المصدر: الشرق الأوسط
يمثّل الركود السياسي تحدّياً ملحاً بالنسبة إلى العالم العربي المحصور بين رَحى اثنتين من القوى الرئيسة، مؤسسة سياسية متجذّرة تفتقر إلى الضوابط والتوازنات، من جهة، والحركات الإسلامية التي هي في أغلبيتها متشدّدة ويُعدّ التزامها بالتنوّع السياسي موضع شك في كثير من الأحيان، من جهة أخرى. كما تواجه الدول العربية عقبات أساسية ومتعدّدة تحول دون الشروع في عملية إصلاح شاملة ومتكاملة في المنطقة، تهدف إلى تحقيق التقدّم على صعيدَي التنمية والحكم الرشيد.
تتعدّد أسباب قبوع العالم العربي في حالة الركود الراهنة بشقّيها التنموي والإصلاحي وعلى مستوى الحوكمة. يستشهد البعض بتاريخ الدول العربية على صعيد الاستعمار، كما يشكّل الصراع العربي-الإسرائيلي عائقاً ومبرّراً لعدم المضي قدماً. علاوةً على ذلك، لم تعطِ الأحزاب القومية في العالم العربي، في فترة ما بعد الاستقلال، مسألة الإصلاح أي اهتمام، وركّزت معظم اهتمامها على الصراع العربي-الإسرائيلي. ومنذ العام 1967 وانتصار إسرائيل على الدول العربية، فَقَد الخطاب القومي صدقيّته وإثر ذلك راح الإسلام السياسي يكتسب زخمًا يومًا بعد يوم.
يواجه العالم العربي اليوم، وفقاً لتقارير صادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وضعها باحثون عرب، ثلاثة تحديات تحول دون المباشرة في عملية الإصلاح السياسي: الأول هو الحكومات والتنوّع السياسي، والثاني هو تمكين المرأة، ويتبلور الثالث في الفجوة المعرفية بين العالم العربي وبقية العالم. وإذا ما أرادَت الدول العربية تحقيق التقدّم، لابدّ من أن تعتمد عملية مستدامة قد تمتدّ على عقود من الزمن. إضافةً إلى ذلك، يجب أن تكون هناك عملية إصلاح مستمرة وتدريجية وجدّية من شأنها أن تضمن توافر جميع الدعائم اللازمة للديمقراطية.
تسيطر على المشهد السياسي في الوطن العربي اليوم قوّتان أساسيتان: وهي إما المؤسسة السياسية المتجذّرة التي تحكم من دون نظام للضوابط والتوازنات، أو المعارضة الإسلامية التي تدعو إلى الإصلاح، لكنها أحياناً تكون مسلّحةً أو متشدّدةً، ويُعدّ التزامها المستمرّ بالتنوّع السياسي موضع شك في الكثير من الحالات. بيد أنّ المؤسسة السياسية تقاوم أي تغيير من شأنه أن يُفقدها بعض امتيازاتها. وبالتالي بات التغيير في العالم العربي اليوم منوطاً إلى حدٍّ كبير بالإسلاميين، الذين يطرحون مجموعة التحديات الخاصة بهم. ناهيك بشعور شريحة واسعة من المجتمعات العربية بالقلق من فقدان التنوّع السياسي في حال وصول الإسلاميين إلى السلطة واستلامهم مقاليد الحكم.
