ملخص
الآن وقد أصبح المشير عبدالفتاح السيسي الرئيس الرابع لمصر في غضون سنوات قليلة تواجه الولايات المتحدة خيارات سياسية مؤلمة. إذ تنزلق مصر، حليفها القديم، إلى الحكم السلطوي في أعقاب محاولة فاشلة في التحوّل الديمقراطي. ومع ذلك من المستبعد أن يجلب تجدّد هيمنة الجيش الاستقرار نظراً إلى المشاكل الاقتصادية الحادّة التي تواجهها البلاد، وانتهاكات حقوق الإنسان، والاستقطاب الاجتماعي والتعبئة الشعبية. والواقع أن الأوضاع الأمنية والاقتصادية تدهورت بشكل ملحوظ منذ أن أطاح الجيش الرئيس المدعوم من الإخوان المسلمين، محمد مرسي، في تموز/يوليو 2013. وبالتالي، تتفاقم مشاعر الاستياء العام والاضطرابات السياسية ربما يكون وشيكاً.
يجب على الولايات المتحدة ألا تمنح السيسي وحكومته دعماً غير مشروط، لأن العمل بشكل وثيق مع الحكومات المصرية القمعية في الماضي أدّى إلى نتائج سيئة وولّد موجة عداء واسعة للولايات المتحدة. بدلاً من ذلك، يتعيّن على واشنطن إعادة تركيز جهودها الدبلوماسية على دعم الشعب المصري، على أن تقتصر علاقاتها مع السيسي وحكومته على المصالح الأمنية الأساسية.
توصيات إلى الولايات المتحدة
- الإبقاء على التعاون الضروري فقط مع الحكومة المصرية في مجالي الأمن ومكافحة الإرهاب.
- التعبير عن دعم تطلّعات الشعب المصري لتحقيق الازدهار والحرية والعدالة، وتقييم التقدم الذي تم إحرازه على أساس تمتّع المواطنين بمثل هذه الفوائد، بدلاً من التركيز على تنفيذ خريطة الطريق السياسية الحالية.
- تحويل الجزء الأكبر من المساعدات - مليار دولار على الأقل من مبلغ 1.5 مليار دولار الذي يقدم سنوياً - إلى واحد أو اثنين من البرامج الكبيرة التي تستهدف المواطنين بصورة مباشرة.
- بدء برنامج كبير رفيع المستوى يوفّر التعليم العالي والمنح الدراسية والتدريب المهني للمصريين، بالحدّ الأدنى من التدخّل الحكومي.
- دعم إعادة فتح الفضاء السياسي والمجتمع المدني، الذي سيكون ضرورياً لبناء توافق في الآراء بين المصريين حول مستقبل بلدهم، من خلال تعزيز المساعدة المقدمة إلى المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية المطوّقة.
- وضع استراتيجية سياسية مشتركة مع أوروبا، والعمل معها لإقناع الحلفاء في الخليج واسرائيل لدعم - أو على الأقلّ عدم تقويض – التنمية البشرية والنمو الاقتصادي الشامل (بدلاً من الهيمنة العسكرية) باعتبارها مفتاح للاستقرار الدائم في مصر.
ستبقى مصر، على الرغم من أنها تعاني من مشاكل جمّة، لاعباً مهماً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ لاتزال الدولة العربية الأكثر اكتظاظاً بالسكان، وهي جارة لإسرائيل، وتتحكم بقناة السويس. ومن الواضح أن الولايات المتحدة غير مستعدّة للابتعاد عن البلاد بعد أن استثمرت عشرات المليارات من الدولارات في بناء علاقة مع الجيش المصري منذ مايقرب من أربعة عقود.
غير أن تدخّل الجيش المتكرّر في السياسة زعزع استقرار مصر منذ إطاحة حسني مبارك، رئيس البلاد الذي أمضى ثلاثين عاماً في الحكم، في أوائل العام 2011. وقد ساعد الجيش في الوقت نفسه في إزاحة القوى السياسية العلمانية والإسلاميين المتطرفين، الذين انتقل بعضهم إلى التمرّد. وبالتالي لم يعد ممكناً اعتبار الثقة بالجيش كشريك أمني يساهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي، بدل تقويضه، أمراً مفروغاً منه.
