لاتزال تونس تواجه مروحة من التحديات، على الرغم من كل المديح الذي كيل لها غداة التقدم الذي أحرزته قياساً بالدول العربية الأخرى التي شهدت انتفاضات شعبية في العام 2011. فالاقتصاد بات يوازي في أهميته القطاع الأمني بالنسبة إلى صانعي السياسات، والبطالة لاتزال مرتفعة، والنمو متباطئ، وأسعار بعض المواد الغذائية والشقق السكنية ازدادت. وكل ذلك كانت له مضاعفات حادّة على حياة المواطنين العاديين. وفي هذه الأثناء، كان الإنفاق الحكومي على أجور القطاع العام يرتفع، فيما يتقلّص الإنفاق على التنمية والزراعة.

تمثّلت الحلول لهذه المشاكل في سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية التي صيغ بعضها بالتنسيق مع شركاء تونس الدوليين، في مقابل حصول هذه الأخيرة على الدعم المالي. شملت هذه الاصلاحات قانوناً جديداً، أُقِّر في نيسان/أبريل الماضي، حول استقلالية البنك المركزي. وهذه الخطوة ترافقت مع إلحاق فريق تقني أميركي في البنك المركزي، ومع الإشراف الكثيف التي باتت تمارسه الفرق الفنية التابعة لصندوق النقد الدولي. كما تضمنت الإصلاحات أيضاً سنّ قواعد استثمارية جديدة في أيلول/سبتمبر الماضي، وطرح الموازنة المقترحة للعام 2017 احتوت على بعض الإجراءات التقشُّفية.

في أحسن الأحوال، ستحسّن هذه الإصلاحات جاذبية تونس لدى مستثمري القطاع الخاص، وقد ترفع وتيرة الاستثمارات في مشاريع التنمية، ما قد يجلب الرساميل والوظائف إلى تونس. لكنها في السيناريو الأسوأ، ستقوّض النموذج الاقتصادي القديم، من دون توافر ضمانات حول بدائل جديدة. وهذا أمرٌ قمين بمفاقمة التفاوتات الاجتماعي والتوترات السياسية.

كانت وتائر التوظيف في القطاع العام قد تصاعدت منذ انتفاضة 2011 لسببين في آن: الأول، أن الحكومة أعادت تعيين الموظفين الذين سرّحهم النظام السابق لأسباب سياسية، والثاني أن السلطات أرادت تهدئة الاضطرابات الناجمة عن البطالة والتهميش والفقر، من خلال التعيين في الوظائف العامة. وهذا ساهم في تعزيز دور الدولة كملاذ أخير لتوفير فرص العمل. بيد أن الأعباء التي يفرضها ذلك على الدولة، وخاصة على موازنتها، فاقع الوضوح: فقد ذُكِرَ أن مرتبات القطاع العام في 2016 ستكلّف نحو 13 مليار دينار تونسي (5.8 مليار دولار) سنوياً، أي مايوازي 45 في المئة من الميزانية السنوية (يُنتظَر أن تُخصّص 18 في المئة أخرى من الموازنة لخدمة الدين العام).

بيد أن هذا الدور الذي تضطلع به الدولة لا يمثّل تحدياً ماليا وحسب. إذ أن تضخم القطاع العام يفاقم التوترات بين الدولة وبين المواطنين، وذلك بفعل ملاءة الحماية القانونية الشاملة التي يتمتع بها موظفو الدولة والتي تجعل من الصعب صرفهم من الخدمة، فيما تعمل الأنظمة الجامدة في الدولة على ضرب مفهوم الجدارة وحركية الموظّف. وحيث أن الحوافز المالية التي تشجّع موظفي الدولة على خدمة المواطنين محدودة، يصبح من المنطقي أن يؤدي ذلك أيضاً إلى عرقلة فرص الدولة لتحويل نفسها إلى جهاز يعمل فعلاً في خدمة الشعب. وفي المحصّلة، يمكن لكل هذه العوامل أن تجعل من عملية التحوُّل نحو نموذج أكثر ليبرالية عموماً، جنباً إلى جنب مع بعض الإجراءات التقشُّفية، تبدو حلاً جذّابا.

