خلال مؤتمر المانحين الذي عُقِد في القاهرة في 12 تشرين الأول/أكتوبر الجاري من أجل إعادة إعمار غزة، إبان الحرب المدمّرة التي اندلعت الصيف الفائت بين إسرائيل وحماس واستمرّت 51 يوماً، تعهّد المجتمع الدولي بتقديم 5.4 مليارات دولار نصفها مخصّص لإعادة إعمار غزة. بما أن عدداً كبيراً من الأفرقاء الأساسيين سيشارك على الأرجح في هذا المشروع، ونظراً إلى التباين في مصالحهم الخاصة، قد يتبيّن أن إعادة إعمار غزة مهمّة شاقة.

على الرغم من أن مؤتمر المانحين في القاهرة يذكّر بالمؤتمر الذي عُقِد في شرم الشيخ في مصر إبان الحرب التي اندلعت بين إسرائيل وحماس في 2008-2009، إلا أن السياق كان مختلفاً هذه المرة. فقد عُقِد اجتماع القاهرة بعد تعرّض قطاع غزة بكامله لدمار غير مسبوق، حيث تُقدَّر كلفة إعادة الإعمار الأولية بأربعة مليارات دولار، أي ثلاثة أضعاف الكلفة في الحرب السابقة. علاوةً على ذلك، انعقد الاجتماع الأخير وسط تزايد أعداد الأصوات المطالِبة بإنهاء الحصار الإسرائيلي على غزة المستمر منذ سبع سنوات. أيضاً، وخلافاً للعام 2009، عُقِد مؤتمر المانحين هذه المرة في ظل وجود حكومة وفاق وطني فلسطينية تشكّلت بعد توصُّل حركتَي فتح وحماس في 23 نيسان/أبريل الماضي إلى اتفاق يضع حداً لسبع سنوات من الانقسام السياسي الفلسطيني ويُعيد توحيد قطاع غزة والضفة الغربية تحت إدارة سلطةٍ واحدة. والأهم من ذلك، كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية المزرية في غزة قد بلغت نقطة الانهيار عشية الحرب الأخيرة. كان الوضع سيئاً جداً في غزة إلى درجة أن تقريراً صادراً عن الأمم المتحدة في آب/أغسطس 2012 شكّك في إمكانية أن تظل غزة مكاناً صالحاً للعيش بحلول العام 2020 في حال استمرار الحصار والنزاع المسلّح.

يبقى المبلغ المخصّص لإعادة الإعمار - 2.7 مليار دولار - أقل من الأربعة مليارات دولار التي طلبتها السلطة الفلسطينية لتمويل خطتها من أجل إعادة إعمار غزة، والأهم من ذلك، ترافقت هذه التعهّدات مع شروط. فقد خلصت رئاسة المؤتمر إلى ربط الدعم المالي الدولي بثلاثة مقتضيات: ممارسة حكومة الوفاق الوطني سيطرة فعلية في غزة، بما في ذلك "السيطرة الكاملة على معابر القطاع وسلطات الجمارك، وإصلاح قطاع الخدمة المدنية"؛ ووضع آلية راسخة وفعّالة "للحيلولة دون استخدام المساعدات في أغراض غير مخصّصة لها"1؛ وفتح المعابر الحدودية بين إسرائيل وغزة "للسماح لرجال الأعمال الفلسطينيين بمزاولة الأنشطة التجارية بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى السماح لهم بالوصول إلى الأسواق العالمية".

لكن هذه الشروط قد لاتُستوفى لأسباب عدّة أبرزها هشاشة اتفاق المصالحة بين فتح وحماس بعد سنوات من العداء وغياب الثقة، واستمرار النزاع المفتوح بين إسرائيل وحماس على الرغم من وقف إطلاق النار المفتوح الذي جرى التوصّل إليه في 26 آب/أغسطس الماضي، وأجواء الالتباس السياسي التي تُخيِّم بعد انهيار محادثات السلام المدعومة من الولايات المتحدة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في نيسان/أبريل الماضي. انطلاقاً من هذا كله، وإذا استثنينا مساعدات الإغاثة الإنسانية التي تشكّل حاجة ماسّة، ثمة مايُبرّر الاعتقاد بأن عملية إعادة إعمار غزة التي أنهكتها الحروب قد تتوقّف حتى قبل أن تبدأ.