ماتحتاجه مصر لتحقيق الاستقرار الجديد هو التوافق المشترك بوجه عام بشأن المستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد. وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاث سنوات على إطاحة مبارك، لم تجرِ أي محاولة جادّة لبناء مثل هذا التوافق. فقد تجاهل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولّى السلطة بعد مبارك مباشرة، دعوات العلمانيين لعقد مائدة حوار مستديرة يتم فيها التخطيط لعملية انتقال ديمقراطي (مشابهة لما حدث في تونس)، وأذعن بدل ذلك إلى رغبات جماعة الإخوان المسلمين بالذهاب مباشرة إلى الانتخابات لاختيار برلمان لولاية تشريعية كاملة ورئيس. وبعد أن فازت في تلك الانتخابات، كما كان متوقّعاً، ادعّت جماعة الإخوان بأنها تملك تفويضاً شعبياً وحاولت فرض رؤيتها للمستقبل على المجتمع المصري.
في أعقاب تزايد الاحتجاجات ضد تجاوزات جماعة الإخوان، عزل المشير عبدالفتاح السيسي الرئيس آنذاك محمد مرسي، وأطلق حملة ضخمة ضد الإخوان، كما وضع خريطة طريق استبعدت الجماعة بشكل فعلي من العمليات الدستورية والانتخابية الجديدة. لم يتم حظر جماعة الإخوان وحسب، بل أُعلِنت أيضاً منظمة إرهابية (على الرغم من أن المسؤولين المصريين لم يثبتوا إلى الآن أن جماعة الإخوان المسلمين متورطة في عمليات إرهابية، مقارنة بالجماعات الإسلامية الأكثر تطرفاً)، وقد تم اعتقال عشرات الآلاف من مؤيديها (بالإضافة إلى آخرين). وأوضح السيسي خلال حملته الانتخابية أنه لاينوي السماح بإعادة تأهيل جماعة الإخوان.
يمتلك السيسي الذي انتخب للرئاسة في أيار/مايو 2014، قدراً من السلطة القسرية تحت تصرّفه أكبر مما كان يمتلك مرسي. غير أن استطلاعات الرأي الأخيرة والإقبال المتواضع على الانتخابات يظهر أنه ليس أكثر شعبية بكثير من مرسي، وأن من المرجّح أن يواجه مقاومة شديدة ومستمرة.
إذا ماكانت الولايات المتحدة ترغب في تعزيز استقرار مصر، التي يمكن أن تكون حليفاً يُعوَّل عليه، فعليها تجنّب الوقوع في شرك هذه الألعاب التي لاغالب فيها ولامغلوب. وسيشكّل هذا تحدّياً لأن التركيز الأمني كان يهيمن دائماً على العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر، وخصوصاً البعد المتعلّق بجيشي البلدين. في عهد مبارك، كانت معظم المساعدات الأميركية تُستنفَد في العلاقة الأمنية، ولم تكن مشاريع الإصلاح المختلفة المتفق عليها مع الحكومة (الاقتصادية والقضائية واللامركزية) تحظى إلا بقدر ضئيل من الاهتمام. وستحرص الحكومة المصرية الجديدة، وبخاصة الجيش الذي جاء منه السيسي، على العودة إلى ذلك النموذج.
غير أن التركيز على التعاون مع الدولة فقط، لم يعد منطقياً في زمن أصبح فيه عمر الحكومات المصرية، على الأقل الحكومات الثلاث الأخيرة، يقاس بالأشهر لا بالعقود. فضلاً عن ذلك، لم تسفر عقود من الاستثمار في التحديث العسكري والإصلاح القضائي ومشاريع الإصلاح الحكومي الأخرى من أعلى إلى أسفل سوى عن نتائج مخيّبة للآمال. ولذا قد تكون العلاقات الصحيحة مع الحكومة والتعاون الأمني المحدود ضروريان، غير أنه يتعيّن على الولايات المتحدة أن تحوّل تركيز دبلوماسيتها والجزء الأكبر من مساعداتها للاستثمار في الشعب المصري.