لكن مهلا.ً مثل هذا الحل يفتقد إلى المبرّر الرئيس لقيام الدولة بدور رب العمل، وهو أنه لاتتوافر مصادر بديلة للعمالة في القطاع الخاص، ولاسيما بالنسبة إلى الشبّان في داخل البلاد. فالسياحة الموسمية تضرّرت، والوظائف الصناعية هاجرت على وقع المخاوف الأمنية. كما أن الصناعة تواجه تحديات إضافية بسبب الاعتصامات والاضطرابات العمالية. وفي حين أن الشراكات الدولية مع تونس، عبر آليات تعاون محدّدة تتمحور حول الأمن والاقتصاد، طُرحت كمخارج لحل هذه القضايا، إلا أنها كانت عاجزة حتى الآن عن تذليل العقبات الكأداء التي تعوّق تعزيز التوظيف في القطاع الخاص، وتقف في وجه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم (SMEs).

هذه العقبات تشمل الفساد، وافتقاد المداخل إلى القروض، والروتين الإداري، والتدقيق غير المتساوي للشرطة. وكل هذه العوامل تتقاطع مع قيام الشركات الكبرى باستغلال أدوات الدولة المالية والقانونية والأمنية لحماية نفسها من التنافس. وكحصيلة لما قد يرقى إلى كونه تحيّزاً من لدن الدولة ضد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لاذت نسبة ضخمة من هذه المؤسسات بالقطاع غير الرسمي.

في حين حدّد كلٌّ من الخبير الاقتصادي هيرناندو دي سوتو Hernando de Soto والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (UTICA) جذر المشكلة في فقدان قطاع المؤسسات الصغيرة للترخيص القانوني، إلا أن مثل هذه المقولة ليست متعمّقة ولا تأخذ في الاعتبار الأسباب السياسية. فالحلول الفنية التي اقترحها دي سوتو والاتحاد الآنف الذكر لمعالجة العجز في "المداخل القانونية" العامة، تتجاهل الخلل في موازين القوى الذي شاب دور الدولة بطريقة عزّزت هذا الخلل.

من دون حل هذه المشكلة، سيكون من الصعب على أجندة الإصلاح الليبرالي، الهادفة إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد، أن تصيب عين النجاح. والواقع أن دور الدولة في توفير العمالة أو المزايا الاجتماعية سيميل إلى التقلُّص، فيما ليس هناك في المقابل سوى خطوات صغيرة ووئيدة للغاية لخفض دور الدولة في دعم الشركات الكبيرة، ووقف تهميش المؤسسات الصغيرة. وهكذا، فيما رقبة السياسة الاقتصادية الدُّولتية حيال التوظيف مطروحة على منصّة المقصلة، يجري تأجيل السياسة الاقتصادية الدُّولتية الخاصة بسياسات المصارف، والنظام الضريبي، والتوجهات الانتقائية في قطاع الأمن، التي تفيد منها الشركات الكبرى، إلى وقت لاحق. وهذا يرقى فعلياً إلى "خَلعْ الدولة أو تقليصها" بشكل غير متوازٍ ولا متساوٍ. وانطلاقاً من هذا المنظور، يمكن القول إن بعض الإصلاحات التي أدخلتها تونس قد تفرز مشاكل إضافية.

يتضمن قانون الاستثمار الجديد، على سبيل المثال، بنوداً تتجاهل أو تفاقم المشكلة التي تجسّدها دولةٌ تدّعي أنها لم تعد قادرة على دعم بعض مواطنيها، بيد أنها لاتتوانى عن مساعدة أولئك الذين تربطهم علاقات مع أشخاص نافذين. إذ يتمحور الباب الثالث من هذا القانون الذي لم يصدر بعد، وفقاً لنسخة أولية غير رسمية منه، حول تسهيل تدفّق رؤوس الأموال إلى خارج تونس؛ هذا، في وقت تتدنّى فيه للغاية احتياطيات العملات الأجنبية، إذ لاتغطي سوى أقل من أربعة أشهر من الواردات. لو كان هذا القانون ينصّ أيضاً على تسهيل توافد المزيد من رؤوس الأموال إلى تونس، أو كان ثمة قانون يُعنى بتنظيم هروب رؤوس المال من البلاد، لما كان هذا الأمر ليطرح مشكلة بالضرورة. مع ذلك، يرى محلّل في مركز غير حكومي معني بالسياسات الاقتصادية، أن الهيئات الإدارية هي المولَجة بهذه المسائل لا القواعد القانونية. وبموجب الباب الرابع، ستكون الهيئة العليا للاستثمار خاضعة إلى سلطة رئيس الحكومة، وهذا ما انتقده بعض التونسيين لأنه قد يسبّب تضارباً في المصالح.

