قدّم المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، قائمة بخمسين عالِماً جرى تعيينهم حصرياً للإفتاء عبر شاشات التلفزة. على الرغم من أن المجلس أعلن أنه قد يعمد إلى توسيع القائمة في المستقبل، إلا أن هذه الخطوة الصادرة عن جهاز مستقل ولو كان مقرّباً من النظام، تُعتبَر غير مسبوقة في مصر، حيث لم يكن العلماء بحاجة في السابق إلى الحصول على مثل هذا الإذن. وقد استبعدت القائمة، التي أُعِدّت بصورة مشتركة من قبل الأزهر ودار الإفتاء، أعضاء وزارة الأوقاف التي ردّت في اليوم التالي بإصدار قائمتَين موجّهتَين إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام: تتألف القائمة الأولى من 21 عالِماً مصرَّحاً لهم بالإفتاء، فيما تضم القائمة الثانية 115 عالماً مخوَّلين تقديم برامج دينية "عامة" من دون إصدار فتاوى.
لقد أدّى حصر الحق في إصدار الفتاوى عبر شاشات التلفزة – ما يعني مزيداً من الظهور الإعلامي والسيطرة على الخطاب الديني – بعدد قليل من العلماء، إلى تفاقم الشقاق القائم بين مؤسسة الأزهر ووزارة الأوقاف اللتين تتنافسان على الإمساك بالسلطة الدينية. في حين أن الوزارة تسيطر على المساجد والأوقاف الدينية، وتشكّل جزءاً من السلطة التنفيذية للنظام، يبذل الأزهر، وهو المؤسسة الأولى في مصر للإرشاد الديني والدعوة الإسلامية، جهوداً حثيثة للحفاظ على استقلالية ما عن الدولة.
لقد عمد الأزهر، في القائمة التي وضعها مع دار الإفتاء – الهيئة الرسمية في مصر المكلّفة إصدار الفتاوى، ويرأسها مفتي الجمهورية الذي ينتخبه الأزهر – إلى استبعاد عدد من العلماء المقرّبين من النظام. على سبيل المثال، استُثني من القائمة مستشار الرئيس عبد الفتاح السيسي للشؤون الدينية، أسامة الأزهري، ومسؤولون كبار في وزارة الأوقاف، بينهم الوزير محمد مختار جمعة. وقد اعتُبِر أسامة الأزهري على وجه التحديد غير مؤهل للإفتاء، لأن الدكتوراه التي يحملها هي في أصول الدين وليس في الشريعة أو الفقه المقارَن – مع العلم بأن بعض الأشخاص الذين وردت أسماؤهم على قائمة الأزهر ليسوا من حاملي شهادة الدكتوراه. وقد ردّت وزارة الأوقاف بإدراج جمعة والأزهري على قائمتها التي تتضمن أسماء العلماء المصرَّح لهم بالإفتاء. وإذ لفت جابر طايع، رئيس القطاع الديني في وزارة الأوقاف، إلى أن "قائمة الأزهر الشريف لم تتضمن أحداً من وزارة الأوقاف"، شدّد على أنه "كان من الأفضل والأجدر والأليَق أن يكون هناك تنسيق كامل بين الجهات الثلاث [الأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف]". وقال أيضاً إنه لم تكن هناك حاجة إلى مثل هذا الأمر [أي القوائم] في مثل هذا الوقت، ملمّحاً إلى أن القائمتين اللتين وضعتهما الوزارة كانتا ضروريتَين، فقط من أجل التصدّي لما تعتبره الوزارة محاولة من الأزهر للسيطرة على الخطاب الديني.
يبدو أن المحاولة التي قام بها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام من أجل تنظيم الإفتاء جاءت استجابةً للنداء الذي وجّهه السيسي لـ"تجديد الخطاب الديني"، والذي رأى فيه الأزهر تعدّياً من الرئيس على صلاحياته. يُشار إلى أن السيسي قام بتعيين أعضاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الذي أنشئ بموجب تشريع برلماني صدر في قانون وقّعه الرئيس في كانون الأول/ديسمبر 2016. وقد برّر رئيس المجلس، مكرم محمد أحمد، الخطوة التي أقدم عليها المجلس للحد من وصول العلماء إلى شاشات التلفزة، بأنها إجراء ضروري لتعزيز "منهج الاعتدال" لا "منهج التطرف"، مضيفاً أنه "لا يجوز أن يسيطر بعض علمائنا الذين تستخدمهم جماعة الإخوان المسلمين، على فكر الأمة". على الرغم من أن أحمد لمّح إلى أن القائمة تستهدف الإخوان، إلا أن خطوة المجلس تستهدف خصيصاً العلماء الذين يصدرون فتاوى مثيرة للجدل. وقدّم أحمد أمثلة على ذلك متحدّثاً عن الفتوى التي صدرت في أيلول/سبتمبر 2017 والتي تتيح للرجل إقامة علاقة مع زوجته بعد وفاتها، والفتوى الصادرة في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي والتي تجيز للرجل أن يتزوج من ابنته التي أنجبها من علاقة غير شرعية. في هذا السياق، انتهزت كل واحدة من المؤسسات الدينية الفرصة الناجمة عن قيام المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بتقييد الوصول إلى شاشات التلفزة، من أجل تعزيز مكانتها في المساحة الدينية العامة.