ما الذي ستقدّمه رئاسة السيسي
بما أن السيسي أصبح رئيساً، فإنه يواجه مهام شاقة. فلا يمكن للرئيس الجديد تحمّل تفادي معالجة القضايا الصعبة، مثل دعم الوقود، التي تتسبّب في حدوث أزمة طاقة وعجز مزمن في الميزانية، فضلاً عن البطالة المنتشرة في أوساط الشباب. ومع ذلك فإن معالجة هذه القضايا ستتطلّب القيام بإصلاحات مؤلمة، في الوقت الذي تقمع فيه الحكومة جزءاً كبيراً من الشعب الذي يدعم جماعة الإخوان أو يعتبر الحملة عليها وعلى حركات المعارضة الأخرى ظالمة. وسيتعيّن على السيسي أن يحاول جذب المستثمرين والسياح إلى مصر في خضمّ الهجمات المستمرة من جانب الجماعات الإرهابية الموجودة في سيناء، وكذلك الاحتجاجات المتكرّرة من جانب الطلاب والعمال وأنصار جماعة الإخوان. كما سيتعيّن عليه في الوقت نفسه إرضاء الجيش من خلال الإبقاء على امتيازاته الاقتصادية وتعزيزها كي يحمي نفسه من الانقلابات في المستقبل.
تعاونت الحكومات المصرية منذ انتفاضة العام 2011 (بل وقبل ذلك) مع الولايات المتحدة بشأن القضايا الأمنية عندما كان ذلك يخدم مصالح الأمن القومي المصري، غير أنها قاومت بدأب نداءات الولايات المتحدة في مايتعلق بالشؤون الداخلية والشؤون السياسية وحقوق الإنسان بشكل خاص. وسيستمر هذا الحال مع السيسي على الأرجح، الذي أعرب عن رغبته في إقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، لكنه أصمّ أذنيه ولم يلتفت لنداءات المسؤولين الأميركيين بالحفاظ على الأصول والإجراءات الديمقراطية وتجنّب انتهاكات حقوق الإنسان.
الاحتمال الأكثر إشراقاً بالنسبة إلى رئاسة السيسي سيتحقق إذا مانجح في تقليص هجمات الجماعات الإرهابية إلى حدّ كبير، وطبّق سياسات اقتصادية مستنيرة تنطوي على توفير مجال لأنشطة السوق الحقيقية، ووفّر منافذ سلمية للمعارضة بإطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين، وأعاد فتح الأبواب والنوافذ أمام الأحزاب السياسية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام.
ومع ذلك، فإن التصريحات التي أدلى بها السيسي خلال حملته الانتخابية، تشير إلى أنه سيستمر على الأرجح في القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان، ماسيؤدّي إلى مزيد من الأعمال الإرهابية والاحتجاجات واعتماد سياسات اقتصادية دولتية – أي التي تفرضها الدولة - وعسكرية صارمة، وهو ماسيؤدّي إلى استمرار الركود الاقتصادي والفساد. وإذا ما انقلب الرأي العام ضدّه بعد سنة أو سنتين من دون حدوث تحسّن في الوضع الاقتصادي، فسيكون حصول المزيد من الاضطرابات في شكل انتفاضة شعبية أخرى و/أو انقلاب عسكري أمراً لامفرّ منه. وحتى لو استمرت رئاسته لفترة أطول، من المستبعد أن تدوم عملية إعادة تشكيل نظام الحكم على غرار نظام مبارك لسنوات عدّة في ضوء طبيعة شعب مصر المشاكسين والشباب والتوقّعات الاقتصادية القاتمة.
فشل النهج القائم على الدولة
عانت الولايات المتحدة من نكسات كبيرة في سياستها تجاه مصر في السنوات الأخيرة، لأنها حاولت ركوب موجة السياسة المصرية في مرحلة مابعد العام 2011 بكل نجاحاتها وإخفاقاتها، والبقاء قريبة من كل من تولّى السلطة.