على الجبهة الفلسطينية، ليس واضحاً بعد إذا كانت حكومة الوفاق الوطني ستتمكّن من ممارسة الحكم "فعلياً" في غزة، كما يشترط المانحون. لقد وقّعت فتح وحماس اتفاقاً في 25 أيلول/سبتمبر الماضي للسماح لحكومة الوفاق الوطني بممارسة سلطتها كاملة، لكن ليس أكيداً بعد إذا كان هذا كافياً كي تتمكّن الحكومة من أداء وظائفها في القطاع. فعلى الرغم من أن حركة حماس لم تعد تحكم غزة رسمياً منذ تشكيل حكومة الوفاق الوطني في الثاني من حزيران/يونيو الماضي، إلا أنها لاتزال تحتفظ بحضور قوي هناك من خلال قاعدتها الناخبة، وآلاف المقاتلين المسلّحين التابعين لها في غزة، والأكثرية التي تملكها في المجلس التشريعي الفلسطيني (الذي عُلِّق عن العمل في حزيران/يونيو 2007، لكن يُفترَض أن يستأنف نشاطه بمقتضى اتفاق 23 نيسان/أبريل واتفاق 25 أيلول/سبتمبر). بناءً عليه، يتعيّن على حكومة "الوفاق" أن تأخذ في الاعتبار مشاغل حماس وآرائها في عدد من المسائل الخلافية جداً، أبرزها فرض القانون والنظام، وإعادة دمج المؤسسات العامة بين غزة والضفة الغربية، ومصير نحو أربعين ألف موظف في الخدمة المدنية عيّنتهم حماس خلال حكمها على غزة الذي استمر سبعة أعوام، والسيطرة على المعابر الحدودية مع إسرائيل ومصر، وتطبيق خطة السلطة الفلسطينية لإعادة إعمار غزة. ستكون معالجة هذه المسائل الشائكة جداً من دون تهديد المصالحة الفلسطينية أو تقويض آفاق انطلاق مشروع إعادة إعمار غزة، مهمّة شاقة للغاية.

وكذلك طالب المانحون في مؤتمر القاهرة بفتح المعابر الحدودية بين إسرائيل وغزة. إلا أنه ليس واضحاً بعد إلى أي حد ستبدي الحكومة الإسرائيلية استعداداً لرفع حصارها بالكامل عن القطاع، والذي يشمل أيضاً إزالة المناطق العازلة التي فرضتها إسرائيل داخل غزة، علماً بأنها تستحوذ على 35 في المئة من الأراضي الزراعية، والسماح بالوصول الكامل إلى المياه الإقليمية التابعة لغزة، بحسب مانصّت عليه اتفاقات أوسلو. حتى الآن، لم تصدر أية بوادر عن الحكومة الإسرائيلية بأنها تنوي القيام بذلك.

وفي نقطة أكثر تعقيداً، تُطرَح علامات استفهام حول مدى ملاءمة الاتفاق الأخير الذي جرى التوصّل إليه بوساطة من الأمم المتحدة لمراقبة مواد إعادة الإعمار المستوردة إلى غزة، مع ظروف البناء بعد الحرب. فالبعض يتخوّفون من أنه من شأن الطبيعة الإشكاليّة لآلية المراقبة - التي تشمل تركيب كاميرات فيديو، وإرسال مفتّشين دوليين على الأرض، وإنشاء قاعدة بيانات حول المموّنين والمستهلكين وتشارُكها مع إسرائيل - أن تؤدّي إلى مأسسة الحصار الإسرائيلي بدلاً من إنهائه.

سوف تُجري حماس وسواها من الفصائل السياسية الفلسطينية، بحسب التقارير، مباحثات غير مباشرة مع إسرائيل في القاهرة في 27 تشرين الأول/أكتوبر الجاري لترسيخ وقف إطلاق النار الحالي والتوصّل إلى تفاهم متبادل حول الوضع في غزة. على ضوء الجولات السابقة من المحادثات بين الجانبَين، لايمكن التكهّن بالآفاق الطويلة الأمد لأي اتفاق مستقبلي. فحتى لو افترضنا أن أموال المانحين متاحة بسهولة، وأن حكومة الوفاق الوطني ستتولّى فعلياً السيطرة على غزة، من شأن الالتباس الذي يحيط بإمكانية التوصّل إلى اتفاق دائم بين الجانبَين أن يدفع بمستقبل مشروع إعادة إعمار غزة برمته نحو المجهول.

في مؤتمر المانحين الذين انعقد في القاهرة في وقت سابق هذا الشهر، شدّد المتحدّثون على عدم قابلية الوضع القائم في غزة للاستدامة، وقد طالبوا بحدوث تغيير جوهري وتعهّدوا بعدم العودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل الحرب. لكن بسبب غياب العزيمة أو الافتقار إلى المخيّلة الواسعة - أو ربما الأمرَين معاً - لم يقترح المشاركون في المؤتمر أية سياسة أو رؤية واضحة لإيجاد مخرج أو للسير نحو الأمام؛ بل اكتفوا بفرض شروط مسبقة على المساعدات المالية غير المضمونة، وعلى عملية إعادة الإعمار التي ليس هناك مايؤكّد أنها ستصل فعلاً إلى خواتيمها.

محمد السمهوري خبير اقتصادي فلسطيني ومن كبار المستشارين الاقتصاديين سابقاً في السلطة الفلسطينية. يساهم بانتظام في صدى.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.


1. الاتفاق الذي جرى التوصّل إليه بوساطة من الأمم المتحدة، بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة حول آلية مؤقّتة لرصد واردات مواد البناء إلى غزة.