أمّا قوى التغيير في العالم العربي التي تدعو إلى التعددية السياسية واستخدام الوسائل السلمية لتحقيق ذلك، فهي غير معبّأة، وتميل إلى أن تكون نخبوية. ولذلك لم تتمكّن إلى الآن من تعبئة مجموعات كبيرة من المؤيّدين مما كان يمكن أن يؤدي إلى تغيير فعّال. والمطلوب في هذه الحالة طبقة وسطى ناشطة، وتمتع المجتمع المدني بالحرية للعمل في العالم العربي، وإنشاء الأحزاب السياسية التي يمكنها أن تبدأ العمل على أرض الواقع، وتقدّم بدائل إما للمؤسسات السياسية وإما للإسلاميين. في معظم الحالات، وقفت الحكومات ضدّ تطوير مثل هذه البيئة، ولذلك فإن قوانين الأحزاب السياسية مقيِّدة جداً في العالم العربي، ولا يمكن للمجتمع المدني أن يعمل من دون ضوء أخضر من الحكومة. ومن هنا، فإنّ تطوير الطبقة الوسطى والمجتمع المدني لا يمكن أن يتم إلا بمرور الوقت، وهذه عملية لا بدّ أن تتم من الأسفل إلى الأعلى، وكذلك من الأعلى إلى الأسفل. وإذا لم تتمّ بهذه الطريقة، فإن الهوة بين الحكومة وبين الجمهور في العالم العربي ستزداد اتساعاً.
وقد قدّمت بعض البلدان العربية نماذج ومبادرات كانت هامةً بالنسبة إلى بقية المنطقة. فاستحدث المغرب في العام 2003 قانوناً جديداً للأحوال الشخصية من أجل سدّ الفجوة القائمة بين الجنسين. وهناك دول مثل لبنان وتونس والأردن عملت على الجانب التعليمي من المشكلة، وعلى الحاجة إلى تحسين نوعية التعليم في العالم العربي. أمّا اليمن، فقد عمل في مجال حقوق الإنسان وأدرك الحاجة إلى دفع فكرة منظمات المجتمع المدني التي تنشط في بيئة أكثر حرية. لكن يبقى من الصعب الإشارة إلى بلد نظر إلى كل هذه الجوانب مجتمعةً، وأحرز تقدّماً جدّياً على جميع هذه الجبهات على نحو مطّرد.
من ناحيةٍ أخرى، تُعدّ التنمية الاقتصادية جزءاً أساسياً من عملية الإصلاح السياسي في أيّ دولة، كما أنّ للتنمية الاقتصادية حدودها من دون إصلاح سياسي. ففي نهاية المطاف، لا يمكن جذب الاستثمارات الأجنبية من دون وجود سلطة قضائية مستقلة، تضمن أن تُتاح للناس محاكمة عادلة عندما تنشب النزاعات. كما أنه لا يمكن محاربة الفساد من دون وجود صحافة حرة، أو نظام قضائي مستقل، أو برلمان قوي. لذلك عندما يتمّ التحدّث عن التنمية الاقتصادية في معزل عن الإصلاح السياسي فإنّ ذلك في حدّ ذاته لن يؤدّي إلى حدوث تقدّم مستدام على صعيد الإصلاح في العالم العربي.
علاوةً على ذلك، أدّى الصراع العربي الإسرائيلي دوراً رئيسياً في إبطاء وتيرة الإصلاح في الدول العربية، فقد تمّ توجيه الكثير من الموارد للصراع العربي-الإسرائيلي بعيداً عن التنمية والقضايا المحلية. لكن ذلك لم يسفر، بطبيعة الحال، عن إيجاد حلّ للصراع أو معالجة تلك القضايا الأخرى. كما تمّ استخدام الصراع العربي-الإسرائيلي كذريعة، فقد وجدَت حكومات عربية كثيرة هذا مبرّراً مناسباً لعدم المضي قدُماً في الإصلاح.
وبالتالي فإذا كان صحيحاً أنّ أي عمليّة إصلاح سياسي تواجه مصاعب حقيقيّة من دون حلّ للصراع العربي-الإسرائيلي، فإنّ الجانب الآخر من المعادلة صحيحٌ أيضاً، وهو أن العالم العربي لا يمكن أن ينتظر تسوية النزاع العربي - الإسرائيلي قبل أن يشرع في عملية إصلاح سياسي تدريجيّة وجديّة. هذان الأمران يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب، وللأسف هذا أمر لا يحدث الآن.