عندما ضايقت الحكومة الانتقالية المدعومة من المجلس العسكري المتظاهرين الشباب ومنظمات المجتمع المدني في عامي 2011 و2012، بما في ذلك محاكمة وإدانة 24 أميركياً يعملون في برامج تموّلها الحكومة الأميركية، آثرت الولايات المتحدة الصمت في أغلب الأحيان وأبقت على تدفّق المساعدات العسكرية. وعندما فرض مرسي دستوراً يتجاهل العلمانيين ويستبعدهم، لم تعلّق الولايات المتحدة على ذلك كثيراً، وتردّدت في الإضرار بعلاقاتها مع حكومته، وهو النهج الذي تسبّب في وقت لاحق باتهامات واسعة من المصريين بأن الولايات المتحدة دعمت الإخوان المسلمين ضد العلمانيين. وعندما أطاح السيسي بمرسي وبدأ حملة قمع واسعة ضد الإسلاميين، فشلت الولايات المتحدة في تنفيذ تهديدها بوقف المساعدات، على الرغم من أنها علّقت بعضها في وقت لاحق عندما أصبحت انتهاكات حقوق الإنسان (وخاصة قتل حوالي 1000 متظاهر في اعتصام في القاهرة في آب/أغسطس 2013) واضحة بحيث لايمكن تجاهلها.
طيلة هذه الفترة، كانت الحجة التي يتم تقديمها هي أن نفوذ الولايات المتحدة على الحكومة المصرية سيكون أكبر لو أنها حافظت على شكل العلاقة الذي كانت عليه منذ سبعينيات القرن الماضي، فركّزت بشدة على المساعدات العسكرية والبرامج الأخرى التي تنفّذها الحكومة المصرية، وتجنّبت حدوث خلافات علنيّة مع الحكومة. غير أنه منذ عزل مرسي، لم يتقبّل السيسي أي نصيحة قدمتها الولايات المتحدة، وليس ثمّة سبب للشكّ في أنه سيرفض النصيحة الآن حتى لو تم استئناف تقديم كل المساعدات الأميركية. لابل أشار السيسي إلى أنه سيأخذ مصر في الاتجاه المعاكس تماماً للنصيحة الأميركية، وأنه لن يستخدم القبضة الحديدية ضد الإرهاب وحسب، بل أيضاً ضد الإسلاميين السلميين والمعارضين العلمانيين، بدل معالجة الاستقطاب والعمل على بناء توافق الآراء.
في حال اختارت الولايات المتحدة استئناف الشراكة العسكرية الكاملة على صعيد تقديم المساعدات على الرغم من كل مايحدث، فلا مفرّ من اتهامها بالتواطؤ في هذه السياسات المخطئة. وقد دفعت الولايات المتحدة ثمناً باهظاً من حيث نفوذها وسمعتها ليس في مصر وحسب بل في المنطقة بأسرها، لأنه بدا أنها تدعم مرسي وحكومته على نحو يخلو من النقد على الرغم من تصرفاته غير الديمقراطية، وبالتالي لاينبغي لها تكرار هذا الخطأ مع السيسي.
ما الذي ينبغي أن تدعمه الولايات المتحدة
ينبغي أن تتم صياغة المنطلق الأساسي لسياسة الولايات المتحدة في مصر في الفترة المقبلة بصورة واضحة، وأن تنفَّذ بصورة منهجية وثابتة من خلال الأفعال، ودعم الشعب المصري على نحو يفوق دعمها لمن يتولى السلطة حالياً. تمثّل التوجه الطاغي في السنوات الأخيرة في مصر، وجميع أنحاء المنطقة العربية، في تزايد تمكين المواطنين ومطالبتهم حكوماتهم بأن تخضع إلى المساءلة. وفي حين يبدو من المحتمل أن تشهد مصر الكثير من الاضطرابات قبل التوصّل إلى توازن وعقد اجتماعي جديدين بين الحكومة والمحكومين، ليس ثمّة مجال لعكس الاتجاه الأكبر، ولذا يبدو حريّاً بالولايات المتحدة الاعتراف بذلك ودعمه.