لقد أظهر الأزهر حتى الآن تردداً في الامتثال لتمنيات النظام الذي يريده أن يقدّم دعماً كاملاً لمبادرات الرئيس الدينية وأن يقوم بإصلاح مناهجه الدينية على هذا الأساس. لقد اشتكى وزير الثقافة حلمي النمنم في آب/أغسطس 2016 من أنه "لم يتحقق شيء منذ النداء الذي أطلقه الرئيس لتجديد الخطاب الديني". ووجّه السيسي نفسه انتقادات ضمنية إلى الأزهر لعدم تقديمه الدعم إليه. وفي العديد من الخطابات التي دعا فيها الرئيس إلى "ثورة دينية" وإلى إصلاح إجراءات الطلاق عند المسلمين، توجّه إلى علماء الأزهر والإمام لأكبر أحمد الطيب بالقول: "والله لأحاجيكم أمام الله"، "أنت بتعذبني"، و"تعبتني يا فضيلة الإمام".
لكن على الرغم من ضغوط النظام، تمكّنت المؤسسة التي تعود إلى ألف عام، من الحفاظ حتى الآن على شيء من استقلاليتها الذاتية. يصرّ الأزهر على أن العلماء، وليس السياسيون، هم الوحيدون القادرون على تحقيق الإصلاح الديني. في شباط/فبراير الماضي، نجح الأزهر في التصدّي لطلب السيسي منع الطلاق الشفوي واستبداله بإجراءات قانونية رسمية. وفي نيسان/أبريل، اقترح النائب المقرَّب من السيسي، محمد أبو حامد، مشروع قانون الهدف منه إعادة هيكلة الأزهر ووضعه تحت سيطرة أكبر من الدولة، غير أن الأزهر نجح في الضغط على النواب لرفض مشروع القانون. لو أُقِرّ القانون، لأسفر عن إضعاف إمام الأزهر لأكبر عبر تحديد سقف لولايته، التي هي غير محدودة راهناً، وجَعْل مدّتها 12 سنة كحد أقصى، واعتماد آلية لمعاقبته وعزله عند إساءة السلوك. علاوةً على ذلك، كان القانون ليُتيح للرئيس ممارسة نفوذ متزايد على الأزهر عبر منحه سلطة تعيين خمسة أعضاء في مجلسه الأعلى الذي يتولى وضع استراتيجية المؤسسة في الدعوة والإرشاد الديني.
كذلك يتجلّى الشقاق بين الأزهر والنظام في علاقة الأزهر مع وزارة الأوقاف. في تموز/يوليو 2016، اقترحت الوزارة فرض خطابات مكتوبة موحّدة على المساجد في مختلف أنحاء البلاد بهدف مكافحة "التطرف"، غير أن هيئة كبار العلماء في الأزهر رفضت الأمر رفضاً قاطعاً، ورفضه أيضاً علماء آخرون في الأزهر اعتبروا أن القرار "قاتِل للإبداع" و"مُهين". بيد أن الوزارة مضت قدماً بقرارها وأصدرت خطابات مكتوبة موحّدة، مؤكّدةً من جديد أن المساجد تقع تحت سلطتها – على الرغم من أن بعض الأئمة التابعين للأزهر لم يستخدموا باستمرار خطابات الوزارة. كذلك خاض الأزهر والوزارة مواجهة على خلفية مَن هي الجهة التي ستسيطر على "أكاديمية تدريب الأئمة" التي كانت ستؤمّن التدريب على الدعوة، لكنها لم تبصر النور بسبب الخلافات.
في هذا السباق من أجل السيطرة على الخطاب الديني في وسائل الإعلام، يتمسّك كل فريق بسلطته. بيد أن الشقاق بين النظام والأزهر لا يخرج بوضوح إلى العلن. بل إن تعليقات السيسي الموجَّهة إلى إمام الأزهر لأكبر أحمد الطيب يتم تمويهها خلف مظاهر الود. فقد قال السيسي للطيب: "أحبك وأحترمك وأقدّرك". كذلك، وعلى الرغم من الانتقادات المدروسة التي يوجّهها طايع إلى الأزهر، إلا أنه أكّد أن "الأزهر قبلتنا وشيخ الأزهر شيخنا". الاستراتيجية التي ينتهجها الأزهر هي الصمود، وليس المواجهة: فهو يريد أن يحمي ما يعتبره حوزته الخاصة، إنما في الوقت نفسه تَجنُّب الإصلاحات الواسعة النطاق والسيطرة الموسَّعة من جانب السيسي. أما بالنسبة إلى النظام، فهو أيضاً لا يريد نزاعاً شاملاً مع الأزهر: فالنظام يفتقر إلى الشرعية الدينية الضرورية التي يتمتع بها الأزهر، كما أنه يخشى أن يخلّف نزع الشرعية عن الأزهر فراغاً في السلطة الدينية سوف يُبدي العلماء "المتطرفون" استعداداً، بلا شك، لملئه.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
كريم التقي طالب دكتوراه في السياسة والدراسات الدولية في جامعة كامبريدج. لمتابعته عبر تويتر: karimeltaki@