت المقابلة في 1 سبتمبر الموافق يوم الإثنين 2025 الساعة 2:28 مساءً من مسقط.
4تمت المقابلة مع الخبير القانوني يونس همد محمد صالح وهو خبير يعمل في وزارة الداخلية القطرية ومختص في المجال ويعرف كيف يستخدم الخطاب الإعلامي لتهدئة خطاب الكراهية، وأجريت المقابلة يوم الخميس الموافق 4 سبتمبر 2025 الساعة 5:59 م مساء من الدوحة.
5تمت المقابلة مع الخبيرة الاجتماعية أسماء محمد جمعة الإرشاد النفسي بجامعة النيلين ومهتمة بالارشاد النفسي للضحايا ممن وقع عليهم خطاب الكراهية، وأجريت المقابلة يوم الخميس الموافق 4سبتمبر 2025 الساعة 3:23 مساء من الإمارت.
6تمت المقابلة مع المحامية نون إبراهيم كشكوش وهي محامية سودانية بمنظة أجنبية ومعايشه للأحداث في السودان، وأجريت المقابلة يوم الخميس الموافق 4 سبتمبر 2025 الساعة 1:44مساء من لندن.
7تمت المقابلة مع الناشط معاذ عز الدين وهو باحث تحليلي بمنظمة "وعي" النسائية و راصد لخطاب الكراهية بالسوشيال ميديا، وأجريت المقابلة يوم الاتنين الموافق ٢٥ اغسطس 2025 م الساعة 10:24 مساء من كمبالا.