الإبقاء على التعاون الضروري مع الحكومة المصرية في مجالي الأمن ومكافحة الإرهاب. لدى الولايات المتحدة بعض المصالح الأمنية الحساسة بالنسبة إلى مصر. وهي تتمثّل في دعم معاهدة السلام مع إسرائيل، ومنع الارهابيين في سيناء أو في أي مكان آخر من استهداف الأميركيين أو حلفاء الولايات المتحدة، وتأمين مرور سريع للسفن الحربية عبر قناة السويس، والسماح للطائرات العسكرية الأميركية بالتحليق فوق مصر والتزوّد بالوقود فيها عند الضرورة.
تحافظ مصر على معاهدة السلام مع إسرائيل وتلاحق الإرهابيين في سيناء (حيث تتمركز معظم الجماعات الإرهابية) من منطلق حرصها على مصالح أمنها القومي. ولذا فلا معنى لأن تتوقف الدولة عن القيام بالأمرين حتى لو تم قطع جميع المساعدات العسكرية الأميركية. والواقع أن التعاون الأمني بين مصر وإسرائيل قد ازداد بصورة كبيرة منذ تعليق المساعدات العسكرية الأميركية بصورة جزئية في صيف العام 2013، وهو مايبيّن أن مصالح الأمن القومي المصري هي التي تقف وراء مثل هذه القرارات.
يجب على الولايات المتحدة أن تتعاون مع مصر في مكافحة الإرهاب إلى الحدّ الذي يخدم المصالح الأميركية، ولاينطوي على انتهاك حقوق الإنسان، مثل العقاب الجماعي لبدو سيناء بسبب جرائم الإرهابيين الجهاديين، أو وصف المعارضين السياسيين بأنهم إرهابيون. وعلى واشنطن أن تفعل ما في وسعها لإقناع الحكومة المصرية بتبنّي استراتيجية اقتصادية وسياسية أوسع وأكثر استنارة تجاه سيناء لتحرير لسكان هناك وكسب تأييدهم ضد الجماعات الإرهابية. وينبغي عليها الاستمرار في الضغط من أجل إيصال رسالة مفادها أن من المرجح أن يؤدّي حرمان الإسلاميين من منافذ سياسية سلمية إلى زيادة التطرّف والإضرار بالمصالح الأميركية فضلاً عن المصالح المصرية.
على مرّ السنين، اعتمد الجيش المصري على الولايات المتحدة لتأمين قطع الغيار والصيانة والتدريب لتشغيل أنظمة الأسلحة الأميركية التي يتم شراؤها بأموال المساعدات الأميركية. ويمكن للولايات المتحدة تقديم مثل هذا الدعم في مقابل استمرار مصر في توفير أذونات بتحليق الطائرات الأميركية فوق أجوائها، وهي تدفع بالفعل رسوم العبور العاجل لقناة السويس، وهو الاتفاق الذي ينبغي الحفاظ عليه أيضاً. ومع ذلك، يجب على حكومة الولايات المتحدة ألا تقدّم أي أسلحة ثقيلة جديدة يرغب الجيش في الحصول عليها بهدف فرض هيبته أكثر من رغبته في تلبية احتياجاته الدفاعية الفعلية. ومن المهم أيضاً خفض الحجم الكلي للعلاقة الخاصة بالمساعدات العسكرية بصورة كبيرة، وإلا لن يتم فهم الرسالة.
التعبير عن تأييد تطلعات الشعب المصري وليس الدولة. خرجت مصر عن مسار التحوّل الديمقراطي في الوقت الراهن، وبالتالي فإن التصريحات الأميركية عن دعم عملية الانتقال الحالية أو خريطة الطريق تبدو مربكة في أحسن الأحوال، وتثير السخرية حول نوايا الولايات المتحدة في أسوأ الأحوال. بدل ذلك، يجب على الولايات المتحدة التعبير عن دعمها لتطلّعات الشعب المصري من أجل تحقيق الازدهار والحرية والعدالة، وينبغي عليها تقييم التقدم الذي يتم إحرازه لإنجاز تلك الأهداف على أساس ما إذا كان المواطنون يتمتّعون بالحريات الأساسية. وثمّة أمر مهم يتعلّق بإعادة فتح المجال أمام حرية التعبير والتجمع والسياسة التنافسية كي يتمكن المصريون من العمل على حلّ خلافاتهم العميقة، ابتداءً من طبيعة الاقتصاد مروراً بالعلاقات المدنية - العسكرية وانتهاءً بدور الدين في الحياة العامة.