لن تكون رؤوس الأموال التونسية وحدها المُستفيدة من عملية إعادة تعريف الدولة التونسية، بل أيضاً، على مايبدو، الشركات متعددة الجنسيات. فالباب السادس من مشروع قانون الاستثمار يضمن التحكيم الدولي لفضّ المنازعات الخاصة بالاستثمارات. إضافةً إلى مايمثّله هذا الأمر من تأثيرات موثّقة جيّداً على مستوى السيادة الوطنية، تفتقر الكليّات في تونس إلى برامج وافية متخصّصة بقانون الشركات الدولي، كما أن استئجار وكالات قانونية من الخارج في المنازعات الدولية باهظ التكلفة.

أما في الشق المتعلق باستقلالية البنك المركزي، فيحصر القانون الجديد مهمة هذا البنك في الحفاظ على الاستقرار في قطاعَي المال والأسعار، في وقتٍ تشهد تونس موجة حادّة من البطالة يتخبّط فيها الشباب التونسيون وتبلغ 31 في المئة. وترتفع هذه النسبة في صفوف أبناء المناطق المهمّشة. وعلى خلاف البنك المركزي التونسي، تنطوي المهام التي يضطلع بها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وهو البنك المركزي في الولايات المتحدة، على تعزيز أداء الاقتصاد الكلّي؛ وهو يضع في صُلب أهدافه الاستراتيجية تحقيق "أعلى معدّل ممكن من العمالة"، وهذه سياسات تنتهجها أيضاً مصارف أخرى. إذا كانت القيود القانونية تمنع البنك المركزي التونسي من إقراض الحكومة التونسية، فيما تستدين هذه الأخيرة بكثافة من الخارج، فهذا يطرح علامات استفهام عدّة حول قدرة الدولة التونسية على صوغ سياستها الاقتصادية الخاصة، وتطبيقها عل المدى البعيد بشكلٍ مستدام وقابل للاستمرار وقادر على تلبية حاجات البلاد.

يهدّد كلٌّ من برنامج الإصلاح الراهن والموازنة المُقترحة للعام 2017 بمفاقمة التوترات الاجتماعية والسياسية في المدى القصير. فقد أطلق الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو أكبر منظمة نقابية في تونس، مؤخراً حملة ضد تجميد الزيادة في أجور موظفي القطاع العام. وفي ضوء الانتخابات المُزمع إجراؤها في مطلع العام المُقبل لاختيار أمين عام جديد للاتحاد، يجد المرشّحون أنفسهم مضطرّين إلى اتخاذ مواقف حازمة وقوية. ويلعب الاتحاد دور المعارضة كأمر واقع، في ضوء عدم فوز المعارضة الرسمية سوى بنسبة منخفضة من مقاعد البرلمان.

في غضون ذلك، لايزال أولئك الذين جرى استبعادهم على مايبدو من برنامج الإصلاح الحالي - وهم أنفسهم الذين ذاقوا الأمرّين من الأزمة الاقتصادية - يمثّلون خطراً على استقرار النظام السياسي التونسي عموماً. فمنذ أقل من عام، عمّت المظاهرات أرجاء البلاد بعد إقدام شابّ عاطل عن العمل على الانتحار في القصرين احتجاجاً على ممارسات المحاباة والفساد التي منعته من نيل وظيفة في القطاع العام. ولم تتحوّل هذه الاضطرابات إلى تهديد جدّي يثقل كاهل النظام السياسي، لأن الرد الأمني جاء متوازناً وترافق مع الإعلان عن إجراءات اقتصادية تحظى بالشعبية.

مع أن ممارسة نهج السياسات قصيرة المدى له مشاكله الخاصة، إلا أن خطر تجدّد الاضطرابات هو بمثابة تذكرة هامة بأن الإصلاحات، كي تكون فعّالة وتحظى بترحيب واسع، عليها أولاً أن تكون عادلة. وإذا كان هناك فعلاً إجماع يقضي بالابتعاد عن الاقتصاد الدُّولتي في تونس، فعلى صانعي السياسات – ومن ضمنهم الجهات الدائنة لتونس – أن يدركوا أن التداعيات السلبية الناجمة عن هذه الخطوة قد لا تصيب الجميع بشكلٍ متكافئ، وقد تكون مضاعفاتها أوسع نطاقاً في وقتٍ يبدو فيه النظام السياسي التونسي هشّاً.