إن تنفيذ خريطة الطريق الانتقالية التي أعلن عنها في صيف العام 2013 ليس هو المعيار المناسب للتقدّم، لأن الدستور والقوانين والانتخابات التي أجريت حتى الآن أدّت إلى إغلاق المجال السياسي وإضفاء الطابع المؤسّسي على انتهاكات الحقوق، وتكريس أولوية الجيش بدلاً من بناء نظام ديمقراطي. وتشمل الخطوات التي من شأنها أن تكون أكثر تعبيراً ووضوحاً الإفراج عن عشرات آلاف الأشخاص المسجونين منذ توز/يوليو 2013، وتطبيق العدالة الانتقالية للتعاطي مع عمليات القتل الجماعي (مثل مذبحة رابعة في آب/أغسطس 2013)، ووقف التعذيب والاعتداء الجنسي أثناء الاحتجاز، وإلغاء قانون التظاهر القاسي، ووقف المضايقات التي يتعرّض إليها منتقدو النظام.
وبما أن الولايات المتحدة تتبنّى نهجاً محدوداً للتعاون مع الحكومة المصرية وزيادة حجم الدعم المباشر للمواطنين، فإن عليها توضيح أوجه الاتفاق والاختلاف مع الحكومة في التصريحات العلنية والخاصة. عليها كذلك تجنّب استخدام لغة الشراكة الواسعة مع الدولة، وهو مايعني ضمناً دعم الولايات المتحدة لأعمال القمع.
تحويل الجزء الأكبر من المساعدة إلى واحد أو اثنين من البرامج الكبيرة الموجهة إلى المواطنين بصورة مباشرة. وبهدف إرسال الإشارة الصحيحة وتجنّب تأجيج المزيد من هيمنة الجيش على الاقتصاد والسياسة المصرية، ينبغي أن تشكّل المساعدات العسكرية الأميركية في معظم الأحوال ثلث - 500 مليون دولار - مبلغ الـ 1.5 مليار دولار الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى مصر سنوياً منذ فترة طويلة. أما المبلغ المتبقي، الثلثان على الأقلّ، فلا ينبغي أن يُخصَّص للبرامج التي تنفّذها الجهات الحكومية المصرية. بدلاً من ذلك، ينبغي أن يخصّص المبلغ لواحد أو اثنين من البرامج الكبيرة الملفتة للأنظار التي تهدف إلى تمكين المواطنين المصريين وتحسين آفاقهم الاقتصادية. وبما أن السيسي سيكون رئيساً لجميع المصريين لا مجرّد وزير للدفاع، ينبغي أن يكون بالإمكان إقناعه قبول حزمة مساعدات بقيمة مليار دولار لتوفير الأمل للشعب المنهك.
الاستثمار في التعليم العالي والتدريب المهني للمصريين. يتمثّل أحد أوجه التفاوت الهائل بين مصر (التي فشلت محاولتها الأولى في التحوّل الديمقراطي) وتونس (التي نجحت حتى الآن) في مستوى التنمية البشرية في كل بلد، ولاسيّما مستويات التعليم بالإضافة إلى تمكين المرأة. مصر لديها فرصة أفضل للقيام بما قامت به ما تونس - أي بناء توافق في الآراء حول مستقبل البلاد عبر الوسائل السلمية - إذا كان مواطنوها (بمن فيهم النساء) أفضل تعليماً، وأتيحت لهم الفرصة للاطلاع على العالم الخارجي والإلمام به، وبالتالي كانوا أكثر تسامحاً تجاه وجهات النظر المعارضة. وسيكون تحسين التعليم العالي، بما في ذلك التدريب المهني، ضرورياً لمساعدة الشباب المصريين في التأهّل للحصول على فرص العمل التي يوفرها القطاع الخاص.
الشباب المصريون هم منظّمو ثورة العام 2011 وروحها، بيد أنه تم تهميشهم وأصيبوا بخيبة أمل بسبب الأحداث التي أعقبت الثورة. فقد تم مؤخّراً حظر حركة شباب 6 أبريل الليبرالية، التي لعبت دوراً رئيساً في الضغط من أجل الديمقراطية منذ العام 2008، ويقبع قادتها في السجون. ويجري اعتقال الشباب من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين يواصلون الاحتجاج بأعداد كبيرة، وقد يتم أيضاً تجنيدهم من جانب جماعات أكثر تطرفاً. وقد نأى المصريون ممن هم دون سن الخامسة والثلاثين بأنفسهم عموماً عن انتخاب السيسي والاستفتاء على الدستور الذي سبق الانتخابات. ولذا من المستبعد أن يعودوا إلى بيوتهم وينسوا تطلّعاتهم. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: في أي اتجاه سيأخذ المصريون بلدهم عندما تأتي الموجة المقبلة الحتمية من التغيير؟ نحو بناء توافق الآراء أم نحو التطرف الإسلامي؟
بدلاً من إنفاق الموارد الأميركية على مجموعة متنوّعة من البرامج التي ليس لها تأثير كبير على الأفراد ولا قيمة دبلوماسية كبيرة، ينبغي على الولايات المتحدة أن تنظر في تقديم برنامج للمنح الدراسية الخاصة بالتعليم العالي والمهني على نطاق واسع كعلامة واضحة وقوية على دعم الجيل الصاعد من المصريين. ويمكن تنفيذ برنامج يقوم على إرسال المصريين إلى المؤسّسات الأميركية أو المحلية خلال لجنة ثنائية على غرار "برنامج فولبرايت" بالحد الأدنى من المشاركة من جانب الحكومة المصرية لتجنّب التسييس والبيروقراطية المفرطة.
تعزيز دعم منظمات المجتمع المدني، ولاسيّما جماعات الحقوق والمراقبة والعمل. يتعرّض المجتمع المدني المصري إلى ضغوط مكثّفة في بيئة مابعد الانقلاب الضيّقة. وبكل بساطة، إذا لم تدعم الولايات المتحدة وأوروبا والدول الديمقراطية الأخرى المجتمع المدني في مصر مالياً ودبلوماسياً خلال الفترة المقبلة، فمن المرجّح أن تنهار كثير من هذه الجماعات بفعل ضغط الحكومة التي يهيمن عليها الجيش والتي لاتحتمل التدقيق والانتقاد. وسيشكّل هذا خسارة فادحة، لأن جماعات المجتمع المدني ستكون لاعباً مهماً في أي حوار مستقبلي أو جهود للمصالحة بين الإسلاميين والعلمانيين، تماماً كما كانت في تونس.
تجنّب التورّط في إصلاح الدولة. يجب على الولايات المتحدة تجنّب الوقوع في شرك مشاريع المساعدة التي تهدف إلى تعزيز مؤسّسات الدولة المصرية. إذ سيتطلّب ذلك وجود قواعد ضبط للعمل، لأن السيسي أكّد مراراً وتكراراً أن الدولة ستكون أولويته وليس المواطنين. وثمّة أمر آخر يجب أن تكون الولايات المتحدة قد تعلمته من سنوات المساعدة السابقة للمؤسسات الحكومية المصرية (من بينها السلطة القضائية والتي أصبحت الآن مسيَّسة بشدّة) وهو أن من الصعب للغاية إصلاح تلك المؤسّسات، وهو الأمر الذي تتضاعف صعوبته عندما لاتتّفق الحكومتان الأميركية والمصرية على الأهداف نفسها أو النهج نفسه.
لاتعزّزوا المصالح الاقتصادية للجيش. ثمّة شرك آخر مهم يجب على الولايات المتحدة تجنبه ويتمثّل في خطط التنمية التي تعزّز القوة الاقتصادية للجيش والدولة بدلاً من القوة الاقتصادية للمدنيين والقطاع الخاص. إذ يخطّط السيسي لتدشين مشروعات عملاقة، بما فيها مشروعات في مجال الإسكان وتنمية قناة السويس، والتي سيتم تنفيذها عموماً من جانب الجيش أو عن طريق مقاولين من الباطن تابعين للجيش. وقد بدأ الجيش بالفعل توسيع توغّله في الاقتصاد منذ عزل مرسي، ما أثار مخاوف بين مؤسّسات القطاع الخاص من مزاحمتها وإبعادها. وإذا كان كبار أرباب الصناعة ممن لهم علاقات مع أشخاص نافذين يشعرون بالقلق، فإن من المرجّح أن تتخلّف المؤسسّات الصغيرة والمتوسطة الأكثر قدرة على توليد فرص العمل عن الركب. ولذا يجب على الولايات المتحدة ألا تواكب هذا السيناريو، بل ينبغي عليها أن تسعى إلى إقناع الجهات المانحة الخارجية الأخرى للاستثمار في النمو القائم على المشاركة والذي يحرّكه القطاع الخاص.
التنسيق مع أوروبا وإقناع الحلفاء في الخليج وإسرائيل. يجب على الولايات المتحدة أن تغتنم هذه الفرصة لوضع استراتيجية سياسية مشتركة مع أوروبا، التي تشترك مع الولايات المتحدة إلى حدّ كبير في قيمها ومخاوفها بشأن مصر، والتي تعتبر أكبر شريك تجاري للبلاد. كما ينبغي أن تقوم الولايات المتحدة، بالتعاون مع أوروبا، بالمهمة الأكثر صعوبة والمتمثّلة بإقناع الحلفاء في الخليج وإسرائيل بأن الطريق المؤدّي إلى الاستقرار في مصر يكمن في المشاركة السياسية وسيادة القانون واحترام الحقوق لا في سياسة الإقصاء والقوة الغاشمة. في الحدّ الأدنى، ينبغي على الولايات المتحدة وأوروبا إقناع حلفائهما في الخليج بتعزيز النمو الاقتصادي الذي يقوده القطاع الخاص، ولاسيّما الشركات الصغيرة والمتوسطة، بدلاً من الجيش.
الخاتمة
تمرّ مصر الآن في مرحلة محفوفة بالمخاطر، فيما يحتمل أن تكون رحلة من التغيير تمتدّ لعقود طويلة. وفي حين أنه ما من إنجازات فورية ينبغي تحقيقها، فإن تصويباً حكيماً لسياسة الولايات المتحدة يمكن أن يساعد في الحيلولة دون وقوع كوارث أصبحت احتمالاتها واضحة في السنوات القليلة المقبلة، مثل تصاعد الاضطرابات وتحوّلها إلى تمرّد على غرار ماحدث في الجزائر، أو اندلاع ثورة إسلامية مماثلة لتلك التي وقعت في إيران. وقبل كل شيء، يجب على الولايات المتحدة ألا تؤيّد كشريك حكومة قمعية ستزيد من احتمالات حصول مثل هذه النتائج.
لكن حتى السيناريو الأقل تطرّفاً المتمثّل بالتطرّف المستمر للإسلاميين، والذين سيبدأون في نهاية المطاف باستهداف المسؤولين الأميركيين والمصريين، يبدو أمراً سيئاً بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة وبالنسبة إلى مصر. ولن يساهم استمرار العلاقة التي تهيمن عليها المساعدات العسكرية التي تأسّست في سبعينيات القرن الماضي إلا في زيادة حجم هذه المشاكل. ولذا فإن تقديم الدعم الأميركي للشباب والمجتمع المدني للمساعدة في خلق كادر أكثر تعليماً واستنارة بين المصريين، يمكنه التعامل على نحو أكثر اقتداراً وإبداعاً مع الموجة المقبلة من التغيير السياسي والاجتماعي، عندما تأتي، وسيكون هذا استثماراً أكثر حكمة.